ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

شهرزاد وقصص أخرى

تأليف: إدواردو جاليانو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(1) حظ سيء

طالما لازمنى الحظ السيئ. أفقد كل شيء، تسقط الأشياء من جيبي ومن ذاكرتي: أفقد المفاتيح والأقلام والمال والمستندات والأسماء والوجوه والكلمات. لا أعرف ما إذا كان ذلك مؤامرة ضدى من شخص لا يحبني ويعتقد أنني أستحق هذا أم أنه مجرد مصادفة،، لكن في بعض الأحيان تستغرق الأزمة وقتًا وأنتقل من خسارة إلى خسارة، وأفقد ما أجده، ولا أستطيع العثور على ما أبحث عنه، وأخشى بشدة من أن حياتي قد تكون فاسدة.

**

(2) شهرزاد

للانتقام ممن خانه، قطع الملك شهريار رقاب الجميع. تزوج عند الغسق وترمّل عند الفجر. فقدت العذارى عذريتهن ورؤوسهن واحدة تلو الأخرى. كانت شهرزاد هي الوحيدة التي نجت من الليلة الأولى، وبعد ذلك تغيرت القصة مع كل يوم جديد في الحياة. هذه القصص، التي سمعتها شهرزاد أو قرأتها أو اختلقتها، أنقذتها من قطع رأسها. قالتها بصوت خافت في غرفة النوم شبه المظلمة، حيث لا من ضوء سوى ضوء القمر. سره أن تحكى، فمنحها الحياة، لكنها كانت شديدة الحذر. في بعض الأحيان، في منتصف القصة، شعرت بالملك وهو يتأمل رقبتها. فإذا ضجر الملك ضاعت، ومن الخوف من الموت نبع إتقان السرد..

**

(3) مخترع الحروب الوقائية

في عام 1939 غزا هتلر بولندا لأن بولندا أرادت أن تغزو ألمانيا.

مع تدفق مليون ونصف من الجنود الألمان عبر الخريطة البولندية والقنابل تنهمر من الطائرات، شرح هتلر مذهبه في الحروب الوقائية: الوقاية خير من العلاج، أنا أقتل قبل أن يقتلوني.

أنشأ هتلر المدرسة. منذ ذلك الحين،وكل حروب الجهاز الهضمي، الدول التي تأكل الدول، تدعي أنها حروب وقائية.

**

(4) العالم رأسا على عقب

في 20 مارس 2003 قصفت الطائرات العراقية الولايات المتحدة.

بعد القصف، غزت القوات العراقية أراضي أمريكا الشمالية.

كانت هناك العديد من الأضرار الجانبية. العديد من المدنيين الأمريكيين، ومعظمهم من النساء والأطفال، فقدوا حياتهم أو تعرضوا للتشويه. الرقم الدقيق غير معروف، لأن التقاليد تأمر بإحصاء ضحايا القوات الغازية وتحظر إحصاء ضحايا السكان الذين تم غزوهم.

لقد كانت الحرب حتمية. فقد تعرض أمن العراق، والبشرية جمعاء، للتهديد من جراء أسلحة الدمار الشامل المتراكمة في ترسانات الولايات المتحدة.

من ناحية أخرى، فإن الإشاعات الخبيثة بأن العراق كان ينوي الاستيلاء على نفط ألاسكا ليس لها أساس.

**

(5) الحب

في غابة الأمازون، نظرت المرأة الأولى والرجل الأول إلى بعضهما البعض بفضول. كان غريبًا ما بين أرجلهم.

سأل الرجل:

- هل قطعت؟

قالت:

- "لا". لطالما كنت هكذا.

فحصها عن كثب. حك رأسه. كانت هناك قرحة مفتوحة.

- لا تأكلى الكسافا أو الموز أو غيرها من الفواكه التي تتشقق عندما تنضج. سوف أعالجك. استلقى على الأرجوحة الشبكية واستريحى.

أطاعت. بصبر ابتلعت الخلطات العشبية وسمحت لنفسها بوضع المرهم والمراهم. كان عليها أن تضغط على أسنانها حتى لا تضحك عندما قال لها:

- لا تقلقي

أحبت اللعبة، على الرغم من أنها بدأت تتعب من الصيام والاستلقاء في الأرجوحة الشبكية.

جعلت ذكرى الفاكهة فمه يسيل.

بعد ظهر أحد الأيام جاء الرجل راكضًا عبر الغابة. قفز بنشوة وصرخ:

- لقد وجدتها! لقد وجدتها

لقد رأى للتو القرد يعالج القرد في أعلى الشجرة.

قال الرجل واقترب من المرأة:

- هذا صحيح.

عندما انتهى العناق الطويل، ملأت رائحة كثيفة من الزهور والفواكه الهواء.ومن الجسدين المتشابكين، انبعثت أبخرة وإشراقات لم يسبق له مثيل من قبل، وكان جمالها رائعًا لدرجة أن الشمس والآلهة ماتت من العار.

**

(6) تحية

اليوم هو يوم المرأة

على مر التاريخ، تعامل العديد من المفكرين، البشر والإلهة، وجميعهم من الذكور، مع النساء لأسباب مختلفة:

1- لتشريحه

أرسطو: المرأة رجل غير مكتمل.

سانتو توماس دي أكينو: المرأة خطأ في الطبيعة، فهي ولدت من نطفة قذرة.

مارتن لوثر: الرجال لديهم أكتاف عريضة وأرداف ضيقة. لقد وهبوا الذكاء. النساء لديهن أكتاف ضيقة وأرداف عريضة، لإنجاب الأطفال والبقاء في المنزل.

2- بحكم طبيعتها

فرانسيسكو دي كيفيدو: الدجاج يضع البيض والنساء القرون

سان خوان الدمشقي: المرأة حمار عنيد.

آرثر شوبنهاور: المرأة حيوان طويل الشعر وقصير التفكير.

3- لوجهتك

قال الرب للمرأة حسب الكتاب المقدس: زوجك يسيطر عليك.

قال الله لمحمد في القرآن: إن النساء الطيبات مطيعات.

**

(7) الاكتشاف

في عام 1492، اكتشف السكان الأصليون أنهم هنود،

اكتشفوا أنهم يعيشون في أمريكا،

اكتشفوا أنهم كانوا عراة

اكتشفوا وجود الخطيئة،

اكتشفوا أنهم يدينون بالولاء لملك وملكة من عالم آخر وإله من سماء أخرى،

وأن هذا الإله قد اخترع الذنب واللباس، وأمر أن بإحراق من يعبد الشمس والقمر والأرض والمطر الذي يبللها.

**

(8) حضارة الاستهلاك

في بعض الأحيان، في نهاية الموسم، عندما غادر السياح كاليلا، سمعت عواء من الجبال. لقد كانت صرخات الكلاب المقيدة بالأشجار.

استخدم السياح الكلاب للتخلص من الشعور بالوحدة، أثناء قضاءالإجازات ؛ وبعد ذلك، عندما حان وقت المغادرة، قاموا بتقييدها في الجبال حتى لا تلحق بهم.

**

(9) السجناء

كلنا سجناء. من لا تسجنه الضرورة يسجنه الخوف. والأطفال هم الأكثر سجنًا: المجتمع الذي يفضل النظام على العدالة، يعامل الأطفال الأغنياء كما لو كانوا مالًا، والأطفال الفقراء كما لو كانوا قمامة، وأولئك الذين في الوسط مقيدون بشاشة التلفزيون.

**

(10) الخوف

ذات صباح أعطيت أرنبا غينيا. لقد عدت به إلى المنزل في قفص. وفي الظهيرة فتحت باب القفص. عند حلول الظلام عدت إلى المنزل لأجده كما تركته: في القفص، ملتصقًا بالقضبان، يرتجف من الخوف من الحرية.

***

....................

* إدواردو جاليانو (1940-2015)، من مواليد مونتيفيديو، أوروجواي، كاتب مقالات وصحفى ومؤرخً وسياسى، بالإضافة إلى أنه أحد أكثر الشخصيات الأدبية المحبوبة في أمريكا اللاتينية. تتضمن كتب جاليانو ثلاثية "ذاكرة النار". كتاب المعانقات. نقول لا. كلمات المشي والمرايا: قصص للجميع تقريبًا. نُشر كتابه الأخير، أطفال الأيام (...)، باللغة الإنجليزية في عام 2013. كان غاليانو ناقدًا صريحًا للآثار غير الإنسانية المتزايدة للعولمة على المجتمع الحديث، وظل مدافعًا شغوفًا عن حقوق الإنسان والعدالة.

للشاعرة البولندية ماريلا فولسكا

ترجمتها عن البولندية: مريم لطفي

***

روحي ستكون فتاة الى الابد

من ذهب الغابة عند الفجر

ومعها أبريق من أجل التوت

جريئة.. جميلة.. وواثقة إنها رغم مرور السنين

ستعيش بجمال وجهها الشاب الابدي

روحي ستكون فتاة إلى الابد

روحي في إكليل أخضر على الضفائر

تمشي في طريق وحيد

حرة مثل طائر الغابة

في وسطه تنحني الشمس في الصباح

مثل الرياح الحرة تهب على الحياة

روحي إكليل أخضر على ظفائر

لن تسمح روحي لأحد بأخذها

ملك..لاأحد

في حياة الله الاخرى

سيُحمل قلبها

مثل توت العليق في المساء

وأبريق ممتلئ

روحي في إكليل إخضرعلى الضفائر

***

.......................

* ماريلا فولسكا: شاعرة بولندية  ولدت في 13 مارس-1873 في لفيف وهي تنتمي الى الجيل الذي عرف ب حركة" يونغ بولاند" تمتعت بحبها للحياة والشعر والفنون وهو ما بدا واضحا بكتاباتها الشعرية   التي امتازت بحب الطبيعة ووصفها  وقد كتبت اجمل القصائد ومنها الساعة التي لم تكن،لست نادما،عبر الغابة الذهبية ،حظ،حلمت،نفس، ست قصائد وغيرها من الاعمال التي تستحق ان تصنفها كشاعرة مبدعة  تغنت بالطبيعة والحياة  ،والحقيقة أن الشاعر ابن بيئته فالطبيعة البولندية تفرض على الشاعر ان يتغنى بمفرداتها وهو ماانعكس على كتابات الكثير من الشعراء البولنديين .

كان أشهر أعمالها كتاب شعر بعنوان "إبريق من توت العليق" نشر عام 1929 وتلك الموهبة التي اورثتها لابنتيها الكاتبة بياتا أوبيرتيسكا والرسامة أنيلا باوليكوفسكا ، وكما عاشت وتغنت وكتبت الشعرتوفيت بنفس المدينة تاركة ارثها الشعري في عام 1930

مريم لطفي

أبانا الذي في السماء وقصص أخرى

تأليف: خوسيه لياندرو أوربينا

ترجمتها إلى الانجليزية: كريستينا شانتز فريدريك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أبانا الذي في السماء

بينما كان الرقيب يستجوب والدته وأخته، أخذ النقيب الصبى من يده إلى الغرفة الأخرى.

سأله:

- أين والدك؟

همس:

- إنه في الجنة.

سأل النقيب المذهول:

- كيف؟ مات؟

قال الصبى:

- لا. كل ليلة ينزل من السماء ليأكل معنا.

نظر النقيب لأعلى ورأى الباب الصغير المؤدي إلى العلية.

**

2- بورتريه لسيدة

في ضوء الفجر الذي تسلل بخجل عبر النافذة، قامت بتسوية ثوبها بعناية. كان أحد أظافرها ينظف باقى الأظفار. بللت أطراف أصابعها باللعاب وصقلت حاجبيها. عندما انتهت من ترتيب شعرها، سمعت حراس السجن يأتون على طول الممر. أمام حجرة الاستجواب، تذكرت الألم، ارتجفت ساقاها. ثم وضعوا غطاء محرك السيارة عليها وتجاوزت العتبة. كان الصوت في الداخل هو نفس الصوت في اليوم السابق. و كانت الخطى نفس خطى اليوم السابق، وصلت إلى مقعدها، اخترق الصوت اللزج أذنها.

- أين كنا بالأمس يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

تلقت ضربة في وجهها. شعرت بطقطقة في عظام الفك.

- أين كنا يا آنسة جيمينيز؟

قالت:

- كنا نقول إنه يجب أن تتذكر أنك تتعامل مع سيدة.

**

3- علاقات

قال لي إنني مثير للقلق وأخبرته أنه أعمى. أخبرني أنه إذا كان الأمر كذلك حقا، فستعرف الحكومة ما يجب فعله وليس هناك ما يدعو للقلق. أخبرته أن موقفه كان أنموذجا للأشخاص الذين يعتقدون أن جميع المشكلات يمكن حلها من أعلى، وشعرت أن هذا تصرف غير مسؤول للغاية. أخبرني أنه من غير المسؤول أن نتحايل على التشهير ونشر الفتنة. قلت له إنه من الحقير أن يقود الناس إلى الذبح بالكذبة البيضاء لمشروع أيديولوجي لم يعد صالحًا. أخبرني أن مواقف مثل موقفي ستؤدي إلى كارثة وسيحكم علينا يومًا ما. أخبرته أخيرًا أن يذهب إلى الجحيم. لم نتحدث مع بعضنا البعض مرة أخرى. بالأمس علمت أنه كان في الزنزانة المجاورة لي وفي هذا الصباح رأيته عندما سمحوا لنا بالخروج إلى الفناء. لم نقل مرحبًا، لكنني أعلم أنه كان ينظر إلي. نظرت إليه بطرف عيني أيضًا. يبدو أنه في حالة صحية سيئة، مثلي تماما.

**

4- استجواب

في تشرين الثاني (نوفمبر)، بعد أن أمضيت أكثر من شهرين في المنزل، قررت المخاطرة بالزيارة. كان الوقت مبكرا بعد الظهر، والشمس مشرقة، ولا يوجد أحد تقريبًا في الشوارع. تفتح أمي الباب وأدخل بسرعة. البيت الكبير فارغ. والدي وإخوتي ما زالوا في السجن. كانت أمى بمفردها طوال هذا الوقت، وتذهب ثلاثة أيام في الأسبوع لتطلب أخبارًا عنهم. وبينما نعبر الفناء باتجاه المطبخ، أخبرتني أنها تأمل أن يتم إطلاق سراحهم في اعياد الميلاد. قبل أن تخطو فوق العتبة، توقفت، وأخذت يدي و سألتني: هل تؤمن بوجود إله، يا بني؟ أنظر إليها، هى أصغر حجما وأكبر سنا الآن، وأعتقد أن هذه المرأة التي تنظر إلي بعيون قلقة كما لو أن إجابتي كانت نوعًا من الحكم، هذه المرأة، أمى، تذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وفي العطلات الدينية الأخرى لأكثر من خمسة وأربعون سنة. ثم، عندما أراها هكذا، أنا الذى لم أبك منذ فترة طويلة جدا، احتضنها دون إجابة وأبكي بلا خجل.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: خوسيه لياندرو أوربينا / ولد خوسيه لياندرو أوربينا في سانتياغو دي تشيلي عام 1949 م. عندما كان طالبًا في الآداب، نفي إلى الأرجنتين عام 1974. ومنذ عام 1977 يعيش في كندا، عاد إلى تشيلي عام 2005 لكنه ما زال يشير إلى نفسه بأنه منفى دائم..نشر مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان: قضايا مفقودة. تدور أحداثها في تشيلي تعاني من القمع الذي أعقب اغتيال سلفادور أليندي في الانقلاب الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه والقمع ضد أنصار أليندي. إنهم غارقون في روح الخوف والعنف المخمر مع روح الدعابة الكئيبة. وقد ترجمت كريستينا شانتز فريدريك هذه المجموعة إلى الانجليزية عام 1987 م. القصص المترجمة هنا من موقع كتب مهملة وهذا رابط الموقع والقصص:

https://neglectedbooks.com/?p=4792

The Neglected Books Page

بقلم: جي دي موباسان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان القطار قد غادر للتو جنوة في طريقه إلى مرسيليا وكان يتبع المنحنيات الطويلة للساحل الصخري. انزلق مثل ثعبان حديدي بين الجبال والبحر، مرورا بشواطئ من الرمال الصفراء تتناثر عليها موجات فضية صغيرة، قبل أن تبتلعه في فم نفق مثل حيوان ينطلق نحو عرينه.

في العربة الأخيرة، كانت امرأة ممتلئة الجسم وشاب يجلسان مقابل بعضهما البعض في صمت يختلسان النظرات الخفية لبعضهما البعض من حين لآخر. ربما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جالسة على جانب باب العربة وتنظر إلى منظر الطبيعة عبر النافذة. كانت امرأة فلاحة صلبة العود من بيدمونت، ممتلئة الجسم ممتلئة الخدود بعينين سواداوين وصدر ممتلئ. بعد أن دفعت عدة طرود تحت المقعد الخشبي، تحمل والآن سلة على ركبتيها.

كان الشاب في العشرين من عمره، نحيفًا جدًا وله سمرة عميقة لشخص يعمل في الحقول تحت أشعة الشمس الحارقة. وبجانبه مربوط في يقجة كانت ثروته بأكملها: زوج من الأحذية، وقميص، وزوج من بناطيل العمل الخيشية وسترة. تحت مقعده كان يخزن معولًا ومجرفة مربوطة بحبل. كان يأمل في العثور على عمل في فرنسا.

صبَّت الشمس الساطعة مطرًا من نار على الساحل. كان ذلك في أواخر شهر مايو، وامتلأت الأجواء بالعطور المبهجة وانتشرت عبر نوافذ العربات المنخفضة. تنفث أشجار البرتقال والليمون المزهرة في السماء الهادئة، روائح حلوة، نفاذة، عسلية تختلط بعطر الورود البرية التي تنمو على طول الطريق، تتجول فوق الحدائق الغنية التي مروا بها، حول أبواب الأكواخ الريفية المتداعية وفي الريف أيضا. هذا الساحل هو موطنهم الطبيعي. يملأون المكان برائحتهم الخفيفة والقوية ويجعلون الهواء شهيًا، مثل شيء ألذ من النبيذ ومسكر مثله.

كان القطار يتحرك ببطء كما لو كان يريد أن يظل ممتدا،مطيلا مشيته ويتذوق السحر اللطيف لعدن. وظل يتوقف عند المحطات الصغيرة حيث توجد بعض البيوت البيضاء، ثم انطلق مرة أخرى بوتيرته الهادئة، بعد أن أطلق صفيرًا لفترة طويلة. لم يدخل أحد. كان الأمر كما لو أن جميع السكان كانوا نائمين ومترددين في التحرك على الإطلاق في ذلك الصباح الحار من فصل الربيع.

من وقت لآخر، كانت المرأة الممتلئة تغلق عينيها، ثم تفتحهما فجأة، بينما تمكنت من إنقاذ السلة من السقوط من على ركبتيها. كانت تفحص المحتويات لفترة ثم تغفو مرة أخرى. وقفت حبات العرق مثل اللؤلؤ على جبهتها وكانت تتنفس بصعوبة وكأنها تعاني من انقباض مؤلم.

سقط رأس الشاب إلى الأمام على صدره وقد غرق في نوم عميق لصبي ريفي.

فجأة، عند مغادرتهما محطة صغيرة، بدت الفلاحة وكأنها استيقظت، وفتحت سلتها، وأخذت قطعة خبز، وبيضًا مسلوقًا، وقارورة من النبيذ، وبعض الخوخ، برقوقا أحمر جميلا  وبدأت تأكل. استيقظ الشاب أيضًا فجأة ونظر إليها، وكان يشاهد كل قضمة تنتقل من الركبتين إلى الفم. جلس، وذراعاه مطويتان، وعيناه مثبتتان، وشفتاه مضغوطتان معًا. كانت خداه أجوفان.

كانت تأكل مثل امرأة كبيرة جشعة، وهي تتناول باستمرار رشفة من النبيذ للمساعدة على بلع البيض، وتوقفت لأخذ قسط من الراحة. ثم جعلت كل شيء يختفي، الخبز، البيض، البرقوق، النبيذ. وبمجرد أن أنهت وجبتها أغلق الشاب عينيه مرة أخرى. لذلك، شعرت ببعض الإحراج، خففت المرأة صدرها لتكون أكثر راحة وفجأة نظر إليها مرة أخرى. لم تقلق بشأن ذلك، استمرت في فك أزرار فستانها. أدى ضغط حضنها إلى شد النسيج بحيث، مع اتساع الفتحة، تم الكشف عن بصيص من الملابس الداخلية البيضاء وقليل من بشرتها. عندما شعرت المرأة القروية براحة أكبر، قالت بالإيطالية:

- الجو حار جدًا لدرجة أنك لا تستطيع التنفس.

أجاب الشاب بنفس اللغة وبنفس النطق:

- إنه وقت جيد للسفر.

سألت:

- هل أنت من بيدمونت؟

- أنا من أستي

- أنا من كاسال

لقد كانا جيران.

على الفور، بدأا في الدردشة معًا كجيران. لبعض الوقت، كما هو الحال في كثير من الأحيان بين الناس العاديين الذين لم يعتادوا كثيرًا على إجراء محادثة مع الغرباء، كانت محادثاتهما صارمة ورسمية. ثم ناقشا الشؤون المحلية واكتشفا معارف مشتركة. مع نمو قائمة الأشخاص الذين اصطدما بهم مؤخرًا، أصبح الاثنان صديقين. سقطت كلمات موجزة ومتسارعة بنهايات رنانة من شفاههما باللغة الإيطالية البسيطة. ثم انتقلا إلى الأمور الشخصية.

كانت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال أصبحوا الآن في رعاية أختها. لقد وجدت لنفسها وظيفة مربية، وظيفة جيدة لسيدة فرنسية تعيش في مرسيليا. كان الرجل يبحث عن عمل. قيل له إنه سيجد البعض أيضًا هناك فى مرسليا، حيث يبدو أن هناك قدرًا كبيرًا من أعمال البناء المعروضة.

ثم صمتا.

كانت الحرارة شديدة، حيث تنهمر بشدة على أسطح العربات. وحلقت سحابة من الغبار خلف القطار واخترقت الداخل. وأخذت روائح أشجار البرتقال والورود نكهة أقوى وأكثر انتشارًا وأثقل.

راح المسافران ينامان مرة أخرى.

فتحا أعينهما في وقت واحد تقريبًا. كانت الشمس تغرق في اتجاه البحر، وتلقي بريقًا لامعًا على مياهه الزرقاء. انتعش الهواء وأصبح أخف وزنا.

كانت الممرضة تلهث، صدرها مفتوح، خداها مترهلان، عيناها باهتتان ؛ قالت بصوت ضعيف:

- لم أرضع منذ الأمس ؛ ها أنا أشعر بالدوار وكأنني سأصاب بالإغماء.

لم يرد، لا يعرف ماذا يقول. وتابعت:

- عندما يكون لديك لبن مثلي، عليك أن ترضع ثدياك ثلاث مرات في اليوم، وإلا ستشعر بالألم الشديد. إنه مثل وزن ثقيل على قلبي. ثقل يمنعني من التنفس ويكسر أطرافي. من المؤسف أن يكون لديك هذه الكمية الكبيرة من الحليب.

قال:

- نعم، هذا مؤسف. لابد أن يكون ذلك مصدر إزعاج لك.

بدت مريضة للغاية بالفعل، مرهقة وبائسة. همست:

- فقط أعصره فيخرج الحليب مثل النافورة. من الغريب حقًا رؤيته. لن تصدق ذلك. في كاسال، جاء جميع الجيران لينظروا إلي.

يقول:  أوه! حقًا.

- نعم صحيح. أود أن أريه لك، لكنه لن يفيدني بأي شيء. لا يكفي خروج اللبن بهذه الطريقة أيضا.

صمتت.

توقف القطار، خلف الحاجز كانت تقف امرأة نحيفة خشنة الملبس، وتحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي. نظرت إليها الممرضة. قالت بنبرة متعاطفة:

الآن هناك امرأة يمكنني مساعدتها. وهذا الطفل سوف يمنحني بعض الراحة، يمكنني أن أخبرك! أنا لست امرأة ثرية، ولن أترك منزلي هكذا، وأهلي وحبيبي الصغير أصغر سناً للعثور على عمل بعيدًا، لكنني سأمنح خمسة فرنكات كاملة بسرعة للحصول على هذا الطفل لمدة عشرة دقائق وأعطيه الثدي. سأكون امرأة جديدة.

مرة أخرى صمتت. رفعت يدها الدافئة عدة مرات لمسح جبينها الذي كان يتصبب عرقًا.  تأوهت:

- لم أعد أستطيع التحمل. يبدو لي أنني سأموت.

بحركة لا إرادية فتحت فستانها بالكامل، كاشفة عن ثديها الأيمن الضخم المشدود بحلمته البنية. واشتكت المرأة المسكينة:

- يا إلهي! أنا لا أعرف ما يجب القيام به! ماذا يمكنني أن أفعل؟

انطلق القطار مرة أخرى واستمر في طريقه وسط الزهور التي تعبق أنفاسها فى الأمسيات الدافئة. في بعض الأحيان بدا قارب صيد نائمًا على البحر الأزرق، مع شراعه الأبيض الثابت المنعكس في الماء كما لو تم العثور على قارب آخر مقلوبًا.

تلعثم الشاب محرجا:

- لكن... سيدتي... أستطيع... أن أريحك.

أجابت بصوت مكسور:

- نعم، إذا أردت. سوف تقدم لي خدمة عظيمة. لا يمكنني الصمود بعد الآن، لا يمكنني الصمود بعد الآن.

جثا أمامها. ومالت نحوه وجلبت طرف صدرها الداكن إلى فمه مثل مرضعة. مع الحركة التي قامت بها بكلتا يديها لتقديم ثديها للرجل، ظهرت قطرة من الحليب في الأعلى شربها بشراهة، ممسكًا بالثديين مثل الثمرة بين شفتيه. وبدأ يرضع بجشع وبشكل منتظم.

كان قد وضع ذراعيه حول خصر المرأة، فعصرها لتقريبها منه؛ وكان يشرب في رشفات بطيئة مع تحريك الرقبة، كحركة الأطفال.

فجأة قالت:

- هذا يكفي لهذا الجانب، الآن خذ الآخر.

مطيعا انتقل إلى الثدي الآخر. وضعت يديها على ظهره وأخذت تتنفس بعمق ورضا، مستمتعة برائحة الزهور الممزوجة بأنفاس الهواء التي تقذفها حركة القطار في العربات.

قالت:

- رائحتها جميلة هنا.

لم يرد واستمر في الشرب من ينبوع الإنسان، وعيناه مغمضتان كما لو كان يستمتع بهما. لكنها دفعته بعيدًا فى رفق:

- هذا يكفي. أشعر بتحسن. لقد عادت روحي إلى جسدي.

قام وهو يمسح فمه بظهر يده

قالت له وهي تعيد إلى داخل ثوبها القرعين المفعمين بالحيوية اللذين نفخا صدرها.

- لقد قدمت لي خدمة رائعة. شكرا جزيلا سيدي.

فأجاب بامتنان:

- أنا من أشكرك يا سيدتي، لقد مضى يومان لم أكل فيهما أي شيء.

( تمت)

***

.................

الكاتب: جي دو موباسان (1850- 1893 م) / كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا. ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا، وكان أبوه من سلالة أرستقراطية تدهورت حالتها المالية إلى مباءة الإفلاس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية. وقابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص، وقد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء: لاحظ، لاحظ، ثم لاحظ. أما هو فكان يقول: " إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عداً.فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. وهو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته.. كخداع الجمال وهو تقليد إنساني.. وخداع الدمامة وهو فكرة متغيرة.. وخداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين. وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة "

كان موباسان الرسام الأكبر للحزن البشري ودوما ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891، ومات في إحدى المصحات العقلية عام 1893 م.

الشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين

Дмитрий Дарин

Марш русичей

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

نشيد الرّجال الرّوس

من كان شابا شجاعاً، قويا وشريفا،

من يحترمُ أبطال العصور الغابرة،

من تضيق به جدران المنزل،

من هو قادر على مواجهة الصِّعاب،

**

عليكم الإنتماء إلى حاميتنا المُحاربة

هنا القوة الروسية، والشرفُ الرفيعُ

الإثنان هنا يساويان أربعة

وستة رجال هنا يساوون إثني عَشرَ،

**

روسيا – إنها الوطنُ المَجيدُ.

روسيا – هي البلادُ الوحيدَة لنا في العالم

في حر الصّيف، وفي برد الشتاء القارس

مستعدون للدفاع عنك يا بلادي.

**

نحن لا نهاب عَظمَة القطعان الهمجية،

ولدينا القدرة كي نصمدَ أمام أيّ قوة سوداء،

تلك كانت وصية القائد سوفوروف*

لأجيالنا الشجاعة المِقدامة.

**

نحن لا ننسى تاريخ دونسكوي، ونيفسكي*

نقدس هذا التاريخ ونحافظ عليه بقلوبنا

أما رايات الجدود فهي على السّواري

أما أسماؤهم فتبقى دوما على شفاهنا.

**

تألقي يا روسيا في مجد ك العظيم!

وستبقى ترفرف دوما في سمائِنا

راية النّسر ذي الرأسين،

وفي العلا تتألق دوما نجمتنا الرّوسية.

**

كنْ يقظاٍ أيها الرّجلُ الروسيُّ،

كنْ مستعدا للقتال والصّراع،

إني أعلمُ أنكَ لا تهاب الوغى،

إذ أنكَ تحمل الوطنَ في صَدركَ.

***

كتب هذا النشيد ونشر عام 2022

....................

وجهة نظر

ننشر هذا النشيد للشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين احتفاء بالذكرى الثامنة والسبعين ليوم النصر على دول المحور وهزيمة قوى النازية والفاشية، هذه الذكرى التي تأتي كل عام في التاسع من شهر أيار. ما يلاحظه المراقب والمتابع للأحداث العالمية اليوم أن هذه القوى تطل برأسها من جديد في عالمنا المعاصر متخذة أشكالا جديدة. هناك قوى إمبريالية مستعدة للتعاون مع الشيطان لأجل الحفاظ على مواقعها وسيطرتها على عالمنا بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي. إذ تعتبر هذه القوى أن إحتكار إدارة المنظمات الدولية وما يسمونه بالنظام العالمي في أيدي ممثلي أمريكا والدول المتحالفة معها إنما هو حفاظ على القانون الدولي.

حين أستمع إلى مقابلات وحوارات تلفزيونية، يشارك فيها إعلاميون أو رجال من النخبة في أمريكا، أراهم يركزون على أمرين: الأول حرمة السيادة لهذه الدولة أو تلك على أراضيها، مشيرين إلى الحرب في أوكرانيا، غير أن هؤلاء تناسوا أمر إنتهاك السيادة لعدة دول من قبل جنود أمريكا وغيرها من الدول الغربية، الأمثلة كثيرة: منها غزو العراق، وغزو أفغانستان، وقصف المدن في صيربيا، وقتل الرئيس القذافي، والمثال القائم اليوم تواجد الجنود الأمريكان على الأراضي السورية وسرقتهم للقمح السوري والنفط السوري والقطن السوري.الأمر الثاني الذي يركزعليه رجال النخبة في أمريكا هي مقولة أن جنود أمريكا والدول الأخرى من حلفاء البيت الأبيض إنما جاؤوا الى

الى غرب آسيا، واستباحوا الأرض السورية - في الدولة ذات السيادة تحدوهم أغراض إنسانية وهي محاربة الإرهاب، ودعم الشعب السوري. يبدو لي أن ممثلي النخبة في أمريكا إما هم فعلا يجهلون أن من يقف خلف داعش والنصرة وغيرها من التظيمات الإرهابية إنما هي حكومات أمريكا المتعاقبة، أي ممثلو البنتاغون والبيت الأبيض، إما هم يعلمون ذلك ولكنهم يمارسون النفاق السياسي والإعلامي بغرض الوصول إلى أهداف أمريكا الجيوسياسية. أما عن مساعدة الشعب السوري ففعلا قد ساعدت أمريكا الشعب السوري بكل شرائحه وذلك بقانون قيصر، الذي يمنع أي شركة أو مؤسسة أو جهة غربية أو شرقية /تحت طائلة العقاب/ يمنعها من التعامل المصرفي أو الإقتصادي مع الجهات السورية، خاصة كانت أم حكومية.

حقا إنّ لله في خلقه حكمة.

..................

مصادر وهوامش:

* دميتري دونسكوي - قائد عسكري قاتل ضد قطعان التتر والموغول، أما القائد الكساندر نيفسكي فقد قاتل ضد الصليبيين من الألمان والسويديين، والقوى الغربية الأخرى.

* الكساندر سوفوروف – قائد عسكري روسي مشهور وواضع

النظريات الحربية الروسية، ولد عام 1730، من المعروف عنه أنه شارك في المعارك ضد العثمانيين الأتراك، وانتصر في تحرير قلعة إزمائيل، توفي برتبة مارشال عام

1800 م.

ملاحظة: تم فعل ترجمة النص من اللغة الروسية، اعتمادا على موقع الكتروني تابع للشاعر دميتري دارين وبموافقته.

 

بقلم: روبين سليك

ترجمة: صالح الرزوق

***

هناك أوقات أتساءل فيها إذا كان إنسانا واقعيا. لو أنه رجل يمكن تصوره. ففي اليوم الطيب، يكون جوزيف على الصورة التي أريدها. نقف معا ضد بقية الفوضى الكونية وزحام العالم. وفي اليوم السيء، أكون امرأة ناضجة ولكن تابعة لديها تخيلات عن صديق نموذجي.

وباعتبار أن جوزيف يلمح أنه سيكون معي في العالم الواقعي بعد أن ينشر كتاباته، يجب علي بالمقابل أن أنتظره. أن أكون معه وأفكر به معظم الأوقات. هذا لا يعني أنه لم يحاول أن ينشر. كل أسبوع، يرسل قصة قصيرة مع رسالة لماحة ومؤلمة لا تخفي تماما توسلاته ويأسه.

وأخيرا قال لي: اليوم جاءتني رسالة من منتدى الأدباء.

- ما معنى ذلك؟

- لن تصدقي. كان رفضا. ولكن حمل عبارة "اقتربت من الهدف".

اقتربت. ما معنى هذا بحق الجحيم؟. هل يجب أن يقسو قلبي بسبب هذا الرد؟. لم يكن السبب أنه يفتقر للموهبة. فقصصه تلمسني في أعماق روحي بما فيها من هوس وأجواء معتمة، وشخصيات قلقة. فللنساء معاطف بلون المسحوق الأخضر مع بلوزات أنيقة. والرجال يحملون أسماء مثل بيرسي وإدموند. ولهم حكايات غرامية وقلوب محطمة.. ومحرومون من الجنس والدم والشجاعة. ولكن دائما لهم أحلام لتتحقق وذات مذاق عذب يملأك بالمرارة. إنهم حكايات من عصر مختلف. وبالعادة هو يهتم  حينما لا تكون رسائل الرفض شكلية، وتحتوي على ملاحظات من المحرر الذي لم يحسم أمره تماما.

وحينما يفحص جوزيف لأول مرة هذه الملاحظات العجولة، ينتابه الأمل حتى يعميه عما حوله، وكان أحيانا يفهمها بشكل مغلوط ويعتقد أنه على وشك أن يجد الناشر. واعترف بهذه الميول بحياء، ووددت أن أحضنه بذراعي وأربت على كتفه وأقول له كل شيء سيتحسن. ولكن نظرا ليأسي المتزايد، لم تتطور الأمور حسب توقعاتنا. وكنت أمر بساعات أفكر فيها هل هو إنسان واقعي. يا ليت بمقدوره أن يبدو على هيئة الإنسان الذي تخيلته. 

وفكرت بذلك – هيمنت الفكرة على أفكاري— بينما يداي تتحركان على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. وها أنا أجلس هنا منذ دقائق، وأحدق بالشاشة. وتوج الفوز صبري أخيرا. رأيت تسجيل دخول جوزيف وفورا أرسل لي رسالة..

قال: مرحبا يا عزيزتي. أنا عمليا ضائع.

فكرت: من يتكلم بهذه الطريقة في العالم الآن؟.

ثم قلت له: عمت صباحا. لك نجمة. وهي البديل الفضائي عن القبلة.

ورسمت ابتسامة حالمة وفقدت الشعور بما حولي ولم أسمع خطوات زوجي يدخل الغرفة.

قال بصوت خشن:" كم أكره الكومبيوتر السخيف يا ليندا".

نظرت إليه، بدهشة والذنب يغمرني. فأضاف:" قلت لك صباح الخير مرتين ولم تردي، أنت مشغولة جدا بذلك الشيء اللعين".

أنهيت دخولي في الكومبيوتر ونهضت من الكرسي، وعبرت الغرفة نحوه. وملت إليه وطبعت على شفتيه قبلة عميقة رطبة.

وقلت له: "مرحبا يا إيدي، صباح الخير. لماذا أنت بكامل ثيابك؟".

رد بتأفف قائلا:" عمت صباحا يا ليندا". كأنه يلجمني. كان وجهه على قدر من الاستهانة والاشمئزاز فغمرني الندم. وتساءلت ما مقدار المعلومات التي يعرفها.

ولكن سألت بتفاؤل:"هل ستغادر؟".

كان هذا يوم السبت – ولا أستيقظ فيه باكرا.

رد:"نعم، أنا بطريقي إلى العمل".

كان إيدي يبيع التجهيزات. كل مستلزماتها. ويؤدي أعماله الورقية في المكتب خلال العطلة أحيانا.

سألته:"وكم ستغيب؟".

فكرت: من فضلك. قل سأغيب طيلة الصباح.

رد:"ساعتين فقط. وأنا على ثقة أنك لن تجلسي خلف الكومبيوتر كل هذا الوقت".

كذبت قائلة:"كلا، كلا، طبعا لا. لدي أشياء كثيرة لأرتبها هنا".

قال:"حسنا. أراك بعد قليل". وقبض على مفاتيحه واتجه إلى الباب دون كلمة أخرى.

إيدي. يا إيدي. لماذا أشعر كأنك غريب حقا؟. لماذا أشعر كأنه ليس بيننا شيء مشترك على الإطلاق؟. كيف يمكن تحسين هذا الظرف — هل هناك إمكانية للتحسن أصلا؟.

كان إيدي يشفى من الكحول، وكان مدمنا لما يزيد على عشر سنوات. والخروج من حفرة الشراب والاكتفاء بـ "تويلف سبايس" حسّن من إدراكه، وأصبح رجلا أقل تهورا، ولكن ضباب تاريخه السابق، وعودة كابوس الإدمان، يجعلني  أرتجف وأحذر مما أقول وأفعل. كحوليته، حتى بعد الشفاء – وربما أنا أشدد على بعد الشفاء – حولتني إلى سجينة عاطفية. لقد تزوجنا حينما كنا شابين جدا. وحاولت عائلتانا المساعدة، ولكن كان لديهم مشاكلهم. فنحن من خلفيات مشاغبة وشقية. ووجد كل منا الملجأ بين ذراعي الآخر. وكانت الجاذبية الفيزيائية قوية، وفي ذلك العمر، كان الجنس هو المهم.

بالعودة لتلك الأيام، حلمت أن أكون فنانة محترفة، ولكن امتنعت عن الرسم بمجرد ولادة الأطفال. وقبل أن يدمن، كنت أقلق من أن يشرب إيدي التوربانتين لو أخفيت شرابه.

انتظرت حتى أقلعت سيارته ثم هرعت عائدة إلى الكومبيوتر وسجلت الدخول. كان جوزيف قد اختفى، تنهدت من الغضب. لم يكن مقبولا لي أن أقابل جوزيف على الإنترنت ولذلك حملت هذه العلاقة الغريبة بالسر لسنوات. إنها تبدو جنسية تماما. هذا الحب الفضائي. وكان من الصعب علينا أن نناقش الموضوع لأنه يربك كلا منا كثيرا. وأنا من ألحت على تحويل العلاقة لشيء حقيقي وفعلي.  إنها مشكلة أساسية أن يكون الرابط بيننا لا يتجاوز مقاييس الحوار بالإنترنت. هذا وسيط شديد الإغراء. إنه واقع بديل ولعين. في البداية، ونحن نكتشف أننا أشقاء بالروح – وفي اللحظة التي كشف فيها كل منا للآخر عن أعماق نفسه على أساس يومي واستغربنا من التطابق بالهوايات والمشاعر – حب الفن، المصير العام للإنسانية، الإفراط في الطعام واستخدام الغذاء عوضا عن السعادة – والأهم، أننا كنا غير سعيدين ونمر بأزمة منتصف العمر بسبب عدم تحقيق أحلامنا – كنا نتطرق للقاء واقعي وعن مقربة. فأنا في مدينة بعيدة ولكن مكتب جوزيف، حيث يكتب لمجلة تجارية، هو على مسافة ساعة بالقطار فقط. وفي البداية، ألححت على الموضوع وكان يسخر مني، ولكن في فترات لاحقة كان يرد بقوله: ليس الآن، أو يوما ما، أو في الوقت المناسب.

أنفقت جزءا أطول من هذه السنة في محاولة لتغيير رأيه، ولكنه واظب على التأجيل. وما أرعبني أنني تقريبا فهمت عاطفته. فهو لا يريد أن يقاطع علاقتنا الافتراضية المثالية. أن نختبئ وراء شاشة الكومبيوتر، يساعد على أن نترك الشرف والصدق جانبا، ونعبر عن رغباتنا بلا حياء، وأن نكون مواطنين مثاليين أو شواذا محرومين، وكل الوقت ببيجاما خفيفة دون اكتراث بالعائلة وهي تتابع حياتها في الخلفية.

والالتزام هو السبب في أن لا أهجر إيدي. كان لنا ولدان، اعتادا على أبويهما، وتأقلما مع هذه الحالة. وهما يعشقان أباهما، وستحل بهما نكبة لو انفصلنا. هل بمقدوري أن أخبرهما: سأهجر أباكما لأنني قارئة نهمة وهو لا يقرأ منذ عشرين عاما؟. سأهجره لأنه يصرخ ويبتهج ويتحمس للرياضة بينما أنا أفضل الجلوس على الكنبة بجواره والعار يجللني من هذه السخافة؟. ولأنني أحب المطاعم الجيدة وأدوات الترفيه وهو يحب الوجبات السريعة ومخازن الأسعار المخفضة؟. لأنه يحبني أكثر مما أحبه؟.

