كتب واصدارات

أوراق الشمس.. باكورة أعمال الشاعرة المغربية لطيفة أثر رحمة الله

عن منشورات منتدى الأدب لمبدعي الجنوب فرع ايت ملول ومطبوعات مطبعة "بلال" بفاس صدر للشاعرة المغربية ابنة سوس العالمة لطيفة أثر رحمة الله ديوانها الموسوم ب"أوراق الشمس" وهو باكورة أعمال الشاعرة في مهيع الشعر، يضم ما يقارب 15 قصيدة في 119 صفحة من الحجم المتوسط.

يضم الديوان قصائد متنوعة مبنى ومعنى، حيث قاربت مواضيع متعددة اجتماعية  وعاطفية، معنونة إياها ب"أوراق الشمس" على اعتبار الشمس أو "أخت يوشع" منحة الاهية تعمل على موازنة طاقات الحب والحظ والنور لتحقيق الانسجام  الذي تفتقده الذات الشاعرة في خضم التمزق الواقعي الذي تعيشه، فالشمس رمز متجدد للقوة والسلطة والحكمة والمعرفة وهي مصدر مهم للطاقة في عمق كوني مبهر يسم الحياة بالتجدد والأمل  لهذا فقد أقبلت عليها الأقلام والقلوب بالمناجاة، مذ تعلم الإنسان قرض الشعر وتقصيد القصيد فهي روضة المحبين وفيء المتعبين، وهي ايدان بصباح أمل تُحَرِّر النفس من أوهاق الحياة ومن سيزيفية الواقع فإن لم يكفك منها الهيبة  وسلطان السمو مكسوفة أو مخسوفة يصبك شعاع منها ظاهر، وكم أنصفها محمد إقبال وصفا جميلا حين أنشد :

منكِ الحرارَةُ للْحَيَاةِ وبَعْثُها  

    ونضالُها في موْجِها المَوَّار

تجدر الإشارة أن عنوان الديوان هو عنوان لإحدى القصائد التي ضمها.

تقول الشاعرة في القصيدة التي اختارت عنوانها عنوانا لديوانها:

أوراق الشمس

أبحث عن أوراق الشمس

عن ليالي معتقة

عن" نخيل صنوان

وغير صنوان "

فما وجدت إلا قطعة من وجْدٍ

من صحوة سُكْر

أرمم بها ما شاخ من ملامحك

أجرّ شاماتك

سترا لعري المدائن

حجابا فاصلا

بين مكرك الطاعن في المرارة

مكر ومزق منثورة

من الشيطان

تلغي غيابك

بحضور لافت

كنافورة أندلسيّة

تدفن في متاهاتها

سرا عتيقا

تشاكسها الشمس...لا فائدة

فالسر دفين ...عصيّ

لقد ملأت الشاعرة أوراق ديوانها بانشغالات المرأة بعيدا عن المِرْوَدِ والمِكحلة، متجاوزة ذلك إلى هموم أكبر متصلة الأسباب بالمعيش اليومي على مستوى الذات التي تجيش بخواطرها السانحة وبوارحا الجارحة، وقد اختارت شاعرتنا، من حيث المبنى، القصيدة بنموذجيه العمودي التقليدي و النثري، وقد أجادت فيهما صنعا دون أن تظهر عليهما ملامح التكلف نقشا ونحتا، فجاءت قصائد الديوان شبيهة بقطار نظم من مرتاض الشَّوارد كما قيل، فما أصعب ترويض اللغة تجري في النفس جريان لواعجها في سمط واحد، حتى وإن توفرت القراطيس والأقلام، وكم أبدع الداهِّية المتنبي قائلا:

