اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: الشّعر والفلسفة

رغم الصلة العميقة التي عرفها قُطبي الشعر والفلسفة عبر التاريخ الثقافي، فإن العلاقة بينهما قد شابها بعض الارتباك خاصة عندما طرد أفلاطون الشّعراء من جمهوريته، وقيّد ابن رشد حضورهم فيها في «جوامع سياسة أفلاطون». إن الشّعر أحد موجودات المدينة، أما الفلسفة فكمال لها. فهل هذا يعني أن هناك انفصاماً بينهما؟

إننا لا نعرف قوماً عدِمُوا الشّعر، وإنْ عدموا الفلسفة بمعناها الصناعي، إذ وجدنا الشعوب تُضمِّنُ الشّعر حكمتها العملية، ووجدناهم يلجأون إلى الشّعر لنفث لواعج قلوبهم وكُلُومِها، وبثّ أشواق أرواحهم وسُمُوّها، والبوح بعذوبة عواطفهم ورقّتها. فلا تخلو أمة من قول شعري. وقد كان أوّل حكمة الشرق شعرية، وملحمة جلجامش شاهد على ذلك، وكانت الإلياذة والأوديسا لهوميروس مَجْمَع الحكمة عند اليونان، وكان للعرب في مجال الشّعر مضمار لا يبارى.

أما الفلسفة فلصيقة بالمدينة، ولم تُعرف فلسفة خارج نطاق الحضارة، بل إن ديكارت اعتبر أن مقياس حضارة أمّة مّا إنّما تقاس بمدى شيوع التّفلسف الصحيح فيها، وذلك أن الفلسفة من الكماليات وليست من الضروريات من قبيل الغذاء والسّكن والأموال بعامة، وهي وإنْ كانت مثل الشعر بهذا المعنى، إلا أنّ الحياة بدونها ممكنة، بدليل أن ليس كل الحضارات عرفت فلسفة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، في حين أننا لم نجد قوماً قد تجرّدوا من قول الشعر، هذا الشعر الذي يتحول إلى شدْوٍ وطرب يُتغنّى به.

حقا، إن الفلسفة كمال، لكن ما هو كمال هو أهمّ مما هو ضروري، فالضّروري يغذي الجسد، وبه يقوم العيش، وكل واحد بفطرته وغريزته وطبيعته يسعى إليه، أما الفلسفة فبها يَتقوَّم جوهر الإنسان، وبها تكمُل إنسانيته، وهي بهذا لا يُقبل عليها إلا من تحرّر من هموم المعاش، فالفلسفة ضدّ الطبيعة لأنها تسعى إلى تطهيرها بعبارة أفلاطون، لذلك لم يكن يهتم بالفلسفة عبر تاريخها الطّويل إلا أصحاب الهمم العالية، والنّفوس التوّاقة إلى الكمال الإنساني، والمشرئبة إلى تحقيق إنْسِيتها في أقصى غاياتها.

ولم يكن المسلمون عن هذا الهدف ببعيدين، فقد طمحت همم ملوكهم إلى تعلّم الفلسفة كما هو حال المأمون في المشرق ويوسف بن عبد المؤمن في المغرب، وقد ربح الفكر الفلسفي الكثير من هذه العناية، فكان الكندي أوّل فيلسوف عاش في ظل المأمون، وكان ابن طفيل وابن رشد أكبر فيلسوفين عاشا في ظل أبي يعقوب، لكن هذا الاختلاف بين الشّعر والفلسفة لم يعدم وصلاً بينهما:

أولاً، لأنّ الشّعر يُقدّم الأدوات الضرورية لكل تأمل فلسفي، وهي اللغة، فالذي لم يتمرس باللغة الشّعرية يصعب عليه فهم النصوص الفلسفية وكتابتها، ولذلك نجد الفلاسفة من أكثر النّاس قراءة للشعر، وقد كان ابن رشد يحفظ ديواني المتنبي وأبي تمام، وكان فلاسفة الإسلام يقولون الشعر، ومنهم من جوّد فيه تجويداً بليغاً.

ثانياً، لأنّ حكمة الشعراء كثيراً ما أصبحت أفكاراً ذات نسق محكم في خطاب الفلاسفة، ولنا في علاقة هايدجر بالشّاعر هولدرين دليلاً على ذلك، بل إن البعض يذهب إلى أن نشأة الفلسفة اليونانية قامت على إضفاء الطابع العقلاني على أشعار هوميروس، وهي الأشعار التي كان لها الفضل في نشأة بلاد اليونان لغوياً وتاريخياً.

إن تشجيع القول الشعري هو ضرب من خلق فضاء ثقافي عام تُنشر فيه الحكمة العملية، وإنْ تراكم هذه الحكمة كفيل أن يخلق عقلية منفتحة تتطلع همّتها إلى ما هو أفضل، فضلاً عن ذلك، فإنّ الشّعر يُحرّر الفرد من كثير من الإكراهات التي لا يكون قولٌ فلسفي إلا بها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 19 ابريل 2024

 

في المثقف اليوم