وحينما تتدهور الأمور حقا هنا في البيت، وحينما يصل مزاج إيدي للحضيض أشعر كأننا غرباء وكذلك حينما يختلف الولدان – وأشعر أنني في الفخ وبائسة وبلا قدرات ودون تفاؤل -- فيغلبني التفكير بالسرير مع جوزيف. وتخيلت كيف ستكون أول مرة – بدماثة ولباقة نكتشف جسمينا ويتعرف كل منا على جسم شريكه قبل أن نلتحم معا في عاطفة بيضاء حارة فنسبح بالعرق إلى أن تنهار قوانا. كنت أغلق الباب على نفسي في الغرفة وأداعب نفسي وأنا أفكر بهذه الطريقة، وأتقلب في الفراش مثل امرأة متهيجة ثم أتنهد من اللذة. وأنوح قائلة: آه يا جوزيف. من فضلك أنقذني. أخرجني من هذا الجحيم.

يعيش جوزيف في بيت مرتب في الضواحي، أو على الأقل هذه هي الصورة التي رسمها لي. والآن على ما يبدو غادر إلى مدخل بيته ليتفقد صندوق بريده على أمل أن يسمع شيئا جيدا من المحرر، واستغرق ذلك عشرين دقيقة. وحسبما قال لي، إنه يحتاج لستة رسامين يعملون أربع أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على صورة هيكل البيت الذي أسخر منه دائما. وحينما ذكر لي ذات مرة أن لديه جوكوزي بحجم واسع من الرخام، شعرت بطعنة مع مرارة من الحسد والغيرة. ولكنه أضاف إنه لم يستعمله لا هو ولا زوجته. فشريكته طبيبة. ومر على زواجهما خمسة عشر عاما وأكد مرارا أنه لم يرتكب فعل الخيانة الشائن ولو لمرة واحدة. ولديه إيمان بالإخلاص. وأخبرني أنهما بلا حياة جنسية ولكن عدا ذلك هو يعطف عليها.

أما أنا كنت أعيش مع إيدي في المدينة. ونقطن في بيت متواضع من الحجر الأسمر الذي عمره مائة عام. وبحاجة لكثير من الصيانة التي لا بد منها. وعلقت لوحات إلكترونية على الجدار، لبعض الفنانين، يا الله، لتتحسن مشاعري فقط. لم يكن لدى أي منا العاطفة الكافية لأداء أي شيء آخر ولم نكن نمتلك النقود مثل جوزيف وزوجته للتعاقد مع حرفي للترميم. ولم أخبر جوزيف على الإطلاق بهذه الأشياء، ولم أكن أريده أن يعرف ذلك. كانت هناك ساعات أتساءل فيها كم درجة الصدق التي بيننا. كنا نردد عبارة أنا أحبك، ولكن كيف يكون الإنسان مغرما بشخص دون أن يلقاه؟. كنت مخلصة في زواجي أيضا. تزوجت في فترة الشباب وقبل أن تكون لي علاقة مع شباب آخرين، علاقة بمعنى الكلمة.

نقرت الأرض بقدمي بنفاد صبر. أين جوزيف الآن بحق الجحيم؟ مرت ساعتان تقريبا. لماذا لم يسجل الدخول؟. الانتظار يدفعني للجنون. وازدحمت في رأسي كل الأفكار الشقية. وانتبهت أنني أفسد صباح  يوم سبت جميل خلف الكومبيوتر. لن يكون جوزيف بالنسبة لي أكثر من تزجية للوقت على الإنترنت. زميل بالمراسلة. لو أنه يحبني فعلا كما يقول، أي سبب ملعون يجعله يرفض لقائي شخصيا؟. وتفاقم غضبي دقيقة بعد دقيقة، ودفعني نفاد الصبر والحنق للتهور.

راقبت الساعة بنظرة غاضبة. لم يكن ولدانا قد استيقظا ولا يزال إيدي في العمل، ولكن هذا لن يستمر إلى الأبد. ولن يكون بمقدوري المكوث هنا وراء الكومبيوتر لفترة أطول. وكنت أقترب من الجنون. وحينما في النهاية سجل دخوله بعد ساعة، كنت في ذروة الإرهاق، فاقدة لمشاعري، وأفكر بالتوقف عن هذه اللعبة. لم يكن يليق بي أن ألحق العار بإيدي: ولم أكن أريد إهانة نفسي بمطاردة رجل متزوج غير سعيد في حياته وليس لديه القدرة ليجد طريقه وراء عالم من خياله. يا للمسيح، لقد أجل اللقاء لما ينوف على عام ونصف العام. وخلالها كانت رائحة الخبز المحمص المحروق تنتشر.

مرحبا يا ليندا. كتب وهو يطبع قبلة فضائية لا معنى لها.

كتبت : آه، مرحبا. وليس هذا ردي الطبيعي لأنني لم أطبع القبلة المعتادة. وسيفهم مباشرة أن هناك شيئا مزعجا.

ما الأمر؟. تخيلت الارتباك الذي يشعر به الآن.

لا شيء. قلت له. لا شيء على الإطلاق.

كتب: آه، هذا يوم مزعج آخر. ما الخطب؟.

-أنا أكره حياتي، وأكره أنك هناك وأنا هنا ولا تريد أن تكون برفقتي.

قال: عظيم. أنت في مزاج سيء.

-نعم. أنت على حق. كل شيء يبدو بلا معنى لي. وأفهم أنك لا تريد أن تراني – وتريد أن أستمر هنا، في الفضاء، لتتمكن من البكاء يوميا على كتفي لأن الناشر لا يطبع لك، وزوجتك لا تحب أن تمارس الجنس معك. كل ما تريده مني التعاطف ومكانا ترتاح فيه قليلا. أنت تستغفلني من حوالي عام. وأريد الآن أن أسجل الخروج إلى الأبد وأترك هذا الكومبيوتر في النفايات ليلهو به الأولاد.

كتب قائلا: لا يمكن أن تهجريني. أنا بحاجة لك. وأنت متأكدة أن ما تقولينه غير صحيح. أنا أحبك يا ليندا. وأخبرتك بهذا من قبل. ولكن الوقت غير مناسب. أنت تريدين كاتبا معروفا، أليس كذلك؟. لا كاتبا فاشلا.

-ماذا تقول؟ أنا أحبك حتى لو كنت جامع قمامة.

-كلا. لن تحبي ذلك. هذه ثرثرة. ونحن نعلم أن هذا مجرد كلام غير صحيح.

إنه على حق. أنا أكذب. أنا أحبه بسبب كتاباته – لأنه فنان. ولكن إذا كانت له أعمال منشورة أم لا فهذا شأن آخر. على الأقل أعتقد أن هذا غير مهم. وجلست في مكاني أفكر بذلك لعدة دقائق. ولا بد أنه اعتقد أن هذا الصمت مقدمة لشيء مضجر. وظهرت الكلمات التالية على الشاشة تقول:ما رأيك يا ليندا. هل توافقين على مرافقتي لطعام الغداء يوم الإثنين؟.

اتسعت عيناي من الصدمة. كنت أنتظر ما يزيد على عام لأسمع هذا الاقتراح. ولكن عوضا عن الشعور بالراحة والسعادة غمرني الارتباك. لم أتوقع ذلك. على الأقل الآن. يا إلهي. من فترة التهمت ما يزيد على ليتر من قشدة الأرز – ولا بد أن وزني ازداد عشرة أرطال. الإثنين؟. لا يفصلنا عنه غير يومين؟.

هل يمكن أن أخسر الوزن الزائد، وأشذب شعري، وألون أظافري، وأحسن من مظهري في هذه الفترة القصيرة؟. آه، هكذا يتأوهون في بلاد الفضاء المفتوح.

أوه، الآن قد بلغت الهدف. ولا يمكن التراجع. كنت ألح من أجل ذلك طيلة شهور. ولكن فكرة اللقاء بهذا الرجل شخصيا – هذا الرجل الذي فتحت له قلبي كما لم أفعل من قبل. وأخبرته عن أشياء مخزية وشخصية جدا – بدأت تقض مضجعي. اللعنة. وقعت في المصيدة كالفأرة.

كتبت له: حسنا. شيء طيب. دعنا نفعلها. اسمع، إيدي عاد إلى البيت. علي أن أسرع. سأراك لاحقا.

وسجلت الخروج قبل أن تخف حماسة أي منا.

على نحو ما، تابعت حياتي في نهاية الأسبوع. لم يكن لدي فرصة لتشذيب شعري وإجراء تدليك للوجه أو اتباع حمية، ولكن لونت أظافري وأضفت المسحوق الأحمر لوجنتي حتى توهجتا بالنور وكنت بالحرف الواحد في حالة اهتياج. واتفقنا أن نلتقي في مطعم. وطبعا أنا من يجب أن تسافر لتلتقي به عوضا عن أن يقوم هو بالرحلة ليراني. وتصورت أن هذا يضعه في الجانب البريء من هذه اللعبة. وصعدت على متن القطار والعرق يسيل مني والارتباك يجللني. لم تزعجني الاحتمالات السيئة المترتبة على مقابلة رجل غريب، وإمكانية النهاية المشؤومة في كيس للجثث، وضرورة التعرف على جثتي بواسطة فحص الأسنان. كلا، كنت قلقة من الرطوبة التي ستتسبب بتجعيد شعري، أو من الزي الرسمي الذي يجب أن أرتديه بدل الجينز والقميص، فهما لا يليقان بسيدة في الأربعين من العمر. هذا عبث، هذا الموعد مع هذا الرجل الذي كشفت له أسرار روحي عبث، فنحن لا نعرف بعضنا بعضا. ومن الطبيعي، أننا تبادلنا الصور. غير أنها صور رقمية وسريالية بالكومبيوتر. صورتي جعلتني برأس مربع وبلا تناسب. وصورة جوزيف لها إيحاء بالبدانة. ولكن هذا لا يهمني.

كان زوجي نحيلا مثل قضبان الحديد، ووركه العظمي يخترقني كلما مارسنا الحب. كنت أتطلع لأقبض على جسم جوزيف وأفجر قبلة فوق بطنه اللدنة، وهذه تخيلات تنتابني كلما استلقيت بجوار إيدي الذي يشخر خلال نومه. وحينما اقتربت من المطعم، تساءلت هل الصورة التي أرسلها لي بالبريد الإلكتروني تعود لسنوات مضت، ربما وزنه الآن خمسمائة رطل، هذا غريب وسينظر لنا الناس بتعجب، وباستهانة، وسيفقدون شهيتهم للطعام. يا إلهي، ربما سيحتاج لزاوية خاصة – بثلاثة مقاعد متصلة أو شيء من هذا القبيل. ثم فجأة تذكرت أنني التي زاد وزنها عشرة أرطال، وسيرتعد من شكلي. غمرتني موجة جديدة من الارتباك، وشعرت بالدوار من احتمال أنني سأخيب أمله. ناديت على سيارة عامة خارج محطة القطارات وذكرت للسائق عنوان المطعم.

أخبرني أنها مسافة تستغرق خمس عشرة دقيقة، إن كانت حركة المرور سهلة. كانت الحرارة لاهبة، وهذا منتصف الصيف، ولم يكن المكيف يعمل. وبدأ قلبي يذوب. وشعرت أنني أختنق. لو كنت أعرف المدينة بشكل أفضل، لغادرت السيارة وتابعت على الأقدام. كنت سجينة، هكذا قلت لنفسي. كان أطول مشوار سيء بالسيارة. ولكن وصلت في النهاية. وغادرت المركبة كأنني أذهب إلى حفل إعدامي.

كان المطعم الذي اختاره أنيقا وله صالة. وعرفته فورا حينما نهض من كرسي محشور بالزاوية وانتبهت أنه ليس بدينا. ووسيم حقا بطريقة معقولة وبشعر أسود طويل ويغلب عليه الظل الذي تلقيه الساعة الخامسة على الإنسان. واه عينان سوداوان بجفنين ثقيلين ورموش غليظة. تعانقنا بقوة وكنت أخشى أنني مبلولة بالعرق. ولكنني لست امرأة غير جذابة. ونظرته المريحة أكدت لي ذلك. وعلى الرغم من عمري، كنت أرى أنني بمظهر شبابي. شعري أسود وطويل. وثدياي صلبان. ولي عينان خضراوان قليلا مع شفتين مكتنزتين. تبادلنا النظر براحة ومسرة. كنت راغبة بالنوم معه فورا ولكن كانت لديه روح تنم عن الإخلاص.  

ابتسم وقال:" أنت، هناك" وهذه إحدى تحياته على الإنترنت.

قلت بنفس الصوت الجاف والمبسط:"كما أنت دائما". آه يا إلهي. من أين جاء هذا؟. كنت أخشى من لفظ كلمة أخرى. هل يمكن أن أنظف حنجرتي دون افتعال ضجة. يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.

قادني من ذراعي نحو الطاولة المحجوزة. كان قد حجز طاولة وهي جاهزة لنا. جر كرسيا لي، وتوسلت إلى الله أن لا أرتكب خطأ. كأن أخطئ بالجلوس على الكرسي وأسقط على الأرض. أو أن تصدر عن الكرسي أصوات مثيرة للأعصاب وهي تحتك بالأرض حينما أقترب بها من الطاولة.

سألني:"هل كانت الرحلة سهلة؟". استراحت أعصابي قليلا، لأن هذا سؤال يدل على مبلغ اضطرابه وقلقه.

قلت مع ابتسامة صغيرة:"نعم، نعم، كانت ممتازة. كان من المفروض أن نلتقي قبل الآن". آه. كان صوتي لا يزال مفتعلا، ولم يخطر لي شيء مريح أقوله لهذا الرجل الذي كنت ألهو معه لفترات مطولة يوميا.

قال:"نعم، حتى الآن نحن على ما يرام. هل ترغبين ببعض النبيذ؟".

هل أرغب بقليل من النبيذ؟. أفكر بثلاث زجاجات.

أجبت:"نعم من فضلك".

"كأس أم زجاجة؟".

"كأس تكفي". يا للجحيم، ماذا دهاني؟. أود لو أرتخي، أن لا أشعر أنني قالب من الإسمنت مزروع هنا بالصدفة. 

تناولت القائمة وتظاهرت أنني أفكر ولكن بالكاد كنت أركز عيني. وانتبهت أنني لست جائعة أبدا. ولو هناك إحساس فهو الغثيان الخفيف. لم أكن عصبية بهذا الشكل كل حياتي. هناك أشياء أخبرت بها هذا الرجل!. وأشياء أخبرني بها!. ومن المستحيل أن أعتقد أن ما يجري هنا بأي نحو من الأنحاء له علاقة بواقعنا البديل والساخن الذي عشناه على الإنترتنت. وأخبرت عقلي أن يلزم الهدوء، وحاولت أن أركز عما يقوله، والذي كان غالبا صدى لما أخبرني به في الكومبيوتر. أحضر النادل الخبز وبدأنا به فورا.

ابتسم وقال:"آه، هذا هو الغذاء الذي نتشارك به".

"نعم". أجبت وأنا أملأ فمي به.

واستطعت أن أسمع صوت المضغ وقد شعرت بالخزي من هذا الصوت المزعج الذي أصنعه.

وصل النادل بالنبيذ. سحبت الكأس الكريستالية الممشوقة وبدأت أشرب كأنه ماء صنبور. وسأل عن الأطعمة، فأفصحت عن رغبتي بشرائح السلمون لأنه أول شيء قرأته في القائمة ولم أكن قادرة على القراءة والمتابعة.  وشعرت بالشرود الذهني. وحينما ابتعد النادل، شعرت كأنني مهجورة. وتوجب علينا أنا وجوزيف أن نتبادل الكلام قليلا – فالطعام سيتأخر حتما لعدة دقائق إضافية.

"هكذا إذا". قلت ثم انتبهت أنه ليس لدي شيء أقوله.

أجاب:"نعم. ها نحن هنا".

وامتد صمت صعب، ثم بدأ بسرد حكاية أخبرني بها من قبل على الإنترنت، وكافحت لأكون واعية وعلى الأقل لأبدو مهتمة. عوضا عن ذلك، كنت أنظر لعينيه السوداوين الباردتين، وأتأمل صفحة وجهه.  ورأيت ندبة صغيرة قرب عينه اليمنى وكم وددت أن ألمسها بنعومة، ولكن كنت مقيدة وليس بوسعي أن أحرك أنملة.

صاح وهو ينظر إلى يدي:"يا له من خاتم رائع". وفجأة، واتتني الجرأة. وربما بدأ النبيذ يفعل فعله. واغتنمت فرصة التعليق لأقبض على يده، وأحاول أن أغويه. أملت أن ألف أناملي حول أنامله. في البداية، استجاب لي، وتناغم معي، ثم على حين غرة انسحب كأن النار لمسته. وطفت على وجهه نظرة بؤس لم أفهمها. ولم أحاول أن ألمسه مجددا. وبدأ يتكلم بسرعة عن فيلم شاهده. وكنت أرد بإيماءات كثيرة.

وفي الختام أحضر النادل الوجبة. السلمون الذي طلبته وكان كأنه يلتصق بحلقي. وتساءلت هل سوف أتقيأ. شربت نبيذي ولحسن الحظ، سارع جوزيف بطلب المزيد. وحاولت أن أتنفس دون جذب الانتباه حتى سرى الكحول في مجراه وشعر كلانا بالمرح. وبعد أن مرت اللحظات الأسوأ اشتركنا بقليل من الثرثرة عن عائلتينا. وعن الموسيقا التي نفضل والكتب التي قرأناها وانتهى الأمر بالغبطة والانسجام. وكل ذلك بطريقة لم أتوقعها حينما كنت أتخيل لقاءنا وأنا أجلس ككلبة في الحر وأتخيل كيف سيكون وضعنا في العالم الواقعي. استغرق الغداء ساعتين. ورغبت بنزهة برفقته أو بزيارة مكتبه، ولكن كان الوقت متأخرا ويجب اللحاق بالقطار لأصل إلى البيت في وقت العشاء وأنضم لأفراد الأسرة.

وغادرنا الفندق دون ملامسات، ورأينا سيارة، فناداها فورا. وانتهى كل شيء بسرعة، بعد طول انتظار، وشعرت بالخيبة واليأس. كان لديه وقت ليضمني ثانية مع قبلة سريعة ولكن فورا دخلت السيارة العامة وانطلقت بطريقي.

لم أكن قادرة على التفكير المنطقي – كنت أفكر بالوصول إلى المحطة بالوقت المناسب، وأقفز على متن القطار، وأخمد نفسي فيه لساعة هي الوقت الذي تستغرقه الرحلة. وبالكاد حققت ذلك بسبب الزحام، وكنت لاهثة الأنفاس وأنا أجلس في مقعدي. وعدت بظهري إلى الخلف وحاولت أن أتذكر. وكنت في منتصف المسافة إلى البيت حينما اعتقدت أن جوزيف لن ينقذني مما أنا فيه. وتساءلت، بارتباك، هل هذه هي النهاية. وهل هذا آخر الشوط الذي يمكننا بلوغه. ولم يكن هناك أية مسافة للمفاجأة أو المجهول. كل واحد منا ينتمي لآخر، لدينا حياة مختلفة ومنفصلة تماما. ولا يزمع أي واحد فينا على خطوة جازمة، مع أننا شقيقان بالروح. وأضاءت في عقلي لحظة من اليأس – ورغبت أن أبكي بألم. وامتلأت عيناي بالدموع التي لها لون النبيذ. ثم فكرت بحياتي من دونه. حياة مع الولدين وإيدي، حياة دون جيوب سرية ألجأ إليها. ولم تكن هذه الأفكار ضرورية. وأقنعت نفسي أن أفكر بجوزيف. وتخيلت صورته أمامي وتذكرت أن فترة تشابك الأصابع كانت سريعة خلال الغداء، ورغبت لو أنه لم يسحب أصابعه من يدي. وفهمت أن الذنب حيال زوجته لا يفارقه وهو الدافع وراء تصرفاته، وهذا قربه من قلبي. وتساءلت كيف كان شعوره ويده في يدي. وماذا سيشعر لو لامس وجهي. حلقي. صدري.

أعتقد أنني أحببت هذا الرجل. حقا أحببته. على الأقل هذا شعوري.

وابتسمت لنفسي وأنا أتخيل كيف ستكون المرة الأولى– بنعومة، نكتشف أنفسنا بهدوء ثم  ننتفجر بعاطفة حارة بيضاء حتى نغرق بالعرق ونفقد أنفاسنا.

إيه. دائما توجد فرصة من هذا النوع. أي شيء يمكن أن يحصل، أليس كذلك؟.

يا إلهي.

هل من شخص يستمع. أي شخص.

أتمنى أن ينشر كتابه بأسرع وقت.

***

حزيران 2002

........................

روبين سليك Robin Slick : كاتبة أمريكية معاصرة من سكان فيلادلفيا. صدرت لها مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية. موضوعها الأساسي الخيانة الزوجية والغرام الممنوع. من أهم كتبها: لقمة من التفاحة، لقمة أخرى من التفاحة، ثلاث أيام في نيويورك، والدي تركني وحدي مع الله، المسافر إلى القمر، وغيرها.

 

 

قصيدة للشاعر الروماني: جورج كوشبوك

ترجمها عن الرومانية د. توفيق التونجي

***

أعرابي يقصد الباشا.

بعيون ممتلئة، بصوت خافت.

- "أنا البدوي كبير قومي"

جئتكم من باب المندب

لبيع حصاني

" السراب".

*

خرج الأعراب من الخيمة،

ليروا ارتدائي لردائي

أداعبه من  لجامه وأتركه يجري.

أنا أحبه كعينيي

لن أتخلى عنه حتى مماتي .

*

لكن أطفالي الثلاث سيموتون جوعا!

حلقهم جاف.

منذ مدة طويلة،

لقد جف حليب زوجتي

كي ترضعهم!

أهلي سأفقدهم، أيها الباشا

أوه، أحفظهم، إن أردت، لأنك تستطيع!

أعطني قيمة الحصان!

إني فقير!

أعطني نقودا!

إذا أعجبك الحصان،

أدفع لي فقط بقدر قيمته.

*

يقود الحصان، يدور به،

يهرول مسرعا، وبخطى بطيئة،

وتضيء بؤبؤ عينيه .

ناعم لحيته الرمادية

يقف صامتا والفراغ يملئ روحه.

*

هل لي بألف دينار ؟

يا لسخائك، باشا!

أكثر مما حلمت به!

جزأكم الله خيرًا،

يا لسخائكم!.

*

يأخذ المال وعيناه ممتلئتان

مبتسما، يدغدغه

من الآن فصاعدا، من الآن فصاعدا،

من الآن فصاعدًا

سيكونون هم كذلك من أغنياء،

لن يمدوا يدهم الى الغريب!

*

لن يعيشوا تحت خيمة تملئها الدخان،

لن يتوسل إليه الأطفال في الطريق،

سترقد زوجته وستكون بخير.

سيكون لديهم حتى ما ينفقونه

على الفقراء،  الآن

*

يمسك النقود بحرارة،

يغادر وهو في حالة سكر، شاكرا حظه،

يبتعد وهو يفكر بشيء واحد،

لكن فجأة، يرتجف،

يستدير ويتسمر في مكانه.

شاحبا، ينظر طويلا إلى المال الذي في يده

يسير هائما كما لو كان يحمله موجة بحر،

ثم ينظر مباشرة إلى الحصان.

من الجبين إلى الصدر،

خطوة بخطوه

يقترب من الحصان.

*

يحضن برقبته وهو يبكي

يدفن رأسه في شعره القاسي

شاحب الخدين

"شبل الأسد"،

يتنهد بحزن

ريحي

أنت تعلم أنني أبيعك!

.....

.....

.... 

يسحب خنجرًا بسرعة،

يتدفق الدم، كموجة حمراء

الدم الدافئ يتدفق

من العنق النبيل

ويسقط الحصان ميتا

***

....................

* الشاعر  الروماني جورج كوشبوك

(جورج كوشبوك) من مواليد 20 سبتمبر 1866، هوردو، محافظة بستريتا-نوسود وفاته في ايار،. 9 مايو 1918، في العاصمة بوخارست.

القصيدة تسمى (El Zorab) الزراب بالرومانية والتغير الى اسم "السراب" من قبل المترجم.

شاعر ناقد، ناقد أدبي عضو دائم في ألاكاديمية الرومانية، 1916.

بقلم: يـوهان ولفغانغ فون غـوتـه

ترجمة شعريّة: د. بهجت عباس

***

ما أجمـلَ الطبـيـعــةَ البـاهـرةْ

تضيء لـي بفـتـنـةٍ ساحــرةْ!

مـا أروع الشَّمـسَ بأنـوارهـا!

وضَحْكةَ المَـزرعةِ العاطرةْ

*

مـن كلَ غصنٍ نَضِـرٍ أخضرٍ

تـنـبـثـق البــراعـم ُ الـنّـافــرةْ

وألفُ صوتٍ في فضاء الدُّنى

تُطـلـقُـه أدغـالُـها السّـاهــرةْ،

*

من كلِّ قـلـبٍ عـامـرٍ بالصَّفـا

تـنـبـعـثُ السَّـعـادة الغــامـرةْ

يـا أرضُ! يـا شمـسُ! ويــا

حُبـورُ ! يا فرحتَنا الزاهـرةْ!

*

يا حُبُّ! حبٌّ ذهـبيُّ الجَّـمـالْ

مثلُ غيومِ الصُّبحِ فوقَ الجِّبالْ

*

بدهشةٍ مـن فيـض هـذا السَّنا

تُباركُ المَـرجَ بهـذا الجّــلالْ

تـعــومُ فـي سديــم نُـوّارهـــا

كلُّ الدّنى  جبـالُهـا والرِّمـالْ

*

أيـا فـتـاةً! يـا فـتـاتـي! أنــا

فـي وَلـهٍ ليس لـه مـن مـثـالْ

وأنـتِ إذ عـيـنُـكِ فـضّـاحــةٌ

هائمــة في الحبِّ حدَّ الخيالْ

*

كما تُحبُّ الشَّدْوَ جوفَ الفضا

قـبّـرة طـائـرةٌ فــي اخـتـيــالْ

ومثلما تهوى زهـورُ الصَّباحْ

عطـرَ السَّما يغمرها بانـثيـالْ

*

ومــثلـما أهــواكِ يــا غـادتي

بدَميَ السّاخـنِ تحت الإهـابْ

أنـتِ الـتـي تمـنحـنـي فـرحــةً

وجــرأةً مـعْ عـنـفـوانِ الشَّبابْ

*

لأغـنـيـاتٍ فـي الهــوى عذبـةٍ

جديدةٍ والرقص بين الصِّحابْ.

كوني طَوالَ العمرِ في بهـجـةٍ

مادمـتُ في قلبـكِ حـبّـاً مُـذابْ

***

......................... 

Mailied

Johann Wolfgang von Goethe (1749-1832)

Wie herrlich leuchtet

Mir die Natur!

Wie glänzt die Sonne!

Wie lacht die Flur!

Es dringen Blüten

Aus jedem Zweig

Und tausend Stimmen

Aus dem Gesträuch,

Und Freud und Wonne

Aus jeder Brust.

O Erd, o Sonne!

O Glück, o Lust!

O Lieb, o Liebe!

So golden schön,

Wie Morgenwolken

Auf jenen Höhn!

Du segnest herrlich

Das frische Feld,

Im Blütendampfe

Die volle Welt.

O Mädchen, Mädchen,

Wie lieb ich dich!

Wie blickt dein Auge!

Wie liebst du mich!

So liebt die Lerche

Gesang und Luft,

Und Morgenblumen

Den Himmelsduft,

Wie ich dich liebe

Mit warmen Blut,

Die du mir Jugend

Und Freud und Mut

Zu neuen Liedern

Und Tänzen gibst.

Sei ewig glücklich,

Wie du mich liebst!

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) محمد فارساني

في يوم هيروشيما:

حمامة بيضاء

على الاسلاك الشائكة *

**

(2) سمانة حسيني زعفراني

مثل فراشة:

ظلي

بعد منتصف ليل خريفي

**

(3) محسن فارساني

زهور القصب –

يد جدي

فوق عكازته

**

(4) فاطمة عطاش سخان

مسقط رأسي ...

كل موسم

فقط مسار للأطيار المهاجرة

**

(5) تيرداد فخريه

ذكريات بعيدة ...

قطرات متساقطة

من السجادة القديمة المتشربة بالماء

**

(6) مسيح طالبيان

أشجار مزهرة

في عز الشتاء

أبو الحناء **

**

(7) روجير سيدارات

أطفال مدرسة

شم الزهور ...

صباح ربيعي

**

(8) أمير هسانفندي

ظلال الشتاء

يذهب النمل

حيث الشمس المشرقة

***

........................

* منح عنها شهادة تقديرية و رمز ماتسو باشو في مسابقة الهايكو الدولية في اليابان 2014 .

** أبو الحناء (أبو الحن): طائر صغير الحجم، صدره بلون الحناء .

*** مترجمة عن الإنكليزية:

1 – Iranian poet receives Haiku Grand Prize 2014 – Mehr News … . https: // en .mehrnews . com

2 – Haiku Special from the 3th Japan – Russia Haiku Contest (4) . https: // akitahaiku . com

3 – Haiku: May 12 . 2020 – The Mainichi – https: // mainichi . jp

4 – On the structure and poetics of the Persian haiku . https: // rulb . org

5 – Poetry، Persian Haiku، Roger Sedarat – THE IRANIAN . https: // Iranian . com

5 – Haiku in Iran and the Haiku Effect in contemporary Persian …  . https: // open . bu . edu

6 – Eropean Kukai – RSSing . com . https: // kukai 2 . rssing . com

بقلم: روبار ديسنوس

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

سأستيقظ غدا صباحا

في وقت أبْكَر من اليوم

ستكون الشمس غدا صباحا

أشدّ حرّا من اليوم

سأكون أقوى غدا صباحا

أقوى من اليوم

سأكون أكثر بهجة غدا صباحا

أكثر بهجة من اليوم

سيكون لي غدا صباحا

أصدقاء أكثر من اليوم

وبالرغم من أنّ الموت غدا صباحا

هو أقرب من اليوم

سأكون غدا صباحا

مفعما بالحياة مفعما بالحياة أكثر من اليوم.

***

.....................

* روبار ديسنوس - أشعار منتصف الليل ( 1936-1940)- 27 مارس 1936، نشر سيجار 2023

* روبار ديبسنوس: شاعر فرنسي ولد 4 جويلية 1900 ومات بمرض التيفوس 8 جوان 1945 بمجرد خروجه من معسكر اعتقال في تشيكوسلوفاكيا .عصامي وحالم بالشعر انخرط في أوساط الشعراء الحداثيين والتحق سنة 1922 بالمغامرة السريالية  ثمّ اشتغل بالصحافة وصار محرر إشهار . انخرط في حركة المقاومة للنازية وسجن من أجل ذلك . له أعمال تضمنت مجموعة شعرية نشرت ما بين 1923 و1943 " جسد وخيرات" سنة 1930 ونصوص أخرى عن الفنّ والسينما أو الموسيقى جمعت كلها في منشورات بعد وفاته.

للأديب الفرنسي: فكتور هيغو*

ترجمة (من الفرنسية): علي القاسمي

***

غداً عندَ الفجرِ، حينما تبيَّض الحقول،

سأنطلقُ. أترين، أعلمُ أنكِ في انتظاري

سأذهبُ عبرَ الغاباتِ، سأذهبُ عبر الجَبل

فأنا لمْ أعُد أُطيقُ البقاءَ بعيداً عنكِ.

*

سأمشي وعينايَ مثبتتانِ على أفكاري

دونَ النظرِ إلى أيِّ شيءٍ في الخارج، ودونَ سماعِ أيِّ ضجيج

وحيداً، مجهولاً، منحنيَ الظهرِ، معقودَ الذراعينْ،

حزيناً. وسيكونُ النهارُ لي مثلَ الليل.

*

لن أنظرَ إلى ذَهَبِ المساءِ المتساقط

ولا إلى أشرعة القوارب المبحرة إلى هارفلير

وعندما أصل، سأضعُ على قبرِكِ

باقةً من زهورِ المهشيةِ الخضراء وزهور الخَلَج المتفتِّحة.

***

...................

1 هارفلير: بلدة قديمة وميناء فرنسي في منطقة النورماندي شمالي غرب فرنسا على القنال الإنكليزي.

* فكتور هيغو [ Victor Hugo  (1802ـ 1885) ولِد في مدينة (بزانسون) شرق فرنسا القريبة من الحدود السويسرية  وكان أبوه جنرالاً في جيش نابليون. أصبح فكتور هيغو سياساً مؤثِّرا وروائيا شاعراً رومانسيا، لعله أشهر أدباء فرنسا وأعظمهم. يعرفه مثقفو العالم من خلال رواياته التي عرض فيها آلام الفقراء والمهمشين والمضطهدين، مثل "أحدب نوتردام" و "البؤساء". أما نقّاد الأدب الفرنسي، فيحتفون أكثر بدواوينه الشعرية مثل " تأمّلات" و " أسطورة العصور". انتُخب عضواً في الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1848 محسوباً على المحافظين، ولكنه بعد سنة واحدة ألقى خطاباً في الجمعية الوطنية طالب فيه بالقضاء على الفقر، وفتح التعليم المجاني لجميع الأطفال وليس ( لأبناء الأعيان) فقط كما كان. وهكذا انشق عن المحافظين.

تزوج هيغو من صديقته في طفولته الرسامة إيديل فوشيه سنة 1822 وبقيا معاً 46 عاماً حتى وفاتها وأنجبت ثلاثة أطفال أكبرهم ابنته ليوبولدين المفضّلة لديه. وذات يوم كان مسافراً إلى مدينةٍ في جنوب فرنسا وفيما هو يتناول فطوره في مقهى ويقرأ جريدة، وقع بصره على خبر وفاة أبنته ليوبلدين وعمرها 19 عاماً آنذاك. فكانت صدمة قاسية له. وظل يزور قبرها في مقاطعة نورماندي  كل عام. وقد كتب هذه القصيدة لها سنة 1847 وظهرت في ديوانه " تأملات" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1856 . ويعدُّ كثير من النقّاد الفرنسيين هذه القصيدة أجمل قصيدة في الشعر الفرنسي في  جميع العصور.

قصة قصيرة للكاتب الليتواني

ادموندس كريبايتس*

ترجمة: جودت هوشيار

***

صفارة المنار تنوح دونما توقف. هذا النواح الممل يشق الآذان، وينهش القلب والدماغ كالدود. بيب.. بيب.. بيب. وهكذا من دون نهاية. فيتخشّب كيانك، ويصبح شفافا كالغربال. اصمتي ولو دقيقة واحدة ايتها الصفارة، فأنا إنسان مرهق، هدني الإعياء في العمل الليلي الطويل، والآن أريد أن أنام.بيب.. بيب.. بيب. وعلى هذا النحو الى ما لا نهاية.استشيط غيظاً فاستدير نحو النافذة والوح بقبضتي المشدودة.. تلف الأعصاب مرة أخرى.. أعصابي التي لا تصلح لشيء. نافذة غرفتنا – أنا والبيناس – تطل على ساحل رملي شاسع يمتد نحو اليمين حتى الكثبان المتجهمة الصفراء، التي تغمرها المياه في بعض الاماكن، وتنمو الأشواك على قمم البعض الآخر منها. وفي الجانب الأيسر من الساحل، سد حجري طويل يمتد حتى الافق. وتتدفق الأمواج فوقه منطلقة صوب الاحجار المخضرة، والاراضي الجرداء، فتغرقها ولا تظهر منها سوى بعض الهضاب الرملية الناتئة. وفوق هذه الجزر الصغيرة تحلق اسراب هائلة من النوارس الجميلة البيضاء التي تطلق صيحات كريهة.

السد يحجب البحر، ولكنك تحس به عن قرب كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة. وحين تهب الرياح من جهة البحر – وهي في العادة لا تهب من الناحية الاخرى الا نادرا، يتسرب الهواء البارد الرطب من خلال شقوق النافذة، وينفذ حتى النخاع , حاولنا إحكام غلق النافذة، بيد أننا أخفقنا في ذلك.

الرياح ساكنة اليوم – ليس ثمة سوى الضباب.

بيب.. بيب.. بيب. المنار على مقربة منا، وصفارته تنوح بصلافة، وصوتها يطغي على صوت المذياع، وتعكر مزاجنا، بعد العمل الليلي الطويل. غرفتنا المريحة باثاثها (الفخم) تروقني : مقعد واحد، وسرير سفري قابل للطي في احد اركان الغرفة.ومذياعان احدهما صالح والآخر عاطل، مفكك الاجزاء اقوم باصلاحه في اوقات فراغي منذ اسبوع. كما يروقني الفضاء الباهت من حولنا – هكذا يسمي البيناس هذا الساحل الصحراوي – كل شيء هنا عزيز ولطيف، فقط اصمتي ايتها الصفارة. أغلقي فمك اخيرا أيتها الروح الشريرة.

ومن جديد يتملكني غيظ بليد وسخيف. ربما تلف الأعصاب مرة اخرى.أاتناول دلو ماء، وخرقة مبتلة، واشرع بتنظيف الحمام.أنسى الصفارة اللجوجة لبضع دقائق. في وسع المرْ ان يتحمل عويل الصفارة اذا انهمك في العمل ولم يعد يفكر فيه. سأتهيأ الآن للنوم واسحب اللحاف حتى اذنيًّ، وسأضع فوق رأسي وسادة أخرى.

استيقظ على رنين حاد لجرس الباب، ولكنني اظل مضطجعا في فراشي، ثم أقفز كالملسوع. يبدو ان الضباب قد تبدد، ولكن الصفارة ما تزال تنوح. اسحب بنطلوني على ساقيّ، وادس رجلي في حذائي واتجه لافتح الباب، وانا في قميصي الداخلي، فأجدها واقفة امامي. انها جارتي فالنتينا.

- طاب نهارك، تقول المرأة الشابة، وهي ممسكة بيد ابنها (ايناس) وتتطلع اليًّ بعينيها الرماديتين. نظرتها صريحة ومباشرة، وفي الوقت نفسه مبهمة ومذعورة. لست افهم هذه النظرة مطلقا..

- من فضلك يا غيداس، هل لك ان تعتني بكنزي : ينبغي لي ان اذهب الى المدينة واخشى ان اتركه وحيداً..

ايناس في السادسة من العمر، صبي دائب الحركة، وقد الفني، وها هو يجتاز العتبة ببراءة. ذهبت فالنتينا وعادت بعد دقائق وهي تحمل صندوق العاب ايناس، ووضعته في وسط الغرفة. اتطلع الى ساقيها الرائعتين، وعندما تعتدل احدق في عينيها مباشرة. وفجأة احس بوخزة الم حاد في الجانب الايسر من صدري، ثمّ في الجانب الأيمن منه، يا للغرابة فهذا الجانب لا يضم القلب.

الصبي المجعد الشعر نثر العابه على ارضية الغرفة، وهو يحدث نفسه ويهدر كالسيارة، وانا الرجل الطويل القامة، والطويل الشعر - كان ينبغي ان اجزه منذ وقت طويل - اقف امام النافذة، وابتسم وافكر في هذه المرأة الجميلة ذات العينين الرماديتين. عيناها نجلاوان. تميلان للزرقة احيانا وللاخضر احيانا اخرى، ولكنهما دوما تشعان وميضاً ساحرًا من خلال الاهداب الطويلة من مكان ما في اعماقهما. هذا الوميض يخدعني ويقتلني ويفقدني توازني، فترتعش يداي، وترتجف ركبتاي، واحس برضى عميق اذ يرشق الالم صدري بوخزة مؤلمة حلوة فاهتز كأرنب رفع من الارض من ذيله.

فالنتينا هادئة، حزينة، رزينة وغامضة في نظري.وجهها صبوح، ينم عن قوة ألإرادة.شفتاها طريتان لامعتان. شعرها الكستنائي المتموج ينسدل على كتفيها. شذى شعرها يدوخني من بعيد، ولا اخشى الا شيئا واحدا، وهو أن تلحظ كيف اني اصبح عديم الوزن عندما اراها، فأبذل قصارى جهدي لأوهم نفسي انني انسان جرًّب كل شيء في الحياة، ولهذا لا اكترث لأي شيء مطلقاً.لا ادري ان كنت سأنجح في ايهامها بذلك حتى النهاية.

يبدو انه قد مضى وقت طويل. سئم ايناس اللعب، وانا مللت الكتب والمذياع، والكسل. ارتدينا معطفينا وغادرنا المنزل. ايناس صغير، وسريع كالفأر، يعدوعلى الرمال الرطبة ويصرخ، وانا أحجل في اثره. يلتقط ايناس عودا خشبيا ويحاول باحتراس ان يقترب من سرب من النوارس، ولكن النوارس تطير صارخة.

ايناس يبحث عن حجارة ما. نجتاز الارض الجرداء ونصعد الكثبان. البحر رمادي يخيّم عليه الضباب الذي يحجب الافق. والماء عكر والفضاء الواسع يختفي في مكان ما. وتلاشى المشهد العظيم وزايلني الاحساس السامي المثير، وأصبح كل شيء واضحا وبسيطاً: صوت الموجات الكسلى، وهي تلحس الرمال السمراء والنباتات المائية البارزة هنا وهناك.

ننزل إلى الماء ونغطس فيه بحثا عن الكهرب بين النباتات المائية. وعندما يكتشف إيناس حجارة صفراء، يسألني هل هي كهرب حقيقي ام لا ؟ وعندما اجيبه بالنفي، يستدير ويقلب ألحجارة في راحة يده، ثم يدسها في جيبه. أحسنت يا إيناس ! لك نظرتك الخاصة إلى الأشياء، ولديك من قوة الإرادة ما يجعلك لا تكترث بآراء الآخرين. وإذا كانت هذه الحجارة تروقك، فلا أهمية ان كانت كهربا حقيقيا أم حجارة عادية.

تجمدنا من ألبرد، ولم نجد سوى بضع قطع صغيرة من ألكهرب. احمرت ايادينا فأخفيناها في جيوبنا، وعدنا أدراجنا متجهين نحو ألمنزل. أسير في ألمقدمة وإيناس يجر رجليه، ويحاول أللحاتق بيّ، بيد انه يخفق في ذلك. ثم يتخلف عني مسافة طويلة وقد هده التعب.

أقدامنا تغور في ألرمال. ثمة إمرأة فارعة القامة واقفة امام المنزل، وحقيبتها اليدوية تتدلى من كتفها.