وقد وجدْتَ مجالَ القولِ ذا سعة   

   فإنْ وجَدْتَ لسَاناً قائِلاً فَقُلِ

لقد أفردت الشاعرة قصيدتين خليليتين _على البسيط والمتقارب_ كأنهما جوهرتا الديوان، وهما كذلك إذ تضمنتا من جودة السبك وحسن العبارة ما جعل الشاعرة تعيد أمجاد القصيد التقليدي المقيد بالقافية وبالوزن، فأجادت الخطو بين القيود دون تعثر، وليس هذا يعجز ابنة سوس العالمة، أستاذة اللغة العربية العارفة بأسرار ماضي الشعر منذ أُنشد بين الخباء في الفدافد والفيافي، أما من حاضر الشعر المتحرر من كل قيد وشرط، فقد ألهمت الشاعرة ثلاث عشْرة قصيدة كأنها معزوفات مضبوطة النوتات على أوتار الذات وما تحوكُهُ  فيها حوادث الأيام حلوها ومرِّها، حزنها وفرحها، ضيقها وندحتها، وإن كان معجم الوجع والأسى طاغيا، ولك في قصيدة "خطيئة معلنة" و "ألا ترأفين" و "طقوس" و "أنا ويح أنا" وقصائد أخرى نماذج بوح شاعري تحاول فيه المرأة المعاصرة فك قيود البحر الموزون من جهة، وقيود ما حمَّلها أمسُها من أعباء الأسرة والعمل والثقافة المذكرة... هذا دون أن ننسى بعض القصائد التي يمكن ادراجها في التفاصيل النسوية الصرفة كقصيدة " بوح خاتم " و "فستان" و"المرآة " وإن كانت فيهن الشاعرة غير حبيسة خِدْرِهَا الضيق، موسعة طوق المعاني إلى أن تبلغ آفاقا بعيدة، والشاعرة وحدها القادرة على جعل خاتمها البسيط خاتمَ سليمان الأسطوري، وهذا لعمري إحدى معاجز النِّسوة وملمح كاف على نبوَّتِهِن الأدبية.

إنّ لحظة القلب، كما قال ابن المُعتزّ، أسرعُ خَطْرَةً من لحظة العين، وأبعدُ مجالا، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر... والقلب كالمُملي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، والعاقل يكسو المعاني وَشْيَ الكلام في قلبه، ثم يُبديها بألفاظٍ كَواسٍ في أحسن زينة؛ وإن القارئ سيدرك أن ديوان "أوراق الشمس" مِصداقٌ أمينٌ من مصاديق كلام ابن المعتزّ، فالشاعرة، وهي عاكفة على ورقها، كأنها تعدّ نبض قلبها نبضةً نبضةً ليُملي على قلمها ما يجعل الشعور مسطوراَ ومقروءاً، وقد أصاب أبو عثمان في تعريف هذه المضغة قائلا :" وإنما اللّسان تُرجمان القلب، والقلب خزانةٌ مستحفِظةٌ للخواطر والأسرار، وكلّ ما تُنتجه الحكمة والعلم."؛ والمرأة إذا حزنت صدقت، وإذا توجّعت صدقت، وإذا زَحَرَت صدقت...وهلُمّ إليك كلّ ما يمرّ على شِغافها وسويدائها على مدار اليوم والسّاعة، والمرأة  كالرّغيف، لا يبلغ النضج إلاّ بعد لفحٍ من النار، لهذا سيبقى شعرُ المرأة أصدق شعرٍ يمكن أن  يكتبه بشر... كيف لا وهو مكتوبٌ بسفّود حامٍ وليس بقلم بارد؟

وبعد، فلو كانت السّعادة تُقاس بمقدار ما تراه من أمجاد يصنعها أبناء الوطن، فإنّنا بلغنا غايتها ونحن نزفّ لقراء صحيفة المثقف بصفة خاصة و للقرّاء العربِ غامة  بعض ما ضمّته دفَّتا" أوراق الشمس"، وكذا بتقديم هذا الدّيوان الأنيق أناقةَ الخطّ بحَرْفِهِ والنّخلِ بسَعْفِهِ؛ شاكرين بالمَثاني وبالمَثالِث  شاعرة الجنوب لطيفة أثر رحمة الله، التي أدهشتنا نتصفح قصائدها بشغف  لكأنها سرّ من أسرار الحياة، وهي كذلك بلا شك، وقد صدق بعضهم حين قالوا: "لو سألوا الحقيقة أن تختار  لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر..".

 

في المثقف اليوم