اخترنا لكم

د. محمد البشاري: المعرفة واحتمالات الخلط المفاهيمي

يعتبر التطرق لتعريف كلمة المعرفة بحد ذاته، والانتقال لفهم ما تعنيه المعرفة أو الإبستمولوجيا وغيرها من المفردات والمصطلحات ذات الصلة، من الأساسيات التي يتعين أن يدركها العقل الإنساني بدقة.. ذلك أن فهم ماهية المعرفة وما تنطوي عليه من عمليات وعناصر يعد العمود الفقري للإدراك الإنساني القائم على تطوير المفاهيم من جهة، والقدرة على اكتساب المعرفة الحقيقية الدقيقة من جهة أخرى. وهكذا فإن المعرفة سبيل لبناء مسار واضح تسير فيه الأفكار والمفهومات والدلالات، وتأخذ مكانها الصحيح، ومن ثَم تتكون الاتجاهات العالمية والمجتمعية على حد سواء.

ومن اللافت أن مصطلح الإبستمولوجيا يرادف في اللغة الإنجليزية «نظرية المعرفة»، في حين أنه يتناظر في اللغة الفرنسية مع تركيب آخر، ويرجع السبب في ذلك إلى استخدام الفلاسفة الفرنسيين هذا المصطلح تعبيراً عن «فلسفة العلوم» والتاريخ الفلسفي للنظرة العلمية.

وقد واجهت نظرية المعرفة، مثل غيرها من المفاهيم والدلالات، خلطاً وتشوشاً في الفهم والتعريف، لذلك نجد أن العديد من المفكرين والفلاسفة أشاروا لفروقات بسيطة، لكنها مفصلية وتؤدي لمعانٍ مختلفة، ومن ذلك على - سبيل المثال لا الحصر - ما وضّحه الفيلسوف أندريه لالاند، بتمييزه بين أنواع المعرفة البشرية، لوجود مساحة واسعة تسهل الخلط أو بناء لغط مفاهيمي فيما بين الدراسات التي تناولت أصناف المعرفة البشرية، مفرِّقاً بين الإبستمولوجيا من جهة، والميتودولوجيا من جهة أخرى. وفي ذات السياق نحا العديد من المفكرين للتفريق فيما بين نظرية المعرفة والإبستمولوجيا.

كما أنه من الضروري التثبت من صحة هذه المعلومات من خلال تتبع المدلول الخاص بكلمة «العلم»، حيث إنها اليوم لا تشبه تعريفها القديم متمثلاً في القول بأن «العلم يخص الضروري والخالد» (أرسطو)، أو يعبر عن «أرقى درجات المعرفة» (أفلاطون). كما كانت كلمة «علم» تأتي غالباً في سياق الحديث عن «الحقيقة العظمى» المتصلة بالمنظومة الدينية والوجدانية العقائدية لدى الأفراد، كما يوضح لالاند.

وفي صدد الحديث عن المعرفة يتوارد العديد من الدلالات التي قد تشكل لبساً حول المفهوم، مما يزيده تعقيداً، ولذا فهناك حاجة حقيقية للتفريق بين العديد من المفردات التي تلتقي في المعنى أو في التركيب، وذلك مثل: البيانات، والمعلومات، والعلم، والمعرفة.. إلخ، وبخاصة أنه عند الحديث عن البيانات فإننا نعبر عن أصوات وصور وأرقام ورموز ترتبط واقعياً ومنطقياً بالبيئة التي تحيطنا، وبالتالي فالبيانات تعتبر المادة الأولى الخام التي يمكن من خلالها تشكيل شيء آخر، إذ بعد تناول البيانات ومعالجتها تنتج لدينا مجموعة من المعلومات التي ستتحول في مرحلة لاحقة إلى معرفة جديدة، وهذه بدورها سوف تشكل لبنة أساسية في أي علم تدخل في بنائه وتشكيل ملامحه. ومن هنا يَرد معنى جديد للمعرفة التي ترتبط بتفصيل البُنى الأساسية والمكونات الصغيرة التي تدخل في تركيبها. فالمعرفة مزيج من القواعد والأفكار والمفاهيم والإجراءات التي تفضي للخروج بقرارات وأفعال واضحة، وبالتالي فإنها معلومات متوازية مع التجربة الإنسانية وما تنتجه من قيم وحقائق وأحكام متآلفة تتناغم بطريقة سلسة على نحو يسمح بإحداث تغيير فعلي في الواقع الإنساني.

إن القدرة على تحقيق الدقة في التعريف والتوصيف لكل قضايانا في بنيتها الأساسية، من شأنها أن توفر النجاح المطلوب من كل دلالة في موضعها الصريح، بل إنه مدعم بـ «شهادة ثقة» في ما وصلت إليه تلك الدلالة من تناغم وتمازج منطقي وفطري مع حقيقة الكون الديناميكية، والحركية المستمرة التي يمكن ملاحظتها في طبيعة تشكيل كل ما يحيط بنا، والمعرفة جزء منها، مما يجعلها أكثر تجدداً وتطوراً.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 24 ابريل 2024

 

في المثقف اليوم