انها فالنتينا. ربما لمحتنا من بعيد، وهي قادمة من المدينة. الضباب غلالة شفيفة تحيط بقوامها. انا لا أرى وجه فالنتينا، ولكني أعرف انه وجه صبوح مشرق ودافيء. إيناس المتعب يحاول اللحاق بي. الصفارة تنوح، وامام ناظري قوام فالنتينا محاط بغلالة ضبابية. انا لا ارى قوامها بوضوح ويبدو لي هشا رقيقا، غير محسوس. تشتد ضربات قلبي وتتلاحق، فأحث الخطى دون ان الحظ ذلك. كنت سأطير لو كان ذلك في وسعي. يخيل إليّ انني ادرك الآن معنى ان يكون الانسان سعيداً، وليشق هذا النواح الآذان

- ماما

ايناس يعدو ويسبقني لملاقاتها ويعانقها، فتأخذ وجهه بين كفيها وتقبله في جبينه وانفه، وانا واقف بالقرب منهما وأبتسم بغباء. أفرح وأحزن في آن واحد، وأشعر بشيء من خيبة الامل، بيد أني لا أكف عن الابتسام. يستخرج إيناس من جيوبه الكنوز الصغيرة التي جمعها : احجار مسطحة مصقولة، قطع اخشاب مقشطة جميلة متعددة الطبقات، أصداف لؤلؤ، انبوب قصب، ثم ينحني، ويرخي الحزام المطاطي لبنطلونه، فتتساقط اشياء كثيرة اخرى. ترى متى تسنى له ان يجمع كل هذا ؟

- برافو إيناس

الولد الصغير، وألمرأة الشابة ألباسمة الملتفة بالضباب الرمادي سعيدان بالأحجار ألمصقولة وألأصداف والأشياء الأخرى، وانا أقف بجوارهما وأحس بوجع في صدري، ربما بسبب نواح ألصفارة اللعينة. الظلام أخذ يتكاثف وأمامي ألمساء كله، ألمساء الفارغ ألطويل. لست أدري كيف سأقضيه لكي أنسى نواح الصفارة المرعب، وهذه الأحجار الملقاة على الأرض، وساقي المرأة الرشيقتين.انها تدعوني لتناول طعام العشاء، ولكنني اعتذر واقول لها أنني ذاهب الى المدينة، وانا أعرف أنني لن أذهب إلى أي مكان. لِمَ أذهب الى المدينة، وماذا سافعل هناك!.اليوم عطلتي الاسبوعية.

شقتنا، انا وألبيناس، تقع في ألطابق ألخامس من عمارة مبنية بالطابوق ألاحمر. ألبيناس مشغول بتصاميمه وخرائطه، ومن وقت لآخر يرن جرس ألهاتف، أناس من ألميناء أو ألمطار يستوضحون عن حالة الطقس المتوقع، وخلف الحائط السميك، في غرفة الاجهزة، ثمة جهاز بث يعمل برتابة. وفي مكان ما بشمالي ألأطلسي على باخرة عائمة وسط الضباب جهاز مماثل في غرفة ألبث يديره شاب أشقر – زوج جارتي. انه يبتسم دوما ويفرح لشيء ما، كاشفا عن صفين من الاسنان البيضاء النضيدة، ويحرك رأسه للخلف رافعاً عن جبينه خصلات من شعره الاشقر. أليوم أنا لا اعمل. سيكون من الجميل ان تناول وجبة خفيفة. شعر فالنتينا كستنائي، متموج، يتسلل عطره الى راسي من بعيد، عيناها هادئتان، واسعتان، تشعان شراراً مضيئة. كان في وسعي ان أزورها لأستعير منها كتاباً. الصفارة تنوح وتنوح في المنار. سأتناول شيئاً من ألطعام، وأقرأ، وربما سأخلد الى النوم،. شرار مضيئة غالية، ولا يفصل بيننا سوى جدار.

***

.............................

ادموندس كريبايتس: كاتب قصصي لامع من جمهورية ليتوانيا. ولد في مدينة كلايبد عام 1938. تخرج في جامعة فيلنوس الحكومية، نشرت قصصه القصيرة في المجلات الأدبية الليتوانية والروسية منذ عام 1963. و ترجمت إلى بعض اللغات الأخرى. وتتميز هذه القصة التي اخترناها من مجموعته القصصية المعنونة " لحظات "، بالحس المرهف والوضوع، وتعبر عن الرغبة الانسانية في المشاركة الوجدانية.

الادب الكردي:

للشاعر الكردي لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

عندما ماتت أمي

لم تتساقط النجوم

و لم تهاجر

الأسماك..

عندما ماتت امي

لم تسجم قطرة دمع

من عيون

السماء..

الاطيار هي الأخرى

لم يكربها الغم

و لم يشجن ذلك الورود

المنتشرة

في حضن الجبل..

عندما ماتت امي

لم يخسف القمر

و لم تكسف الشمس

و لم يشعل الملاك سراجا

فوق رأسها..

عندما ماتت أمي

ظلت الأرض كما كانت

و فتحت داخل فلبي

أقدم بوابة

لأبلغ جرح...

آه.. لكم هو صعب بعادك

يا أماه..

شتان بين بعادك

و العطش

و السخط

و بعاد الحبيب..

إنه أشبه بجبل (هلكورد) في ثقله..

وأنت في ليلة من الليالي

لو لمحت بريقا

يحول العتمة عن قبرك

ويصيرها كما الشعل

النيرة

فأعلمي انه ليس بالشعلة

بل أنا

و قد اشتعلت في حضورك..

أمي العزيزة

ما أسهل أن أسمي

السكرة سكرة

والجرح جرحا

والوردة وردة

ولكن لمن أقول:

أماه..؟؟ !!

***

...........................

* عن (من الشعر الكردي الحديث: لطيف هلمت.. قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: آنا ماريا ماتوتى

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- موسيقى

لقد اعتادت ابنتا الملحن العظيم- اللتان تبلغان من العمر ستة وسبعة أعوام- على الصمت. لا ينبغي أن يكون هناك أية ضوضاء في المنزل،لأن أبي كان يعمل. كانتا تمشيان على أطراف أصابعهما، بالنعال، وفقط لا يكسر هذا الصمت سوى صوت بيانو والدهما.

ثم مرة أخرى صمت.

ذات يوم، تُرك باب المكتب مغلقًا بغير إحكام، وتسللت الصغرى نحو الباب الموارب ؛ كانت ترى كيف ينحني الأب، من وقت لآخر، على قطعة من الورق ويكتب شيئًا.

عند ذلك ركضت الفتاة بحثًا عن أختها الكبرى. وصرخت، صرخت لأول مرة وسط الصمت الثقيل:

- موسيقى أبي، لا تصدقينها، إنها يخترعها !

***

2- الفتى الذي كان صديقا للشيطان

حدثه الجميع في المدرسة، والمنزل، والشارع، بأشياء قاسية وقبيحة عن الشيطان، ورآه في جهنم فى كتاب الدين، مليئًا بالنار، بقرون وذيل مشتعل، بوجه حزين و وحيدا يجلس في مرجل.

قال:

- شيطان مسكين، إنه مثل اليهود، أن الجميع يطردونهم من أرضهم.

ومنذ ذلك الحين، كان يقول كل ليلة: "وسيم، جميل، يا صديقي" مخاطبا الشيطان. سمعته الأم، رسمت الأم علامة الصليب على صدرها وأشعلت الضوء:

- آه، أيها الطفل الأحمق، ألا تعرف من هو الشيطان؟

قال:

- نعم، الشيطان يغري الشرير القاسي. لكن بما أنني صديقه، سأظل دائمًا طيبا، وسيسمح لي بالذهاب إلى الجنة بسلام.

***

3- الصبى الذي مات صديقه

ذات صباح نهض وذهب للبحث عن صديقه على الجانب الآخر من السياج. لكن الصديق لم يكن هناك،وعندما عاد، قالت له والدته:

- مات الصديق. يا فتى، لا تفكر فيه بعد الآن وابحث عن الآخرين لتلعب معهم.

جلس الصبي في المدخل ووجهه بين يديه ومرفقاه على ركبتيه. معتقدا أنه سيعود. لأنه لا يمكن أن يكون هناك البلى، والشاحنة، والمسدس القصدير، والساعة التي لم تعد تعمل، ولا يأتى الصديق للبحث عنها. جاء الليل، وظهر معه نجم كبير جدًا، ولم يرغب الصبي في الذهاب لتناول العشاء.

قالت الأم:

- تعال يا طفلي، الجو بارد.

لكن الصبي بدلاً من الدخول، نهض وذهب ليبحث عن صديقه، بالبلى والشاحنة والمسدس الصفيح والساعة التي لا تعمل. عندما وصل إلى السياج، لم يناديه الصديق، ولم يسمع صوته في الشجرة ولا في البئر. أمضى الليل كله يبحث عنه. وكانت ليلة طويلة، عاصفة، غطى الغبار بدلته وحذاءه. عندما أشرقت الشمس، قام الصبي، الذي كان نعسانً وعطشًان، مد ذراعيه وفكر: "كم هي سخيفة وصغيرة تلك الألعاب. والساعة التي لا تعمل لا فائدة منها ". ألقى بكل شيء في البئر، وعاد إلى المنزل وهو جائع جدًا. فتحت له الأم الباب وقالت:

- لكم كبر هذا الطفل يا إلهي لكم كبر.

واشترت له بدلة رجل، لأن البدلة التي كان يرتديها كانت قصيرة للغاية.

(تمت)

***

.........................

المؤلفة: آنا ماريا ماتوتى/ كاتبة إسبانية، ولدت في برشلونة عام 1925، لأسرة ثرية حيث كان والدها صاحب مصانع للمظلات، واتسمت طفولتها بالمرض، بسبب الحرب الأهلية. تُعد إسبانيا ما بعد الحرب، التي تُرى من خلال عيون فتاة صغيرة، بأهوالها وحرمانها وبؤسها، فكرة مهيمنة متكررة في العديد من رواياتها. نشرت أول أعمالها، لوس أبيل. في السابعة عشرة من عمرها فقط. عملت أستاذة جامعية زائرة في جامعات أوكلاهوما وإنديانا فرجينيا.أصبحت عضوًا في الأكاديمية الملكية الإسبانية عام 1997 وحصلت على جائزة سرفانتس المرموقة عن أعمالها كافة في عام 2010. ووفقًا لماريو فارجاس أيوسا، فهي "واحدة من أهم الكتاب في اللغة الإسبانية". وتوفيت في برشلونة عام 2014.

 

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: أرشاوير مكرديجيان.. الحارس

منذ زمن بعيد

نقرت لي الشمس مغارة

مستخدمة قوس قزحها

بمثابة مطرقة...

فأويت إلى المغارة

و علقت على جدرانها

كل ثروتي

و هي أربع لوحات ممزقة

... ليس إلا

لوحة الأرض:

و هي منزوية

تتضور جوعا

و لوحة الماء:

و قد تيبست شفاهه

من العطش

و لوحة النار:

و قد انطفأ النور

في عيونها...

و لوحة الريح:

و قد استلقت فوق فراشها

مثخنة بالجراح...

ثمة زهرة

من زهور دوار الشمس

عند باب المغارة

تصد عني ثورة الشمس.. !!

***

ثانيا: زوراير ميرزايان.. الكابوس

تجتث السماء شعرات

جسدي،

تمسك بي الأرض،

فأستغيث بقلب الليل

و لكن دون جدوى.

تتراءى لي المشاعل،

أسمع قرقعات الاحتراق

في جسدي الذي خدره العياء.

تتراءى لي السنة

المشاعل،

و هي تلسع أشجار الليل

و الطرقات المضاءة..

تبتلعني العاصفة الهوجاء

فأتدحرج بين إنحناءاتها

و أصابعي الموحلة

فوق وجهي.

***

..........................

- عن نص باللغة الكردية.

- (أرشاوير مكرديجيان): شاعر أرمني معروف. أبصر النور عام 1913. نشر في معظم الصحف والمجلات الصادرة باللغة الأرمنية. نشر في عام 1957 أول دواوين شعره. له قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الحية.

- (زوراير ميرزايان): شاعر وقاص ومترجم أرمني معروف. أبصر النور عام 1906. نشر أول نتاجاته الأدبية في صحيفة (واردز نوند). نشرت الترجمة في مجلة (الكاتب السرياني) العراقية، العددان (7 / 8) 1987. عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

 

 

بقلم: عزّت الطيري*

ترجمة: نزار سرطاوي

***

لا أحدٌ في منزلكم

أعرف – والمصحفِ –

ولهذا أطرقُ

أطرقُ

حتى أثبتَ لنسيمٍ الشارعِ

والأ شجارِ الصفرِ اليابسةِ الأفرعٍ

والمشفى الآيلِ لسقوطٍ

بعد شهورٍ

مبنى البرقِ

القصاب

وبائعة الخبز

بأنى جئتُ كثيرا

والشاهدُ

كفى المجروحة

والمربوطة بضمادٍ

*

جيرانكِ حين ابتسموا

قالوا لاتتعب قلبك

يا ولدى

هل انت مسيحٌ

جاء ليبعثَ

ميْتا

من موتتهِ

او يرجع قوما

من غربتهم

دعنا نهنأ بالنوم

ودعهُمْ

وصدى الصوت يهمهمُ

هُمْ هُمْ

***

شاعر مصري

......................

 

The Echo

Ezzat Altairi

Translated by Nizar Saratwi

 ***

No one is in your house

I know

I swear by the holy Qur’an

And yet

I keep knocking

an’ knocking

to show the breeze

in yonder road

the yellow trees

with withered boughs

the run-down hospital

about to fall down

in a few months

the telegraph office

the butcher

and the bread seller

that I went there

so many times

My witness is

my wounded hand

wrapped in a bandage.

*

Your neighbors smiled:

“Do not exhaust your heart

my son

are you a Christ

who’s come

to bring a deceased

to life again

or bring expatriates

back to their home?

Let us sleep in bliss

and let them”

And the echo of their words hummed:

‘em ‘em

بقلم: إميلي ديكنسون

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

لم أر الأرض السبخة

أنا لم أر الأرض

السبخة قط

مع كل هذا

أعرف كيف هي شجيرات

الخلنج*،

و كيف هي أحقاف

الرمل.

أنا ما كلمت الله قط،

ولم تطأ قدمي

أرض الجنة

مع كل هذا،

أعرف كيف هي

كأنني قد شاهدتها

مرارا

وتكرارا.

***

...............

- إميلي ديكنسون: شاعرة أمريكية بارزة. ولدت في 10 ك 1 / 1830. نشر نتاجها الشعري بعد وفاتها في 15 أيار 1886، ويشمل: قصائد – المجموعة الأولى 1890، قصائد – المجموعة الثانية 1892، وقصائد – المجموعة الثالثة 1896. أفضت إلى ربها عام 1886. نشرت (11) قصيدة فقط وبأسماء مستعارة من أصل (1700) قصيدة.

* الخلنج: شجيرة من فصيلة الخلنجيات، لها أزهار كثيرة، غالبا ما تكون وردية اللون، وأوراقها دقيقة. تزرع للتزيين.

** نشرت الترجمة في مجلة (الطليعة الأدبية) العراقية، العددان (1 و2) 1987.

Louis Untermeyer، Modern American Poetry. Harcourt College Pub: Enlarged edition (June 1، 1962).

 

بقلم: فكتور هيجو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

آه ! كم من الأصدقاء رأيت بخطى بطيئة يرحلون

رأيتهم يخرجون عن الطريق دواليك،

ويغادرون الحياة قبل نهاية اليوم،

ينزلون من منحدر التلّ الأسود!

كم، ممّن جَعَلَتْني بهجتهم أعيش وأؤمن

مَن تبدو فيهم عين الرضا والحبّ كأنها تتألّق

كَفّوا عن الضحك والكلام فجأة

شواحب، يرتجفون، حزانى، واليد مجمّدة،

دون قدرة حتى على إنهاء جملة بدؤوها،

رحلوا، تاركين مصيرهم غير مكتمل،

كما لو أن أحدهم قد دعاهم فجأة!

هل تعتقدون أنّ الورود القرمزية

لا تجد وسيلة لملاحقة النحل،

وأنّ الفراشات، تائهة في البنزوين،

ليست في اللازورد بعبق الروائح؟

الذاكرة نَفَسٌ يُبعث إلى القبر؛

هي الحمامة تلتحق بالحمامة؛

لا! لا يوجد غياب،لا يوجد قبر؛

الشاحب الناجي مُوِقد المصباح؛

يطير بروحه أبعد من الأرض

عقب ميت تاه في اللغز

تلتقي الروح بروح أخرى من فرط الحلم بها،

وتعرف أين تعثر عليها في أعماق السماء.

***

فكتور هيجو

"آخر حزمة قمح " بعد الوفاة" (1902)

................

ictor HUGO—OH ! QUE ,D’AMIS J’AI VUS

 Oh ! que d’amis j’ai vus à pas lents disparaître !

Que j’en ai vu quitter le chemin tour à tour,

Et sortant de la vie avant la fin du jour,

Descendre le versant de la colline noire !

Combien,dont la gaîté me faisait vivre et croire,

Dont l’oeil d’aise et d’amour semblait étinceler,

Ont cessé brusquement de rire et de parler,

Et pâles,frissonnants,tristes,la main glacée,

Sans même terminer la phrase commencée,

S’en sont allés,laissant leur destin incomplet,

Comme si tout à coup quelqu’un les appelait !

Est-ce que vous croyez que les roses - vermeilles

Ne trouvent pas moyen de suivre les abeilles,

Et que les papillons,errant dans les benjoins,

Ne sont pas dans l’azur par les parfums rejoints ?

La mémoire est un souffle envoyé dans la tombe ;

C’est la colombe allant s’unir à la colombe.

Non !il n’est pas d’absence,il n’est pas de tombeau ;

Le pâle survivant,rallumant le flambeau,

Fait envoler son âme au delà de la terre

A la suite du mort entré dans le mystère ;

L’âme revoit l’autre âme à force d’y rêver,

Et dans le ciel profond sait où la retrouver.

4 septembre 1857

Victor HUGO—Dernière gerbe ; posthume (1902)

Victor HUGO en 1867,par BERTALL.

.............

https://fr.wikisource.org/wiki/Derni%C3%A8re_Gerbe

 

طائر الشرشور..

للشاعر الكردي شيركو بيكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

سألت شجرة القوغ الحمراء(1)

- الصفصاف المتهدل هذا(2)

لماذا وضع رأسه

في حضن هذا الجدول،

دون أن يرفعه؟!

فبادرته قبجة بالاجابة(3)

- كان منتصبا،

يأتيه طائر الشرشور،

ليحط على ذروته

هامسا له بأنباء

ذلك الصفح

من الجدول..

وذات مساء:

أقبل محلقا

حاملا بشارة

وحط كعادته،

وإذا بباشق يفتك به،

مسقطا إياه

في الجدول

فتهدل الصفصاف،

محاولا انتشاله،

ولكن دون جدوى..

لقد غرق الشرشور،

وقد وضع الصفصاف رأسه

في حضن الجدول

منذ ذلك الحين

يبحث عن ذلك الشرشور...

***

........................

(1) شجرة القوغ: شجرة واسعة الانتشار في العراق، وبخاصة الشمال والوسط. وتزرع عادة على ضفاف الأنهار والمجاري المائية.

(2) الصفصاف المتهدل: شجرة ظليلة عملاقة سريعة النمو، لها أفرع طويلة متدلية تبلغ الارض. تزرع عادة على ضفاف الأنهر والسواقي والجداول وغيرها. يوجد منها نحو (500) نوع.

(3) القبجة: واحدة ال (قبج) وتطلق على الانثى والذكر، أي الحجل او الشنار. طائر من التدرجيات، جميل المنظر، رخيم الصوت، يعيش في المناطق الجبلية والسهول والهضاب. ويمكن تدجينه.

- (شيركو بيكس): شاعر واديب كردي كبير. (1940 السليمانية / العراق – 2013 السويد). نشر مع مجموعة من الادباء الكرد (بيان المرصد) حول الابداع والحداثة الأدبية واللغوية. ترجمت اعماله الى لغات عديدة، ومنها (الإنكليزية، الفرنسية، البولونية، العربية، السويدية، الألمانية، الإيطالية، التركية، والرومانية). منح جائزة (توخولسكي) الأدبية في السويد، وجائزة العنقاء الذهبية العراقية، وجائزة (بيره ميرد). من اعماله (ضياء القصائد - شعر 1968، هودج البكاء 1969- شعر، كاوة الحداد – مسرحية شعرية 1971، انا باللهب ارتوي – شعر 1973، الغزالة – مسرحية شعرية، الغبش – شعر 1978، انشودتان جبليتان - شعر 1980، الشيخ والبحر – رواية مترجمة لهمنغواي 1982، الصليب والثعبان، يوميات شاعر، مرايا صغيرة – شعر).

 

الشاعر الروسي الكساندر بوشكين وقصيدة

حكاية طفل يتيم

Александр Пушкин.

Романс − (Под вечер, осенью ненастной…)

ترجمة الدكتور: إسماعيل مكارم

***

حكاية طفل يتيم

في ليلة من ليالي الخريف الباردة،

مشت فتاة في دروب بعيدة

ويداها تضمان بعطف وحنو

وليدَ علاقة حبٍ غير سعيدة.

الغابة والجبالُ والطبيعة كلها

في سبات ٍعميق، تلفها عتمة الليل،

راحت بعينيها تتفحص المدى

مع رعشة وخوف يتملكان الفؤاد.

*

وبلهفة توقف نظرها

على هذا الوليد البريء قائلة:

" أأنت نائم الآن يا طفلي، وسبب عذابي،

ولا تدري بآلامي وحرقة قلبي.

أخاف أن تفتح عينيكَ ولن تجد

صدري، الذي تودّ أن يَضمّك ويحضنك

ولن تنعمَ غدا بقبلة تطبعها

أمك َالبائسة على وجنتيك

*

عبثا سوف تناديها ...!

خجلي الأبدي من عاري

سوف تنساني إلى الأبد

غير أنني لن أنساكَ

ستجد لدى الغرباء مأوى ، ولكن

سيقولون لك: "أنت غريب، ولستَ مننا "

وسوف تسأل: " أين أهلي"

ولن تجد أسرتك الحبيبة.

*

سوف يغمر الفكر الحزين ملاكي

طالما هو بين أترابه من الأطفال

وسيزوره الأسى القاسي

عند رؤيته عطف الأمهات على أطفالهن.

وسيبقى أينما حلّ وحيدا، غريبا

وسوف يلعن هذا الحدَّ القاسي*

وسيسمع ولدي كلماتٍ قاسية، حارقة...

أرجوك سامحني، سامحني حينها يا ولدي.

*

ربما أيها اليتيم الحزين

تلتقي والدكَ وتعانقه

يا أسفاه، أين هذا الخائن،اللطيف،

أين؟ أنا لن أنسى أبداً ما فعل.

هوّن على هذا المتألم،

قل له : "لقد تركتْ هذه الدنيا،

لم تتحَمّلْ لاورا هذا الفراق،

لقد رَحَلتْ، تاركة هذا العالمَ القاسي".

*

ماذا أقول؟ بل ربما

ستقابل أمّك المذنبة يا ولدي..،

سوف تهزني نظراتك الحزينة !

كيف لي أن لا أعرفكَ يا ولدي؟

آه لو أن هذا المصير المحتوم

يَمنعُ حُدوثهُ دعائي الصّادقُ...

ربما ستمر بجانبي يا ولدي كما الغريب

كوني يا بني قد تركتك إلى الأبد.

*

أأنت نائم يا صاحب الحظ التعيس

دعني أضمّك إلى صدري للمرة الأخيرة

إن هذا العرف الظالم والقاسي

يدفع بنا إلى العذاب والأسى.

ما دامت الأعوام

لم تطرد بعد فرحَك الغافل

نم يا حبيبي، فلن يطالَ الأسى

أيامَ الطفولة الهادئة ".

*

وفجأة بان في ضوء القمر الشاحب

كوخٌ صَغيرٌ بالقرب منها، خلفَ الأشجار،

حملت الفتاة طفلها بحذر وعناية

واقترَبتْ من ذلك الكوخ،

انحنتْ بكل هدوء ووضعت

الطفل الرضيعَ على عتبة الكوخ الغريبة

وحَوّلت نظرها بسرعة، والخوف يتملكها

وسرعان ما اختفتْ في ذلك الليل المُخيف.

1814 م

***

.......................

مصادر وهوامش:

* الحد القاسي – هو العرف الإجتماعي وما هو سائد في المجتمع من أعراف وتقاليد في فترة زمنية محددة.

ملااحظة: لقد كتب الشاعر الروسي ألكساندر بوشكين هذه القصيدة وهو في أول شبابه، إذ كان قد بلغ من العمر خمسة عشرعاما .من أين له هذه الأفكار النبيلة وهو لم يبلغ بعد سن الحكمة.

* حافظنا في النص العربي على عدد المقاطع وعلى عدد الأسطر مثلما جاء في النص الأصلي الروسي، وهذا ما تمليه أخلاق الترجمة.

Александр Пушкин. Евгений Онегин. Стихотворения.

Проза. Москва. 2020 г.

 

رفض

بقلم: فيليمير كلابنيكوف

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

أفضّل أكثر

أن أرعى النجوم

من أن أمضي على قرار إعدام

*

أفضّل أكثر

أن أنصت إلى همس الزهور

إنّه هو!

إذا ما مررت بالحديقة

من أن أرى البنادق تقتل

أولئك الذي يطلبون موتي

*

لأجل هذا أبدا

لن أكون من يحكم

***

...................

* فيليمير كلابنيكوف، شاعر روسي (1885-1922)

 

إيرينا شوفالوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

من الصعب أن تكره شخصا في نهاية يوم طويل

حينما تستطيل المسافة بين صباح أنفسنا ومسائها

على شاكلة ظلال الأشجار عند الحد الفاصل بين

حقلين

وحينما تنكسر آخر إشعاعات الشمس على ظهر وحش الليل العظيم

كأنها رماح

وذلك لحظة خروج الليل من مخبئه وراء الأفق

**

في ساعة كهذه

من الصعب أن تقول للجرح: كن مؤلما، ولا

تندمل

وأن تأمر قلبك: أن يقرع مثل جرس الإنذار من الحريق

وأن تقول لجسمك: انطو على نفسك بعقدة وارتجف ولكن لا تيأس

في ساعة كهذه من الصعب على وجه الخصوص

أن تحرث حقلا حجريا بحديد لحق به الصدأ

وأز تبذر بذورا ناعمة وصغيرة في الأرض الداكنة

وأن تأمل بحصاد أوفر من بذور مرة

**

لأنه – يمكنك سماع – أصوات العصافير وقد توقفت عن الخشخشة في

الظلام

هل ترى – أن الأشجار التأم شملها عند بوابات الغسق

وأولئك من خطأنا

لا زالوا يتجولون في حقولنا دون أن يجدوا طرقاتنا

وهم يتخبطون يائسين في الظلمات

**

في خاتمة المطاف ببساطة كل جرح هو خندق

وبستان في الأرض ومنه ينشق

جذر طويل ولجوج

وهو بستان يتبخر منه ثعلب ويصبح طريدة حتى الأبدية

عبر حقول مطيرة

وهو أيضا عفن ينحته دولاب يائس في طريق طيني

**

وعما قريب سيأتي الريح والمطر من أجله والعشب العشب

والبتولا والرغل والنجيل والأرقطيون والشوكران* ستلحم

الأطراف غير المنتظمة معا

وستلعق الأرض ذاكرتها المنهوبة

بلسانها الخشن المخضوضر

**

ونحن أيضا

سننسى الكراهية وننام

وببساطة سننمو كالعشب

ونغطي وجه الأرض

بعشقنا الفياض المتدفق

والمتكاتف والقاسي.

***

...................

* نباتات وأعشاب غير منزرعة متوفرة في أوكرانيا.

* الترجمة عن الأوكرانية: أوليام بلاكير

إيرينا شوفالوف Iryna Shuvalova

شاعرة وأكاديمية من كييف. تعيش في نانجينغ في الصين. من أعمالها المنشورة : صل للآبار الجافة 2019 ، غابة البستان الحجري 2020 . وشاركت بإعداد مختارات من أدب المثليات الأوكراني بعنوان "سدوم" 2009. ولها تحت الطباعة كتاب "دونباس هي إسبارطتي: الهوية والانتماء في أغاني الحروب الروسية – الأوكرانية" وتعالج فيه آثار الحرب على المجتمع الأوكراني. حازت على شهادة الدكتوراه بالدراسات السلوفينية من جامعة كامبريدج. وقبلها حصلت على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة دارتموث. وفي صيف عام 2023 ستكون ضيفة على جامعة أوسلو في النرويج.

الاقتباس من المجلة اىإلكترونية WWB

  

للكاتب الفرنسي:

GUY DE MAUPPASSANT1

ترجمة: أحمد القاسمي

***

قرأ النَّاس مؤخرا في الجرائد السطور التالية:

«بولون- سور- مير2 (Boulogne – Sur – Mer) . 22 يناير. أُبرق لنا هذا الخبر: مُصيبة مريعة ألقت على التو الذعر ما بين سكاننا على الشاطيء، أُبتلي بها سابقا منذ سنتين مركب الصيد الذي يقوده الربان (جافيل)؛ عندما كان داخلا المرفأ، قذفت به الأمواج إلى الغرب؛ فتحطم على صخور رصيف تكسير الأمواج.. بالرغم من مجهود سفينة الإنقاذ، والخطوط المرسلة بواسطة بندقية حمل الحبال، غرق أربعة رجال، وبحار حَدث3».

«يستمر الطقس الرديء، يخاف الناس كوارث أخرى».

من هو هذا الربان (جافيل)؟ أهو شقيق مبتور الذراع؟

إذا لفَّ الموج الرجل التَّعس، ومات ربما تحت حطام مركبه المحطم إلى أجزاء؛ فهو الذي أفكر فيه، عاش منذ ثمانية عشر سنة فاجعة أخرى مُرعبة، وبسيطة كما هي دائما كوارث البحر هذه الرهيبة.

كان إذن (جافيل) البكر ربان مركب صيد.

مركب صيد بامتياز؛ صلب؛ لا يُخَاف به من أي حالة طقس. الجوف مستدير، محاط بدون توقف بالأمواج كسدادة من فلّين، دائما في سلام.. دائما مجلود برياح (المانش) القاسية والمملحة؛ يقاوم البحر؛ لا يكل. الشراع منفوخ؛ ساحبا بالخاصرة شبكة صيد كبيرة؛ تكشط أعماق المحيط، وتُزيل وتجني جميع الأحياء البحرية الراقدة على الصخور، والأسماك المفلطحة المتلبطة بالرمال، والسلطعون الثقيل بأرجله المعقوفة، والسرطانات البحرية؛ بشوارب طويلة ومنتصبة.

عندما يكون هواء البحر باردا، وتكون الموجة قصيرة؛ يشرع المركب في الصيد. شبكته مربوطة على طول عصا من خشب مجهزة بحديدة؛ التي تتركها تهبط بواسطة حبلين، ينزلقان على لفيفتين على طرفي المركب؛ الذي ينجرف تحت تأثير الريح والتيار المائي، يسحب معه هذه الآلة التي تُتلف وتكتسح أرض البحر. كان لـدى (جافيل) على متن السفينة أخوه الأصغر، وأربعة رجال، وبحار غلام، كان قد خرج من (بولون) بطقس صحو وصاف؛ ليرمي بشبكة الصيد.

والحال أن الرياح اشتدت عما قليل، وحدثت فجأة عاصفة أجبرت مركب الصيد على الهروب، توجه نحو شواطئ انجلترا، لكن البحر الثائر جلد الأجراف البحرية، ووثب في اتجاه اليابسة؛ جعل ولوج المرفأ مستحيلا. لاذ المركب الصغير بالفرار في عرض البحر، وعاد إلى شواطئ فرنسا. استمرت العاصفة في جعل أرصفة تكسير الأمواج متعذرة العبور، فجميع إمكانيات الدنو من ملاذ النجاة محفوفة بالخطر، وبالضجة، وبزبد البحر.

أبحر مركب الصيد ثانية، يمخر عباب البحر.. مرتج.. مخضخض.. منساب.. مصفوع بكمية كبيرة من الماء، لكنه جسور بالرغم من كل شيء، متأقلم مع هذه الأجواء العاصفة التي تمسكه أحيانا خمسة أو ستة أيام؛ متنقلا بين البلدين المجاورين؛ فرنسا وانجلترا؛ دون أن يستطيع الرسو في كليهما.

ثم هدأت أخيرا العاصفة الهوجاء. ولما كان في عرض البحر، ولو أن الموجة كانت ما تزال هائجة؛ أمر قائد المركب برمي الشبكة.

مُرِّرت إذن شبكة الصيد على جانب السفينة، رجلان في المقدمة، وآخران في المؤخرة، بدأوا بلف الحبال على اسطوانات اللفّ التي تشد الشبكة، لمست فجأة القاع، لكن موجة عالية أمالت المركب، فترنَّح (جافيل) الأصغر الذي كان موجودا في المقدمة، والذي كان يوجه هبوط الشبكة، فوُجدت ذراعه مشدودة مابين الحبل لحظة ارتخائه برجة، والخشبة التي ينزلق عليها. قام بجهد يائس محاولا باليد الأخرى رفع الحبل، لكن الشبكة انسحبت من قبل، والحبل لم يرتخ قط.

الرجل متشنج بالألم؛ فنادى، أسرع الجميع، غادر شقيقه مقبض الدفة، هجموا على الحبل، باذلين الجهد في تخليص العضو الذي سُحِق؛ كان هذا بلا جدوى.

- يجب قطع الحبل؛ قال أحد البحارة.

وسحب من جيبه سكينا عريضا الذي يستطيع بقطعتين إنقاذ ذراع (جافيل) الأصغر.

لكن قطع الحبل كان يعني فقدان شبكة الصيد، وهذه الشبكة في ملك (جافيل) البكر؛ تساوي مالا.. الكثير من المال، ألف وخمسمائة فرنك؛ فصاح بقلب منكل:

- لا.. لا تقطعوا ، انتظروا؛ سأُقرب المركب من مهب الريح.

وعاد إلى دفة السفينة، وجعل جميع مقبضها إلى الأسفل. لم يستجب المركب إلا بعد لأي، مشلول بهذه الشبكة التي قَيّدت حركته، ومجرور من جهة أخرى بقوة الانسياق والريح.

جثا (جافيل) الأصغر على ركبتيه، كزَّ على أسنانه، عيناه زائغتان، لم ينبس ببنت شفة. عاد أخوه مرة أخرى خائفا دائما من سكين أحد البحارة:

- اِنتظروا.. اِنتظروا؛ لا تقطعوا؛ يجب إلقاء المرساة.

تم إلقاء المرساة، كُرَّت السلسلة كليا، ثم أُديرت البكرة للتخفيف من ضغط حبال المركب؛ فلانت، أخيرا فُكَّت الذراع الجامدة تحت كُم مُدمى من الصوف.

بدا (جافيل) الأصغر كالأبله، أُنتزِعت منه سترته، وشوهد شيء فظيع؛ لحم مهروس حيث ينبجس الدم بغزارة؛ كأنه مدفوق بمضخة. نظر الرجل إذن إلى ذراعه وتمتم:

- أنا سيء الحظ.

ثم لـمّا كوّن النزيف بحيرة على ظهر السفينة؛ صرخ أحد البحارة:

- سينزف من دمه؛ يجب أن يُربط العِرْق.

أخذوا إذن خيطا... خيطا غليظا داكن اللون، ومطليا بالقار، وضموا العضو من فوق الجرح، ضغطوا بكل قوتهم؛ توقف تدفق الدم بشكل غير محسوس، وفرغوا بأن انقطع كليا.

اِنتصب (جافيل) الأصغر واقفا، يتدلى ذراعه على جانبه، تناوله بيده الأخرى، وأداره، ثم حركه؛ الكل كان مهشما؛ العظام مكسورة؛ العضلات وحدها تشد هذا الجزء من جسده، نظر إليه مليا بعين كئيبة؛ متفكرا؛ ثم جلس على شراع مطوي، ونصحه زملاؤه بترطيب الجرح بدون توقف؛ لتفادي الإصابة بالتعفن.

وضع سطلا بالقرب منه، ومن دقيقة إلى دقيقة يغترف منه بواسطة كأس، ويُبلل الجرح الفظيع؛ تاركا قليلا من ماء صاف ينساب من فوق.

- ستكون أحسن في الأسفل، قال له أخوه.

هبط؛ لكن بعد ساعة صعد؛ لم يشعر بالطمأنينة في وحدته، ثم إنه فضل الهواء الطلق. جلس مرة ثانية على شراعه وشرع في تبليل يده.

كان الصيد كثيرا، تمددت بجانبه الأسماك المفلطحة ذات البطون البيضاء؛ مخضوضة بتشنجات الموت؛ كان ينظر إليها دون أن يتوقف عن نضح عضلاته المسحوقة.

لما كان المركب يمضي عائدا مرة ثانية إلى (بولون)، عصفت رياح جديدة، فبدأ عَدْوه الجنوني؛ واثبا...داحرا الأسيف الجريح.

قدِم الليل، وظل الجو جسيما حتى مطلع الفجر. شوهدت من جديد (آنجلترا) مع شروق الشمس؛ لكن ولما كان البحر أقل إزعاجا؛ أخذ المركب طريق العودة إلى (فرنسا)؛ متذبذبا.

عند المساء نادى (جافيل) الأصغر على زملائه، أظهر لهم بقعا سوداء..أثر نَتانة شنيعة على جزء العضو الذي لا يشد نفسه.

نظر البحارة إلى بعضهم البعض، وأبدوا رأيهم:

- يمكن أن يكون قد أصيب ذراعك بالتعفن؛ اِعتقد أحدهم.

- بناء على هذا؛ الماء المالح ضروري، صرَّح آخر.

جلبوا إذن الماء المالح، وسكبوه على موضع الألم؛ فصار الجريح أدكنا، صَرَّ أسنانه، تلوّى قليلا دون أن يصرخ؛ ثم حين سكنت حُرْقته قال لأخيه:

- اِعطيني سكينا.

مد الأخ الأكبر سكينه.

- أمْسِك لي الذراع إلى أعلى بشكل مستقيم، اِجذب بقوة.

فعل أخوه ما طُلب منه.

بدأ إذن يقطع نفسه؛ يقطع ببطء وبتأمل؛ فاصلا آخر طرف العضلة بهذه الشفرة القاطعة كحد موسى، وسريعا لم يعد الذراع أكثر من بقية عضو مقطوع، تنفس الصعداء، وقال:

- كان هذا ضروريا، كنت هالكا لامحالة.

بدا مرتاحا، وتنفس بقوة، بدأ يسكب الماء على العضو الذي فضل له.

كان الجو ما يزال بعد الليل رديئا، فلم يستطيعوا الرسو.

عندما لاح الصباح، تناول (جافيل) الأصغر يده المبتورة، وعاينها طويلا، ظهر عليها التعفن، جاء أيضا زملاؤه وتفحصوها، ومرروها من يد إلى يد، تحسسوها، وآشتموها.

قال أخوه :

- يجب أن تقذف هذا في البحر حالا.

لكن ( جافيل ) الأصغر غضب:

- لا..لا..لا أريد إطلاقا؛ هي لي؛ ليس صحيحا؛ ما دامت يدي.

أخذها و وضعها مابين ساقيه.

قال أخوه:

- ليس أقل من أنها ستنتن.

طرأت إذن على الجريح فكرة؛ لحفظ السمك عندما يمكث الصيادون طويلا في البحر؛ يكدسونه في براميل من الملح.

تساءل:

- ألا أستطيع أن أجعلها في نقيع من الملح؟

قال الآخرون :

- هذا هو الصحيح.

قرع إذن واحدا من البراميل؛ كان مملوءا من قبل بصيد الأيام الأخيرة، وفي القاع وُضعت اليد، سكب عليها الملح، ثم أعادوا الأسماك الواحدة بعد الأخرى.

أبدع البحارة هذه الدُّعابة:

- شريطة أن نبيعها في المزاد.

وضحك الجميع، ما عدا الأخوين (جافيل).

كانت الرياح تهب باستمرار، سار المركب متذبذبا ضد الرياح؛ متوجها إلى (بولون) حتى الساعة العاشرة من صباح الغد. استمر الجريح في نضح جرحه بالماء بدون توقف.

يقوم من حين لآخر، ويتمشى من طرف المركب إلى الطرف الآخر، أخوه الذي يقبض بالدفة يُشيعه بعينيه هازا رأسه.

انتهت الرحلة بدخول المرسى.

فحص الطبيب الجرح؛ وأعلن أنه في سبيل حسن، جعل عليه ضمادة كاملة، وأوصى بالراحة، لكن (جافيل) لم يرد أن ينام بدون أن يسترد ذراعه؛ فرجع أدراجه إلى المرفأ ليجد البرميل الذي كان قد وسمه بعلامة.

أفرغوه أمامه، و أخذ مرة أخرى عضوه محفوظا في النقيع من الملح، مُتغضن، رطب، كفّنه في منديل حمله لهذا الغرض، وآوى إلى بيته.

تفحص أبناؤه وزوجته بقايا الأب هذه طويلا، ويجسون الأصابع، وينزعون ذرارة الملح الباقية تحت الأظافر؛ ثم استقدموا نجارا ليصنع تابوتا صغيرا.

في اليوم التالي كان أفراد طاقم مركب الصيد يشيعون دفن اليد المبتورة؛ الأخوان (جافيل) جنبا إلى جنب، يتقدمان المأتم. يحمل كاهن الكنيسة الجثة تحت إبطه.

عدل (جافيل) الأصغر عن الإبحار؛ حصل على عمل في المرفأ، فيما بعد عندما كان يتحدث عن حادثته؛ كان يسرد بصوت خافت على مستمعيه:

- كان أخي يسعى إلى مصلحته قبل كل شيء، لو أراد وقتئذ قطع الشِّبكة لكنت آحتفظت بذراعي.

***

.....................

* النص مأخوذ من المجموعة القصصية:

Contes de la bécasse, GUY DE MAUPASSANT, Booking international, PARIS. 1995.

1- كاتب فرنسي؛ هو مبتكر القصة القصيرة بلا منازع.

2- مدينة تقع في الشمال الغربي لفرنسا على ساحل Pas de calais ؛ الذي يصل بين شمال فرنسا وبحر (المانش).

3- الحَدَث: الصغير السن.

للشاعر الأسباني فرانثيسكو دي كبيدو

اعداد وترجمة : أ.م. مثال احمد عبد /

كلية اللغات / قسم اللغة الاسبانية

***

انه جليد يحترق، انه نار تتجمد

انه جرح يؤلم ولا يمكن الشعور به،

هو حلم جميل وهدية سيئة،

انه استراحة قصيرة متعبة جدا،

انه اهمال يعطينا رعاية،

انه جبان ذو اسم شجاع،

انه نزهه منعزلة بين الناس،

فالحب فقط لتكون محبوبا،

انه حرية مقيدة

تستمر حتى النوبة الاخيرة،

انه مرض ينمو اذا تم علاجه

هذا هو الطفل، الحب، هذا هو الهاوية.

فأنظروا اي صداقة هي تلك التي تكون مع لاشئ¡

فالحب هو من يخالف نفسه في كل شيئ!

***

...............

Definición del Amor del poeta (Francisco de Quevedo)

Es hielo abrasador, es fuego helado,

Es herida que duele y no siente,

Es un soñado, un mal presente,

Es un breve descanso muy cansado.

Es un descuido que nos da cuidado,

Un cobarde con nombre de valiente,

Un andar solitario entre la gente,

Un amor solamente ser amado.

Es una libertad encarcelada,

Que dura hasta el postrero paroxismo;

Enfermedad que crece si es curada.

Este es el niño Amor, éste es su abismo.

Mirad cual amistad tendrá con nada !

El que en todo es contrario de sí mismo!

*** 

 

للشاعر الرروسي سيرغي يسينين

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

الشبح الأسود

يا صديق، يا صديقي

إنني جدا مريض.

لا أدري كيف بل من أين هذه الآلام جاءت.

تارة تعوي الرياح

مثلما في سهل قفارْ،

تارة كأنما غابة في أيلولْ،

برأسي ينهمر بقسوة وقعُ الكحولْ.

*

وهذا راسي بآذاني يخفقْ،

كأنما طير جناحيه يُحرّكْ.

بات الساقان فوق العنقْ

لم يعد على الحراك قادرْ.

شبحٌ أسودْ

أسودُ أسودْ

شبحٌ أسودْ

ها هو يجلس بقربي على السريرْ،

الشبحُ الأوسودُ

يحرمني من النوم طيلة الليل المَريرْ.

*

الشبح الأسود

بالبنان يشير لأسطر بكتاب تعيس

ويخنخن فوقي

كأنما راهبٌ فوق جثمان فقيد،

يقرأ ليجعلني أسمع

سيرة َ سكير حَقيرْ،

دافعا إلى روحي الخوفَ والحزنَ.

مَخلوق أسودْ!

مَخلوق أسودْ!

*

" إسمعْ، إسمعْ –

راح يحكي لي ويُثرثر –

في الكتاب أفكارٌ

بل ومشاريعُ عظيمة.

هذا الإنسانُ

عاشَ في بلاد

يسكنها أكبر الأوباش المكروهين،

والمشعوذون.

*

الثلج في كانون بتلك البلاد

أبيض ناصع نظيف،

حيث هذا الثلج يغزلُ

غزلَ البناتِ الجميلْ .

ذاك الإنسانُ كان مجازفا،

مقامرا، ومغامر

من الدرجة الأولى.

*

كان أنيقا

وهو بذات الوقت شاعر

وقواه لم تكن

عظيمة كبرى، ولكنه قادر،

وكان قد سمى امرأة

جاوزت سنّ الأربعين

بالفتاة الخبيثة

ويناديها دلالا - حلوتي ".

*

" السعادة – قال لي –

هي في براعة العقل واليد .

ومن كان بعيدا عن البراعة وفنونها

حَسَبهُ القومُ

في الدنيا تعيساً.

لا بأسَ إذن بعد هذا

أنّ إشاراتٍ تعيسة زائفة

تثقلنا بعذاباتٍ كبيرة.

*

إنّ أعلى أشكال الفنون

خلال العاصفة

وفي حالات الفقدان والأسى

وحين تكون في حالات الحزن

إن أعلى أشكال الفنون

أن تتظاهر بالإبتسامة، والبساطة، والرضاء ".

*

" أيها الشبح الأسودُ

حذار، حذار

كيفَ تجرؤ.. فأنت لستَ تحتَ الماء

تحيا وتخدم. *

ما شأني والحديث

عن حياة شاعر

وهو بذات الوقت مشاكسْ

فاحكِ للآخرين عنه ما شئتَ وحدّثْ ".

*

الشبح الأسودُ **

ينظر نحوي، يُحدق.

وعيناه قد غطاهما قيء أزرق –

كأني به يُريد القول

أنني حرامي وسارق

قمت بنهب أموال

رجل ما عابر

بلا خجل أو استحياء.

*

يا صديق، يا صديقي

إنني جدا مريض.

لا أدري كيف بل من أين هذه الآلام جاءت.

تارة تعوي الرياح

مثلما في سهل قفارْ،

تارة كأنما غابة في أيلولْ

برأسي ينهمر بقسوة وقعُ الكحولْ .

*

ليلٌ وصقيعْ

وهذا الدوّار صامتٌ ساكنْ

وأنا وحدي أقف قربَ النافذة

لا أنتظر ضيفا أو صديقا

وهذا المدى

قد غطاه منثورٌ كلسي ناعم

والأشجار كأنها فرسان

تجمعتْ في بستاننا.

*

وهذا الطائر الليلي المشؤوم

يصيح باكيا في مكان غير بعيدْ.

وهذي الفرسان الخشبية تعدو

وتطلق إيقاعا إنه إيقاع السنابك

ومن جديد ها هو الشبح الأسودُ

يقترب من مقعدي ويجلس،

رافعا قبعته العالية

ودون عناية يرمي معطفه خلفه.

*

" إسمعني جيدا، إسمعْ –

أخذ يشخر

موجها نظره تجاهي

شاهدته قد انحنى

مقتربا مني يقول:

ما رأيتُ يوما في حياتي

حتى بين الماكرين والأوغادْ

من يعاني عَبثا ويعذبه السّهادْ.

*

لنقل أني أخطأت !

وهذا البَدرُ الليلة قد اكتملْ.

ماذا يلزم بعدُ

لناعس ٍ غر هَدّهُ السّكرْ؟

ربما بالسّرّ ستأتي إليك (تلك)

ذاتُ الفخذين السَمينين، وأنتَ

سَتقرأ أمامها شيئا فيه غزلْ

أوقصيدة من شعركَ القميء المُبتذلْ؟

*

آه، كم أحب الشعراء

إنهم بحق قومٌ غريبْ .

عبرهم ألقى لقلبي تاريخا أعرفه، عجيبْ

كيف ذو شعر طويل وقبيح

يحكي لبنت المدرسة،

لمن لا يزال في وجهها حب الشباب

عن دنى أخرى وعالم بعيدْ

ولهاث الجنس يغلي في ضلوعِه.

*

لا أدري، لا أذكرُ

في إحدى القرى

ربما في كالوجا،

ربما في ريازانْ

عاش

في أسرة فلاحين بسيطة

صبيٌّ أصفرُ الشعر

ذو عينين زرقاوينْ...

*

لقد كبُر الولدُ

وهو الآن شاعر

وقواه لم تكن

عظيمة كبرى، ولكنه قادر

وكان قد سمى امرأة

جاوزت سنّ الأربعين

بالفتاة الخبيثة

ويناديها دلالا - حلوتي ".

*

" أيها الشبحُ الأسود ُ

أنت ضيف ثقيل الظل.

هذه السِّمعة ُ

تلاحقك من زمان ".

لقد طفح الكيل، إني أثور غاضبا

وتطير من يدي عصاي

نحو سحنته القبيحة،

إذ تصيبه بين عينيه...

*

ذبُلَ القمر

وهذا الصّبح خلفَ الشباك يصحو

آه، أيها الليلُ

ماذا فعلتَ؟

إني أقف

وعلى رأسي قبعتي العالية

ليس من أحد جنبي

وهذي المِرآة قد تهشمتْ... ***

***

تشرين الثاني عام 1925

..............................

هوامش ومصادر:

* لفهم النص لابد من معرفة التراث الشعبي الروسي وحتى السلافي، حيث ورد في الأساطير والحكايا السلافية والروسية أن المخلوقات الشريرة منها من يعيش ويخطط أفعاله السيئة والخبيثة في عالم تحت الماء.

** ليس المقصود هنا في الشبح الأسود – الإنسان صاحب البشرة السوداء إنما من يمثل المخلوقات الشريرة.

*** كالوجا – بلدة قرب موسكو، وريازان – هي مدينة الشاعر يسينين.

**** المرآة المهشمة حسب الإرث الروسي والسلافي القديم - هي دليل شؤم أوشيء قادم تعيس يطال مصير الإنسان . لذا لابد من تنبيه الزملاء ممن ترجموا هذه القصيدة من قبل إن القول بأن (النافذة قد تهشمت) مع إهمال المرآة قد افقد القصيدة عنصراهاما.

ملاحظة - لابد هنا من التنويه إلى أمر هام يدخل ضمن أخلاقية المترجمين لقد حافظنا على شكل القصيدة وحتى على عدد المقاطع والأشطر محاولين الحفاظ على شكل القصيدة وأسلوب الشاعر في نصه الأصلي الروسي.

Сергей Есенин. Собрание сочинений в двух томах. Том 1.

Москва. 1991.

وجهة نظر

من الأهمية بمكان وضع معايير وضوابط دقيقة لتقييم جودة الترجمة. لا يمكن إجراء تقييم نقدي موضوعي للترجمة إلا بالإستناد إلى بعض الأسس التنظيمية، التي تجعل من الممكن تحديد طبيعة الإنحرافات عن قواعد وأصول الترجمة، هذه الإنحرافات (المبررة، وغير مبررة، القسرية أو التعسفية).

هذا الأمر يتطلب تحديد ضابطة أو معيار للترجمة، بل لكل نوع من أنواعها، مع مراعاة عدد من العوامل الدلالية، والإسلوبية، والعملية، والإجتماعية وغيرها مما يخص التقاليد.

من دون معايير واضحة أو ضوابط واضحة بما فيه الكفاية لتقييم جودة الترجمة لن نجد هناك شروطا لإعطاء شهادة تثمين للمترجمين، هذه الشهادة أو التثمين، الذي سيضع حدا للفوضى في عالم الترجمة وأعني هنا ترجمة النص في الشعر أوالنثر لدينا .

قد يقع نظر القارئ هنا أو هناك على بعض الأفكار المبعثرة في مجال نظريات الترجمة ولكن علينا أن نعترف بأن البحوث الجادة في هذا الميدان إلى يومنا هذا قليلة، أعني هنا في المكتبة العربية، وفي الدوريات العربية الجادة.

إذا وجدنا لدى بعض الأكاديميين في هذه الجامعة أو تلك ما كتِبَ عن مسألتي (الكفاية ) و(التكافؤ) أو عن مسألة تقريب النص المترجم من النص الأصلي فهذه أعمال منقولة من الدوريات الأوروبية والروسية، ورغم ذلك نوجه لهؤلاء جزيل الشكر.

بقلم: جاك بريفير

ترجمة نزار سرطاوي

***

بحّارٌ هَجَرَ البحر

سفينتُه غادرت الميناء

الملكُ تخلّى عن الملكة

بخيلٌ ترك ما عنده من ذهب

هكذا هو الحال

*

أرملةٌ تخلت عن حِدادها

امرأةٌ مخبولةٌ غادرت مستشفى المجانين

وابتسامتكِ غادرَتْ شفتيَّ

هكذا هو الحال

*

لسوف تتركينني

لسوف تتركينني

لسوف تتركينني

لسوف تعودين إليّ

لسوف تتزوجينني

لسوف تتزوجينني

السكّين تتزوجُ الجرح

قوسُ قزحٍ يتزوجُ المطر

الابتسامةُ تتزوجُ الدموع

العناقُ يتزوجُ العُبوس

هكذا هو الحال

*

والنارُ تتزوجُ الجليد

والموتُ يتزوجُ الحياة

والحياةُ تتزوجُ الحب

لسوف تعودين إليّ

لسوف تتزوجينني

لسوف تتزوجينني

***

......................

Et Voilà

Un marinaio ha lasciato il mare

il suo battello ha lasciato il porto

e il re ha lasciato la regina

un avaro ha lasciato il suo oro

... et voilà

*

una vedova che lascia il suo lutto

una pazza che lascia il manicomio

e il tuo sorriso che lascia le mie labbra

... et voilà

*

Tu mi lascerai

tu mi lascerai

tu mi lascerai

tu tornerai a me

tu mi sposerai

tu mi sposerai

*

Il coltello sposa la piaga

l'arcobaleno sposa la pioggia

il sorriso sposa le lacrime

le carezze sposano le minacce

... et voilà

*

E il fuoco sposa il ghiaccio

e la morte sposa la vita

come la vita sposa l'amore

*

Tu mi sposerai

tu mi sposerai

tu mi sposerai.

***

............

جاك بريفير: شاعر وكاتب سيناريو فرنسي برز بعد الحرب العالمية الثانية. تدور معظم أشعاره حول الحياة في باريس بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تُمثّل نوعًا من التعليق الاجتماعي، إذ كثيرًا ما تتناول المشاكل الاجتماعية المعاصرة، كالفقر والظلم والحرب. ويتميّز شعره بالبساطة والمباشرة وقوة العاطفة، وأيضًا باستخدام اللغة اليومية والتعابير العامية، علاوة على روح الدعابة والسخرية. ولهذا فقد شاعت قصائده بين القراء العاديين. ويُذكر أن العديد من قصائده تدرّس في المدارس الفرنسية.

ولد بريفير في أحدى ضواحي باريس قي 4 شباط/فبراير عام 1900 لعائلة برجوازية. ترك المدرسة قبل أن يتجاوز الخامسة عشر من عمره ليعمل في أحد متاجر باريس إلى أن تم استدعاؤه للخدمة العسكرية في عام 1918 قبل نهاية الحرب العالمية الأولى.

في عام 1925 شارك في الحركة السريالية، التي كانت تضم مرسيل دوهامل وأندريه بريتون وريموند كَنو. لكن بريفير انسحب من الحركة عام 1930 بعد أن دب الخلاف بين أعضائها. وفي عام 1932 ، بدأ بكتابة السيناريو والحوار لصالح السينما.

منذ عام 1946 وحتى وفاته صدرت له ست مجموعات شعرية، من بينها "كلمات"(1946) و "قصص" (1963) و"فتراس" (1971). كذلك اختيرت بعض أشعاره للتلحين والغناء.

توفي بريفير بالسرطان الرئوي في 11 نيسان/إبريل عام 1977. وقد أطلق اسمه على العديد من المدارس والشوارع تكريماً له.

 

 

للكاتب الأمريكي: دونالد بارتلم

ترجمة: علي القاسمي

***

انطلق المنطاد من موضعٍ في الشارع الرابع عشر، ولا أستطيع أن أكشف عن نقطة الانطلاق بالضبط، واتّجه شمالاً طوال ليلة كاملة، والناس نيام، حتّى بلغ المنتزه. وهناك أوقفتُه. وفي الفجر كانت حافّته الشماليّة تطلُّ على ساحة البلازا؛ وهو يتأرجح في مكانه بصورة عابثة لطيفة. وشعرتُ بشيءٍ من عدم الارتياح عند التوقُّف، ربّما بسبب خوفي من إلحاق الضرر بأشجار المنتزه، ولكنَّني لم أرَ سبباً لمواصلة التحليق فوق أحياء المدينة التي سبق أن حلّقنا فوقها. ولهذا طلبتُ من المُهندسين أن يتدبَّروا الأمر. ثم واصل المنطاد تحليقه أثناء الصباح، وكان ثمّة تسرُّب طفيف للغاز من الصمامات. وقطعَ المنطاد خمسة وأربعين شارعاً من الشمال إلى الجنوب، ومنطقة غير محدَّدة من الشرق إلى الغرب قد تبلغ ستة شوارع على جانبَي الجادّة الرئيسة. هكذا كان الوضع آنذاك.

ولكن من الخطأ أن نتحدَّث عن "الأوضاع"، لأنَّ ذلك يعني وجود مجموعة من الظروف التي تنتهي بحلٍّ للمشكلة، أو بنوع من التخلُّص من الضغوط. ولم يكُن ثمّة وضع معيَّن، فهو مجرَّد منطاد معلَّق هناك. ألوان بُنيّة أو رماديّة غامقة هادئة في الغالب تقابلها ألوان صفراء جوزيّة ناعمة. وثمّة إهمال مقصود للّمسات النهائيّة أظهرته للعيان في شكل توصيلاتِ أسلاكٍ بارزةٍ جعلت السطح الخارجيّ يُعطي انطباعاً بالخشونة والصلابة، وفي داخل المنطاد رُتِّبت الأثقال بعناية لئلا تنزلق، وثُبِّتت كتلة المنطاد المتغيِّرة الشكل في عدد من النقاط. لقد توافر لنا الآن، بفضل وسائل المعلومات المختلفة، فيضٌ من الأفكار الأصيلة، والأعمال الفريدة الجمال، والأحداث المهمة في تاريخ النفخ والطيران؛ ولكن، في تلك اللحظة، لم تكُن هناك سوى حقيقةٍ ملموسةٍ واحدة هي ذلك المنطاد وهو معلَّق هناك.

وكانت ثمّة ردود أفعال من قِبل الناس. فقد وجد بعضهم في المنطاد شيئاً "ممتعاً". وكتعليقٍ على ذلك، لا يبدو هذا القول مناسباً لضخامة المنطاد ولظهوره المفاجئ فوق المدينة؛ ومن ناحية أخرى، ففي غياب الهستيريا أو أيّ قلق ناتجٍ عن شعورٍ جماعيّ، يجب علينا أن نعدّ ذلك القول قولاً هادئاً "ناضجاً". وقد جرت مناقشات أوليّة محدودة حول "معنى" المنطاد، ثمَّ تلاشت، لأنَّنا تعلَّمنا ألا نصرّ على المعاني، فقلّما يبحث الناس عن المعاني الآن، ما عدا في الحالات التي تتعلَّق بأبسط الظواهر وآمنها. واتُّفِق على أنّه ما دام معنى المنطاد لا يمكن أن يُعرَف بصورةٍ مؤكَّدة، فإنّ المناقشات الموسَّعة حول هذا الموضوع لا معنى لها، أو على الأقلّ، أدنى فائدة من فعل أولئك الناس الذين يعلّقون في بعض الشوارع فوانيس ورقيّة ملوَّنة بالأخضر والأزرق من جانبها السفليّ المطليّ باللون الرماديّ الدافئ، أو يغتنمون الفُرص لكتابة رسائل على الحيطان يعلنون فيها استعدادهم للقيام بأفعالٍ شاذّةٍ أو استعدادهم للتعارف والصداقة.

كان الأطفال الجريؤون يقفزون، خصوصاً في الأوقات التي يحلّق فيها المنطاد بالقرب من إحدى البنايات بحيث تصير المسافة الفاصلة بين المنطاد والبناية لا تتعدّى بوصات قليلة، أو في تلك الأوقات التي يلامس المنطاد فعلاً إحدى البنايات واضعاً ضغطاً خفيفاً على أحد جوانبها، بحيث يبدو المنطاد والبناية وحدةً واحدة. وكان القسم العلويّ من المنطاد قد صُمِّم بحيث يسمح برؤية "المناظر الطبيعيّة"؛ الوديان الصغيرة وكذلك الروابي الواطئة أو التلال، فعندما تركب المنطاد يمكنكَ القيام بنزهة، أو حتّى برحلة، من مكانٍ إلى آخر. كان هنالك إحساسٌ بالمتعة عند الانحدار في الهواء ثم الارتفاع إلى الأعلى، وكلاهما يتمُّ بصورةٍ تدريجيّةٍ لطيفة، أو القيام بقفزة من جانب إلى آخر. فقد كان النطّ والوثب مُمكناً بفضل الهواء المضغوط، وحتّى السقوط كان مُمكناً، إذا كانت تلك هي رغبتك. فقد كانت جميع تلك الحركات المتنوِّعة وغيرها كذلك في مقدور الشخص، وكانت تجربة الارتفاع مثيرة جدّاً للأطفال الذين اعتادوا العيش في شقق المدينة الصلبة الجدران. ولكنَّ غرض المنطاد لم يكُن تسلية الأطفال.

وكذلك فإنّ عدد الناس، من الصغار والكبار، الذين استفادوا من الفرص التي وصفناها لم يكُن كبيراً كما كان من الممكن أن يكون، فقد لمسنا فيهم نوعاً من التهيُّب وعدم الثقة بالمنطاد. وإضافةً إلى ذلك، كان ثمَّة شيءٌ من العداء تجاه المنطاد. ولأنَّنا أخفينا أجهزة الضخّ التي تضخّ غاز الهليوم إلى داخل المنطاد، ولأنَّ سطح المنطاد كان واسعاً، فإنَّ السلطات لم تستطِع أن تقرِّر نقطة الدخول ـ أعني النقطة التي يُحقن عندها الغازـ ولهذا فإنّ درجة الإحباط لاحتْ بوضوحٍ على وجوه المسؤولين في المدينة التي وقعت في منطقتهم هذه التظاهرة. وقد أغاظتهم عبثيّة المنطاد الظاهرة إضافةً إلى حقيقة كونه موجوداً "هناك". وكان يمكن تجاوز هذه الصعوبة لو أنّنا كتبنا بحروف ملوَّنة كبيرة على جوانب المنطاد عبارة: "تدل الاختبارات المختبريّة" أو عبارة: "أكثر فاعلية بنسبة%18 ". ولكنّني لم أحتمل أن أفعل ذلك. وبالإجمال، فإنَّ هؤلاء المسؤولين كانوا متسامحين بصورة ملحوظة، إذا أخذنا في الاعتبار أبعاد الخروج من المعتاد، وكان هذا التسامح نتيجةً: أوّلاً، اختبارات سرّيّة أُجريت ليلاً أقنعتهم بأنّه لا شيء يمكن فعله لإزاحة المنطاد أو تدميره، وثانياً، الحماسة الجماهيريّة التي أثارها المنطاد (وهي حماسةٌ لم تَخْلُ من لمساتِ العداء المذكور آنفاً) في نفوس المواطنين العاديّين.

ولمّا كان المنطاد الواحد يثير بالضرورة تفكيراً يستغرق الحياة بأكملها، فإنَّ كلَّ مواطنٍ عبّر، بالطريقة التي اختارها، عن مجموعةٍ معقَّدةٍ من المواقف والأفكار. فقد يتصوَّر رجلٌ ما أنَّ للمنطاد علاقةً بمفهوم (لوَّث)، كما في الجملة المفيدة: (لوّث المنطاد الكبير سماء مانهاتن التي لولاه لبقيت صافية متألِّقة.). وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ المنطاد كان في نظر كلِّ رجل نوعاً من الانتحال والغشِّ، شيئاً يقلّ كثيراً عن السماء التي كانت هناك، شيئاً مُقحَماً يَحُول بين الناس وبين "سمائهم". ولكن، في حقيقة الأمر، كان الوقت شهر كانون الثاني/يناير، وكانت السماء مظلمة وقبيحة، ولم تكُن تلك السماء التي يمكنك أن تنظر إليها بمتعة وأنتَ مُستلقٍ على ظهرك في الشارع، إلا إذا كانت المتعة بالنسبة لك تنبع من التهديدات التي تُوجّه إليك أو من الإساءة إليك. ولقد بذلنا جهداً كبيراً ليكون النظر إلى الجانب السفليّ من البالون مُمتعاً، فصبغنا معظمه بالألوان الرماديّة والبنيّة الخفيفة الهادئة، تقابلها ألوان صفراء جوزيّة ناعمة باهتة. ولهذا فبينما كان ذلك الرجل يفكّر في (لوّث)، كان ثمّة خليط من الإدراك الممتع في تفكيره يتصارع مع الرؤية الفعليّة.

وفي المقابل، قد ينظر رجلٌ آخر إلى المنطاد على أنّه جزء من المكافآت والهبات غير المنتظَرة، مثلما يدخل صاحب العمل ويقول: " تعال، يا هنري، خُذْ هذه الصرّة من النقود فقد حزمتُها لك، لأنَّ تجارتنا هنا قد ازدهرت، وأنا معجبٌ بالطريقة التي تشذّب بها الزنابق، والتي لولاها لما نجح القسم الذي تعمل فيه، أو على الأقل لما نجح بهذا الشكل." فبالنسبة لهذا الرجل قد يمثّل المنطاد تجربةَ "جني الأرباح" حتّى إذا كانت التجارب لا تُفهَم بصورةٍ جيِّدة.

وقد يقول رجلٌ آخر: " ولولا ما أقدم عليه ...، فإنّ من المشكوك فيه أن يكون ... اليوم بشكله الحالي." ويجد العديد ممّن يتفقون أو يختلفون معه. فأفكار "النفخ" و"الطفو" تمّ ابتكارها مثل مفاهيم الحُلْم والمسؤولية. وانخرط آخرون في تخيّلات وأوهام مفصَّلة تتعلَّق بتمنّياتهم إمّا في فقدان أنفسهم في المنطاد أو التهامه. والطبيعة الخصوصيّة لهذه التمنّيات وأصلها غير معروفَين ومدفونَين في العمق لدرجة أنَّ أصحابها قلَّما يتحدَّثون عنها؛ ومع ذلك فهناك دليل على أنَّ هذه التمنّيات واسعة الانتشار. وقيل في تلك المناقشات كذلك إنَّ المهم هو ما تشعر به عندما تقف تحت المنطاد؛ إذ ادّعى بعض الناس أنّهم شعروا بالدفء والحماية كما لم يشعروا بهما من قبل، في حين أنّ أعداء المنطاد شعروا، أو نُقِلَ عنهم، أنّهم وقعوا تحت ضغطِ شعورٍ "ثقيل".

وانقسمت الآراء النقديّة:

" انهمارات وحشيّة. "

" قيثارة."

" تقابلات واضحة مع الأجزاء الأشدّ ظلاماً. "

" غبطة داخليّة. "

" زوايا كبيرة مربعة. "

" تحكّمتْ في تصميم البالون حتّى الآن انتقائيّة تقليديّة. "

" قوّة خارقة للعادة. "

" ممرّات دافئة، ناعمة، متكاسلة. "

" هل تمّت التضحية بالوحدة من أجل النوعيّة الشاملة؟"

" يا للكارثة ! "

" مجرّد كلام فارغ. "

وراح الناس، بطريقة غريبة، يحدِّدون أماكن تواجدهم بالنسبة لتحوّلات المنطاد: "سأكون في ذلك المكان حيث يُشير مُقدَّم المنطاد إلى الشارع السابع والأربعين، إلى رصيفه تقريباً، بجانب مركز شيلي العلميّ." أو " لماذا لا نذهب ونقف على السطح ونستنشق الهواء وربّما نتمشى قليلاً، حيث يشكّل المنطاد خطّاً منحنياً ضيّقاً بموازاة واجهة متحف الفنِّ الحديث..." وقد وفّرت ملتقيات الطرق الهامشيّة مداخل ضمن مدّة زمنيّة محدَّدة إضافةً إلى " ممرّات دافئة ناعمة متكاسلة" حيث ... ولكن من الخطأ أن نتحدَّث عن " ملتقيات طرق هامشيّة"، فكلّ ملتقى طرق هو نقطة هامّة حاسمة، ولا يمكن إهمال أيٍّ منها (كما لو أنّك وأنتَ تمشي هناك لا تجد مَن يستطيع أن يُلفت انتباهك، بومضة ضوء، لتتحوَّل من التمرينات القديمة إلى التمرينات الجديدة، أو يحذِّرك من الأخطار). كلُّ ملتقى طرقٍ هامٌّ جداًّ: التقاء المنطاد والبناية، التقاء المنطاد والإنسان، التقاء المنطاد والمنطاد.

وتمَّت الإشارة إلى أنَّ ما يثير الإعجاب بالمنطاد هو ما يلي: إنّه غير محدود ولا محدَّد. فأحياناً يظهر فيه نتوء، انتفاخ، أو يتحرّك جزءٌ منه بعيداً إلى شرق النهر بمبادرةٍ خاصّةٍ منه، مثل تحرُّكات جيش على الخريطة كما تراها القيادة وهي بعيدة عن أرض المعركة. ثم يعود ذلك الجزء إلى الوراء ويلتحم بالمنطاد، كما حدث فعلاً، أو ينسحب في تشكيلات جديدة، وفي اليوم التالي يقوم ذلك الجزء بطلعة أخرى، أو يختفي تماماً. ولقد كانت قدرة المنطاد على تغيير شكله وعلى التحوُّل مدعاة للسرور، خاصّةً للناس الذين كانت حياتهم منمَّطة بصورة جامدة، وللأشخاص الذين لا يُتاح لهم التغيير على الرغم من رغبتهم فيه. وظلَّ المنطاد مدّةَ اثنين وعشرين يوماً من وجوده يقدّم، من خلال تحرُّكاته العشوائيّة، إمكان إقصاء الذات وتغيير وضعها في تضادٍّ مع شبكة الانضباط والممرّات المربَّعة تحت أقدامنا. إنّنا نحتاج حالياً إلى مقدارٍ كبيرٍ من التدريب الذي يعقبه التزاماتٌ طويلةُ الأجل ويرافقه، من حينٍ إلى آخر، ميلٌ متنامٍ إلى استخدام الأجهزة المعقَّدة في جميع العمليّات فعليّاً؛ وكلّما ازداد هذا الميل، اتّجه الناس أكثر فأكثر، بطريقةٍ مرتبكةٍ تبعث على الحيرة، إلى البحث عن حلولٍ قد يمثّل المنطاد نموذجاً أوّليّاً منها أو "مسودة أولى".

التقيتُ بكِ تحت المنطاد بمناسبة عودتكِ من النرويج، وسألتِني ما إذا كان المنطاد لي، فأجبتُ بالإيجاب. وقلتُ إنّ المنطاد بمثابة إفشاء سرٍّ عفويٍّ يتعلَّق بسيرتي الذاتيّة، إذ لم أدرِ ما أفعل بالضجر الذي انتابني أثناء غيابك، وبالحرمان الجنسيّ، ولكن الآن وقد انتهت زيارتكِ لمدينة برغن، لم يعُد المنطاد ضروريّاً ولا مناسباً. وكانتْ إزالة المنطاد أمراً يسيراً؛ إذ قامت الشاحنات بجرِّ الهيكل المستهلَك وأودعته في مخزن في فيرجينيا الغربيّة في انتظار وقت آخر من أوقات التعاسة، ربّما عندما نكون متخاصمَين.

***

....................

*عُرِف الكاتب الأمريكيّ دونالد بارتَلم Donald Barthelme (1931ـ1989) بقصصه المُكثَّفة القصيرة ذات الفضاءات العجائبيّة (الفنتازيّة) والأحداث السورياليّة والشخوص الكاريكاتوريّة التي لا تحترم التقاليد المرعيّة، لا التقاليد الفنيّة القصصيّة ولا التقاليد الاجتماعيّة السائدة. وعندما نقرأ قصص بارتلم نشعر بشيءٍ من عدم الارتياح، بل بشيء من القلق، لأنّ أفكارنا المسبقة عن القصة والبنيات الفنيّة التقليدية التي اعتدنا عليها لا تستطيع التعامل مع الآليّات السرديّة المبتكرة التي يستخدمها بارتلم، ليميز نفسه عن الكُتّاب الواقعيِّين والطبيعيِّين. فإذا كانت القصّة العادية تقوم على خلق مواقف يتخلّلها صراع ينتهي بنوعٍ من الحلّ أو التوافق فيشعر القارئ بالارتياح في نهايتها، فإنّ بارتلم ينتهي بالقارئ إلى الصراع والقلق، فهو يغيّر من أوضاع أبطاله الاجتماعيّة بطريقة لا نتوقَّعها، وقد تثير فينا الضحك ولكنّه ضحك ممزوج بالألم. ويتطلّب الاستمتاع بقراءة قصص بارتلم والولوج إلى عالمه العجائبيّ أن نتسلَّح بمقاربات جديدة ومعايير غير تقليديّة. وقد أُطلِق على هذا النوع من الأدب مصطلح (أدب ما بعد الحداثة) الذي راج في السبعينيّات والثمانينّات من القرن العشرين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

نشر بارتلم الذي يلقِّبه بعض النقّاد بأبي قصّة ما بعد الحداثة، ثلاث روايات هي: "الحزن" و"الأبيض الثلجيّ" و"الأب الميِّت". كما نشر عدّة مجاميع قصصية منها "ارجع" و"الدكتور كاليغاري" و"ممارسات لا يمكن الإفصاح عنها" و"أفعال غير طبيعية" و"حياة المدينة" و"هواة" و"أيام عظيمة". وحاز على جائزة الكتاب الوطنيّة عام 1972 لكتابه "سيارة الإطفاء غير المنضبطة" وهو كتاب للأطفال، كما رُشِّح لنفس الجائزة عام 1974 لكتابه "مُتع محرّمة". والقصّة التي نترجمها هنا ظهرت في كتاب "أحسن القصص الأمريكيّة لعام 1973" وفي كتاب "أحسن القصص الأمريكيّة في القرن العشرين".)

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

"دعني أقلْ لك أيها الرجلُ الطيب،" هكذا بدأت السيدة نشاتيرين، زوجةُ العقيد في الغرفة رقم 47 حديثَها وهي تنقَضُّ على مدير الفندق، وقد تحوّل لونها إلى القرمزي وراحت تبقبق: "إما أن تنقلني إلى شقّةٍ أخرى، أو أغادرَ فندقَك اللعين بلا رجعة! إنه بالوعةٌ من الفسوق! ارحمنا، لقد كبُرتِ البنتانِ ولا يسمعُ أحد سوى الكلامِ الفاحشِ ليلَ نهار! هذا فوق الاحتمال! ليلَ نهار! أحيانًا يطلق مثلَ هذا الكلامَ الذي يجعل الآذان تحمرُّ خجلاً! إنه بالتأكيد أشبهُ بسائقِ سيارةِ أجرة. أمرٌ جيدٌ أن بناتي المسكينات لا يَعين، وإلا لاضطُررتُ إلى أن أخرج بهنَّ إلى الشارع... ها هو يقول شيئًا الآن! أنصتْ!"

"أنا أعرف ما هو أفضل من ذلك، يا ولدي،" طار صوتٌ جهوريٌ أجشُّ من الغرفة المجاورة. "هل تذكرُ الملازم دروزكوف؟ حسنًا، دروزكوف نفسُه كان ذات يومٍ يرسلُ بِكُرةِ البلياردو الصفراءِ إلى الجيب، وكما يفعل عادةً، كما لا يخفى عليك، قذف بقدمه إلى الأعلى... وفي الحال سُمِع صوتُ شيءٍ يتمزّق. في أولّ الأمر ظنّوا أنه مزّق قماشَ طاولةِ البلياردو، لكنْ عندما نظروا، يا صديقي العزيز، كانت ولاياتُه المتحدة قد تمزّقتْ جميعًا وانفصلتْ عن بعضها! ... ها-ها-ها كان قد قذف بقدمه في ركلةٍ عالية، ذلك الوحش، حتى لم تبقَ قطعةٌ مخيطةٌ بأخرى إلا وتمزقت. ها ها ها، وكانت هناك بين الحضور سيداتٌ أيضًا... ومن بينِهن زوجةُ الملازمِ الثرثار أوكورين... وجُنّ جنون أوكورين... 'كيف يجرؤ الرجل أن يتصرف بصورةٍ غيرِ لائقةٍ بحضور زوجتي؟' وتطورت الأمور من سيءٍ إلى أسوأ... أنت تعرف زملاءَئا...! أرسل أوكورين مساعِدَه 'إلى دروزكوف، فقال دروزكوف "لا تكن أحمق... لكن قل له إن من الأفضل له ألّا يرسلَ مساعدَه إليّ بل إلى الخياطِ الذي خاط لي ذلك البنطال. إنه خطأُه، كما تعلم. هاهاها! هاهاها... '"

ليليا وميلا، ابنتا العقيد، اللّتان كانتا تجلسان عند النافذة ووجناتُهما المستديرة تستند إلى قَبْضاتِهما، تحوّل لونهما إلى القرمزي وأسبلتا عيونهما التي بدت مدفونةً في وجهيهما الممتلئين.

"ها أنتَ سمعتَه، أليس كذلك؟" وتابعت السيدة نشاترين حديثَها مخاطبةً مديرَ الفندق. "وهذا ما تعتبره أمرًا لا يستحقُ الاهتمام على ما أتصوّر؟ أنا زوجةُ عقيدٍ يا سيدي! زوجي هو ضابط آمر. لن أسمح لسائقِ سيارةِ أجرةٍ أن ينطقَ بمثل هذه البذاءات بوجودي!"

"إنه ليس سائقَ سيارة أجرةٍ يا سيدتي، بل كيكين كابتن الفريق... رجلٌ نبيلُ المولدِ والمحتد.".

"إذا كان حتى الآن قد نسيَ مكانتَه ليعبّرَ عن نفسه كما يفعل سائقُ سيارةِ الأجرة، فهو أجدرُ بالاحتقار! باختصار، لا تردَّ عليّ، بل تَفضّل باتخاذ الإجرءات!"

"ولكن ما الذي في وسعي أن أفعلَه يا سيدتي؟ أنتِ لستِ الوحيدة التي تشتكين، فالجميع يشتكون، ولكن ماذا في وسعي أن أفعلَ به؟ يذهب أحدهم إلى غرفته ويبدأ في توبيخه قائلاً: 'هانيبال إيفانيتش، ليكن عندك شيء من مخافة الله، إنه أمرٌ مخزٍ!' وسوف يلكمه في وجهه بقبضتيه ويقول أشياءَ من كل لونٍ وصنف: 'احشُ ذلك في غليونك ودخّنْه'، وما إلى ذلك. هذا عار! يستيقظ في الصباح ويشرع في السير في الممر ولا شيء يستره، مع احترامي لمقامكِ، سوى ملابسِه الداخلية. وبعد أن يشربَ شيئًا، يلتقطُ مسدّسًا ويفرِغُ الرصاصاتِ في الحائط. في النهار يعبُّ الخمرَ عبًّا وفي الليل يلعب الورقَ بجنون، وبعد لعبِ الورق يأتي العراك... أشعر بالخجل من أن يرى المقيمون الآخرون ذلك!"

"لماذا لا تتخلصُ من الوغد؟"

"لا سبيل إلى إخراجه! إنه مدينٌ لي بثلاثةِ أشهر، لكننا لا نطلب نقودنا، نحن ببساطة نطلب منه أن يصنع معنا معروفًا ويخرج... لقد أصدر القاضي إليه أمرًا بإخلاء شقّته. لكنه ينقل الأمر من محكمةٍ إلى أخرى، وهكذا تطول المسألة... إنه مصدر إزعاجٍ لا مثيل له، هذا هو حاله. ويا الله، فهو رجلٌ بحقٍّ أيضًا! شابٌّ وسيمُ المظهر ومفكِّر... وعندما لا يكون ثملًا، فلن تجدي رجلًا ألطفَ منه. فقبل أيام لم يكن ثمِلًا وقضى اليوم بأكمله في كتابة الرسائل إلى أبيه وأمه ".

"يا للأب والأم المسكينين!" تنهدت زوجة العقيد.

"يستحقان الشفقة بالتأكيد! لا ينعمان بالراحة وعندهما مثل هذا الحقير! لقد أطلقَ الشتائمَ وغادر مكان إقامته، ولا يمرُّ يومٌ إلا ويواجه مشكلةً بسبب فضيحةٍ ما. إنه أمر مؤسف!"

"يا لتعس زوجتِه المسكينة!" تنهدت السيدة.

"ليس لديه زوجة يا سيدتي. وكأن هذه الفكرة يمكن أن تتحقق! ولو تحققت فستحمد الله إن لم يُحطّمْ رأسُها..."

قطعَتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا.

تقول "إنه غير متزوج؟"

"بالتأكيد غير متزوجٍ يا سيدتي".

قطعِتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا مرة أخرى وتفكّرت قليلا.

"ممم، غير متزوج..." قالت وهي في حالةِ تأمل. "ممم. ليليا وميلا، لا تجلسا قرب النافذة، هناك تيار هوائي! يا للأسف! شابّ ويترك نفسَه يغرقُ إلى هذا المستوى! وكل ذلك بسبب ماذا؟ عدم وجودِ قدوةٍ حسنة! ما من أمٍّ تفعل... غير متزوج؟ هو ذاك... من فضلِكَ لو تكرّمت،" واصلتِ السيدة الحديث ببراعة بعد لحظة من التفكير، اذهب إليه واطلب منه باسمي... أن يمتنع عن استخدامِ عباراتٍ... أخبره أن مدام نشاترين تتوسّل إليه... أخبره أنها تقيم مع ابنتيها في رقم 47... أنها جاءت إلى هنا تاركةً أملاكها في الريف..."

"بالتأكيد."

"قل له إنها زوجةُ عقيدٍ مع ابنتيها. لعلّه يأتي ليعتذر... نحن دائمًا في المنزل بعد العشاء. آه، يا ميلا، أغلقي النافذة!"

قالت ليليا مُتشدقةً بعد أن ذهب مديرُ الفندق ليستريح: "لماذا، ماذا تريدين من هذا... الخروف الأسود يا أمي؟ توجهين دعوةً إلى شخصٍ غريبِ الأطوار! نذلٍ سِكَيرٍ مشاكس!"

"أوه، لا تقولي ذلك يا ابنتي! أنت تتحدثين هكذا دائمًا؛... اجلسي! أيًّا كان، لا ينبغي أن نحتقرَه... هناك جانبٌ جيد في كل إنسان... من يدري." تنهدتْ زوجة العقيد وهي تتفحص ابنتيها من الأعلى والأسفل بقلق،" ربما يكون نصيبُكِ هنا. غيّري ملابِسَك على أية حال..."

--------------------------

نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات. ومن أشهر أعماله:

- "نورس البحر" (1895): مسرحية تدور حول كاتبٍ شابٍّ مكافحٍ وحبيبته وأمّهِ وممثلةٍ مشهورة والعلاقات التي تربط هؤلاء معًا.

- "العم فانيا" (1899): مسرحية عن أستاذ جامعي متقاعد وزوجتِه الثانية يأتيان للإقامة مع ابنته وزوجها في عِزبتهما الريفية، ما يفضي علاقات يشوبها التوتر والصراع.

- "السيدة صاحبة الكلب" (1899): قصة قصيرة عن علاقة بين شابٍ غير سعيد في حياته الزوجية وامرأةٍ متزوجة يلتقيها أثناء إجازته في مالطا.

- "الشقيقات الثلاث" (1900): مسرحية عن حياة شقيقاتٍ ثلاثٍ يرغبن في العودة إلى منزلهن في موسكو.

- "بستان الكرز" (1903): مسرحية تدور حول عائلة أرستقراطية تواجه مشاكل مالية حادّة، ما يضطرها إلى بيع بستان الكرز الذي يعز عليها كثيرًا.

الشاعر الفرنسي بول إيلوار

ترجمة نزار سرطاوي

***

ها هي ذي تقف على جفنيّ

وشَعرها يلتفُّ في شَعري

يداها على هيئةِ يديّ،

عيناها بلون عينيّ

*

ظلي يبتلعها

كما حجرٌ قُبالةَ السماء.

*

عيناها مفتوحتان على الدوام

لا تتركانني أنام.

أحلامها في وضح النهار

تجعل الشموس تتبخر

تجعلني أضحك، أبكي وأضحك،

وأتكلم دون أن يكون لديّ ما أقول.

***

........................

بول إيلوار، شاعر الحرية

ولد الشاعر الفرنسي بول إيلوار (الاسم المستعار لأوجين جريندل) في سان دوني من ضواحي باريس في 14 ديسمبر 1895. وكان أحد نشطاء الحركة السريالية. لكنه انفصل عنها لاحقًا وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي.

أصيب إيلوار في سن 16 بمرض السل، فانقطع عن الدراسة وسافر إلى سويسرا للنقاهة. وهناك راح يقرأ للشعراء الرمزيين والطليعيين مثل آرثر رامبو، وتشارلز بودلير، وغيوم أبولينير. وأثناء فترة استشفائه في مصحةٍ قرب مدينة دافوس السويسرية، التقى بشابة روسية تدعى غالا (الاسم المستعار لإيلينا إيفانوفنا دياكونوفا). وقد دفعته غالا، التي اقترن بها لاحقًا، إلى أن يقرأَ للكُتّاب الروس مثل فيور دوستويفسكي وليو تولستوي. وكان لتلك القراءات بما حفلت به من الرمزية والتجريبة والسياسة إسهام كبير في تشكيل أعمال إيلوار.

في تلك الفترة كتب إيلوار قصائده الأولى، التي كانت مستوحاة بصورة خاصة من الشاعر الأميركي والت ويتمان. وفي عام 1918، تعرّف إلى الشاعرين الفرنسيين أندريه بريتون ولويس أراغون. وكان هذا اللقاء بمثابةِ مقدمةٍ لنشأة الحركة السريالية.

بعد أزمة بينه وبين زوجته غالا، سافر عائدًا إلى فرنسا عام 1924. وفي تلك الفترة انعكست على قصائده الصعوبات التي واجهها خلال الأيام التي أصيب فيها بالسل من جديد. وقد انفصلت عن غالا ودخلت في علاقة مع الفنان السيريالي سلفادور دالي، وتُوّجت علاقتهما فيما بعد بالزواج.

في عام 1934 ، تزوج إيلوارمن نوش (ماريا بنز)، التي كانت تعمل عارضةً مع صديقيه الرساميين مان راي وبابلو بيكاسو. وخلال الحرب العالمية الثانية، شارك في المقاومة الفرنسية. وفي تلك الفترة حارب من خلال أشعاره، واشتهرت من بين تلك الأشعار قصيدة "الحرية" (1942). وقد تميزت قصائده ذات الطابع الحربي بالبساطة.

بعد الوفاةالمفاجئة لزوجته نوش، التقى بشابة إسبانية تدعى دومينيك لِمورت وذلك أثناء زيارته للمكسيك للمشاركة في مؤتمر للسلام في أيلول / سبتمبر 1949. ووقعا في الحب، وعادت معه إلى باريس حيث تزوجا في عام 1951، وكرس لها ديوانه الشعري الأخير، العنقاء (1951) تعبيرًا عن سعادته المستردة.

توفي بول إيلوار بنوبة قلبية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1952. ودُفن في مقبرة بير لاشيز في باريس.

 

بقلم: ألفريد دي موسيه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

علينا أن نحبّ أشياء كثيرة في هذا العالم

حتى نعرف ، بعد كل شيء، أيّها أحبّ إلينا

الحلوى، المحيط ، اللعب ، زرقة السماء

النساء ، الخيول ، أكاليل الغار والورود.

*

يجب أن ندوس بأقدامنا  زهورا بالكاد مغلقة؛

يجب البكاء كثيرا، وقول الوداع كثيرا.

ثم يبصر القلب أنه  شاخ،

ويكشف لنا زوال الأثر الأسباب.

*

لهذه الخيرات العابرة التي نتذوّقها غير مكتملة،

أفضل ما يتبقى لنا صديق قديم.

نتخاصم ، نتباعد. فتجمعنا صدفة ما،

*

نتقارب، نبتسم، وتتلامس الأيدي،

ونتذكّر بأنّنا نمشي معا،

وأنّ الروح خالدة ، وأنّ الأمس غَدٌ.

***

................

* ألفريد دي موسيه  " أشعار جديدة" (نشيد sonnet 26 avril 1843 )

 

للشاعر السويدي أبَهْ ليندَهْ

ترجمة: عبد الستار نورعلي/ السويد

***

(موتُ رفيقةٍ)

ها هم أقبلوا، صفّاً طويلاً،

متحمسين كما لو كانوا في مغامرةٍ مثيرة،

ملتهبينَ وجائعين بعد يومٍ شاقٍّ

فرحين ومتباهين أنّهم عثروا على ما يبحثون عنه،

ناكسين رؤوسَهم، مبتسمين لنا عند حافة الشارع،

وهكذا مرّوا.

*

وهناك بين درّاجتين هوائيتين

صغيرٌ وحزينٌ جدّاً فوق تابوتٍ كئيب

رفاتٌ بشريٌّ نحيلٌ حزينٌ تحت بطانيةٍ رمادية،

صامتٌ ساكنٌ وصغيرٌ جداً

ومَضَ ومرّ سريعاً، كما هي الحياة،

وهكذا مرَّ بنا

وكان هذا أنتِ، ولم يكنْ هناك أيُّ جسرٍ،

انغلقَ بابٌ كنّا خارجَه

كلُّ ما تحدثنا عنه أمسى الآنَ في خبر كان،

المدينةُ الصغيرةُ لم تعُدْ موجودةً عندكِ،

والساعةُ التي اعتدْتِ أنْ تنطري اليها دائماً،

المشاكلُ التي طاردتكِ، أمُّك، صديقُكِ

الآن نحن لا شيءَ لكِ... كلماتٌ فارغة...

فلم يعُدْ في عالمكِ بعد اليوم هذا العالم،

وحبيبكِ نفسُه كان واقفاً عند الطريق

غيرَ مُلفِتٍ للنظر

نظرتكِ استدارتْ نحو شيءٍ آخر،

ماذا نسمّي هذا الفراغ الكبير؟

مثلَ رائحةٍ أبديةٍ خالدة -

وجهٌ يضيءُ ساطعاً في الظلام -

إكليلٌ يهتزُّ - شمعتان مشتعلتان -؟

لم أدركْ شيئاً، الشيء الوحيد الذي عرفتُه

أنّي لم أعُدْ موجوداً لكِ

*

لا تحزنوا، أنشدوا أغنيةَ فوزٍ!

سيكونُ مصيري هكذا كبيراً ووحيداً

يوماً ما، وهكذا كلُّ شيءٍ سيرحلُ،

بهدوء وهيبة مثلَكِ، سأرحلُ أنا أيضاً،

ضئيلاً وكئيباً جداً سأضطجعُ هناك،

عارياً منْ كلِّ شيء، طليقاً متحرّراً من المعاركِ والضغوط

هكذا أنا أيضاً، هكذا أنا أيضاً يوماً ما.

***

.........................

* قصيدة "موتُ رفيقةٍ  Död kamrat" كتبها الشاعرُ السويديُّ "أبَهْ ليندَهْ" (Ebbe Linde 1897-1991) يرثي فيها أقربَ صديقةٍ إليه، وهي الشاعرة "كارين بوي"   (Karin Boye  1900-1941)التي ماتتْ مُنتحرةً. عُرِفَ الشاعران باتجاههما السياسيّ اليساريّ، وموقفهما المعادي للفاشية.

عبد الستار نورعلي

السبت 25.2.2023

 

 

بقلم: إرنست همنغواي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

كانت التلال التي تتوسط وادي إيبرو ممتدةً وبيضاء. لم يكن على هذا الجانب ظلٌّ ولا شجر، وكانت المحطةُ هناك تقع بين خطين من القضبان تحت أشعة الشمس. وغير بعيدٍ بجانب المحطة يبدو الظلُّ الدافئ للمبنى، وثمّةَ ستارةٌ مصنوعةٌ من خيوطِ من خرز الخيزران معلقةٌ على الباب المفضي إلى داخل الحانة كي تُبْعِدَ الذباب. جلس الأميركي والفتاة التي برفقته إلى طاولةٍ في الظلِّ خارج المبنى. كان الجوُّ لاهبًا والقطارُ السريعُ من برشلونةَ سيأتي في غضون أربعين دقيقة. توقّفتُ عند هذا التقاطع لدقيقتين وتابعتُ طريقي إلى مدريد.

"ماذا نشرب؟" سألتِ الفتاة. وكانت قد خلعتْ قبعتَها وأركنتها على الطاولة.

قال الرجل: "الجو حارق."

"لنشربِ الجعة."

قال الرجل من خلال الستارة: "هاتِ لنا دوس سيرفيزا."

"كأسان كبيران؟" سألتِ امرأةٌ عند المدخل.

"نعم. اثنان كبيران."

أحضرت المرأة كأسين من الجعة وصحنين صغيرين من اللِّباد. ووضعت صحنيِ اللّباد وكوبَيِ الجعةَ على الطاولة، ونظرت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تنظر بعيدًا إلى خط التلال. كانت

بيضاءَ تحت أشعة الشمس وكان الريفُ بُنيَّ اللون جافًّا.

قالت: "إنها تشبه الفيلةَ البيضاء".

شرب الرجل الجعة: "لم أرَ فيلًا أبيضَ من قبل".

"لا، ما كان ليتسنّى لك أن تراه."

قال الرجل: "ربما أكون قد رأيته". "مجرُّد قولِك إنه ما كان ليتسنّى لي أن أراه لا يثبت شيئًا."

نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية قائلةً: "لقد رسموا عليها شيئًا. ما هو؟"

"أنيس ديل تورو. إنه مشروب."

"أيمكننا أن نُجرّبه؟"

نادى الرجل من خلال الستارة "اسمعي." خرجت المرأة من الحانة.

"أربعُ ريالات."

"نريد كأسين من الـ أنيس ديل تورو."

"مع الماء؟"

"هل تريدينه بالماء؟"

قالت الفتاة: "لا أدري. هل هو جيد بالماء؟"

"نعم جيد."

"إذن تريدانه بالماء؟" سألت المرأة.

"نعم بالماء."

قالت الفتاة: "يبدو كأنه صوت قطار."

في الخارج، سمع الرجل ضجيجَ القطار وهو يقترب. أحضرتِ المرأةُ الـ أنيس، وأخرج الرجل صحيفةً من جيبه وراح يقرأ.

ارتشفت الفتاةُ الـ أنيسَ ونظرت إلى التلال قائلةً: "إنها تلالٌ جميلة. حقًّا إنها لا تشبه الفِيَلةَ  البيضاء. ما كنت أشير إليه هو لون قشرتها من خلال الأشجار."

"هل نطلب المزيد من المشروب؟"

"لا بأس."

دفعت الريحُ الدافئةُ الستارةَ الخرزيةَ إلى الطاولة.

قال الرجل: "الجعةُ لذيذة ومنعشة"

قالت الفتاة: "رائعة"

قال الرجل: "إنها حقًا عمليةٌ بسيطةٌ للغاية يا جيغ". "الحقيقة هي ليست عملية على الإطلاق."

نظرت الفتاة إلى الأرض التي كانت أرجل الطاولة مستقرةً عليها.

"أعلم أنك لن تمانعي في ذلك يا جيغ. إنها في الحقيقة ليست بشيء. بل هي إدخال الهواء ".

لم تقل الفتاة شيئا.

"سأذهب معكِ وأظلّ إلى جانبك طوال الوقت. كل ما يفعلونه هو أن يجعلوا الهواء يدخل وبعد ذلك سيكون كلُّ شيء طبيعيًا تمامًا."

"ثُمّ ماذا نفعلُ بعد ذلك؟"

"سنكون على ما يرام بعد ذلك. تمامًا كما كنا من قبل."

"ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟"

"هذا هو الشيء الوحيد الذي يزعِجُنا. إنه الشيء الوحيد الذي جعلنا تعساء." نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية، ومدت يدها وأمسكت بخيطين من خيوط الخرز.

"وأنت تعتقد أننا سنكون على ما يرام وسنكون سعداء."

"أعلم أننا سنكون كذلك. لا داعي لأن تشعري بالخوف."

***

.............................

* نشرت قصة همنغواي " تلال تشبهُ الفيلةَ البيضاء" عام 1927 في مجلة "ترانزشن." ثم نُشرت في نفس العام في مجموعة همنغواي القصصية "رجال بلا نساء." والقصة تدور حول شاب أميركي يحاول أن يقنع صديقته بإجهاض حملها، وذلك في زمنٍ كان فيه مجرد الخوض في موضوع الإجهاض من المحرمات.

نبذة عن الكاتب:

ولد الروائي الأميركي إرنست همنغواي في بلدة أوك بارك بولاية إلينوي عام 1899. بدأ حياته كاتبًا في إحدى الصحف في كانساس سيتي وهو في سن السابعة عشرة. وبعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، تطوّع للانضمام إلى وحدة إسعاف في الجيش الإيطالي. لكنه أصيب أثناء خدمته في الجبهة، ما اضطره إلى أن يمضى وقتًا طويلاً في المستشفيات. بعد عودته إلى الولايات المتحدة، عمل مراسلًا للصحف الكندية والأمريكية. ولم يلبث أن عاد إلى أوروبا لتغطية بعض الأحداث، كالثورة اليونانية. خلال العشرينيات من القرن الماضي، انتسب إلى جماعة المغتربين الأميركيين في باريس. وقد تحدث عن هذه الجماعة في روايته "الشمس تشرق أيضًا" (1926). كذلك استوحى من الحرب روايته "وداعًا للسلاح" (1929)، التي تدور حول خيبة أملِ ضابطِ إسعاف أميركي في الحرب وهروبه منها. وبالمثل، استخدم همنغواي خبرته كمراسل خلال الحرب الأهلية في إسبانيا في روايته "لمن تقرع الأجراس" (1940). أما أعماله اللاحقة، فقد كان من أبرزها الرواية القصيرة "الشيخ والبحر" (1952)، التي تدور حول رحلة صياد عجوز وصراعه الطويل مع البحر ومع سمكةٍ ضخمةٍ تمكن من صيدها، لكن أسماك القرش نهشتها ولم تُبقِ منها إلا هيكلها العظمي، الذي يعود به إلى الشاطىء منتصرًا ومهزومًا في الوقت عينه.

أما قصصه القصيرة فقد تميّزت بالمباشرة، والحواره المقتصد والميل إلى استخدام العبارات التي تُقلل من أهمية الموضوع الذي يطرحه. وقد صدرت له ستُّ مجموعات من القصص القصيرة، منها "رجال بلا نساء" (1927) و "الطابور الخامس والأسلوب لقصص التسع والأربعون الأولى" (1938).

في عام 1954 مُنح همنغواي جائزة نوبل للأدب، وذلك استناده إلى تميزه في في فن السرد، والذي تجلى في روايته "الشيخ والبحر"ولتأثيره الكبير في ألأسلوب الأدبي المعاصر.

كان همنغواي مصابًا بداء ترسب الأصبغة الدموية، والذي كان وراثيًّا على ما يبدو. وقبل وفاته ببضعة شهور انتابته حالة من الاكتئاب والوهم وأُدخل المستشفى مرتين ليخضع للعلاج النفسي. لكن حالته ازدادت سوءًا ولم يعد قادرًا على الكتابة. وقد حاول الانتحار أكثر من مرة لولا أن من كانوا حوله منعوه. وفي الختام أطلق النار على رأسه وتوفي في ولاية ايداهو في الثاني من تموز/ يوليو، عام 1961.

ليو تولستوي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

جاء عيد الفصح مبكرًا وقد انتهى وقت التزلج للتو، والثلجُ ما يزال يتساقط في الساحات، والمياهُ تجرى في جداولَ في أنحاء القرية. ومن بين كومة من الروثِ بين ساحتين امتلأت بركةٌ كبيرةٌ بالماء. حضرتْ إلى البركة بنتان من بيتين مختلفين - إحداهما أصغر والأخرى أكبر منها بقليل. كانت والدتاهما قد ألبستاهما فستانين جديدين، فستانًا أزرقَ للبنت الصغيرة، وفستانًا أصفرَ للأكبر سنًّا. وكلٌّ منهما ترتدي وشاحًا أحمرَ على رأسها. بعد القُدّاس، حضرتِ البنتان إلى البركة، وأرَتْ كلٌّ منهما فستانَها للأخرى ثم بدأتا تلعبان. وأرادتا أن تترششّا بالماء. دخلت الصغيرةُ في البركة بحذائها، فقالت الكبرى: "لا تدخلي يا ملاشا، ستوبخُك أمُّك. دعيني أخلع الحذاء وافعلي الشيء نفسه."

خلعت البنتان حذائيهما ورفعتا تنورتيهما وعبرتْ كلٌّ منهما البركةَ باتجاه الأخرى. نزلت مالاشكا حتى كاحليها. قالت: "إنها عميقة يا أكولجوشكا. أنا خائفة."

قالت الأخرى: "لا عليكِ! ليست أعمقَ من ذلك. تقدمي نحوي مباشرة."

اقتربت كلٌّ منهما من الأخرى. قالت أكولكا: "احرصي يا ملاشا، لا ترشي المياه، بل سيري بحذر."

وما أن قالت ذلك حتى ضربت مالاشكا بقدمها فوق الماء فتناثر على فستان أكولكا مباشرةً. أصاب الرذاذُ الفستانَ ووصل بعضُه إلى أنفِها وعينيها. رأت أكولكا بُقَعًا على فستانها، فغضبتْ من مالاشكا ووبختها، وراحت تجري وراءها تريد أن تصفعَها. شعرت مالاشكا بالخوف حين رأتْ أنها تسببتْ في مشكلة، فوثبتْ خارجةً من البركة، وركضتْ إلى بيتِها. مرّتْ والدةُ أكولكا، ورأت فستانَ ابنتها مُلطخًا وقميصُها متّسخًا.

"أيتها البنتُ الشقية، أين وسّختِ نفسك؟"

"مالاشكا رشّتني، عن عمد."

أمسكتْ والدةُ أكولكا بمالاشكا وصفعتْها على مؤخرة رأسها. صرختْ مالاشكا وسُمِع صوتها على امتداد الشارع. فخرجت والدة مالاشكا.

"لِمَ تضربين ابنتي؟" وشرعتْ في توبيخ جارتِها. وكلمةٌ من هنا وكلمةٌ من هناك، وتشاجرتِ المرأتان. وثب الرجالُ وتجمّع عددٌ كبيرٌ منهم في الشارع. الجميع يصرخون، لا أحدَ يصغي إلى أحد. تشاجروا وتشاجروا، ودفع بعضُهم بعضًا. وأوشك العراكُ أن يقعَ بينهم. لكنّ امرأةً عجوزًا، هي جدةُ أكولكا، تدخّلتْ. دخلتْ بين الرجال وبدأت تقنِعهم.

- ما الذي تفعلونه يا أحبائي في مثل هذه الأيام؟ علينا أن نبتهجَ، لكنكم بدأتم بخطيئةٍ كبيرة.

لم يُصغوا إلى المرأة العجوز، بل كادوا أن يوقعوها أرضًا. لم تستطعِ العجوزُ أن تُثنيَهم لولا أكولكا ومالاشكا. فبينما كانت المرأتان تتبادلان اللعناتِ فيما بينها، كانت أكولكا قد مسحتِ الوحلَ عن فستانها وخرجتْ عائدةً إلى الطريق الذي تتوسطُهُ البِركةُ، والتقطتْ حجرًا وراحت تكشطُ الأرض لتسمح المياه أن تتسرب إلى الطريق. وأثناء قيامها بعملية الكشط، ظهرتْ مالاشكا وبدأت تساعدُها، وقامتْ أيضًا بحفر قناةٍ بقطعةٍ صغيرة من الخشب.

كان الرجالُ قد دخلوا في عراك بينما كانت المياهُ تجري في الأخدود بجوار الشارع، وتصبُّ في الجدول. وضعتِ البنتان القطعةَ الخشبيةَ في الماء. حملَها التيارُ عبر الشارع إلى المكان الذي كانت فيه المرأة العجوز تُفرّق الرجال. البنتان تركضان، واحدةٌ على أحد جانبيْ الجدول والأخرى على الجانب الآخر.

تصرخ أكولكا: أمسكي بها يا ملاشا، أمسكي بها! تريد ملاشا أيضًا أن تقول شيئًا، لكنها لا تقدرُ أن تُمسك عن الضحك.

وهكذا تجري البنتان وتضحكان على شريحةِ الخشب وهي تغوص في الجدول. جَرَتا وسط الرجال مباشرة. رأتهما العجوز فقالت للرجال:

- خافوا الله، أيها الرجال، تسعون إلى العراك بسبب هاتين البنتين وقد نسيتا كل شيء منذ وقت طويل، وها هما تُحبّان بعضهما بعضًا، مباركتان تلعبان. إنهما أكثرُ منكم حكمةً!

نظر الرجال إلى البنتين وشعروا بالإحراج. لكنهم بعد ذلك ضحكوا من أنفسهم وعادوا إلى بيوتهم.

"ما لم تَغْدوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت الله."

***

...................

ليو تولستوي: كاتب وفيلسوف روسيّ، ولد في 9 سبتمبر 1828، في قريةِ ياسنايا بوليانا، في مقاطعة تولا لعائلةٍ أرستقراطية. وكان الرابعَ بين خمسةِ أطفال. مات والداه عندما كان صغيرًا، وربته عمته وجدته. تلقى تعليمه في المنزل على يد مدرسين فرنسيين وألمان، ثم درس القانون واللغات في جامعة قازان.

في عام 1851، انضم تولستوي إلى الجيش الروسي وخدم في القوقاز لعدة أعوام. وخلال تلك الفترة، بدأ بكتابةِ ونشرِ أوّل أعماله، "الطفولة" (1952)852. في عام 1855، ترك الجيشَ وعاد إلى ياسنايا بوليانا، حيث بدأ في التركيز على الكتابة.

كتب تولستوي العديد من الروايات، مثل "الحرب والسلام" و"آنّا كارينينا"، اللتين تُعدّان من أمهات الأعمال الأدبية وتحظيان بإعجاب كبير نظرًا لما تتميزان به من العمق النفسي وتحفلان به من شخصيات حيّة وتسوقانه من تعليقاتٍ ثاقبةٍ حول القضايا الاجتماعية.

بالإضافة إلى كتاباته، كان تولستوي مُفكرًا اجتماعيًا وسياسيًا بارزًا. وقد تأثر كثيرًا بمعتقداته المسيحية وغدا مسالمًا وفوضويًا في آنٍ معًا في وقت لاحق من حياته. وكان يؤمن بالمقاومة السلمية الخالية من العنف. فغدا مصدرَ إلهام لبعض الشخصيات مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ جونيور.

اتسمت حياة تولستوي الشخصية بالاضطراب والصراع. فقد كانت علاقته بزوجته غير مستقرّة، وزادت تدهورًا على مَرِّ السنين. كما عانى طويلًا من الاكتئاب والأزمات الروحية. لكنه على الرغم من هذه التحديات، ظلّ كاتبًا ومفكرًا غزيرَ الإنتاج حتى وفاته في 20 نوفمبر 1910، في بلدة أستابوفو الروسية، التي تحمل اليوم اسمه.

كتب ليو تولستوي العديد من الأعمال المؤثرة على مدار حياته المهنية. ومن أهمها:

- "الحرب والسلام" (1869): تعتبر هذه الرواية الملحمية من روائع تولستوي وواحدةً من أعظم الأعمال الأدبية. وهي بمثابة تسجيل تاريخي عن روسيا إبّان الحروب النابليونية، وتدور حول والحب والأسرة والجوانب الإنسانية.

- "آنا كارِنينا" (1877): روايةٌ كلاسيكية أخرى لتولستوي، وهي قصة مأساوية عن الحب والعلاقة خارج مؤسسة الزواج، وتدور أحداثها في روسيا في القرن التاسع عشر.

- "موت إيفان إيليتش" (1886): رواية تستكشف مفهومَ الفناء ومعنى الحياة من خلال تَتَبُّع حياةِ وموتِ بيروقراطي في منتصف العمر يدرك بعد فوات الأوان أنه أضاع حياته في السعي إلى الثراء المادي والمركز الاجتماعي.

- "بعث" (1899): تتناول هذه الرواية قصة رجل ثري يقيم علاقةٍ مع امرأة ثم يهجرها، ليعود ويلتقيها أثناء عمله عضوًا في هيئة محلفين. ويسعى إلى الخلاص من خلال مساعدتها، كما تتناول الرواية فساد وظلم النظام القانوني الروسي.

- "اعتراف" (1882): عمل يتناول أزمة تولستوي الروحية وبحثه عن معنى في الحياة.

 

فريدريك: مقتطفات من رواية الهروب (2)

مقتطفات من الفصل الثاني من رواية "الهروب"

بقلم: عبد الرزاق قرنح

ترجمة: صالح الرزوق

***

انحسرت النسمات بعد هبوط الليل، ولكنها كانت قد عملت عملها، وأصبح الهواء خانقا ورطبا. تحتهم كان البحر يجري باتجاه الخليج ويقفز بموجات مرتفعة. قال فريدريك:"هل كنت في سيشيل؟". أضاف ضاحكا:"كلماتك الأولى طريفة. قلت ذلك حينما أفقت. هل تتذكر؟". قال بيرس بتعب باسما:"نعم، وأنت قلت لم يحالفك الحظ".

"فعلا. لم يحالفني. هل شاهدت تلك الموجات في البحر؟ لا يوجد حيد في الخليج، وهذا شيء غريب في هذه الأنحاء. فالنهر يصب على بعد أميال شمالا. لا شيء يفصلنا عن سيشيل من جهة الشرق. وهناك يبدأ المد. وسمعت أنه مكان لم تخربه يد البشر، رغم الفرنسيين والمبشرين، يشبه جنة بحر الجنوب. هل ذهبت إلى هناك؟".

قال بيرس:"كلا".

قال فريدريك متعجبا: "أفوكادو البحر. تبدو لي مقرفة. فهي ثمرة تشبه ثقب المرأة. لا يكتشف الفرنسيون غير جزر تستحي من غطائها النباتي. حسنا، ربما هم لم يكتشفوها، وكان علينا أن نقوم بذلك. ولكن تأكد أنه ما أن تشاهد الفواكه التي تنتجها الجزيرة، حتى تدرك أنها تدعوك لوضع عصا الترحال". 

أعاد فريدريك ملء كأسه ونظر إلى بيرس. كانت إشارة مهذبة، لأنه لن يسمح له بالشراب حتى لو طلبه. كان بيرس يستلقي في متكئه، وبالضوء المشع المنبعث عن مصباح الكيروسين لم يكن فريدريك متأكدا إن استلقى مجددا.

قال بيرس بصوت هادئ:"جميل جدا. البحر".

قال فريدريك:" هذا هو البحر. لا شيء أمامه لمسافة ألف ميل، كما تعلم، حتى تبلغ سيشيل التي تسعى وراءها. والبحر طيب المعشر. ذلك هو المحيط الهندي الذي جربته، على الأقل هذا الجزء منه، يشبه بركة بالمقارنة مع وحشية الأطلسي. وهو عنيف حتى تبلغ الشمال الشرقي، فيهدأ حوالي تشرين الثاني أو ما شابه. ثم يكون الرسو عديم النفع كما سمعت. هذا قبل أن أحضر. وحتى الآن الرياح قاسية جدا في بعض الأوقات. كنت بالخدمة في الشهور الأربع الماضية، ولكن نعم، البحر، أفضل شيء في هذا الموضع. ولا شيء غيره يهم عمليا. الأرض ليست رديئة ولكنها كثيرة الرمل وسطحية، المطر مناسب، غير أنه لا يوجد بشر للعمل كما يجب. ولا تستطيع أن تجبرهم على الاجتهاد والكد. والسبب هو العبودية. العبودية والمرض أنهكا قواهم، وبالأخص العبودية. تعلموا من الرق الكسل والمماطلة، والآن لا يتقبلون فكرة الجد والعمل ولا المسؤولية، حتى لو لقاء أجر. العمل الوحيد في هذه البلدة مجرد رجال يجلسون تحت شجرة بانتظار نضج المانغو. انظر ما أنجزت مزرعة الشركة. نتائج عجيبة. محاصيل جديدة، ري، دورة زراعية، ولكن عليهم حض الناس على تغيير طريقة تفكيرهم ليصلوا للهدف المرجو. نحن بحاجة لمزارع بريطانية في هذه الأنحاء، وأعتقد لن يمر وقت طويل قبل أن تظهر. وليس لدى ملاك الأراضي العرب من خيار غير البيع عما قريب".

قال بيرس:"نعم".

رشف فريدريك شرابه وامتص سيجاره بصمت، وحينما زمجر بيرس قليلا، خمن أنه يطلب منه المتابعة. قال:"كانت البلدة تقريبا مهجورة لقرن أو ما شابه بعد أن بنى البرتغاليون قلعة عيسى ونقلوا كل شيء إلى مومباسا. لو فكرت بالأمر جيدا هو نكران للجميل. بعد أربعين عاما طرأت للسلطان ماجد سيد زنجبار، فكرة رائعة، لإحياء البلدة بشكل مستعمرة زراعية. نظريا كان يحكم كل الشريط الساحلي. ولذلك أرسل أعرابه ومرتزقة جيش البلوشي التابع له مع ألوف من العبيد. وكان حصاد أول عشر سنين ممتازا. فأرسل المزيد من العبيد، وبدأ السكان المحليون يغزون القبائل المجاورة لكسب المزيد. وازدهرت البلدة مجددا وجنت ثروات هائلة. ثم جاء شيوخ المذهب وانغمسوا بالتجارة، وأنت تعلم أنني أقول باستمرار: إن رأيت تاجرا هنديا يعمل، عليك أن تتأكد أنه يوجد فرصة أن تجني قرشا أو اثنين. رسخ الهنود أقدامهم هنا لفترة طويلة، أو أنهم على الأقل كانوا متواجدين حينما جاء البرتغاليون ليغرسوا صليبهم في الأرض. ويقال إن القبطان دو غاما، اختار الإبحار من هنا إلى كالكوت، وهو بحار هندي. ويمكنني تصديق هذا. وعلى الأرجح كان عبدا هنديا.  كل شيء أنجزه العبيد. حتى أن العبيد كان تحت أمرتهم عبيد. وخلال هذه السنوات وضعت الشركة خططها وباشرت العمل. والجميع يقولون إنه لم يتوفر للشركة فرصة، ولا أفترض أن ماكينون وجماعته نظروا إلى المسألة بهذا الوضوح. وبالتأكيد هي ليست على تلك الصورة بنظر سلطان زنجبار. ولا أعتقد أن السلطان آنذاك هو ماجد. والحقيقة أنا مقتنع أنه ليس هو. وربما هو بارغاش، أو الأقرب للاحتمال من أتى بعده، وهو المجنون، محمود، واحد من تلك الشريحة. وهو، أيا من كان، استفاد على ما يبدو من وسائل وعلوم البريطانيين، وطلب من الشركة - أو من شخص آخر أوكله بالمهمة - لإرسال أحد مدرائهم للإشراف على هذه المزارع. وكان ذلك خطأ مزعجا.  أرسلت الشركة سيدا يدعى تينكل - سميث، اسم غريب، وعمد مباشرة لتحرير كافة عبيد  المزرعة، ثم وظف كل من يرغب بالعمل لقاء أجر متفق عليه. وحدد ثمن تحرير كل منهم، وقدم لاحقا لمن يريد العمل في مزارع الشركة قرضا يعادل الثمن المطلوب. واعتبر بقية العبيد في المزارع الأخرى أن ذلك إشارة، وقام معظمهم بالهروب، مبدين كراهيتهم للعمل. وأسرعوا جميعا إلى الداخل طمعا بعطلة، عوضا عن قبول العمل مع الشركة. وفي هذا الوقت حتى العبيد علموا أن حكم السلطان نظري، ولا يزيد على مسافة عشرة أميال، فقد تعاهد الألمان والإنكليز على تقاسم المكان بينهما. وكل ما توجب عليهم هو التوغل لمسافة عشرة أميال لينعموا بالحرية. والنتيجة.. العرب المدقعون. جرى ذلك قبل عدة أعوام فقط، ثمانية أو تسعة، وتستطيع أن ترى المزارع المنهكة حاليا لو نظرت حولك. ولكن الهاربين يعودون ونحن نوطنهم في أراضي العرب المهجورة جنوب المدينة قليلا. وتسبب ذلك بالمشاكل، غير أنه ليس بيد العرب شيء سوى الدمدمة والرحيل إلى مومباسا. حسنا، كل شيء كتبت له نهاية سريعة في كل حال، بمجرد الإعلان عن المحمية عام 95'. آه يا عزيزي، أرى أنك تغفو".

أنهى فريدريك كلامه، حين سمع بيرس يشخر بهدوء. صب لنفسه كأسا آخر وأعاد إشعال سيجاره. سيمنحه عدة دقائق ثم يوقظه. فالبعوض سيذبحه إن تركه نائما على الشرفة. لكن ربما اعتاد عليها، البعوض والخنافس والثعابين. خمن أن لدى بيرس شيئا مشينا سيخبره به. لا أحد يسافر وحيدا هكذا، ما لم يكن في بعثة، وحتى في هذه الحالة يرافقه حارس أو اثنان. فقد يتعرض للسرقة أو يتخلى عنه مرافقوه. في كل الحالات كان عليه أن يعترف الآن بشيء، أن يقر بشيء ما. عاد فريدريك إلى بيت دوكا والله مع خادمه هامس ليترجم له، واستجوب الرجل، ثم رفع صوته بالتأنيب والتقريع، ولكن الحانوتي دوكا والله المتين البنيان أكد بعناد وفي النهاية متشكيا ودامع العينين أنه وجد بيرس فارغ اليدين. ورسخ في ذهنه أن لذلك سببا، وأن بيرس يخبئ شيئا ما سيتضح بعد زوال التعب والإنهاك. وهذا لا يعني أنه ليس مرهقا، وهو أمر واضح لا تخطئه العين. فقد استيقظ قليلا من نوم استغرق يوما كاملا، وعاد لغفوته سريعا. ولم يمكنه أن يأكل غير ملاعق قليلة من الحساء الذي جهزه له الطاهي. ولعل فريدريك لاحظ أنه غير نائم تماما حتى وهو يشخر بهدوء هناك إلى جانبه على الشرفة.

وتبادر لذهنه أنه طرد من البعثة بسبب تصرف طائش، وسيضطر للاعتراف والكلام عن الموضوع. نظر إلى بيرس الذي بجانبه، وكان منكفئا وغامضا في ضوء المصباح. كانت له نظرة متماسكة، وهي ليست نتيجة وضعه الحالي، ولكن من خصاله الشخصية، شيء له علاقة بالعمل والمبادئ. سكب فريدريك لنفسه شرابا أخيرا وحذر نفسه أن لا يستسلم لشكوكه. همس لنفسه مبتسما:"تماسك أيها الشاب. لا تدع الشراب يجرفك معه. ربما هذا رجل عائد من ظرف طارئ، من صدفة سامية، ولكنها لا تستطيع أن تكشف نفسها للعيان".

كان فريدريك عند الطاولة في منتصف الصباح حينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال المجاورة لغرفة المكتب. كانت أبواب كل الغرف مفتوحة بناء على تعليماته، للتهوية والاحتفاظ ببرودة جو البيت في الصباح. وفي ما بعد الظهيرة تغلق أغطية النوافذ في مقدمة البيت وكذلك تخفض واقيات الشرفة لحمايتها من الشمس. كان فريدريك يتابع تفاصيل بيته بحذافيرها. وكان يحب ذلك، وكرر الكلمة على مسامع نفسه بالحرف الواحد، مؤكدا على كل نبرة بنغمة ساخرة. بحذافيرها. ولذلك كون فكرة وافية عما اشتراه للدكان، وما تم استهلاكه، ومقدار التساهل بالغش. كان يعبئ الساعات بذاته مرة في الأسبوع، ويتأكد أنها كلها تدل على نفس التوقيت. ويفحص كثافة الحليب بين حين وآخر ثم يتأكد أن كامبي الحلاب لم يخلطه بكثير من الماء. كان يحب أن يعرف عماله أنه يحدد لكل منهم عملا دقيقا، وأنه مهتم بأدائهم، ويتوقع منهم أن يحترموا رأيه. لذلك حذر هامس من أن يسمح لأي ضيف إضافي بتناول الغداء إذا ظهر بورتون، وسمع صوت هامس وهو يذهب إلى غرفة بيرس في الثامنة صباحا مع كوب شاي، حسب تعليماته. وحينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال، نحى التقرير الخاص بضرائب العام الماضي والذي كان يعمل عليه وخرج ليحييه. ورآه واقفا على الشرفة، يميل على دعامة في الزاوية في ضوء شمس الصباح المتأخر. كان يرتدي أحد قمصان وسراويل فريدريك، ولم يكن المقاس مناسبا له. كان القميص كبيرا جدا والسروال قصيرا بمقدار ثلاث أو أربع بوصات. وبدا له بمظهر حارس شاطئ كسول ومثقف،  أحد شخصيات ر. ل. ستيفنسون في خرائب بحر الجنوب، ولا سيما بالقدمين الحافيتين واللحية المشعثة. وابتسم لهذه الفكرة، فقد كانت مناسبة له، شيء له علاقة بهيئة بيرس وليس بالثياب، شيء من التراخي أو الاستعراض، نوع من الخصال الذاتية.

قال فريدريك:"ما كان عليك أن تقف  في الشمس كما تعلم. ليس بعد ضربة الشمس أو أي شيء آخر أصابك هناك".

قال بيرس:"آسف". وأطاعه بالابتعاد. أضاف:"هل أزعجتك؟ رجاء لا تقاطع عملك".

قال فريدريك:"يسعدني هذا الإزعاج". وأهاب ببيرس أن يلجأ إلى الداخل البارد. تابع:"أنا أكتب تقريرا عن ضرائب اللوازم لهذا العام، وأقارن الأرقام بالسنة السابقة، إحصائيات إمبراطورية هامة ولكنها تذهب باتجاه بليد. بالعادة أهتم قليلا في هذا الوقت من الصباح. هل تنضم لي لنشرب كوب قهوة أو نأكل بعض الفواكه؟ القهوة هنا لذيذة، وهامس يحمصها بمحبة ويطحنها يوميا. وهي ليست حبات بن متقنة جدا، ولكنها ذات نكهة قوية".

قال بيرس: "نعم. هذا لطيف منك فعلا. أساسا رائحة القهوة أتت بي إلى هنا".

"ممتاز. سيباشر هامس حالا. كيف تشعر؟ تبدو أفضل، وأعتقد أنك جاهز لبعض حساء الطاهي".

قال بيرس وهو يمسد لحيته:"أنا أفضل كثيرا".

قال فريدريك مبتسما:"سنرسل هامس ليأتي بالحلاق، هل توافق؟. أم أنك تريد لحية كثيفة".

"كلا، كلا. تركتها تطول حينما شرعت بالرحلة، لأتجنب مشكلة حلاقتها يوميا. نعم، سأنادي الحلاق من فضلك".

انتظر فريدريك. وتلك اللحظة كانت مناسبة لبيرس ليروي قصته، ولكنه لم يبدأها، فابتسم فريدريك سرا لنفسه. وقرر أن يحفزه. وكان جاهزا ليسمع كل شيء.

قال فريدريك:"أخشى أنني لم أتمكن من تحديد مكان أشيائك. رجعت إلى دوكا والله وسألته بعزم عنها، لكنه لم يقر. هل تتذكر ما هي؟ وربما لا تزال لدينا فرصة لاستخلاص الحقيقة منه".

نفض بيرس رأسه بتعب. قال:"لم يكن هناك شيء. استولى الدليل وجماعته على الموجود، كل شيء. وناقشوا الموضوع فيما بينهم هل يفعلونها أم لا. وحزرت ذلك في كل حال. شعرت بالتعب. ولم أهجع بسبب القلق. ثم في آخر ليلة قبل أن يتركوني، نمت نوما عميقا فاستولوا على بندقيتي. وسمعتهم يتنازعون فيما بينهم، فاستيقظت. كان أحدهم جالسا قربي والبارودة موجهة إلى رأسي. وأجبروني على الاستلقاء ووجهي نحو الأرض، ثم خلعوا حذائي وحزامي واستولوا عليهما. وتركوا لي جراب ماء وحقيبة من الفواكه المجففة. آه، كساء وصندل. سمعت صوت ابتعادهم، وهم يتجادلون فيما بينهم. وكانوا يتناقشون هل يقتلونني أم يسرقونني فقط. أحدهم أراد ذلك، أن يقتلني، ليرتاح، والبقية عارضوا كلامه. وربما لا زالوا يتناقشون حول الحكمة من وراء تركي حيا".

قال فريدريك:" اللعنة على هؤلاء الصعاليك. لكن يجب أن أقر أنك بأعصاب فولاذية. لو أنا لثارت ثائرتي. أين حصل ذلك بالضبط؟ بأي اتجاه كنت ذاهبا؟".

ارتجف بيرس وقال:"هذا الاتجاه. كنا بطريقنا إلى هنا. وبعد أن غادروا توجهت إلى الجنوب. تركت قافلة متجهة إلى الجنوب الغربي، نحو أوغندا، كما تعلم. وكان يتوجب على ثلاثة أشخاص أن يقودوني إلى الساحل الشرقي، ولكن أعتقد أنهم لم يشاؤوا المجيء إلى هنا لسبب ما، أو أنهم فضلوا مكانا آخر. عموما لا يمكنني القتل مجددا".

قال فريدريك بحدة:"قتل".

قال بيرس:"قافلة الصيد. شيء هام حقا. ثلاثة سادة إنكليز، أحدهم مع خادمه الإنكليزي، وصياد أبيض ليعتني بالترتيبات. والصياد الأبيض رتب كل شيء، الجمال، والمستكشفين، والمؤونة، مثل قائد غاضب معظم الوقت".

صمت بيرس لحظة، تنفس بعمق، وجمع قواه وقال:"السيد توملينسون. جلس وحده في خيمته في المساء يخط بسرعة، ويكتب ذكرياته في مفكرة، دون شك. وكان السادة يضعونه في مواقف تثير السخرية، يدفعونه للجنون بتلميحاتهم وشكاياتهم. قابلت أحد هؤلاء السادة في عدن. كان اسمه ويثريل. ولا أعلم إن كنت تعرفه، فقد كان في الهند. وهو شديد الثراء". صمت بيرس مجددا بسبب انقطاع أنفاسه. وحينما تابع تكلم ببطء، على مراحل. قال:"كنت أتنقل في الحبشة لأربعة شهور وكان ويثريل مهتما جدا بمعرفة ذلك. وأراد أن يعلم إذا كنا سنتوغل هناك بينما ميلينيك يلاحق الإيطاليين ويطردهم. هو رجل فضولي رغم مهاراته في الصيد والركوب، ولديه خبرات ثقافية ملحوظة. أراد أن يتكلم عن رامبو، ويسأل هل ذكر اسمه أحد من الأحباش. ثم دعاني للمشاركة برحلته إلى الصومال. ولم أتمكن من المقاومة. كنت أشعر بالتحسن بعد رحلتي السابقة، أنت تعرف يكون هذا الشعور، أنك جاهز دائما. واعتبرني ويثريل ضيفه ولذلك لم أتحمل النفقات. كنت بحاجة من وقتي لثلاثة شهور أو ما يعادلها. ولم يكن هناك سبب ملح للإسراع بالعودة، كما أنني لم أسافر كثيرا في الصومال. فعلا لم أتمكن من مقاومة الإغراء".

قال فريدريك:"وهل قرأ أحد رامبو؟ وهل يقرأه أحد الآن؟ أعتقد أنه معروف في الوقت الحالي بصفة تاجر أسلحة وليس بصفة شاعر". وارتاح للتفاصيل التي ذكرها بيرس، وشعر بتبخر الشبهات التي رافقته في الأمسية السابقة. وحينها وصل هامس وقدم كعكة الأرز والفاكهة والقهوة، ووضع كل شيء على طاولتين صغيرتين أمامهما. وحينما كانا بانتظار أن ينتهي، أنشد فريدريك:

جارية مع السنطور

قابلتها مرة في الرؤيا،

كانت جارية حبشية

وبسنطورها عزفت الأنغام.

سأل فريدريك بعد انصراف هامس:"كم حذرتك من قطاع الطريق الأحباش بينما أنت تعتقد أنهم أخوتك بالدم. ماذا كنت تفعل في الحبشة، هل بمقدوري أن أعلم؟".

اهتم بيرس بكعكة الأرز، وانحنى ليتأملها بعناية، ثم هز كتفيه وقال:" السفر، العمل على كتاب. أنا مؤرخ، شيء من هذا القبيل. في الحقيقة لي الحق في هذه الهواية. أقمت لمدة عام في مصر، وعملت في التعليم. وقطعت وعدا أمام نفسي أن أتجول في الحبشة، فالوقت قد حان لأتابع حياتي. وكنت مهتما دائما بالحبشة، منذ صباي. وأردت أن أرى كيف تبدو، وكيف يكون رنين حروف لغتها".

قال فريدريك:"مستشرق".

ابتسم بيرس. قال:"ربما بعد أن أوسع معارفي".

قال فريدريك:"نعم، تابع من فضلك".

لفت انتباهه تحفظ بيرس حول الحبشة. ربما كان جاسوسا على أعلى المستويات، ويعد تقريرا عن الحبشة لموظف رفيع في وزارة الخارجية. وربما أصاب ويثريل حين اشتبه أننا ننوي الدخول إلى هناك. لكنه لم يكن معجبا بالحبشة.

سأل بيرس :"هل تسمح لي؟". واقتطع شريحة من كعكة الأرز. مضغها ببطء، مستغرقا ما لزمه من وقت، وكان يومئ برأسه متلذذا.

قال: "لذيذة، نكهة واضحة. لها طعم الهال والخميرة. لا يمكن أن تتخيل كيف يبدو ذلك بعد محنتي في الأسابيع القليلة المنصرمة".

صب فريدريك القهوة وانتظر حتى شرب بيرس عدة رشفات. كرر:"تابع من فضلك". ومال إلى الخلف وبالغ بشحذ حواسه ليسمع كلامه.

قال:"ركبنا السفينة من عدن إلى برافا في كانون الأول. واستغرقنا أياما طوالا في الإبحار الممتع، كانت أجمل مرحلة من السفر. الرياح شمالية شرقية مستقرة. ثم تابعنا إلى الصومال مع التيار ودرنا حول القرن. أقمنا في برافا لعدة أيام وانطلقنا إلى ضيف. وهي بلدة يختلط فيها جيش صغير من الرجال والحيوانات، مسلحين كأنهم جاهزون للغزو. واستغرقنا أربع أسابيع نقتل ونذبح في جنوب الصومال. كانت مذبحة تفوق الوصف. نقتل يوميا. أحيانا أربع أو خمس أسود في اليوم، وفهودا وخراتيت ووعولا. وغرقنا جميعا برائحة الدم والأحشاء. واللحوم الميتة والمخابئ الجافة. كان الذباب يحط علينا كما لو أننا جيفة. تناولنا الكثير من اللحوم المتفحمة حتى أن الهواء المختلط بأنفاسنا ومخلفاتنا سبب لنا الغثيان. حينما وصلنا إلى ضيف أخبرت ويثريل أنه لا يمكنني المتابعة. ثار غضبه، وحذا حذوه أصدقاؤه. كانوا في كتيبة فرسان معا وأفترض أنهم اعتبروا أن قراري ليس تصرفا رجوليا. ورفض ويثريل فكرة انسحابي. قال إنني سأواجه المخاطر حتما، وهو غير جاهز للتخلي عن أي رجل لحراستي. وتبدلت الخطة، وتوجه ويثريل مع فريقه إلى أوغندا لصيد الفيلة. كنت أتشاحن مع ويثريل يوميا. هو أيضا لم يشعر أنه بحالة حسنة، لكن رآني أضعف منه. وفي النهاية أقنعته. فقد تابعنا الإطلاق والقتل ونحن بطريقنا نحو الجنوب الغربي حتى وصلنا إلى تانا. وهناك اعتقد ويثريل أنه يستطيع أن يسمح لي بالعودة، أو على الأقل أن أذهب إلى الشاطئ الشرقي. وطلب من الدليل اختيار ثلاثة رجال لمرافقتي. وحالما وصلنا الشاطئ، أجروا حسابهم، ووجدوا أن الخماسين ستهب على الجنوب الغربي  بغضون شهرين، ويصبح بمقدور الرجال العودة إلى برافا. وبعد ذلك أستطيع أن أذهب إلى الشيطان".

قال فريدريك:"نعم، أنت محق. الرياح تبدل هبوبها سريعا كما أرى". وافق بيرس بإيماءة من رأسه. وقال:"لم يكن الحراس المرافقون لي مرتاحين لواجبهم. ولا أعرف لماذا تحديدا. كنت أفهم القليل من اللغة الصومالية، القليل جدا. وتعلمته في الطريق، أنفقت بعض الوقت مع أحد الرجال. كنا نتحاور لساعة أو ساعتين في اليوم، وحينما تكلمت مع رجالي لم يفهموني. ولاحظت الخطر والغدر في وقت مبكر. لكن في الحقيقة لم أتوقع أن يهجروني أو يقتلوني. أخبرني ويثريل أن الاحتمال وارد. فهو يعرف رجاله، وهو من جندهم. غير أن كرامتهم لا تسمح لهم بالخيانة. وعلى الأرجح تأثروا بشيء أقوى من ذلك. خطر متوقع ويخشونه. واضطرارهم للسفر إلى الشاطئ كان أكبر من مشاعر عزتهم وكرامتهم، وبناء على ذلك هجروني قبل أربعة أيام من ظهوري في بلدتك الرائعة".

قال فريدريك:"الصوماليون أكثر المتمردين وضاعة يا عزيزي بيرس. لم يهجروك فقط بل سرقوك وتركوك في الصحراء لتموت. وعليك أن تعتبر أنك محظوظ لوجودك هنا".

قال بيرس: "لا فكرة عندي عن ذلك. أقصد أنهم متمردون أنذال. يوجد من يقسم بشرف الصومالي وتقواه. ويثريل تقريبا قال ذلك. لديهم كلمة شرف أو شيء من هذا النوع. ولكن خذله هؤلاء الرجال البسطاء. وربما ستسوء سمعتهمبين بقية الصوماليين لأنهم هجروني. مع ذلك لم يتركوني في عمق الصحراء كما تعلم..".

سأله فريدريك وهو يباشر بالنهوض من مقعده:"وكيف أنت الآن يا صديقي العزيز بيرس؟". ولاحظ الدموع تنبثق من عينيه وهو يقول:" توقعت أنهم سيقتلونني. هذا ما فكرت به أولا. ثم حين تركوني هناك توقعت أن عابر سبيل سيقتلني، أو سيهاجمني وحش مفترس، أو سألقى حتفي من العطش والتعب. توقعت حدوث أي مصيبة كانت. هذا كل شيء. وتمنيت أن أبقى حيا. نعم. أنا على ما يرام. نعم. أعتبر نفسي حسن الحظ لأنني هنا. وأنت ترى السعادة على وجهي".

قال فريدريك:"وفر على نفسك المزيد من المنغصات يا بيرس. لا شك أنك مرهق جدا".

وسكب له كوب قهوة آخر.

قال:"فعلا. واسمي مارتن. ورجاء نادني به. ويجب أن أشكر من أنقذني".

قال فريدريك:"أنت مارتن منذ الآن". ورفع كوبه ليشرب على شرف صديقه. أضاف:"لكن عليك بالحلاق ثم الغداء وبعض الراحة. لا يوجد ضرورة للعجلة".

***

............................

* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah

كاتب بريطاني من زنجبار. أصوله يمنية. حاز على جائزة نوبل عام 2021.

قصة: سلمى لاغرلوف

ترجمة: فرمز حسين

***

حين دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل قرع أحدهم جرس باب الدكتور. القرعة الأولى لم تعطي نتيجة،لكن مع القرعة الثانية والثالثة بدى أنه أمر هام جداً وخرجت الدكتورة كارين من باب المطبخ لتعرف مالخطب. كارين حاولت دون جدوى معالجة الأمر بنفسها وتأكدت بأنه لابد من ايقاظ الدكتور .

عادت لتطرق على باب غرفة النوم: انه رسول من خطيبتك دكتور، يريدونك في الحال.

هل هي مريضة؟ سمعت الصوت مستفسراً من الداخل؟

لا يعرفون ما الذي ألمَّ بها، يظنون بأنها قد رأت شيئاً ما!

طيب أخبريهم بأنني قادم.

الدكتور لم يسأل شيئاً آخر، لم يكن يريد أن يسمع النمائم عن خطيبته .

شيء غريب عن تلك الخرافة قال في نفسه وهو يرتدي ملابسه . بيتهم هناك في وسط المدينة، خال من أية رومانسية.

بيت عادي جداً، بيت قديم غير جميل، مثله مثل كل البيوت التي في الحي، لكنه مسكون بالأشباح.

لو كان موقع البيت في مدخل مظلم أو على أطراف المدينة بعض الشيء في منطقة مليئة بالأشجار الضخمة، حيث أغصان شجرة قديمة تستطيع أن تضرب زجاج النافذة في ليلة شتائية عاصفة!

لكن في هذا الموقع الذي فيه الآن في هذا الشارع العريض الذي يمتد حتى البحر والميناء ! وفيها الكنيسة ومبنى بنك التوفير والثكنة ومعمل السكر تماماً بمحاذاة البيت!

لم يعتقد أحداً بأن معمل السكر بكل الصخب والحرارة وبتلك الأفران الضخمة التي تغلي كل ذلك سوف تجعل الشبح يرتاح من البقاء هناك. لكن لا، كل شيء بصورة أو بأخرى جعل هذا الشبح يستحق الاعجاب. انها الطاقة تلك الطاقة و القدرة  العجيبة على البقاء حياً في ذاكرة الناس . كانوا يقرّون بأن الشبح لم يظهر لهم على مدى عشرون عاماً منذ أن انتقلت "الآنسات بورمان" إلى غرفة الشبح؟

لكن هل نسي أحداً ؟ فقد ظهر الآن . لذلك مرضت ايلين فجأة . لا بد أنها رأت شيئاً ما. خافت من شيء ما، نعم ليس غريباً أن يكون الأمر كذلك. لربما قد أصبح رؤية الشبح  كا القدر المكتوب لها وهي تعيش كل حياتها مع عمتاها العصبيتين العجوزتين. هناك بالتأكيد شبح في المنزل، كانت دائماً تظن وتعتقد ذلك. لقد كانت حاملة معها هذا الاعتقاد في خيالها منذ نعومة أظافرها. مؤكدُ أنها لم تنسى لأنها كبرت الآن ووصلت سن البلوغ.

أول مرة كان الدكتور في زيارة لهن، قالت له بزهو هذه غرفة الشبح بنبرة صوت وكأنها تشير إلى احدى مقنيات العائلة الثمينة. في هذه الغرفة ممنوع منعاً باتاً لعب الورق، حينها سأل الدكتور لماذأ؟

 لأن بمجرد أن يحتال أحد اللاعبين أو أن يأتي بأدنى مراوغة سوف تظهر له" يد" على الطاولة!

 أية يد؟!

يد عجوزة مصفرّة  في أصابعها المتعرجة خواتم ألماس ثقيلة  ومعصم مغطى بقماش دانتيل أصلي  . طيب وبعد ذلك ! ماذا؟

 فقط لا يمكن رؤية شيئاً سوى اليد.

 لكن كيف بدأت هذه المسألة كلها منذ البداية؟

لا أحد يعلم، كانت دائماً تظهر هنا.

 قالت ذلك بكل برود، لكن من كان يعلم، من كان يعلم؟ لابد انها كانت تؤمن بوجود الشبح.

هكذا يظهر انظر يادكتور انها تظهر خفية من على طرف الطاولة بالقرب ممن يلعب وتشير الى إحدى أوراق اللعب باصبع متعرج ضخم! وأظافر ذي مخالب حادة ملتوية.

لكنها مع ذلك اختارت غرفة الشبح لسكنها .

الدكتور بحث في كل المنطقة بمحاذاة مصنع السكر  حيث كان العمل جار على قدم وساق هناك طوال الليل. على الأقل علينا أن نفرح ولو لمرة واحدة بأن هذ المصنع الكبير المغطى بالدخان موجود هنا!

 كان من السهل الاعتقاد أن يكون إيمانها بوجود الأشباح متأصلاً لو أنها نشأت وترعرعت في مكان ريفي موحش منعزل، لكنها سكنت دائماً وسط هذا الضجيج والصخب .

استدار باتجاه زاوية مصنع السكر،الرياح كانت تهب باتجاهه بشكل عادي طبيعي، ثم استدار الى المنزل.يالطيف انه أيضاً على وشك أن يفزع . هناك في الممر يقف شخص نحيف ملفوف بشال أسود! إنها العمة" مالين" لقد نزلت مستقبلة  لانارة الدرج أمامه.

كيف حال إيلين ؟ سأل الدكتور.

لطفاً منك أنك قدمت الينا بهذه السرعة , قالت العمة مالين . لا أعلم ما الذي ألمّ بها، تعال لتراها بنفسك.

صعدت الدرج شبه راكضة، وهي في ذلك السن الكبير، العمة مالين على الرغم من ذلك وقفت في ذلك البرد في الممر بانتظاره. لقد كانت قلقة وكان تظن بأن خروجها لاستقباله سوف يسرع من أمر وصوله. الدكتور أخذ في حينها انطباعا حياً بأن هناك خطر ما قادم. سيكون من العار أن يحدث مكروه لتلك الشابة التي اختارها لتكون زوجة المستقبل . لم يلتقي طوال حياته بواحدة أفضل منها. معتدلة الجمال ودون أقارب سوى عمتاها العجوزتين. وبطبيعة الحال ذي تربية صارمة وتصلح ربة بيت جيدة وأمينة.

حين وصلا إلى البهو التفتت العمة مالين إليه وقالت: استيقظنا في منتصف الليل على صوتها وهي تصرخ بفزع شديد. ومن حينها لم نتمكن من تهدئة روعها ولم نستدل على فعل شيئ غير الارسال في طلبك لرؤيتها.

فتحت باب غرفة "إيلين" وأدخلت برأسها لتقول لها بأنه قد وصل. بعدها مباشرة دخلا الغرفة .

الداخل كان مضيئاً لتلك الدرجة التي كان صعباً عليه أن يرى شيئاً للوهلة الأولى. كانوا بالتاكيد قد أخذوا جميع المصابيح التي في البيت إلى تلك الغرفة. لم يستاء من ذلك وهو ينظر إلى تلك المرايا الجدارية الكبيرة المعلقة بين النوافذة والتي كانت ايلين قد اقتنتهم . ذلك الأثاث الأبيض القديم،تلك الاضاءة كانت توحي بأن هذه الغرفة كان يوماً ما صالة للاحتفال، حين كان هذا البيت في أوج أيامها الخوالي البراقة .

على طاولة  اللعب هذه كانوا يجلسون أيام زمان، بيت عريق كان هذا السكن، هناك كان يقيم علية القوم وكانت السعادة تعمّ المكان، رجال الحاشية كانوا يقفون خلف مقاعد السيدات اللواتي تثرثر بجنون والخدم تجوب المكان ويقدِّمون حليب اللوز على أطباق فضية. حينها كانت يد الشبح تُظهر نفسها . لابد أن ذلك كان مثيراً للعجب والدهشة. السيدات تصرخ على الرجال الذين يغادرون الطاولة بصمت.

الأطباق الفضية تسقط من بين أيادي الخدم على الأرض. الرعب من قدرات خارقة فوق الطبيعية يرتسم على جميع الوجوه. هيئة الأشباح تغطي ملامحهم وكأنهم أشباه مجانين. لكي نتخيل منظرهم حينها، كاف أن ننظر الآن إلى وجه خطيبته!

كانت جالسة في منتصف الغرفة في المقعد الخشبي . متصلبة تماماً في جلستها نظرت فيما حولها بنظرات غريبة، كانت شاحبة مصفرّة الملامح وكأنه وجه شخص ميت. ترتعش وترتجف وأسنانها تصطك ببعضها. 

الكرسي كان قد نُقِلَ إلى منتصف الغرفة .كرسي مكشوف لا أثاث محيط به ولا شيء يمكن أن يختبئ تحته ومن ثم يظهر للعيان فجأة.

لم تنتبه عليهما حين دخلا الغرفة كانت تنظر في اتجاه ثابت تماماً باتجاه ظل الخزانة الذي امتد متجاوزاً الزاوية التي فيها المدفأة . كانت تعتقد بأن الظل يخبئ لها مفاجأة مروعة. رفعت ثوبها إلى صدرها وكأنها تتأهب للهروب اذا تقلص الظل وظهر كشئء آخر، ربما يداً كبيرة بأصابع وأظافر كالمخالب .

 حينها نقل الدكتور المصباح ليضيء زاوية الظل تلك  فخارت مرة أخرى في مقعدها.

الآن جاءة العمة" بيرتا " ورددت القصة نفسها التي قالتها العمة "مالين".

لقد استيقظنا على صراخها وكأنها أصابت بمس من الجنون. وبقيت من حينها على هذه الحالة التي تراها. تريد فقط الاضاءة طوال الوقت تريد أن تكون الغرفة مليئة بالأضواء.لماذا ذلك، ماسبب ذلك في اعتقادك؟

مرعوبة، لاشئ سوى أنها مرعوبة، قال الدكتور هامساً.

الآن اتهجت بنظراتها لتراقب ما يمكن أن يأتي من خلف الستارة.

ألقى ينظرات متفحصة حول الغرفة، ربما يكتشف الأمر الذي أرعبها. على طاولة الكتابة ورقة رسائل عليها بعض الحبر. كانت قد بدأت بكتابة شيئاً ما لكن القلم سقط من يدها وتدحرج على الورقة .

تذكرة كان قد أرسله لها في وقت متأخر من المساء، كان  يريد أن يعرف اذا هي والعمتان تردن الخروج معه في نزهة في اليوم التالي كانت موضوعة بجانب ورقة الرسالة تماماً.

كان واضحاً بأنها على الطاولة لكي تكتب جواباً له. جُلّ ما لحقت أن تكتب كان: ح-ب-ي- وفزعت وسقط القلم من يدها.

الدكتور لاحظ كيف نظرات العمتان تلاحقه، كانا يتسائلان بالتأكيد كونه لم يقل شيئاً حتى حينها لإيلين. ولم يفهمان بعد بأنه مستغرب وأن أهم شيء هو أن يعرف ما الذي  جرى لها وما السر وراء رعبها  لأنه لايؤمن مطلقاً بوجود يد الشبح كان ذلك أمراً مفروغ منه بالنسبة له.

مسكينة، مثلما هي كانت مرعوبة: كان الخوف يملئ أثير الغرفة كلها . لا أحد كان ينكر في سره بأنها قد شاهدت شيئاً ما. أول شيئ يجب عليه فعله هو أن يُخرج الجميع من الغرفة، العمة مالين العمة بيرتا والصبية نفسها  لكي لا يبقى الفزع على ما عليه في المكان.

أظن بأنها سوف تحدثني بكل شيء، اذا تحدثت معها على انفراد، قالت الدكتور  وسرعان ماخلت الغرفة بهما.

سحب كرسياً وجلس إلى جانبها، عجيب كم وجهاً يكون للانسان ! كان يتعذر عليه التعرف على إيلين وهي على هذه الشاكلة . كان معتاداً أن يراها هادئة تماماً وهذا الانطباع كان من صفات شخصيتها الرئيسية . كان مذهولاً من هدؤها الدائم .فنانة حقيقية في إرشاد عمتيها وهي بالكاد كانت تراهما يتشاجران من غرفة التطريز. ذات مرة خطر له أن يسهر هناك ورأها، راى شخصها الجميل وهي جالسة على كرسي طاولة المكتب على ضوء المصباح ورأى عنقها العاري الجميل ويديها الناعمتين كانت الغرفة كلها مفروشة بالأثاث، بعد ذلك تقدم لخطبتها. 

لكنها الآن شاحبة مرعوبة وهذا تحديداً ماكان لايريده. امرأة هستيرية ! فليحفظنا الله، يحفظنا جيداً .

على أية حال عليه أن يفعل لها شيئاً الآن . لم يكن مهماً بالنسبة له أنها غاضبة عليه، فكر فيها كمريضة وليست كزوجة المستقبل.أخبريني إيلين، ما الذي حصل؟

إيلين لم تجب.

عليك أن تخبريني بما حدث، قال بحزم.

رمقته  بنظرات ثابتة وكأنها لمحت بصيص أمل في الحديث له.

سوف تشعرين بالارتياح لمجرد أن تقولي ماحدث. قال الدكتور.

كان على عينينها الجميلتين المضيئتين اصابة.  وكانتا دائماً مضيئتان اعتماداً على الشخص الذي كانت تحدثه. ربما انهما الآن أكثر لمعاناً، لكن كان لهما ذلك البريق الذي لم يكن من ضمن ما كان يسعى إليه.

كان تعارك نفسها بعنف. لكي تستطيع ايقاف فكها السفلي من الارتجاف، كانت تضع منديلاً بين أسنانها لكي لا يُسمع صريرها وهي تصطك ببعضها البعض.

أخيراً سمعها وهي تقول بعض الكلمات. كانت جالسة تضرب يد بآخر وتفكر في صوت عال.علي أن أقول له ذلك، عليّ أن أقول، علي أن أقول، وإلا سوف تظهر مرة أخرى، نعم سوف تظهر مرة أخرى.

ثم باشرت الحديث، وهو بدى مكتئباً بشكل غريب . مثل ذلك الاحساس الذي يصيب شخصاً يخرج  بلباس طويل يسير على الأرض ثم يهطل عليه زخات من المطر، حينها يشعر بأنه فقد كل كبريائه وقيمته.

اعترفت حتى بأنها لاتحبه، وأن السبب الوحيد وراء رغبتها في  الزواج منه هو الانتقال من البيت .

لو لم يكن الأمر متعلق به لكان قد ضحك على ما تعانيه هذه الفتاة التي كانت ستوافق على أول رجل يتقدم لخطبتها، كانت قد حزمت أمرها على التخلص من العيش في هذا البيت. ذلك لكي تتخلص من العيش مع عمتيها.، كانتا تحسنان معاملتها، ولم تكونان على دراية بأنهما تُجلدانها.

نظرت إليه بأعين طائشة وكأنها تريده أن يفهمها أن يحس ببعض ما تشعر به.

بطبيعة الحال كان يعرف بأن عمتاها وهو الذي كان يهتم  بأمرهما منذ سنوات طويلة، شديدتان، شديدتان، مليئتان بأفكار مسبقة، مرعبتان حقاً. العمة مالين كانت دائما تتصرف وكأنها تنتظر حريقاً هائلاً سوف يحدث. العمة بيرتا كانت دائما تعتقد بأن سيارة سوف تدهسها في الطريق. كان يعرف حالتهما ولو أن "إيلين" بقيت معهما فسوف تصبح غريبة الأطوار مثلهما تماماً. وهي كانت على دراية بذلك.

لكنها كانت تريد أن تصبح انسانة قديرة . لقد طلبت منهما أن يسمحان لها بالعمل . لكنهما بالطبع لم تسمحان لها بذلك. وقد فهم بأن المخرج الوحيد لها من تلك الحالة كان عن طريق الزواج فقط.

لم يستطع الدكتور أن يمتنع عن سؤالها إن لم تكن خائفة أن يكون الزواج مع شخص لاتحبه ربما كان  أسوأ لها من العيش مع عمتيها!

لا، لا، لن يكن أسوأ أبداً. الزوج غالباً ما يخرج من البيت لبعض الوقت، لكن العمتان دائماً في البيت. 

الآن بما أنها فتحت قلبها له وتحدث بصراحة حين سألها ان لم تكن يوماً مغرمة به، هزت برأسها دليل الموافقة . ذلك كان أكثر مما كان يتوقعه.

طيب . لماذا؟ هل هو قبيح؟

 لا أجابت وهي ترفع بعينيها-

هل هو ممل؟

 أشارت بيدها بالنفي.

 فما الغلط فيه اذاً؟

  بارد. 

ه-هه بارد.

الدكتور مشى بضع خطوات في أرض الغرفة، إنه شيء فظيع لايمكن انكار ذلك. أن تكون صبية مثلها فكرت بهذا الشكل . ودعته يقبلها دون أن تكنّ له أية مشاعر . ولم تخفق في تمثيل دورها أبداً. لقد كان بالطبع مخدوعاً . ومستاءً أن تكون صبية مثلها لم تكن توده حقاً .

بالطبع قد عانت من حياة بائسة مع العجوزتين. ويمكن تَفَهمَ ماكان يعني لها  الزواج  . كان بمثابة التحرر للحياة بالنسبة لها . لقد صارحت بكل ذلك دون اظهار أية شفقة. لم يخطر لها بأنها تجرح مشاعره. وكأنها كان تظن بأنه لا يتأثر أبداً،و أنه صلبُ جداً.

صوتها خرج فجأة مثل الصراخ " أتعلم قالت  أن كل من يخدع ويزيّف في هذه الغرفة سوف تخرج له اليد. أنا رأيتها . كنت جالسة هناك، هناك والتفتت بشدة تجاه طاولة المكتب . هناك رأيتها .

ألا تصدق أنني رأيتها؟ تابعت وهي تحدق النظر فيه . وكأنها تريد استنباط الحقيقة.

أخبريني ما الذي حدث تماماً, قال مهدئا.

تعرف بأنك كتبت لي هذا المساء وأنا كنت أريد أن أكتب لك الرد، قبل أن أذهب للنوم. لكن حين جلست على طاولة المكتب، انتابني قلق وجلست طويلاً وأنا أفكر  لأنني لم أكن أعرف ما الذي سأكتبه في مقدمة الرد . كان من المفروض أن أكتب "حبيبي" لكنني لم أرى بأن ذلك صحيحاً . كانت هي المرة الأولى التي أكتب فيها لك . كنت أرى بأنه أمر فظيع أن أكتب شيئاً مزيفاً، لايمت للحقيقة بصِلة. لكن أخيراً  رأيت بأنني لا أستطيع أن أكتب شيئاً أقل.

هل هناك فرق كبير بين ما نكتبه وما نقوله؟ تساءل.

أنت لم تسألني أبداً اذا كنت أحبك، فقط سألتني أن أكون زوجة لك. قالت.

أها ؟ هكذا إذاً. قال.

لكن في تلك اللحظة، في تلك اللحظة التي بدأت بكتابة الكلمة ظهرت لي اليد، جاءت زاحفة من على طرف الطاولة وأعتقد بأنني بقيت مذهولة أنظر اليها لبضع ثوان، قبل أن أدرك ماجرى. لم أصرخ مباشرة . لم أفهم بعد بأنه شيئ غير طبيعي . لكنها استقرت على الورقة وأشارت بأصابعها المتعرجة على تلك الكلمة .

أظن بأنها كانت فرحة وكأنها كانت ترتعش من الغبطة. وكأنها تريد أن تجذب الحروف إليها، انها لعبة مزيفة وهي تريد المشاركة فيها.

جاءت زاحفة بتلك الأصابع الصفراء مثل عنكبوت كبير. حين تكون على عجلة من أمرها. منذ زمن بعيد لم يكن لديها أي سبب لكي تخرج للظهور . والآن تتسارع في الخروج. امسكت القلم بتلك الأصابع الرطبة المعقودة، انها لعبة زائفة وهي تريد أن تشارك فيها.

أنا صرخت وكأن حية ظهرت لي، حينها غابت عن الأنظار، لا أعلم اذا كانت باقية هنا أم لا . أحس بأنها لازالت موجودة في الغرفة.  اذا ظهرت مرة أخرى سوف أموت ! أكاد أن أموت.. أموت !

لا، يجب أن لا تعود، قالت مواسية نفسها.

أعرف بأن هناك أمر علي عمله، أضافت قائلة.

لابد علي من عمله لكي لا تعود اليد مرة أخرى . ذلك أمر رهيب قاس فعلاً.

نزعت عنها خاتم الخطوبة وبأيد باردة مرتجفة  وضعتها في يد الدكتور، ثم انهمرت في البكاء من شدة مرارة الموقف.

الدكتور لم يقل شيئاً وضع أطراف أصابعه على بعضها لينتقل بالخاتم من طرف إلى آخر.

يد الشبح لم تجد صعوبة في الظهور لتقويم الخطأ فكر ملياً. اليد انحازت لصالحه  وثأرت له بعض الشيء، شعر بالتعاطف مع يد الشبح.

هكذا عادة مع غالبية الناس، فكر في نفسه، الضمير دائما يأتي خلسة شيئا فشيئاً بطريقة أو بأخرى، مهما حاول الناس الخداع، له طرقه الصامتة الخاصة به . هكذا كان  مع هذه الفتاة الشابة التي خطبها بعد ذلك كانت قد خططت كل شيء لكي يكون لها بيتاً مريحاً، ما كانت تحتاجه هو بعض النفاق فقط وتصبح سعادة الدنيا كلها من نصيبها. ثم يأتي الضمير خفية وبصمت يشق طريقة بعمق في الروح لكي ينفجر في نهاية المطاف. متجاوزاً  كل الحسابات والحكمة في لحظة واحدة.

نعم، نعم، لقد كانت في ذلك الاعتقاد بأن في إمكانها العيش على الكذب كل حياتها.كانت بالطبع ترى بأن غيرها نجحوا في ذلك. لكن على ما يبدو  أنها مختلفة فهي ذي معدن أصيل وتنتمي لنوع  من الناس الذين لديهم ضمير حي، وأقل ما يتوقع لهم لمجرد خدعة صغيرة حتى تكون هلوسات الضمير حاضرة.

و بالطبع يظهر بتلك الصيغ المتوفرة التي في متناول اليد وكان من الطبيعي أن يظهر الضمير هنا على شكل يد الشبح في هذه الغرفة.

جلس هناك يتحسس ثقل الخاتم وينقله  من اصبع الى آخر، كان يحس بشيء آخر غير الأذى لأنه لم يستطع كسبها. كان حزيناً تقريباً .

بدأت الآن تذكره بأنه لم يكن من العدل ماحدث له، انحنت وقبلت يده، سامحني، قالت.

كم بدت ناعمة بعد أن اعترفت بأن مافعلته لم يكن صحيحاً. ولم تكن تدرك ما الذي عليها أن تفعل لكي تتصالح مع نفسها . لم يعد هناك سبب في ايلامها أكثر وكان عليه فقط اخبارها بأنه لم في حالة أحسن منها بكثير بل كانا متساويين في الفعل والتبرير، أحدهما بحث عن بيت آخر للعيش فيه والثاني أراد أن يحصل على مدبرة منزل وأحس بأن مجرد  سماع ذلك منه سوف يهدّأ من روعها.

أراد أن يقول لها بأن ذلك لم يخلق لديه شعوراً  بمرارة التقدير وأنه هو أيضاً لم يكن واقعاً في غرامها.

بالتأكيد لم يكن لديه أي مبرر كي يستمر في جَلْدِها. كان من الأفضل أن ينتهي كل شيء، أن يرتاح كل منهما ويستيقظان في اليوم التالي أحرار غير مخطوبين.

بدأ يقول لها أشياء غير مترابطة، مثل أنها انسانة بضمير حي وتنتمي لعرق نقي من عصب الناس . وهذا مايظهر الآن هنا وهناك. باتت غالية عليه لأجل ذلك ولأجل ما حدث لها في تلك الليلة وصًعُبَ عليه أن يُفرّط فيها.

لقد أصبحت حرة بالطبع ولكن لو أنها تستطيع أو تريد.

نظر اليها مستوضحاً، إن كان ذلك لم يعذبها؟

الآن ذهب ذلك التشنج عن ملامحها وبدا الهدوء في عينيها. جلست بفم نصف مفتوح لتسمع المزيد.

تحدث عن الحياة التي يريد أن يعيش معها، عن اشتياقه لها، تحدث بصورة مختلفة تماماً عن ما كان يتحدث منذ فقط نصف ساعة خلت. لكنه رأى أيضاً شيئاً مختلفاً تماماً الآن، حين تصور بأنه سوف يخسرها. كان حديثه أجمل بكثير عما كان يظن بأنه قادر عليه. العيش المشترك مع امرأة وحبيبة ناعمة . نعم في الواقع أن مجرد فكرة العيش معها سرَّ خاطره وأخصب خياله وهو يخبرها.

حين تقدم اليها ومدّ يده مصافحاً لتوديعها، أدمعت عيناه، كانت ناعمة جداً حينها. عاد اللون الجميل لوجنتيها . كانت مثل وردة تتفتح للتو .بدت فَرِحَةً مثل من ينجو من موت محتوم.

الدكتور وقف ويدها في يديه واستخلص استنتاجاته بسرعة غير مسبوقة.

هي بالطبع لم تفهم شيئاً مما يحصل. آه، أخذ نفساً عميقاً. لقد زال كل الغم عنه وحل مكانه الفرح ونشوة الانتصار. فقط من خلال مجهود لمرة واحدة جاءه حبها. كانت فقط بحاجة لأن يُظهر لها بأنها تَهمهُ.

أخذ خاتم الخطوبة وألبسها بثقة في بنصرها . لا حماقات الآن حين أرادت أن تسحب يدها.

لكني، قالت لا أعرف، لا أجرؤ.

أنا أجرؤ، أنا، قال الدكتور. لم أكن أبداً بذلك الشخص الذي يهرب من السعادة.

ذهب الى البهو، عثر على معطفه وعاد كي يشعل سيجاره .

يا للمسكينة، قال وهو  ينفث دخان سيجاره.  أَنتِ الآن مثل المربوطة بالقيد والسلاسل كي تُحبيني على ما أظن وإلا ظهرت لك تلك اليد مرة أخرى لقبض روحك.

***

فرمز حسين - ستوكهولم

2023-02-25

....................

* سلمى لاغرلوف: 1858-1940

 

للشاعر الفرنسي جاك بريفير

ترجمة (من الفرنسية): علي القاسمي

***

ارسمْ في البداية قفصاً

وبابه مفتوح

وبعد ذلك ارسمْ شيئاً جذاباً

شيئاً بسيطاً

شيئاً جميلاً

شيئاً مفيداً

للعصفور

ضع بعد ذلك قماشَ الرسم على شجرةٍ

في حديقةٍ

في منتزهٍ

في غابةٍ

مخفياً وراءَ الشجرة

دون أن تقول شيئاً

دون أن تتحرَّك ...

أحياناً يأتي العصفور بسرعة

ولكن قد يتأخر سنوات طويلة

قبل أن يُريد ذلك

لا تفقد الأمل

انتظرْ

انتظرْ إذا لزم الأمر سنوات عديدة

فسرعة مجيء العصفور

أو بطئه لا علاقة لهما

بنجاح اللوحة

وعندما يأتي العصفور

إذا أتى

التزمِ الصمت المطبق

وعندما يدخل في القفص

أغلقِ الباب بالفرشاة

ثم َّ

امسحْ قضبان القفص واحداً بعد الآخر

مع الحرص على عدم لمس أية ريشة من ريشات العصفور

وبعد ذلك ارسمْ لوحةَ شجرة

واخترْ لها أجملَ الأغصان ٍ

من أجلِ العصفور

ارسمْ كذلك الأوراق الخضراء والنسيم العليل

وخيوط أشعة الشمس

وطنين ديدان العشب في حرارة الصيف

ثمَّ انتظرْ العصفور حتى يرغب في التغريد

فإذا لم يزقزق العصفور

فهذه علامةٌ سيئةٌ

علامة ٌ على أنَّ اللوحةَ سيئةٌ

أما إذا غنّى العصفور، فهذه علامةٌ جيدةٌ

إشارةٌ إلى أنك تستطيع توقيع اللوحة

وحينذاك انتفْ بكل لطف

إحدى ريشات العصفور

واكتب اسمكَ في زاوية اللوحة.

***

......................

* جاك بريفير (1900ـ1977) شاعر وكاتب سيناريو فرنسي؛ سيريالي في شعره، واقعي في أفلامه. حظي وما يزال بشعبية كبيرة بفضل سهولة لغته، وتلاعبه بدلالات ألفاظه، وحسه الفكاهي. ويعدّ ديوانه الأول " كلمات" (1946) أشهر أعماله، فهو يدرَّس في المدارس الناطقة بالفرنسية. والقصيدة المترجمة نموذج من قصائد الديوان.

في سن الثامنة عشر، ترك جاك بريفير المدرسةَ وعمل في سوق بباريس، واستُدعي للخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، وبعدها عمل في المصالح الفرنسية في الشرق الأوسط.

مِن الشعراء العرب الذين تأثَروا به الشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني (1923ـ1998)، الذي فُتِن بشعر جاك برفيير. فعارض قصيدة " فطور الصباح" لجاك بريفيير بقصيدة عنوانها " الجريدة" التي تغنيها المطربة ماجدة الرومي، وسمّى أحد دواينه " الرسم بالكلمات". (تُنظر مقدمة ترجمتي لكتاب "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي وعنوانها " لماذا نترجم ما تُرجم سابقاً، وهي متوافرة في موقع (أصدقاء الدكتور علي القاسمي) على الشابكة.

بقلم: عبد الرزاق قرنح

ترجمة: د. صالح الرزوق

كان فريدريك تيرنير في طريقه إلى المزرعة حينما بلغته الأخبار. فهو يذهب إلى المزرعة كل صباح ثلاثاء حالما تسمح له الظروف. والظروف هي قراءة رسائل وتقارير، ومعظمها يتكلم عن سكينة وهدوء متوتر ومشاكل مؤجلة. ولذلك منذ وصوله إلى المدينة لم يتخلف عن رحلة إلى المزرعة. كان  يذهب صباحا، ويمكث طيلة ما بعد الظهيرة وحتى المساء، ويبكر بالعودة في صباح اليوم التالي. وساعده ذلك على أن يكون ضمن الجو، فالخروج والتجوال يوفر فرصة لرؤية أشياء رأي العين، وفرض ذلك على بورتون مدير المزرعة أن يكون حريصا، مع أنه ليس تحت أمرته مباشرة. قام بورتون بزيارته في أسبوعه الأول في المدينة، حينما جاء ليتفقد البريد، ودعاه لزيارته عندما يرغب. ولم يكن هناك أحد غير الإنكليز، ويمكن القول إنه بالإضافة لمتعة القيادة كان يؤدي واجبه. كان بورتون شخصا مرنا وحذرا بما يكفي. متوسط الطول، بوجه مستدير وضخم ومحمر من الشمس، وبخلقة ثقيلة وأخلاق عشوائية. وله هيئة مزارع إنكليزي حرقته الشمس. وهو واسع الاطلاع ومجدد في عمله الميداني، يشبه عالما لديه مشاريع تحت الاختبار، مثل أحواض الماء والمرشات والمشاتل. ولكنه يترك لديك الانطباع أنه يتثاقل من عمله المفروض عليه  مثل حارس شاطئ، وهو ما دفع فريدريك ليشتبه أنه سيجلب المتاعب لنفسه لو بقي معه لفترة طويلة. هناك تلك النظرة الغريبة أحيانا، كما لو أنه يفكر بشيء أحمق. اعتقد فريدريك أن بورتون يتوقع من زواره البساطة والثرثرة، وينتظر فرصة لجلسة أنس وشراب. لكنه لم يكن الإنكليزي الآخر الوحيد في المنطقة، إنما الشريك الآخر الوحيد، ومن تبقى مجرد شيوخ جوجارتيين وعرب، بالإضافة لخليط من المحليين. ومن العبث أن لا تأنس له. وكان كلامه يدور حول محمية أوغندا والمرتفعات الداخلية والبحيرات، وكل المزارع الكبيرة التي سيتم تأسيسها هناك بعد الانتهاء من مد خط الحديد. وبتعبير بورتون هذا هو الهدف من المحمية.  فالسياسيون والصحف مغرمون بالكلام عن المناورات الدولية بلغة مفوهة، ولذلك إن محمية أوغندا وخط الحديد، بنظرهم ونظر بقية الحكام الجالسين على الكراسي، لهما هدف وهو ضمان مياه النيل وعدم سيطرة فرنسا عليها. وبرأي بورتون وبتعبيره أيضا على العديد من الأشخاص العنيدين مثله، أن يفتحوا مرتفعات هذه البلاد الجميلة، والتي وجدت ليحتلها الأوروبيون، ولكن المستسلمة حاليا لمتشردين وهمجيين ومصاصي دماء من العصر الحجري.

 كان بورتون يتكلم بتلك اللغة  المباشرة كلما أراد أن يؤكد أنه ينظر إلى العالم بعين العقل لا العاطفة، وبعد أن يزدرد كأسا أو اثنين. لم يذهب فريدرك إلى المرتفعات حتى الآن، ولكنه يفكر بزيارتها ليأخذ نظرة في أحد الأيام، فقط ليأخذ نظرة. أما العمل الذي رغب به فهو إدارة مزرعة واسعة الحياض والحدود، مثل التي شاهدها في كايب الشرقية في جنوب إفريقيا. كان فريدريك يشك بطبيعة بورتون، فهو ذلك النوع من أصحاب الكلمة النافذة، شديد العزيمة ودمه بارد، ولم يمر مثله في جيل أو جيلين، باستثناء الموهوبين والأذكياء. كان بورتون قد أنفق وقتا كافيا مع العمال، يضرب على الطبول ويرقص، ليؤكد أنه ليس غريبا عنهم. وكان يقود مطيته إلى المزرعة ببراعة. يتوجه بها في معظم الأيام، بعد الظهيرة، شمالا على طول الشاطئ. وحينها لا تقاطعه عوائق على امتداد أميال حتى النهر، أو ينحدر جنوبا ويدور حول الخليج حتى يبلغ هدفه، ولكن يتخلل طريق المزرعة أرض وعرة تتطلب الحذر. وتوفر لفرسه مجنون فرصة الجري، التي يكون بحاجة لها مثل أي شيطان رقيق. أما سائسه إدريس فيرافقه على المهرة شريفة، ولذلك يجد الحصانان العربيان نفسيهما على الطريق مرة في الأسبوع على الأقل. وكان قد أحضر الجوادين مع إدريس من الهند، ولم يكن عليه إلا أن يندم على هذا الأمر. ليس لأن الحصانين يسببان المشاكل، ولا لأن إدريس متعب، رغم جوه الكئيب والمنهك، ولكن بسبب انتشار الحشرات الفظيعة في المنطقة. فقد أصابت الحصانين بالحمى أول الأمر، وتطور ذلك إلى وزمات، وانتهى بالشلل والموت. في هذه الأرجاء لا تحيا غير الحمير. كان جواداه بحالة جيدة، ثم فجعه أن يكتشف المصير الذي ينتظرهما، وكان قد أتى بهما، وقضي الأمر. كانت حماقة منه أن لا يكتشف ذلك قبل المصاب. وهو أمر يبعث على الأسف والندم. ولو عرف هذا وهو في الهند لاتخذ، طبعا، ترتيبات مناسبة، قد تكون مفيدة في وقت لاحق. ولا سيما أنه حصل عليهما بصفقة صغيرة. فقد عانى أحد ملاك الأراضي، وهو من السند، من مصاعب في تسليم شحنة قطن اتفق عليها مع شركة بريطانية، وأعانه فريدريك. وبالمقابل نصحه ملاك الأرض بشراء الجواد العربي، وحدد سعرا زهيدا للمهرة، كما لو أنها هدية. قال: القرار للسيدة زوجة الصاحب حينما تعود من إجازتها (اسمها كريستي - ولم ترجع). وبدا له الأمر أنه منة وكرم مفرط، ولكن يمكن إساءة فهم الكرم والامتنان الشرقي، ولا سيما إذا كان من موظف حكومي. والأمثلة المزعجة المثيرة للشك معروفة - يتذكر موظفي كلايف وهاستنغز وثاكري - سرق أولئك السادة ثروة الدولة، وأفرغوا المستودعات، بينما فريدريك مشغول ببعض الأعمال الباهتة. وفكر: كرم مالك الأرض يأتي من حياة ذات درجة عالية من القناعة، وهو سلوك وواجب فقدته إنكلترا لأن حكامها يميلون للمشاحنة والحسد. وجاء إدريس بالحصانين، ربما لأنه لم يكن جاهزا لمفارقتهما. كان اسمه يعني السريع والصادق، وهذا ما أخبره به مالك الأرض، تيمنا بشخصية من الكتاب المقدس. ولم يكن لدى فريدريك وقت للاطلاع على القرآن، ولكن يمكنه أن يرى أن الاسمين يناسبان حاملهما. وكان قاسيا ومتين البنيان، ولا يبتسم بسهولة، مع ذلك هو رقيق مع الحصانين كما لو أن دمهما يجري في عروقه. كان فريدريك يحلم بسلالة من الجياد لبعض الوقت، ولكن شريفة لم تكن مطيعة رغم الجهود التي بذلها مجنون. غير أن الحصانين المسكينين ليسا خسارة. فقد أرسل خبرا إلى النادي في مومباسا، وتلقى إجابة من السيد كوان، الذي يخدم في قلعة سميث، وكان على الشاطئ بعطلة. وبدوره دعا فريدريك السيد كوان لزيارته وفحص الحيوانين بنفسه. وكانت مومباسا على بعد رحلة يومين بالقارب. ولم يكن إدريس متحمسا للرحلات الأسبوعية إلى المزرعة، مدعيا أن الحصانين لا يألفان المكان بسبب الضفادع المزعجة. وهناك بالفعل الكثير من الضفادع نتيجة وجود العديد من حفر السقاية، ولكن لدى فريدريك إيمان قوي أن إدريس مهتم بالشركة مثل أهل راجبوتان، ولا يحب جو المزرعة. وقد رفض النوم في صالات عمال المزرعة، ومعظمهم عبيد سابقون، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها. وقد هربوا من مالكيهم قبل سنوات بالخديعة ووجدوا عملا في الشركة، وكانت هذه لا تزال أرضا للشركة. ومنذ الإعلان عن تأسيس المحمية، لم يتبق، بالطبع، أي مجال للعبودية.

كان بورتون يدربهم على لعب الكريكيت، وكان يحلم بعقد مباراة يتحدى بها المدينة، حينما يسنح له تكوين فريق من الهنود هناك. في كل حال رفض إدريس المشاركة في مأوى الرجال. وتبدل ذلك بعد أن انتهى من رعاية الجوادين، واعتاد أن يمضي مساءه في المزرعة جالسا على سلالم الشرفة، تحت أنظار مخدومه، يقرأ القرآن على ضوء مصباح، أو مخدرا بالنعاس بانتظار نهاية الأمسية. وعلى بعد حوالي مائة قدم، يتناهى صوت كلام وضحك من مأوى العمال، وكان يندلع بين حين وحين بشكل تهكم ومزاح مكشوف، على طريقة الحوار المعتاد بين رجال دون نساء. والقناديل تحترق هنا وهناك بلمعة ذهبية تأتي من فتيل زيت جوز الهند. وحاول بورتون أحيانا أن يحض إدريس على الانضمام إلى الرجال، أو أن يقدم له شرابا على سبيل الدعابة، ولكن إدريس رفض العرضين بتهذيب يخلو من أي ابتسامة. تعاطف فريدريك مع هذا الحال، ورأى أن مزاح بورتون اللاذع غير مستساغ. وحينما استعد للنوم، تسلل إدريس إلى الحظيرة التي  بناها فريدريك لزياراته الأسبوعية، والتي زودها عمدا بدكة، كان يمد عليها إدريس فراشه. وكان إدريس هو من هرع، بعد انطلاقهم مباشرة، ليخبره عن الرجل المصاب.

حينما انعطفا إلى الشمال قبل السوق، لتجنب الروائح الكريهة، والزواريب المتعرجة حوله، والحفر المزدحمة والقذرة في الجدران والتي استعاضوا بها عن  الدكاكين، مرا بالمكتب المظلم للوكيل المسن صديق. كان فريدريك يعلم تماما أن معرفة ما يجري من مهام الوكيل. وكان واحدا من اثنين فقط في البلدة. ولكنه يعلم كذلك أن الوكلاء الهنود  مراوغون وعدوانيون، ويعيشون حياة متدنية تشبه علامة محفورة على قشرة صلبة  في المخابئ التي يلجأ لها اليائسون واللامبالون. شاهدهم يكدحون في الهند، يغشون ويقرضون النقود دون أن يكون لهم اسم. وكان يجهز نفسه لتجارة رسمية مع  كائن كريه، ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يعرفه حينما يكون في نزهة أو رحلة. جاء الوكيل حينما شاهدهما يركبان الحصان ويمران به، وصاح بشيء ما، وتجاهله فريدريك. نادى مجددا، وفي هذه المرة رد إدريس وتوقف ليسمع الجواب. كان فريدريك يعرف أنهم يتكلمون بلغة كوتش، وسمع كلمة أنغريز، فافترض أنهما يتكلمان عنه، بطريقة طفولية أو ما شابه. ثم أسرع إدريس إلى الأمام ليخبره بلغته الإنكليزية الضعيفة أن الأنغريز مصاب إصابة خطيرة. ثم تقدمهما صديق نفسه في الطريق. أولا أغلق وأقفل الأبواب المدعمة الضخمة لمكتبه، ورتب قبعته المطرزة بالذهب على رأسه، وطلب منهما أن يتبعاه بإشارة استعراضية. نظر فريدريك للرجل الصغير الأحدب. وحينما شاهده يتقدم نحو منطقة الزواريب التي تفضي إلى السوق، طلب منه أن يتمهل. كان اسم مجنون مناسبا لتلك الممرات المزدحمة والمحفورة. هبط عن ظهر حصانه وسلم الرسن لإدريس. نظر لسائسه، وتوقع نظرة قلق أو اهتمام لأنه يتوجه على مسؤوليته إلى أحياء المواطنين المحليين، برفقة هندي مجهول سيقوده ويكون دليله، ولكن لم يلاحظ الارتباك على وجه إدريس. وترجل بدوره، وقبض على الرسن، ثم مباشرة تقريبا بدأ بالتقدم نحو ظل شجرة. تبع فريدريك الوكيل، مبتسما لنفسه، مع قليل من خيبة الأمل لأن إدريس لا يبدي المزيد من الاهتمام. كان إدريس رجلا صلبا، ولهذا السبب اختاره، ولكن شعر تجاهه بشيء من الهم والتعاطف. وتوقع أن إدريس يرى نفسه بحالة تحالف ما معه، عهد وافق عليه حينما قبل النقود منه ووافق أن يتبعه بصفة سائس. وحسب مفهومه القديم للشرف لم يكن خادما أو وضيعا. كان فريدريك أحيانا ينتبه أنه يراقبه بنظرة يمكن وصفها فقط أنها عاطفية، أو حتى مطيعة ومؤمنة، مليئة بالحب الرجولي. وتوقع أن بورتون لاحظ تلك النظرة أيضا، واهتم فريدريك لسماع بورتون يقول مرة: الرجل مستعد للموت فداء لك. وتساءل ماذا سيفعل إدريس بعد أن يبيع الحصانين. وذكر فريدريك نفسه أن يستفسر عن عائلة إدريس وأن يمنحه هدية يقدمها إليهم.

سار الوكيل على الطريق في المقدمة، وكانت بشرته حنطية ومجعدة ورقيقة، وعموده الفقري مقوسا. وافترض فريديرك أن السبب يعود للعمل الوظيفي الذي أنهك حياته. (وردد فريديرك مرتين أو ثلاث مرات عبارة: رجل مسن ومتعب. وأودع الفكرة في رأسه ليتمكن من كتابتها لاحقا). كان يرتدي سترة بيضاء قطنية مزررة حتى العنق، وسروالا ضيقا، وصندلا جلديا بنيا وقبعة مزركشة بذهب له بريق مخضر. كانت حركاته رشيقة وغير ثابتة، يتخللها عدة إشراقات وانحناءات وتكشيرة تبرز من ورائها أسنانه. وهذا كل ما علق بذهن فريديريك. شيء ما فيه دفع فريدريك للتفكير بأحد صغار الأشرار في أعمال ديكنز - شيء واضح حقا. وفي غضون دقيقة دخلا في أزقة منحنية وضيقة ضمن أعماق البلدة، حيث الأسطح تقريبا تتلاقى فوق الرؤوس. مضى عليه هنا حوالي أربعة شهور، ولكن كانت هذه ثالث مرة يدخل فيها إلى هذه الشوارع المهدمة. حتى أن الدروب تعرضت لأثر التعرية من جراء الأمطار وبفعل جداول كريهة من المصارف الصحية، كما أنها كانت مغطاة بالنفايات. وتوجب على فريديريك أن يحرص في كل خطوة يخطوها. وبمجرد أن وصلا إلى المنطقة المغطاة بالضباب والعتمة، حاصره هدير، صخب دون كلام، كما لو أنه أصبح في فضاء يدمدم فيه العديد من البشر بلهجة خافتة. وشاهد كومة تأتي منها روائح النفايات والبالوعات. كان المكان كله بحاجة للهدم والإزالة، ولكن لم يكن لديه تمويل يتكفل بنفقات وتكاليف مثل هذا العمل. 

أجبر نفسه على التقاط أنفاس سريعة، ومع ذلك كانت غريزته تهيب به أن يستنشق جرعات ثقيلة ليتخلص من الشعور بالاختناق الذي انتابه بين الزحام وخلال الأزقة الخلفية. كان الناس ينظرون له مرارا وتكرارا، وسمع صرخة تقول عنه إنه “ميزونغو” . وكل من كان يجلس أمام كوخه نهض باهتمام وربما بوجل. وتقدم رجل مسن وقبل يده. لم يكن فريديك جاهلا بمثل هذه التصرفات التي تدل على التبجيل. أحيانا بعض المسنين المحليين يقبلون يده لأنهم يعتقدون أنه الرجل الذي حرر العبيد قبل سنوات عديدة. ولم يعترض فريدريك على قناعاتهم. فهي ليست ضارة وتسهل بعض الأمور أيضا. وشاهد وجوها تتابعه، ولم يكن متيقنا إن كانت تدل على الاحترام أو على شيء غير ذلك، كأن تدل على حيرتهم من الرجل المعمر أو تنم على امتعاضهم منه. وكان أصحاب الدكاكين يخرجون من دكاكينهم، ويقتربون منه، ويحاولون إغراءه ببعض بضائعهم الكاسدة، أشياء قد توفر لهم أسباب الحياة: كومة صغيرة من الفحم، برتقالتان، حفنة من البيض، وأسوأ شيء في ذلك، أن يكون البائع قذرا مهلهل الثياب.  كان الأطفال يلوحون له ببلاهة ويحاولون قطع طريقه، وهم ينادون “ميزونغو، ميزونغو”، لكنه تظاهر أنه لم ينتبه لهم ولم يشاهدهم. وسمع أشياء أخرى ولكنها ليست واضحة. وحاول جهده أن لا يهتم. دعهم يرفعوا أصواتهم بالكلمات التافهة القذرة، إن كان هذا يفيدهم بشيء. استفزته أصواتهم مثل أزيز حشرات أو ثغاء حيوانات، مثل أنين نساء الشوارع المنهكات في أزقة باحة لندن. لوح البانيان (التاجر) الذي أمامه بذراعيه للزحام بانفعال، وهو يصيح بيأس، مؤكدا أنها حالة طارئة ولا تحتمل الصبر. وهم فريدريك أن يلمس ظهره المشدود بعصاه، وأن يخبره من بين أسنانه المطبقة أن يضبط نفسه بمزيد من الصبر قبل أن يجعل منهما مادة للسخرية. وتقدم بأفضل ما يمكنه، مع الاحتفاظ بخطوتين على الأقل بينه وبين الوكيل الذي يشق الطريق أمامه، بثقة وعزيمة قوية. لم يكن فريدريك رجلا ضخما، ولكنه كان متينا وقويا، ولذلك لم يتأثر لا بالزحام ولا الضجيج، ليس على نحو يذكر. كان خائفا من احتمال الإحراج والسخرية إذا سقط في المياه القذرة أو إذا تحرش به مأفون متدين. ولم يكن أحد بحاجة للتذكير في هذا الجزء من العالم أن الآلة البريطانية المتسلطة لا تستسلم. وفي حال التذكير بها، شأن الأحداث المذهلة التي وقعت في أم درمان في السنة السابقة، سيبدو وقعها مثل خبر يبلغ مسامع شخص آخر. لكن أحيانا تكون الجماعات المحلية مستعدة دائما للشغب، وهكذا وجد من المفيد أن ينظر إليها بشيء من الحرص والسلبية ليسيطر على انفعالاته منها. وتساءل ترى من هو الرجل الجريح. ورجح لديه أنه شخص من البعثة اللوثرية الموجودة في شمال الدلتا، والتي بقيت حتى بعد التوقيع على اتفاقية 1886 وتوزيع السلطة ورحيل المحتل الألماني. كان ذلك قبل سنوات من مجيئه، وسمع به من بورتون. فقد ارتكب الماساي هناك مجزرة، ولاقى المبشر الميثودي وزوجته وعدد من رعاياهم الموت. رجل لا يهاب، بكل المقاييس، يتجول في كل مكان، غير مسلح إلا بمظلة مفتوحة، ويبحر بقارب في النهر ذهابا ومجيئا كما لو أنه لم يسمع بالتماسيح أو السهام المسمومة. لا بد أنه كسب احترام السكان المحليين لأنهم لم يأنفوا من بعثته ولربما انضم إليها بعضهم. لم تكن النتيجة مألوفة، حسب معلوماته على الأقل، فالبعثة تبشيرية وعملها حماية الأرواح.

من المدهش أن الماساي هاجموا الموقع الموجود قرب الشاطئ، واختاروا أن يكون رجل متواضع من رعايا الرب مع أتباعه ضحيتهم. اكتسحوا منطقة واسعة في الداخل وأصبحت ساحة لهذه الأفعال الدموية. تذكر ذلك السطر في قصيدة “مونت بلانك” لشيللي عن صخور ضخمة موزعة حول الجبل، حيث تبدو الطبيعة المنهوبة مثل ساحة يلعب فيها إله الزلازل والعواصف. كان الماساي آلهة محليين لطبيعة هذه الأرض المنهكة. وتوجد حكمة شائعة تقول إن الماساي لا يغيرون إلا على المواشي، مثل أسد لا يهاجم إلا حين يجوع. ولكن يعتقد فريدريك أن لكليهما شهوة مفرطة للدم والقتل، وابتهل لربه أن لا يضطر يوما للبرهان على نظريته. هناك احتمال بغزو الماساي للبعثة اللوثرية، وإن لم تفعل الماساي ذلك ستفعله قبيلة معادية غيرها، مثل الغالا أو الصومالي أو أي جماعة متوحشة جوالة. فالنهر يجرهم إليه مثل مرور السائل في قمع، وكما جذبت الأنهار القبائل البربرية منذ بداية الأزمنة. وتلقى أيضا نبأ من مومباسا يخبره أن الميثوديين يخططون لبعثة إضافية، ستكون أقرب للبلدة في هذه المرة، لذلك سيكون بوسعهم الصيد بسهولة وأمان، وسيكون القس هوليداي جاهزا، وسيأتي حتما من مومباسا عبر النهر وليس البر. هذا الشيطان المسكين سيأتي من الداخل. لا، كانوا، في الصورة التي تداعب رأسه، يختارون طريقهم وراء أكوام النفايات والبيوت المتداعية ذات الأبواب المتعفنة، جيش منهك من المحليين المؤمنين يقفون بجانب نقالة قديمة أتوا بها لنقل القس الطيب من هذا المكان لموضع آمن. وجعله ذلك يفكر باثنين زنجباريين مؤمنين حملا منذ عدة سنوات الجسم المحنط للقديس الدكتور ليفينغستون ولمسافة آلاف الأميال من البحيرات العظيمة وحتى شاطئ باغامويو. أولا انتزعوا قلبه من صدره ودفنوه في مكان موته، ثم حنطوا جسمه. كيف فكروا بذلك؟. من أين جاءت لحارسين محليين فكرة عمل رمزي له مثل هذه الأهمية؟. تخيل مزارعين أو اثنين من عمال السخرة المحليين يفكران بهذه الطريقة. ربما ترك الدكتور الطيب تعليمات وتوصية بهذا الخصوص. ولكن حتى لو كان ذلك صحيحا، لماذا لم يلقيا الجسم في أقرب مستنقع وعادا بعد ذلك إلى البيت؟. أي قديس كان هذا الرجل ليلهم أتباعه ذلك الإخلاص. كان يتبعه جيش بائس من المتشردين والكسالى، مع ذلك لم يكن الإخلاص والوفاء في طبعهم، وكل ما في رأسهم مجرد فضول فطري يدفعهم للمكابدة، ومشاعر تؤثر بالذهن المعطوب والفارغ.

وفجأة انتهى الزقاق، وانفتحت أمامه ساحة رملية مشرقة ومضيئة. جمد من المفاجأة وصدمته السعادة الناجمة عن الفضاء المفتوح. وتقدم شخص ما نحوه من الخلف، ودون أن يلتفت ضرب بالعصا التي بيده، وتأكد أنها أصابت مخلوقا من عظام ولحم. ثم سمع صيحة ثاقبة طفولية، وتبعتها قهقهة، ولم يتمكن فريدريك من أن يلجم ابتسامته. شاهد جامعا صغيرا أبيض في الزاوية الأخيرة من الساحة وبجانبه طريق.  ونافذتاه وبابه بحالة يرثى لها، وكانت نصف مفتوحة، ومطلية بلون أزرق متوسطي مدهش، مثل لون ثوب مادونا في لوحة للفنان تيتيان. وفي نهاية الساحة القريبة منهما، وعلى الجهة اليمنى، مقهى كئيب فيه طاولات رخامية. وخارجه مقاعد طويلة تشبه الدكة. ما الغاية من طاولات مرمرية في هذه الغابة الضيقة؟. وراء المقهى بيوت من الحجر، بعضها من عدة طوابق، وما تبقى متواضعة ونظيفة وتصلح للاستعمال. ثم انفتح زقاق آخر على الساحة، وشاهد عدة أزقة أخرى تصب على الساحة أيضا. وعلى يساره المزيد من البيوت، بستائر عوضا عن الأبواب، وكانت النسمات تفح فيها وعلى ما يبدو أنها تهب من الطريق العريض الممهد على الجانب المعاكس من الجامع والذي يقود إلى مزرعة مفتوحة تلوح من بعيد. وأمكن لفريدريك أن يشعر بالنسمة من مكانه، حيث وقف، وتساءل أين هو ولماذا لم يخبره أحد عن هذا المكان البهيج في هذه البلدة المتهدمة. وحاول أن يفطن بحدسه الشخصي لموقعه على الخريطة الموجودة في مكتبه. كان الوكيل، الذي توقف بدوره واستدار نحوه نصف استدارة، يشير لما خلف البيوت المصفوفة على يسار فريدريك، وهو يبتسم ويومئ برأسه مهنئا نفسه.

قال الوكيل:”سيدي”. كان يأمل أن يتبعه فريدريك، فقد هز رأسه بدافع من الشعور بالرضا عن الذات. أما الحشد الذي رافقهما عبر الأزقة فقد تخطاهما وانتشر في الساحة، ووجوههم على الاتجاه الذي أشار له الوكيل. وما أن سار فريدريك خلف الوكيل حتى رأى “دوكا”، دكانا صغيرا، أمامه، وهو حانوت مزدحم بالبضائع ومنتشر في كل المدن الهندية، وقد أدخل هذا النظام في هذا الجزء من العالم التجار الهنود. ولكن ليس كل شيء يعود إلى الهنود، لدى تجار حضرموت هذا الأسلوب في التجارة، إنما الفكرة للهنود. وتساءل إذا كان ذلك يفسر ترتيب الباحة، إن كان هذا خليجا هنديا. في هذه الأنحاء، أينما ذهب الهنود، تتبعهم شهرتهم، ولكن طبعا تتوقف على طبقة الهنود أنفسهم. في زنجبار شاهد طبقة كناسي الشوارع التي تزدحم في المدن الهندية، وتعيش بظروف متدهورة، وتتسول في الطرقات، وترافقها دائما فوضى وأنين وصراخ، ومعظم الباعة الجوالين الذين لديهم حوانيت محفورة في الجدران، هم من بين الهنود. ولكن الحكمة العامة صحيحة: إن وجدت البائع المناسب في منطقتك ستزدهر أحوالك.

كان هناك زبونان أو ثلاثة أمام الدكان، وبعض المسنين الجالسين على منصة بجواره. وتساءل فردريك لماذا هم ذاهبون إلى الدكان أصلا، ربما للاستفسار عن الاتجاه الصحيح. ولم يشاهد إشارة تدل على مرافقه البائس والمطيع. باعد ما بين خطواته وأصبح بجوار الوكيل المسرع، واقتربا من الدكان. نهض المسنون على أقدامهم وكذلك فعل “دوكا والله - صاحب الدكان”، وهبط بسرعة من الرصيف الذي يعلو بضاعته. هم يفعلون ذلك، بانتباه واحترام كلما اقترب منهم أوروبي، وفهم فردريك لماذا. وفجأة، كما يبدو، انخرط الجميع بالكلام وألقوا نظرات حذرة عليه. ورأى الوكيل يستبدل نبرته الآمرة مع “دوكا والله” بإشارات تفاهم ولها معنى صنعها برأسه. وبعد حوار سريع متوتر ودرامي، وحينما كان فريدريك ضائعا ومحتارا عما يجري حوله، عاد “دوكا والله” إلى حانوته، وفتح باب الباحة. وغاب الوكيل في الداخل آملا أن فريدريك وراءه. وأبعد أحد المسنين الناس بعصاه، ولكنهم سدوا الباب وبعضهم تسلق على جدار الباحة.

لم يتوقع ما حصل. كان فريدريك يعلم، في اللحظة التي سبقت دخوله من الباب إلى الباحة، أن الرجل الجريح سيكون مسجى في الداخل، ولكنه أدرك ذلك في تلك اللحظة الحاسمة ولم يكن لديه الوقت ليفكر بالموضوع. وشاهد رجلا بشعر طويل مغطى من قدميه وحتى كتفيه، ويستلقي على فراش تحت السقف، وكان الغطاء ملاءة بلون كريمي بأطراف ذات لون أحمر وأبيض. كان هناك شيء كلاسيكي وقديم حيال الألوان، فهي ألوان عباءة رومانية. وكان رأسه ينظر موجها لطرف وليس نحو السقف. وفمه مفتوح قليلا، ويبدو عليه الإنهاك والسخط، وبوضع معروف يشبه المروق. وقربه على البساط جلست امرأة، ساقاها مطويتان ومغطاتان تماما بثوبها الأخضر الكئيب. وأوشكت أن تنهض ولكن لم تعزم تماما على الوقوف، وكانت متجمدة بشيء من الدهشة والتعجب.   استدارت بوجهها بعيدا وهم يدخلون وأخفت وجهها بوشاحها، ولكن شاهد فريدريك ما يكفي ليعلم أنها امرأة مليحة الوجه، في الثلاثينات من العمر، وربما نتيجة قران محلي مختلط، ولها لون بني براق شاحب يدل أنها من أصول باجونية أو صومالية. وتوقع أنها زوجة صاحب الدكان، وتمنى لو أن يستمتع معها في حياته. وفورا، بقوة وبشكل خاطف، مثل بريق مؤقت، صعدت لرأسه كريستي. لكنها لا تزال في إنكلترا. وغلبه الشوق إليها. اشتاق لها تقريبا، مثل دقة قلب يتيمة سرعان ما اضمحلت وماتت. وسيفكر بها بشكل أطول لاحقا. ركع فريدريك على إحدى ركبتيه بجوار الجريح ولمس جانب رقبته بيده. كان دافئا ونبضه قوي، ولم يكن محموما. فتح الرجل عينيه وأفلتت منه حشرجة خافتة. رنت في سمعه مثل ثغاء مكتوم، زفير بائس من حيوان يحتضر. لم تنطق المرأة. وحينما رفع فريدريك بصره إليها هزت رأسها، كما لو أنها تطمئنه. كشف الملاءة ليرى إن كان هناك دم أو جرح، ولم يشاهد علامة على الجسم، فقط تعب وغبار. وقف وتلفت حوله وأدهشه غرابة كل شيء حوله، ووجوده في هذا المكان، في باحة من بيت هؤلاء البشر، واقفا ببوط فرسه اللماع، وهو يربت على سمانته بنفاد صبر بسوط الركوب، ومحاطا بهؤلاء الأشخاص السود غير المألوفين والذين شعر بالغضب غير المفهوم منهم وبحضور رجل مريض عند قدميه. كانت غربة مفهومة، كما لو أن جزءا منه انفصل عنه ووقف بجانبه ينظر أمامه، ولكن أصبح من الضروري حاليا أن لا يهتم بذلك. حرر نفسه من هذه المشاعر، والتي يعتقد أنها دليل على الضعف والتردد رغم جانبها البشري، وطالب بنقالة بحركة من يديه. قال:"علينا أن نسعفه بإخراجه من هنا". وخاطب الوكيل أولا ثم التفت إلى "دوكا والله" البدين صاحب المظهر الحزين.  كرر بإشارة صامتة تدل على ضرورة الحمل ونقل الجثمان من الباحة قائلا:"علينا أن ننقذه في الحال من هنا. جالادي، جالادي. بسرعة. بسرعة". بطريقة ما استلم الوكيل زمام المبادرة، واتخذ الترتيبات المطلوبة، وهو يتكلم برباطة جأش وقوة، الأمر الذي أدهش فريدريك بعد تخبطه السابق.

ولم يفهم فريدريك كلمة مما قاله الوكيل، ولكن اعتقد أنه استطاع أن يجعل كل شيء يبدو كأنه محسوب وغريب أيضا. ولاحظ الفوضى والصخب المعتادين، وكان الناس يتململون، ولكن في النهاية حمل الرجال الثلاث الرجل المسكين، والفراش، وكل شيء، وجهزوا أنفسهم للانطلاق. سأل فريدريك:"أين أمتعته؟. ممتلكاته. أين ممتلكاته الشخصية؟ مقتنياته". فعل الوكيل ما بمقدوره، ولكنه لم يحصل على شيء من "دوكا والله" وزوجته. وصاح بهما الوكيل وحرك أصبعه للتحذير بطريقة دراماتيكية. وخمن فريدريك أنه يتهمهما بالسرقة، أو ما يزيد، في محاولة للتأكد أنهما سيقدمان له حصته.  وأضاف كلمات سامة من عنده وعنف رب المنزل، دون الحصول على النتيجة المرجوة. وانضم إليهم بعض الحاضرين، وهم ينعقون بما لديهم، واعتقد فريدريك أن الأفضل هو نقل الرجل إلى مأمن قبل أن تحل الهستيريا على الجميع. قال للوكيل: سيعودون لاحقا من أجل أمتعته، حينما يصبح الرجل المصاب قادرا على الكلام وتحديد مفقوداته. وحينما شق الطابور طريقا متعرجا للخروج من الزواريب، وجد فريدريك أن إدريس يجلس تحت شجرة مانغا عملاقة في الساحة، وحوله حشد من الأولاد الصغار صامتين ويحدقون بالحصانين. وقف فورا حينما شاهد الموكب، ولكن بقي بعيدا، بانتظار التعليمات. وارتاح فريدريك لذلك، للطاعة الضمنية. أشار بعصا الركوب نحو البيت، فامتطى إدريس شريفة وتحرك أمامهم. أضاف حضوره مع الموكب المزيد من الدراما للأحداث، وحالما وصلوا البيت، كان قد تحول إلى مكان قروسطي. وعانوا من المشاكل في التخلص من الجميع، وبالأخص الوكيل، ولكن تدبر إدريس وتابعه المسمى هامس محاصرة الجميع في صالة الطابق الأرضي، وفرقوهم بالتدريج، وهما يوزعان النقود على الرجال الذين ساعدوا في نقل الرجل المريض. وضعوه في غرفة الاستقبال وكان يستفيق. سجاه الرجال على السرير المربوط بفراش القش القديم، بالطريقة التي هربوا بها كليوباترا إلى غرفة أنطونيو. فك فريدريك الأربطة، ولاحظ أنه لا يزال ملفوفا بملاءة ذات لون كريمي وأحمر، وسنحت له الفرصة ليلاحظ ان القماش سميك ومن خياطة يدوية، وربما جديد. تحسس جبين الرجل ليفحص حرارته، ففتح الرجل عينيه على إثر اللمسة ونظر مباشرة إلى فريدريك.

سأله فريدريك برقة:"كيف تشعر يا صاحبي القديم".

رد:"هل زرت سيشيل في حياتك كلها؟". كشر فريدريك لهذا السؤال غير المتوقع وللهجته الإنكليزية المؤكدة. قال فريدريك:"لم يحالفني الحظ". وارتاح لأنه ليس متعصبا لوثريا.

قال فريدريك:"في هذا الجزء من العالم، عليك دائما أن تكون مفتح العينين حذرا من لعبة ضارة قليلا، كما تعلم أنت شخصيا، طبعا". ثم امتص سيجاره بتلذذ وأخذ نفسا قويا. نفخ الدخان بزفرة قوية وكبيرة وأسعده المنظر وامتلأ بالطمأنينة. ثم قال: "يجب أن أعرب عن سعادتي بعودتك إلى عالم الأحياء يا عزيزي بيرس. كانت معجزة أن نراك تجلس أمامنا متمالكا نفسك بعد ما وجدناك عليه من ضعف.  يجب أن تخبرني إذا أرهقتك. لا تتركني أتعبك. وأنا طبعا أموت من الشوق لأسمع تفاصيل مغامراتك، ولكن لدينا وقت طويل. وأعتقد أنك تحسنت بشكل كبير، أنت تقف على قدميك ثانية وبسرعة، ولكن لا يجب أن تبالغ. على الأقل لا يبدو أنك التقطت شيئا. ولكن لا بد أنك تعرضت للشمس اللاهبة لعدة أيام، وهذا تسبب لك بصداع هائل، كما أعتقد. حسنا، على كل حال لم تتضرر كثيرا. في الواقع يا صاحبي القديم أرى أنك محظوظ جدا جدا لأنك لم تتضرر. يوجد قطاع طريق خطيرون في تلك البوادي. وأفترض أنك بطريقة ما تدبرت التخفي عن الأنظار خلال رحلاتك الفردية، وإلا ما كنت هنا. كما تعلم حينما سمعت الأنباء توقعت انه أحد المبشرين عند النهر، أحد اللوثريين. وهناك وقعت غارات مميتة في السنوات التي مضت، وتنتشر شائعات دائما عن جماعة من الاحباش الأشرار، يسرقون ويستعبدون ليعيشوا. أنت محظوظ جدا لأنك لم تقع في طريقهم.  مع أن الأوروبي بمأمن منهم بالمقارنة مع أي كائن آخر. غيره يذهب مباشرة إلى سوق النخاسة في هارار على الأرجح، ولكنهم يعلمون أننا لا نتساهل مع أشياء من هذا النوع". امتص فريدريك سيجاره ثانية وبين الحين والآخر كان ينفض طرف الرماد على أرض الشرفة.

***

..........................

عبد الرزاق قرنح  Abdulrazak Gurnah: اتب بريطاني من زنجبار. له أصول عربية يمنية. يعالج في أعماله قضايا التحرر في القارة الإفريقية. ويعتبر ثاني كاتب، بعد نجيب محفوظ، يحصل على جائزة نوبل، وله علاقة بمشاكل العالم الثالث. من أهم أعماله:  فردوس 1994. ما بعد الممات 2020. ذاكرة الرحيل 1987. الهدية الأخيرة  2011 وغيرها….

بقلم: زاخار بريليبين

ترجمة وإعداد: صالح الرزوق

***

ابنان يكبران.

أحدهما عمره أربع شهور. يستيقظ في الليل، ولا يبكي، كلا. لا يبكي. بل يستلقي على بطنه، ويتكئ على كوعيه، ويرفع قبة رأسه الأبيض الصغير ويتنفس. باختصار يتنفس بسرعة. مثل كلب يجري وراء رائحة شهية.

لا أشعل الضوء.

وأصيخ السمع له.

أسأله بصوت أجش في الظلام: "إلى أين تجري يا ولد؟".

يتنفس.

ينكس رأسه، ويرتطم بفراش سريره الصغير. يا الله. اللهاية البلاستيكية تحت وجهه. وهو يفهم كل شيء، سمك البلمة الحكيم - يلف رأسه، ويتناول اللهاية بشفتيه ويمتصها. لو تعب من اللهاية، يتسرب صوت لدن - تسقط. ويتنفس مجددا.

أستنتج من تنفسه، أنه لف رأسه ليواجه بنظره الظلام: لا يمكنني أن أرى... وأريد أن أنام.

"إغنات*، أنت عفريت". أقول بتكبر.

يغرق بالصمت لدقيقة من الوقت ويصغي: أنى لي أن أعلم من أين ذلك الصوت؟.

رأسي ثقيل مثل أرقطيون مبلول في الخريف - لا شيء يلتصق به، ما عدا النوم، يجره للأسفل، نحو الوحل اللزج.

في البداية أشعلت النور حينما استيقظت على لهاثه - وأسعده ذلك. كل ليلة نتكلم حتى الفجر ونحن على الكنبة. أضع ابني بجواري، ونتكلم. هو يقطب وجهه، فأضحك، وأحتفظ بفمي مطبقا، كي لا أرعبه. ولكن الآن لم أشعل النور، فقد كنت متعبا.

ولا أذكر اللحظة التي يغط بها في النوم، لأنني أكون قد فقدت وعيي قبل ذلك.

أفيق مرة في الليل، أحيانا مرتين - وأكون مجللا برعب الخطيئة الأبوية: أين هو؟ ماذا هناك؟ لا أتمكن من سماع لهاثه.

ولكن بوغ النور، وانحسر الظلام - أجر الغطاء عن السرير لأراه هناك: وجهه يشبه درنة البصل، وهو يخرخر بهدوء. أود أن أقبله حينما يفيق. ألامس خديه بشفتي، وأمتلئ بحليب محبوبتي، وتغمرني فورة من البهجة.

يا إلهي كم هو رقيق. مثل داخل بطيخة. وأنفاسه... تتفتح أمامي بشكل ورود جميلة في الربيع - ابني ينفخ بوجهي، وهو متوهج كأنه في قداس.

رفعته لما فوق رأسي - تدلى خداه المنتفخان، وسال لعابه على صدري. وناغيته ليضحك. هل تعرف كيف هو الضحك؟. مثل الخراف: باع- ع - ع.

أرميه بتؤدة إلى الأعلى، دون أن أمد ذراعي. فلا يضحك. ويلتفت برأسه: آه، هنا أنا أعيش...

أناغيه وأقول: "هيا يا إغناتكا انخر كالخروف". ولكنه لا يفعل. فهو متعب من الاهتزاز، ويشرف على التجهم.

أضع ابني على صدري، فتركل قدمه بطني. يرفع نفسه إلى الأعلى مستعينا بكوعيه، وينظر إلى رأسي. يتعب من ذلك، ويخفض رأسه: ما يشبه لحية قريبة. لحية لافتة - للانتباه. وأتمنى أن أجد طريقة لأقضمها بأسناني.

أربت على رأسه الدافئ. ويبدو كأنه مغلف بدهن طري.

ألاعب الطفل وأتأمله حتى تصحو عزيزتي في الغرفة المجاورة.

لدينا شقة واسعة، تتكون من غرفتين رحبتين بسقفين مرتفعين يفصل بينهما ممر. في الغرفة الثانية وعلى الطبقة السفلية من سرير يتألف من طبقتين، تنام عزيزتي. أرسلتها إلى هناك في المساء كي تكسب بعض النوم. وفي الطبقة العلوية ابني الأكبر، بعمر خمس سنوات. لديه طبيعة ملائكية وعيناي. اسمه جليب.

استيقظت، زهرتي، ورأيتها تعيد الثقة لي وتهدئني. ثم اقتربت مني بخجل. قالت: "هل حصلت على أي قسط من النوم؟".

لم تكن تسأل عني، ولكن عنه. إن لم يكن نائما، لا بد أن أحصل على حصتي من الأحلام. قبلتنا بالدور، ولكن قبلته هو أولا. وهمست له بكلمات رقيقة وعاطفية. وابتسمت لي. ثم وضعت راحتيها تحت صدرها - كانا ثقيلين، ويمكنني رؤية ذلك.

قالت: "امتلأ".

أجبتها: "سيشرب كل شيء ويريحك. ولن يتأخر عن ذلك".

لم يكن يبكي، ولا حتى في حالة الجوع. ولكن أحيانا يئن، ودون أي دموع، كما لو أنه يشتكي ويقول: أنا أستلقي هنا وحدي. يا صحاب. هل يوجد صعوبة بشيء من التسلية؟ على سبيل المثال أنا أحب تأمل رفوف المكتبة، كلما حملني أحدكما قبالتها. تعجبني ألوانها الكثيرة.

وحينما ولد، لم يكن يبكي أيضا. ولاحظت ذلك بنفسي، كنت موجودا. لم يبك في المستشفى أيضا، وفي أيامه الأولى في البيت كان يتمدد بهدوء وينظر بتمعن للعالم. وفي اليوم الثالث فقط من حياتنا المشتركة، وحينما توجهت إلى المطبخ لأتحرى عن حساء اليخنة، سمعت صوت طفل غاضب يصيح.

أسرعت نحوه - واستنتجت بسرعة ماذا يجري.

سألت عزيزتي وأنا أخفي الابتسامة: "هل قمت بقرصه، أيتها العاهرة الصغيرة؟".

ردت: "اعتقدت أنه أبكم".

نسيت - ما أن أعول حتى انطفأت عيناه.

انزعجت عزيزتي من مزاجه الطيب على الدوام، فأسرعنا كلانا إلى الدكان، وتركنا الطفلين في البيت. واشترينا البسكويت المحلى لماما والنبيذ المر للوالد. وحينما رجعنا، سمعنا عويلا فظيعا، وبصوتين.

أسرعت أطير على السلالم، وكان حذائي يرتطم بالممر - كان ابني الأصغر يصرخ في سريره، وبصوت مبحوح، وابني الأكبر قد حبس نفسه في دورة المياه، ليفجر رأسه بالصراخ.

قال الوالد للابن الأصغر: "عزيزي إغناتكا".

وقالت الوالدة للأكبر: "عزيزي غليبوشكا".

ناح جليب وهو يدفن رأيه في بطن عزيزتي وقال: "ماما ساعدي اغناتكا. لا يمكنني أن أتحكم به".

شعر بالأسف لأخيه.

سيظهر جليب حالا، وهو يتجول بساقيه الطويلتين والمعوجتين، هذا هو ابني المتألق.

وسنجتمع جميعا، ثلاثة رجال وبنت واحدة. وهي مسرورة جدا لوجودنا نحن الثلاثة برفقتها. لم ترغب عزيزتي أن تلد أحدا يشبهها. ربما لأنها نفسها فتاة غريبة وعنيدة، حتى قبضت بيدي القوية على معصمها ومنحتها ابني الذي يجب أن تحمله - قمت بحقنه في لامبالاتها الصبيانية وشديدة العزيمة، ولكن كان ذلك مفيدا لوضعها البشري. والآن يقوي ويعمق الأولاد حبنا. وغالبا ما كان جليب يقول: "يجب تقسيم الخطيئة إلى نصفين".

أحيانا يسرع إلى أمه - ويقبلها بتعجل، ثم يهرع نحوي، ويقبلني أيضا.

كما لو أننا نتبادل القبلات للمصالحة - نحن لا نجلس في زوايا متنافرة من المطبخ دون سبب. وماذا علينا أن نفعل بعد ذلك؟ ثلاثتتا نضحك معا ونجري لنجيب على دعوة اغناتيكا للصلاة.

يقول دون أن يتكلم: لقد نسيتونني.

وينقل إلينا فكرته بهذا الشكل:

"إيفاو. جا**". وشيء آخر، متجنبا الحروف المعروفة.

ونقارن كيف كان الأول يكبر مع نمو الثاني حاليا. مختلفان جدا. الأكبر يحب النظام، يأكل بأوقات معينة، وينام لساعات محددة، ويستيقظ بإيقاع وقت منضبط محسوب بالدقيقة. أما الأصغر فلا يهتم بالدقة والمواعيد. ومهما بذلنا من جهد لتعليمه لا يتجاوب. يستيقظ وينام كلما رغب بذلك. وربما ينام خمس عشرة مرة باليوم، أو يطلب ثدي أربع مرات في ثلاثة أيام. تتحكم به قوانينه الداخلية، وهذا ينفعه - وأهم شيء أن يكون بمزاج طيب.

الأخ الأصغر صديق للأكبر. على سبيل المثال مهما لاعبت الصغيرلم يكن يضحك كثيرا. ولكن حالما يأتي جليب يحضر الصغير نفسه ليلعب وتقريبا يقفز على بطنه، كما لو أنه يريد أن يثب مثل ضفدع ذكي - من السرير إلى الكنبة، ومن هناك إلى الأرض. باشر جليب بالوقوف على رأسه، أو عجن الوسادة - ضحك إغنات بقوة حتى خشيت عليه.

والأهم ما أن دخل الأبوان الغرفة حتى جمدت الضحكة: لا تتدخلا، نحن نسلي أنفسنا هنا،

كان ابنانا متقاربين، ومتفاهمين، كما لو أنهما من قبيلة واحدة، بينما أنا وحبيبتي من قبيلة أخرى. ربما هي قبيلة مشابهة، ولكنها غيرها. وطبعا هي قبيلة ودودة. حتى أنها تكرمنا وتحيينا. ويسعدها أن تحترمنا. وإلا لماذا هذه القوة والصحة وحب التنظيم؟ هل يجب إقامة علاقة تبادل منفعة؟ وإلا انتهى كل شيء بسرعة.

شخر اغنات أمام الصدر المليء بالحليب.

لقد جفف حبيبتي. هذا المتوحش الصغير الأبيض. كان يقبض على صدرها برقة بيديه، كما لو أنه يخاف أن يهدر منه شيئا. وأحيانا يلتفت كأنه يقول: آه، الحليب لا يتدفق.

والآن ظهر أخوه. كان وجهه مخدرا بالنوم. وذراعاه تتدليان على جانبيه، وغصن الصباح متوتر تحت سرواله.

قال: "صباح الخير يا جليب".

قال: "صباح الخير يا بابا. صباح الخير با ماما".

واتجه إلى اغنات ولامس أذنه.

قالت أمي: "إ ش ش. لا تزعجه".

كان يرتاح لإزعاجنا ولقطع طريقنا، ويتململ دون توقف، ويوجه الأسئلة، ويجيب عليها، ويتفلسف، ويلقي التعليقات، ويصل لنتائج عامة وبعيدة- أبعد من أحكامه، ومن خبراته، وفهمه.

وشعر بتبدل في مزاج والديه بدقة ثابتة، مع علامة خفيفة تدل على التحير من والده، حيرة تحولت بالضرورة إلى حنق - إن لم يكن إلى ألم.

قال: "لا ترد يا بابا".

قلت بصوت بارد: "أنا لم أرد بعد يا جليب".

قال بثقة مفرطة: "بل فعلت...".

لا يمكن الاختباء من ثقته، ولا يمكنك الالتفاف من حولها، والقفز من زاوية أخرى، وأنت تحضن سخطك المضمون بسبب وجهك غير الحليق. فأنت حين تلتف من حوله، تنسى طعم السخط ولونه، ومن أي بكتريا على سطح الأرض جاء.

وخاطبت عزيزتي جليب كأنه معجزة، كرجل حكيم، كما لو أنه ليس وردة صغيرة على ساقين طويلتين، ولكنه سيرافيم حكيم.

قال: "ماذا تعتقد يا جليبوشكا، هل أنا أتصرف بانضباط؟".

أو - في متجر اللوازم النسائية:

يقول: "ما هي القفازات الأفضل يا جليبوشكا، تلك ذات القفل أم التي دون قفل؟".

أحبوه في روضة الأطفال، وتقبله الأولاد في باحتنا - مع أنهم أكبر منه بسنتين، وثلاثة أو حتى أربعة، كانت الفتيات الفاتنات الصغار وخلال مشاوير العائلة إلى الدكان، تلقين التحية على جليب، من نوافذ المأوى بطريقة ساخرة ولكن رقيقة لحد عجيب:

كانت الفتاة الشقراء ذات الوحه الرقيق تقول لزميلتها: " انظري. هذا جليب". ثم تردف: "مرحبا جليب".

قالت البنت الثانية بمرح: "مرحبا يا جليب".

نظرتا إليه كما لو أنهما عاشقتان. حتى أنهما لم تنظرا لي. اللعنة. كذلك لم تنظرا إلى والده.

رد جليب على البنت بهدوء، ونظر إلى سعادتهما على أنها شيء مؤكد.

سألته عزيزتي حالما ابتعدنا عن البنتين: "من هما يا جليب؟".

أخبرنا باسميهما - فيكا وأوليسيا. هذا فقط. لا مزيد من المعلومات عنهما.

وسمعتهما مرة تتكلمان - في أرض الملعب في الباحة. تجاوزت السور الخشبي ولاحظت أن الجميلتين تضحكان، وتنظران إلى جليب - ليس بتهكم، بالطريقة التي تسخر بها الصبايا من الصغار، ولكن من القلب. وتابع جليب، بانتظار أن تتوقفا عن الضحك، رواية قصته، وعلاوة على ذلك أضاف شخصيات جديدة.

وعلى ما يبدو لي أن معجمه كان أوسع من معظم الشباب الذين هم بعمر هاتين البنتين. وكلما عبرت من جانب المساكن، أرى ذكورا عند المدخل يدخنون السجائر - فتلح علي فكرة مقاطعة همهمة أحدهم قائلا: ألا يقلقك أنك بلغت عشرين عاما ولا تزال غبيا؟.

ربما أنا أتقدم بالعمر، ولكن لست سريع التحسس. منذ عشر سنين شربت كمية كبيرة جدا من المشروبات الكحولية مع شباب مثل هؤلاء - وفي تلك الفترة كنت أعتقد انهم أصحاب رائعون.

أنا أتقدم بالعمر، ولكن لا أطارد البنات اللواتي تعجبن بجليب وهو في أرض الملعب. حينما كنت أرى نفسي والدا حنونا يجلس على منصة مجاورة وعلى شفتيه كلمات حمقاء مثل: هل استمتعتن بأوقاتكن هناك؟- كلما تذكرت ذلك المشهد، أقطب وجهي باشمئزاز.

ولكن لم أبلغ حتى الآن ثلاثين عاما.

لم أبلغ ثلاثين عاما مع ذلك تغمرني السعادة.

ولم أفكر بهشاشة الحياة. ولم أبك خلال سبع سنوات - منذ اليوم الذي أخبرتني فيه عزيزتي أنها تحبني وتود أن تكون زوجتي. وبعد ذلك لم يعد عندي سبب للبكاء، ولذلك كنت أكثر من الضحك، وغالبا ما أبتسم في قارعة الطريق - لأفكاري، وللأعزة، الذين تدق قلوبهم الثلاث برشاقة مع إيقاع سعادتي.

ربت على ظهر عزيزتي، وعلى رؤوس أبنائي، وكذلك ربت على خدي غير الحليقين، كانت راحتا يدي دافئتين، وخارج النافذة ترى الثلوج والربيع، الثلج والشتاء، الثلج والخريف. هذا هو موطني. ونحن نعيش فيه.

ولكن أحيانا يفسد ابني الأكبر مزاجي بصوته، الملح كلصاقة وبقول: "أمي هل الجميع يموتون، أم ليس الجمبع؟".

قالت: "الجسد هو الذي يموت وحده يا بني. أما الروح فلا تفنى".

رد: "هذا لا يروقني".

كنت أتجنب هذه الأحادبث وأدخن في الممر.

عبث، كأنني أجمد عمدا حركة أفكاري، وأحدق بالجدار.

تبادر هذا إلى ذهني لأول مرة حينما كنت أكبر من عمره الحالي بقليل -ربما حين كنت في السابعة.

في قريتي الرمادية، والتي تصبح وردية قليلا في المساء، علقت فأسي الصغيرة برقائق الحطب المبعثرة على جذع قوي، حينما حلت هذه الفكرة دون توقع على قلبي الصغير وغلفته بالبرد الصامت - وبسبب الرعب الذي بلغ مرحلة الغضب أصبت أصبعي، وقصفت الظفر نصفين.

وخشيت أن أفزع جدتي، وكانت تقلب القش في مكان بعيد، أخفيت رأسي، وطويته بقبضتي والسبابة ممدودة، وكانت تقطر بالدم وتؤلمني جدا.

توقعت جدتي - أناديها "يا جدة"- مباشرة أن شيئا لا يسر قد حصل. وأسرعت تجري نحوي، وتسأل:

"عزيزي... ما الأمر؟ ماذا جرى... يا عزيزي؟".

لويت شفتي، وانحدرت دموعي - سالت وهبطت على طرفي وجهي الطفولي، وهو انعكاس غالبا أحاول أن أجده بوجوه أبنائي.

ضمدت الجدة أصبعي، ولم أخبرها عن أي شيء، ولم أفش الخبر لأحد في كل حياتي، وتوقفت تماما عن التفكير به.

الموت، مزعج مثل وجع الأسنان، وتذكرته فقط حينما سمعت ابني، ولكن نسيت حادث الفأس كله - لكنه عاود الظهور في ذاكرتي فجأة مع انقباض في القلب، وشعور بنزيف في البدن، وذلك حينما أخبرتني عزيزتي تقول: "وصلتنا مكالمة. تؤكد أن الجدة ماتت. الجدة".

القرية التي عشت فيها بعيدة جدا. وتحتاج لفترة طويلة لتصل إليها، والقطارات لا تذهب إلى هناك. ذهبت إلى موقف السيارات، نحو سيارتي الكبيرة البيضاء.

هناك كومة كبيرة من الثلج قرب الموقف، أنفقت فترة هامة في تنظيفها بالجاروفة، وسرعان ما تبللت وغضبت.

ثم استعملت عتلة حديدية لكسر الجليد الذي كان يبدو كأنه ينزلق إلى أرض الموقف. وترامى الجليد المكسور بشكل قطع حادة وغريبة فوق الثلج وعلى الإسفلت المكشوف.

وأمضيت فترة طويلة أسخن السيارة، وأدخن وأتعرق، وأستنزف طاقتي، وأتحول لقطع وأجزاء مكسورة - والتمعت شظية من جبين أبيض في المرآة الأمامية، ثم ظهرت من النافذة يد متجلدة بيضاء تحمل سيجارة.

بعد عشر دقائق انسحبت من الموقف، وأنا أسمع صوت الجليد وقطع الثلج تصر تحت الدواليب.

حل الظلام تماما، وأصبح من الواضح أنه يتعين علي أن أقود طيلة الليل لأتمكن من مساعدة جدي في تنظيم الجنازة.

أسرعت إلى البيت، وخرجت عزيزتي لتلقاني وتراني وأنا أنصرف، وبذراعها اغناتكا، وجليب يقف بجانبها، وشفتاه ترتعشان. لم يحتمل ذلك، واعترض وهو يبكي على انصرافي. وخاف الطفل من بكائه، وبدأ يعول عويلا ثاقبا.

شعرت بالانهيار، وهبطت على السلالم، وسمعت صوت قلبي - أصوات الولدين المؤلمة، وخفت من احتمال صوت ثالث يبكي بالإضافة لهما.

شتمت قائلا: "اللعنة. ما مشكلتك". خبط باب السيارة، ونسيت إشعال الضوء الأمامي. وكالسهم عبرت الباحة تحت جنح الظلام. وحينما أشعلت النور، رأيت كلبا يعدو وهو يتلفت حوله بذعر. كبحت الفرامل، وانزلقت السيارة. أدرت المقود باضطراب بالاتجاه المعاكس، وضغطت على عداد السرعة، وهكذا انطلقت كالرصاصة في الشارع الفارغ.

بعد نصف ساعة، هدأت قليلا، ولكن الشارع كان فظيعا. كان الثلج المتواصل ينهمر ويذوب ويتحول إلى جليد متماسك غطى الزجاج الأمامي على الفور. وكل نصف ساعة كنت أضطر للتوقف، وأخرج في الظلام البارد والمزعج، لأكشط الثلج المتجمد من أجزاء لم تكن المساحات الزاحفة تصل إليها.

لم يكن هناك ضباط عند نقاط التفتيش، وكان عدد السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس يقل باضطراد. وقد تجاوزتتي عدة مرات، وكنت أضغط على البنزين لأتوازى مع إحداها، ولكن دون إرادتي كنت أتخلف عنها بمائة متر. وعاجلا ما تلتف هذه السيارات نحو يسار الطريق أو يمينه، باتجاه قرى على الطريق، وفي النهاية، رأيت نفسي وحدي، وسط الثلوج وفي هضبة روسيا الوسطى، على الطريق الذي يصل نيجني نوفغورود مع قرية ريازان. وأحيانا كنت أتكلم بصوت مسموع، ولكن لم ينجح الحوار، فسقطت بالصمت.

أنت تتذكر كيف كانت الجدة تأتيك بالشاي في الصباح، مع البسكويت والزبدة المحلية.. فتستيقظ وتشرب، وتشعر بالدفء والسعادة..

لا أتذكر.

بل أنت تتذكر.

حاولت إبهاج نفسي. وأن أمنع نفسي عن مزيد من الأحزان، أو التخاذل، أو الانمحاء بألم وفظاعة.

تذكر: أنت طفل. أنا طفل. وجسمك لا يزال ضعيفا وبليدا. جسمي. تذكر...

كانت الجدة بالجوار، وكانت تحبني دون حدود. وكانت حريصة ورقيقة. ومن حولي العالم، وكنت أذرعه بخطوات صغيرة، مع إيمان راسخ أنه حالما أكبر سأكتشفه كله. كنت أتكلم مع الجدة كثيرا. وكانت تلاعبني وتغني لي، وكنت أحبها كثيرا. ولكن كل ذكرياتي الحية ابتعدت فجأة عن العقل والمنطق، ولم تبق حادثة مفرحة واحدة من الماضي القريب، كلها فقدت الحيوية والدفء. ثم زعقت المكانس وأضاعت تلك الذكريات وألعدتها عن زجاج السيارة الأمامي.

كان الطريق يتلوى عبر غابات موروم***.

وكانت فيها جداول صغيرة لا تحصى مغطاة بالجليد، وتتخللها القرى المحرومة من أي ضوء مشع وملتهب.

أردت أن أشاهد على الأقل ضوء الشارع - ليغمز لي بترحيب - ولكن من يرغب بنور الشارع غيري.

وتابعت السيارة رحلتها بثبات، مع أن الطريق، كما أرى وأشعر، كان زلقا، وغير واضح ولم تهب عليه ذرات الرمال.

بعد عدة ساعات بلغت تقاطعا - وانتهى طريقي بأتوستراد بأربع معابر. وهنا أخيرا رأيت شاحنة هائلة الحجم قادمة من جهة اليسار، وأسعدتتي رؤيتها، لأنني لست تائها وحدي في هذه الأرض المتجمدة - هنا يوجد سائق شاحنة ينطلق إلى الأمام بسرعة قصوى.

كانت شاحنته فارغة، ولذلك لم يكن مرعوبا من شرطة المرور ولا من الشيطان، ولربما أسعدته رؤيتي...

هكذا فكرت وانا أضغط على الفرامل لأسمح للشاحنة بالعبور، ولكن الطريق لم يسمح لسيارتي بالتوقف، والدواليب لم تتمسك بالإسفلت. حتى الرياح، على ما يبدو، كانت تهب على زجاج السيارة الخلفي، وتدفعني، وتضع جسمي كله في عربة دافئة تختنق بالدخان وتحت تأثير لطمة هائلة.

إيفاو. جا. Ivau! Ga

صباح الخير يا بابا...

تمسكت بعلبة السرعة، وحركتها من وضعها المحايد إلى السرعة الثانية، ثم إلى الأولى - وحاولت أن أضغط على الفرامل بتلك الطريقة. اهتزت السيارة. لبعض الوقت بدا أنها تباطأت، ولكنني كنت قد أصبحت على الأتوستراد. وأنظر إلى الأمام بغباء، أتأمل الفراغ وهطول بلورات الثلج الأبيض. من وجهة اليسار، وجهي، المعكوس على المرآة الصغيرة بهيئة طائشة، كان يسبح بدائرة كبيرة من الضوء.

لم يبطئ السائق، ولكن أدار المقود وتحرك بسرعة إلى المعبر المعاكس والفارغ. وارتطمت الشاحنة وذيلها الطويل يتموج وراءها، وتابعت الحركة أمام نظري، وتجاوزت سيارتي بما ينوف على نصف متر.

وعندما اختفى الرجل الأخضر العملاق، داخل زوبعة من الغيوم الثلجية، أدركت أنني لا زلت أتأرجح ببطء. وأنني أحرك المقود بهدوء، مثل طفل يمثل دور سائق.

عبرت الشارع بالسرعة الأولى. وتابع قائد الشاحنة بالاتجاه المعاكس لحوالي مائة متر، ثم عاد إلى معبره، دون توقف، وأخبرني أنني... أنني ميت.

فتحت النافذة قليلا وتابعت بالسرعة الثانية. ثم الثالثة. وتقريبا قفزت بها إلى السرعة الرابعة مباشرة.

***

........................

* اختصار اغناطيوس.

**Ivau. Ga

*** مدينة روسية.

زاخار بريليبين Zakhar Prilepin: كاتب وسياسي روسي معاصر. شارك في حروب الشيشان وكتب عنها. من أهم أعماله رواية "سانكا" التي ترجمها إلى العربية تحسين رزاق جاسم ونشرها مشروع كلمة، في أبو ظبي. وهذه الترجمة فصل من رواية قصص بعنوان "خطيئة". تدل قصصه على روح إنسانية ووطنية وعلى إحساس شعري وبشري بالحياة وبالأرض وبروسيا الأم. تقول أولغا زلبربورغ - من بطرسبورغ عن بريليبين: إنه كاتب إشكالي. ويتحرى متابعة وخلق الأزمات. وتعتبر روايته "سانكا" من الأعمال التقليدية المعارضة التي أثارت عدة زوابع حول الوجود الروسي في العالم. ومفهوم الأنوثة والذكورة في المجتمع. وقد يفهم من كتاباته أنه لا يشجع على استضافة الأجانب في الأوساط الروسية. فهو انتقائي وينطوي على تاريخ الشعوب السلوفينية لدرجة الانغلاق.

بقلم: إدغار ألِن بو

ترجمة نزار سرطاوي

***

صحيح! – كنت متوتّرًا – متوتّرًا بصورةٍ مريعة، كنت ولم أزل. لكنْ لِمَ ستقولون إني مجنون؟ لقد شحذ المرضُ حواسّي – ولم يدمّرْها – ولا أضعفْها، خصوصًا حِدّةَ حاسةِ السَمْع. سمعت الأشياءَ كلَّها في السماء وفي الأرض. سمعتُ أشياءَ كثيرةً في الجحيم. فكيف إذًا أكون مجنونًا؟ أنصِتوا! ولاحظوا كيف أني قادرٌ على أن أحكي لكم القصةَ من أولها إلى آخرها وأنا بكامل عافيتي وهدوئي.

من المستحيل أن أصفَ كيف دخلَتِ الفكرةُ عقلي في البداية. لكنْ بمجرد أن استوعبتها، راحت تطاردني ليلَ نهار. لم يكن ثمّة هدف. ولم يكن ثمّة تَعلُّق. لقد أحببتُ الرجلَ العجوز. ولم يحدثْ أن أساء إليّ قطُّ أو وجّهَ إليّ أيةَ إهانة. ولم أكن أطمعُ فيما لديه من ذهب. أظنّ أنها كانت عيْنُه! نعم كانت هيَ! كانت إحدى عينيه تشبهُ عينَ النسر – عينٌ زرقاءُ شاحبةٌ فوقَها طبقة. كلما وقَعَتْ عليّ عيناه، جرى الدم باردًا في عروقي. وهكذا خطوةً خطوة – بشكل تدريجي – اتخذت قراري بإنهاء حياةِ الرجلِ العجوز، وبذلك أريحُ نفسي من العين إلى الأبد.

المسألة الهامة هي هذه. أنتم تتصوَّرون أنّي مجنون. المجانين لا يعرفون شيئًا. ولكن لو رأيتموني. لو رأيتم حكمتي في التصرف – كم كنتُ حَذِرًا – كم كنتُ بعيدَ النظر – كم كنت مُرائيًا حين شرعتُ في العمل! لم أكن أبدًا أعامِلُ الرجل العجوز بعطفٍ أكثر مما كنت أفعل خلال الأسبوعِ الذي سبق قتلي إياه. وفي كل ليلةٍ في حوالي منتصف الليل كنت أدير مزلاجَ بابه وأفتحه – آه، بكل لطف! وبعد ذلك، عندما تكون الفتحةُ كافية لإدخال رأسي، أدخِلُ مصباحًا مُعتِمًا مُغلقًا، مغلقًا كي لا يَصدُرَ عنه أيُّ ضوء. ثم أدفعُ برأسي. آه، كنتم ستضحكون لو رأيتم كيف كنت أدفعُ بهُ بطريقةٍ ماكرة! أُحرّكُه ببطء - ببطءٍ شديد، حتى لا أقلِق نومَ الرجل العجوز. استغرق الأمر مني ساعةً لأدخِلَ رأسي كاملًا عبر الفُتحة لأتمكن من رؤيته مستلقيًا في فراشه. ها! – هل كان في مقدور المجنون أن يكون حكيمًا هكذا؟ وبعد ذلك، عندما أدخِلُ رأسي بكامله في الغرفة، أعمدُ إلى فتحِ الفانوس بحذر – آه، بحذرٍ شديد – بحذرٍ (لأنّ المُفَصَّلات كانت تُصدِر صريرًا) – أفتحُه قليلًا بما يكفي لشعاعٍ رفيعٍ واحدٍ أن يسقط على عينِ النسر. كرّرْتُ هذا الفعلَ لسبعِ ليالٍ طوال – كل ليلة في منتصف الليل – لكنني كنت أجدُ العين دائمًا مغمَضةً. لذا كان من المستحيل القيام بالعمل، لأن الرجلَ العجوزَ لم يكن هو من يثيرني، بل عينُه الشريرة. وفي كل صباحٍ مع بداية النهار، كنت أذهبُ إلى الغرفة بكل جرأة وأتحدثُ إليه بجسارة، مناديًا عليه باسمه بنبرةٍ حانية، وأسأله كيف قضى ليلته. لذا لا بد أن يكون شيخًا عميق التفكير حتى تساورَه الريبةُ في أني كنت كلَّ ليلةٍ في تمام الساعة الثانية عشرة أطيلُ النظرَ إليه أثناء نومه.

في الليلة الثامنةِ كنت أشدَّ حذرًا من المعتاد في فتح الباب. عقربُ الدقائق داخلَ الساعة يتحرك بسرعةٍ أكبرَ مما كان يتحرك في ساعتي. لم يسبقْ لي أن أحسستُ قبل تلك الليلةِ بمدى قوتي – قوةِ حصافتي. أكاد لا أقوى على احتواء شعوري بالانتصار، أن أتصوّر أنني هناك، أفتح الباب شيئًا فشيئًا، وهو لا يتخيّل أفعالي أو أفكاري الخفيّة حتى في أحلامه. ضحكت قليلًا حين راودَتْني تلك الفكرة. وربما سمعني. إذ أنه تحرّك فوق السرير بغتةً كأنما أصابه الفزع. قد يخطر ببالكم الآن أنني تراجعت – لكن لا. كانت غرفتُه سوداءَ كالقار في الظلمة الحالكة، (إذ أن المصاريع كانت مقفَلَةً بإِحكام خوفًا من اللصوص،) ولذا أدركت أنه لم يكن بإمكانه أن يرى فتحة الباب، فواصلت دفعَه بلا توقف.

كان رأسي في الداخل، وكنت أوشك أن أفتح الفانوس، عندما انزلق إبهامي على القفل القصديري، ونهض الرجل العجوز من الفراش صائحًا – "من هناك؟"

تجمّدتُ في مكاني ولم اقل شيئا. لساعةٍ كاملةٍ لم أحرك عضلةً واحدة، وفي الأثناء لم أسمعْه يستلقي. كان لا يزال جالسًا على الفراش يتنصّت – كما كنت أفعل ليلةً إثرَ ليلة، أستمع لساعاتِ الموت المعلقةِ على الجدار.

بعد قليلٍ سمعت أنينًا خافتًا، وعرفت أنه كان أنينَ الفزعِ الشديد. لم يكن أنينَ ألمٍ أو حزن – كلا! – بل كان الصوتَ الخفيضَ المخنوقَ الذي ينبعث من أعماقِ الروحِ عندما تملأها الرهبة. أعرف ذلك الصوتَ جيدًا. وكم من ليلةٍ، حين كانت الدنيا كلُّها نائمةً في منتصف الليل، كان يتدفق خارجًا من صدري وبصداه الرهيبِ يعُمّقُ الذُعرَ الذي يُشَتّتُ ذهني. أقول إنني كنت أعرف ذلك جيدًا. أعرف ما يشعر به الرجل العجوز، وأشفق عليه، على الرغم من أنني كنتُ أضحكُ في سِرّي. كنت أعلم أنه كان يستلقي مستيقظًا منذ أن سمعَ أوّلَ ضجيجٍ خفيف، عندما تقلّب في فراشه. كانت مخاوفُه تتزايد منذ ذلك الحين. كان يحاول أن يتصوّرَ أنها كانت بلا مبرر، لكنه لم يستطع. كان يقول في نفسه – "إنها ليست سوى الريحِ في المدخنة – إنه مجردُ فأرٍ يعبر الغرفة"، أو "إنه مجردُ صرصارٍ هسهس مرةً واحدة." نعم، كان يحاول أن يُطمئن نفسه بهذه الافتراضات: لكنه وجد أن كل ذلك كان بلا جدوى. بلا جدوى لأن الموت في اقترابه منه راح يتهادى أمامه بشبحه الأسود، ثم غشِيَ الضحية. وكان التأثيرُ الكئيبُ للشبحِ اللامحسوسِ هو ما جعله يشعر – مع أنه لم يرَ أو يسمع – يشعر بوجود رأسي داخل الغرفة.

بعد أن انتظرت وقتًا طويلاً بكلِّ صبر، دون أن أسمعَه يستلقي، قررت أن أفتح فُتحةً – فُتحةً بالغة الصِغر في الفانوس. لذلك فتحته – لا يمكنكم أن تتخيلوا كيف فعلت ذلك بخفّة، بخفّة – إلى أن انطلق من الفتحةِ أخيرًا شعاعٌ واحد خافت مثل خيط العنكبوت، وسقط على عين النسر.

كانت مفتوحةً – مفتوحة على أقصى تساعها – واجتاحني الغضب عندما حدّقْت بها. رأيتها بوضوحٍ تامّ – زرقاءَ باهتةً كلَّها، وفوقها حجابٌ شنيعٌ جعل البردَ يجتاح نخاعَ عظامي. لكني لم ستطعْ أن أرى أي جزءٍ آخرَ من وجه الرجل العجوز أو جسمه. فقد وجهتُ الشعاع كما لو كان ذلك بالفطرة، على البقعةِ اللعينة تمامًا.

ألم أقلْ لكم إن ما تحسبونه جنونًا ما هو إلا زيادةٌ في حدّة الحواس؟ – أقول، وصل إلى أذنيَّ صوتٌ خفيضٌ خافتٌ سريع، أشبه بالصوت الذي تصدره الساعةُ حين تكون مُغَلّفة بالقطن. كنت أعرف هذا الصوتَ جيدًا أيضًا. إنّه دقات قلب الرجل العجوز. وقد زاد من اشتعال غضبي، كما يستنهضُ قرعُ الطبلِ شجاعةَ الجندي.

لكن حتى تلك اللحظة أحجمتُ عن فعلِ أي شيءٍ وبقيت ساكنًا. بل إنني لم أتنفس إلا قليلًا. جعلت الفانوسَ ثابتًا لا يتحرك. حاولت ما أمكنني أن أثبّتَ الشعاعَ على العين. في غضون ذلك، تعاظمَتْ دقاتُ القلبِ الجهنمية. راحت تسرع أكثر فأكثر ويعلو صوتها أكثر فأكثر في كل لحظة. لا بدّ أن رعبَ الرجل العجوز كان في أوجه! أقول يعلو صوتُها أكثر في كل لحظة! - هل تَعونَ ما أقول جيدا؟ لقد أخبرتُكم أني متوتر، وأنا حقًا كذلك. والآن في الساعة الميّتة من الليل، وسطَ الصمت الرهيب لذلك البيت القديم، أثارَ مثلُ ذلك الضجيج الغريب فيّ رعبًا لا سبيل إلى السيطرة عليه. ومع ذلك أحجمتُ لبضعِ دقائقَ أخرى عن فعلِ أي شيء ووقفت ساكنًا. لكنّ ضرباتِ القلب ظلت تعلو أكثر فأكثر! تخيلت أن القلبَ لا بدّ أن ينفجر. والآن استحوذ عليّ قلقٌ جديد – أحدُ الجيران سيسمع الصوت! حانت ساعة الرجل العجوز! بصرخةٍ عالية فتحت المصباح وقفزت إلى داخلِ الغرفة. زعقَ مرةً واحدة - واحدةً لا غير. قمتُ بسحبه إلى الأرض، وسحبت الفراش الثقيل فوقه. ثم ابتسمت فرحًا أن أرى ما أنجزتُ من الفعل حتى تلك اللحظة. لكنْ، لبضع دقائقَ، ظلَّ القلب يدقّ بصوتٍ مكتوم. غير أن هذا لم يزعجْني. لن يسمعَه أحدٌ من خلال الجدار. وأخيرًا توقف. مات الرجل العجوز، مات تمامًا. رفعت الفراشَ وتفحصت الجثة. نعم، كان ميتًا، ميتًا تمامًا. وضعت يدي على القلب وأبقيتها هناك عدةَ دقائق. لم يكن ثمّة نبض. كان ميتًا تمامًا. لن تزعجَني عينُه بعد اليوم.

إن كنتم لا تزالون تحسبونني مجنونًا، فلن تحسبوني كذلك بعد الآن حين أصف لكم الاحتياطاتِ الحكيمةَ التي اتخذتها لإخفاء الجسد. اقترب الليل من نهايته، فرُحتُ أعمل بسرعةٍ ولكن بصمت. بدايةً قمت بتقطيع الجثة. فصلتُ الرأسَ والذراعين والساقين.

ثم تناولت ثلاثةَ عوارضَ من أرضية الغرفة، ووضعتها جميعًا بين الألواح الصغيرة. ثم استبدلت الألواحَ بمهارةٍ ومكرٍ شديدين، بحيث لا يمكن لأي عين بشرية - ولا حتى عينه - اكتشاف أي خطأ. لم يكن ثمّة ما يحتاج لأن يُغسل – لم تكن هناك أية بقعة – ولا نقطةِ دمٍ إطلاقًا. لقد كنت في غاية الحذر في تلك المسألة. فقد استوعبَتِ المغسلةُ كل شيء – ها! ها!

عندما أنتهيتُ من هذه الأعمال، كانت الساعة تشير إلى الرابعة – والعتمةُ ما تزالُ كما كانت في منتصف الليل. عندما دقت الساعة معلنةً تمام الساعة، سمعتُ طَرقًا على الباب الذي يُفضي إلى الشارع.  نزلت لأفتحَه وأنا أشعر بالفرح، – فما الذي أخافه الآن؟ دخل ثلاثةُ رجالٍ قدّموا أنفسهم في غاية اللطف على أنهم ضباطُ شرطة. كان أحد الجيران قد سمع صرخةً أثناء الليل، الأمر الذي أثار الشكوكَ في أن جريمةً قد وقعت؛ وصلت المعلومات إلى مكتب الشرطة، وتمّ تكليفهم (الضباط) بتفتيش المبنى.

ابتسمتُ، فما الداعي للخوف؟ استقبلتُ السادةَ بالترحاب. قلت إنّ الصرخة صدرت عني في المنام. وذكرت أن الرجل العجوز كان غائبًا في الأرياف. أخذت زُوّاري في جولةٍ في أنحاء المنزل كافّة. طلبت منهم أن يُفتشوا – أن يُفتشوا جيدًا. أخذتهم في الختام إلى غرفته. أطلعتُهم على كنوزِه، كانت في الحفظ والصوْن، لم يمسسها أحد. وفي اندفاع الواثق من نفسه أحضرت بعض الكراسي إلى الغرفة، وطلبت إليهم أن يستريحوا هنا من التعب، بينما أنا نفسي، بجرأتي الجامحة التي وَلّدها انتصاري المثالي، وضعت مقعدي فوق المكان عينِه الذي كانت جثةُ الضحيةِ ترقد تحته.

كان الضباط راضين. فقد أقنعهم سلوكي. أحسستُ براحة لا مثيل لها. وجلسوا، وفيما كنت أجيب بمرح، راحوا يتحدثون حولَ أشياءَ مألوفة. لكنْ، قبل أن يمضيَ الكثير من الوقت، شعرت أني أصبحت شاحبًا وتمنيت أن يذهبوا. شعرت بصداعٍ في رأسي، وتخيلت طنينًا في أذنيّ. لكنهما ظلوا جالسين يتحدثون. ازداد الطنين وضوحًا. –  استمر وصار أكثر وضوحًا: رحتُ أتحدث بحريةٍ أكبرَ للتخلص من ذلك الشعور. لكنه استمر وازداد قوةً – إلى أن اكتشفتُ أن الضجيج لم يكن في أذنيّ.

لا شك أنني أصبحت الآن في غايةِ الشحوب. لكني كنت أتحدثُ بطلاقةٍ وبصوت عالٍ. ومع ذلك، ارتفع الصوت – وما الذي كان في وسعي أن أفعله؟ كان صوتًا خفيضًا وباهتًا وسريعًا – يشبه إلى حدٍّ كبير الصوت الذي تصدره الساعة عند تغليفها بالقطن. شهقتُ لألتقطَ أنفاسي – ومع ذلك لم يسمعِ الضباطُ ذلك. رحتُ أتحدثُ بسرعة أكبر – بحدّةٍ أكبر؛ لكن الضجيجَ كان يعلو باطَّراد. نهضتُ وشرعت أجادل في أشياءَ تافهة بنبرةٍ عالية وإيماءات عنيفة. لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. لمَ لا يريدون أن يرحلوا؟ بدأتُ أذرعُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا بخطواتٍ ثقيلة، وكأنّ ملاحظاتِ الرجال قد أثارت حماسي إلى حد الغضب – لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. يا إلهي! ماذا عساي أن أفعل؟ أرغيتُ وأزبدتُ – هذيتُ – أطلقتُ الشتائم! حرّكت الكرسيَّ الذي كنت أجلس عليه، جعلته يحتك بالألواح، لكن الضجيج علا في كل مكان وتزايد باطّراد. ازداد ارتفاعًا – أكثرَ – أكثرَ! الرجال ما زالوا يتحدثون بلطفٍ ويبتسمون. أيُحتملُ أنهم لم يسمعوا؟ يا الله! - لا لا! بل سمعوا! ! – ارتابوا – عرفو! - كانوا يسخرون من فَزعي! - هذا ما تصورته وهذا ما أعتقده. لكنْ كان أيُّ شيءٍ أفضلَ من هذا العذاب! كان من الممكن تحمّلُ أي شيءٍ أكثر من هذه السخرية! لم أعد أقوى على تحمُلِّ تلك الابتسامات المنافقة! أحسست أنه لا بد لي أن أصرخَ أو أموت! – والآن – مرة أخرى! – أصيخوا السمع! الصوت يعلو أكثر! أكثر! أكثر! أكثر! – "أيها الأوغاد!" صرختُ، "كفاكم تظاهرًا! أعترفُ أنني الفاعل! – حَطِّموا الألواح! – هنا هنا! - إنها دقّات قلبِه البشع!"

***

..........................

نبذة عن حياة الكاتب

ولد بو في 19 يناير 1809 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس. تيتم في سِنٍّ مبكرة، فقد تخلّى والده عن الأسرة بعد سنةٍ من مولده. أما والدته فقد أصيبت بالسلّ وتوفيت في أواخر عام 1811، قبل أن يتم عامه الثالث. وإثر ذلك تبناه جون آلان وزوجته فرانسيس من ريتشموند بولاية فيرجينيا دون أن يمنحاه اسم عائلتهما. وكان جون تاجرًا ثريًا، وقد انتقل مع زوجته وبرفقتهما بو عام 1815 إلى إنغلترا. وهناك التحق بو بمدرسة داخلية، حيث تفوق أكاديميًا. وبعد خمسة أعوام عادوا جميعًا إلى ريتشموند، ليكمل بو دراسته. وقد أظهر ميلًا كبير إلى اللفة اللاتينية والشعر.

أراد جون أن يجعل من إدغار رجل أعمال مثله، لكن بو كان يحلم منذ طفولته بأن يصبح شاعراً. وقد كتب وهو في سن الثالثة عشرة ما يكفي من الشعر لتأليف كتاب. حدثت بينه وبين جون خلافات بسبب رفض الأخير أن يجعله ابنه بالتبني بصورة رسمية. وهكذا فإن بو بقي محتفظًا باسم عائلته الأصلي.

في عام 1820 التحق بجامعة فيرجينيا. وهناك انجذب إلى اللغة اللاتينية والشعر. لكن ارتباطه بالجامعة لم يستمر، حيث اضطر إلى المغادرة بسبب مشاكل مالية. وكان لحالته المالية تأثير كبير على علاقته بوالده بالتبني. إذ أن جون امتنع عن توفير أموال كافية لرسوم جامعته. وبسبب هذا التوتر بينهما غادر بو منزل جون سعيًا إلى تحقيق حلمه في أن يصبح شاعراً عظيماً.

في عام 1827 ، عندما كان عمر بو ثمانية عشر عامًا، نشر ديوانه الشعري الأول بعنوان "تيمور لنك." وبعد حوالي عامين، أصدر ديوانه الثاني "الأعراف"(1829).

التحق بو بالأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت. لكنه ُطرِد منها بعد ثمانية أشهر من التسجيل، وذلك بسبب مشاكله الماليه. وفي عام 1831، انتقل للعيش مع خالته ماريا كليم في بالتيمور بولاية ميريلاند. وهناك ارتبط بابنتها فيرجينيا إليزا كليم بالخطوبة، ثم تزوجها لاحقًا.

بدأ بنشر قصصه القصيرة وقصائده في عام 1833 في مجلة أسبوعية تصدر في بالتيمور. وبعد ذلك بعامين عمل محررًا لمجلة "المراسل الأدبي الجنوبي"، كما كان ينشر فيها إنتاجه الأدبي. وقد شكّل ذلك نقلة نوعية في حياته العملية. ففي غضون عام، بدأ يكتسب شهرة عالية من خلال قصصه ومراجعاته الساخرة للكتب. وكانت له مساهمات في مجلات أخرى.

في عام 1837 انتقل بو إلى نيويورك وفي العام الذي يليه إلى فيلادلفيا. واستمر في تقديم مساهماته في مختلف المجلات. لكن على الرغم من نجاحه وشهرته الصاعدة، ظل يعاني من الأزمات المالية.

في عام  1845 نشر بو قصيدته المطولة الشهيرة "الغراب". وفي العام نفسه نشر  كتابين. كما أنه كان يلقى محاضراتٍ تجذب أعدادًا كبيرة من المهتمين. وقد حاول إحداث تغيير في صناعة المجلات، وحاول أن يصدر مجلته الخاصة. لكنه لم يقدر على تحقيقه.

توفي بو في طروف غامضة في 7 أكتوبر 1849، ودفن في مدينة بالتيمور.

 

إيمانويل جيسي: يدي ملفوفة حول خصرها: هايكو

بقلم: إيمانويل جيسي كالوسيان

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1)

التجول في المساء:

يدي ملفوفة حول خصرها

لأول مرة

(2)

ثمة أضواء صفراء

انتشرت على مقربة من النجوم -

اليعاسيب

(3)

زمهرير

تفوح رائحة أخي الراحل

من غرفة نومه

(4)

حديقة أسماك في الربيع

يظهر إبني لقناديل البحر

كتاب اختباراته المدرسية

(5)

عبق الريح

ترحيب

بالهرمتان *

(6)

هجمات طائرات بدون طيار

يذهب طفلي إلى فراشه

حاملا بقايا حجارة

(7)

رجل بلا مأوى

ينظم مسكنه الجديد

مع قرب هبوب العاصفة

(8)

أمواج –

ثمة رجل يتبول

في المياه الراكدة

(9)

انقطاع التيار الكهربائي

شرعت حشرة السيكادا تغني

في الجوار

(10)

ضجيج صادر عن احتفال

لغو لغو لغو

دجاج

***

...................

* الهرمتان: ريح حارة جافة تهب على غرب أفريقيا من الصحراء الافريقية الكبرى.

- (إيمانويل جيسي كالوسيان): شاعر هايكو ومحرر نيجيري معروف عالميا. ولد في 8 شباط 1996 (بورت هاركورت – ولاية ريفرز). نشر قصائده في الدوريات والصحف الافريقية والدولية. أسس مع الشاعر الغيني (أدجيي أجيي باه) مجلة (مامبا) المعنية بالهايكو في أفريقيا. حصل على إشادة في مسابقة (فلاديمير ديفيدي) الدولية للهايكو 2015 ، وحل بالمرتبة الثالثة في مسابقة (كوكاي) الأوروبية في نسختها ال (12). مترجمة عن الإنكليزية: -

1 – Emmanuel Kalusian – The Haiku Foundation. https: // thehaikufoundation.org

2 – Haiku – a poem by Jessie Kalusian – All Poetry. https: // allpoetry. com

3 – Family Haiku – brass bell: a haiku Journal. http: // brassbellhaiku. blogspot. com

4 – Volume XVIII. Number 1: March 2016 – page 2 – The Heron’s Nest …. https: // www. theheronnest. com

5 – SPRING 2018 I home Wales Haiku Journal. https: // www. waleshaikujournal. com

6 – Afriku ‘ Mwamba. A gathering African pebbles I Ayush’s …. https: // medium. com

7 – Creatrix 31 Haiku – WA Poets Inc. https: // wapoets. com

الصفحة 6 من 7

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم