ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

قصة: جونزالو هيرنانديز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

راقبته وهو يمشي، وتفحصت مشيته.لقد كان متهورًا وغير مبالٍ وغير مسؤول.لم يهتم بالمدة التي ظل فيها هذا الشيء يعوي: دقائق أو ساعات أو يوم أو حتى أيام. نظرت إلى ملابسه. كان يرتدي بنطال تشينو أزرق ومعطفًا رياضيًا أبيض. يظهر تحته قميص منقوش. توقف للحظة وهو يبحث عن حلقة مفاتيحه. لقد كان شابا. خرجت من مخبئي ووجهت مسدسى نحوه.

أمرته :

-  اجعله يصمت.

نظر إلي متأثراً، ورمش بعينيه. اهتزت يداه. أسقط سلسلة مفاتيحه. وضعت المسدس علي صدغه.

-  التقطها. سريعا!

-   صديق من فضلك...

- اصمت! واغلق سيارتك اللعينة أيضا.

ضغط على الزر الخطأ. استمر الإنذار في الرنين. أمسكت بالمسدس من الماسورة  وضربته بمؤخرته على رأسه. سقط على ظهره، وأصدر أنينًا يرثى له. بالإضافة إلى خوفه، كان في حالة سكر. يا للأحمق المسكين.

التقطت سلسلة المفاتيح وقمت بنفسي لوضع حد ل هذه الضوضاء المجنونة..

قلت له وأنا أرمي له المفاتيح:

- الآن ستفتح الأبواب. لا حماقة جديدة.

أومأ برأسه وتمتم بشيء لم أفهمه. اعتقدت أن موقفي يجب أن يعكس التصميم الحقيقي. دعنا نقول، نوع من القناعة الأخلاقية. لم يحاول الرجل أن يعرض علي المال، أو يخرج محفظته، أو يفعل أيًا من الأشياء الغبية الأخرى التي قد يتوقعها المرء من رجل في مثل موقفه، يائس تقريبا . وهذا الذى ملأني بالثقة.

انطلقت صفيرتان متبوعتان بنقرة، للإشارة إلى أن آلية القفل المركزي قد تم فتحها . صوبت المسدس نحوه مرة أخرى، وطلبت منه أن يصعد. جلست في المقعد الخلفي، وكنت قلقا قليلا كانت هناك ملابس متناثرة: قمصان وسراويل وبعض السترات. رميتها جميعًا على الطريق. كانت مساند الرأس مغطاة بالبلاستيك الشفاف، ولا تزال رائحة السيارة جديدة. بدا كل شيء فيها جديدًا تمامًا، باستثناء السائق.

- أستطيع أن أشم رائحة خوفك، يا ابن العاهرة. هل انت خائف؟

-  صديقى، من فضلك لا تؤذيني. سأعطيك أي شيء تريده.

- أريدك أن تقود. قم بتشغيل المحرك واتجه مباشرة إلى الشارع. لا تتجاوز الثلاثين وإلا سأطلق النار .

أطاع الأمر، ربما كان سيكون أقل طاعة لو علم أنني لم أحمل سلاحًا قط. أضاءت الأضواء على اللوحة. كان الجزء الداخلي مليئًا بالومضات الخضراء والصفراء. أظهرت الساعة الموجودة أعلى لوحة القيادة الساعة الرابعة والنصف. بدأت السيارة رحلة ممتعة وصامتة.

سألته :

- هل تعرف كم الساعة الآن؟

حاول الإجابة لكنه تلعثم. لم أتركه يتكلم:

- إنه وقت مبكر من صباح يوم الاثنين. سيارتك كانت ترن منذ ليلة السبت. هل لديك تفسير منطقي لذلك؟

- أنا...، لا أعرف، لا أفهم، لقد أبقيت الأمر هادئًا. يستمع…

-  لا. استمع. كان علي أن أتحمل هذا الضجيج طوال ليلة السبت وفي وقت مبكر من صباح الأحد. بالأمس، خلال النهار، ظل روثك يرن. اعتقدت في مرحلة ما أنها سوف تتوقف. قلت لنفسي: "الصبر، يجب على المالك أن يأتي في وقت ما ويوقف هذا." لم يكن الأمر كذلك. أنت لم تظهر حتى الآن. لا بد لي من تصحيح الاختبارات ليوم غد، هل تعلم؟ العديد من الامتحانات. أنا مدرس ولدي مسؤوليات يجب أن أقوم بها، ولا أستطيع القيام بها إذا كان هناك ضجيج من الجحيم يزعجني طوال الوقت. أحتاج إلى إبقاء ذهني في سلام للتركيز. أحتاج الصمت، هل تفهم؟ انعطف يمينًا في هذا الشارع.

فعل الرجل ذلك. تنهد أيضا. ربما شعر بالارتياح لأنه لم يكن يتعامل مع لص عادي. ربما كان يعتقد أن وضعه لن يكون سيئًا للغاية إذا كان المجرم ، وهو رجل حاصل على درجة تدريس وليس مجرمًا عاديًا، هو الذي يهدده من المقعد الخلفي.

بدأت السيارة في النزول. لقد كانت مخاطرة لا مفر منها: كان علينا النزول إلى أحد الشوارع. كان من الممكن أن يحاول الرجل ترك الفرامل والضغط على دواسة الوقود والاصطدام بشيء ما. ومن الممكن أيضًا أن تكون أعصابه قد خانته، خاصة أنه كان مخمورًا إلى حد ما. لقد حذرته على النحو الواجب من هذا الاحتمال وغيره. كان لديه الحس السليم للقيام بالأشياء بشكل صحيح وعدم تجربة أي شيء غبي خلال المبانى السكنية  الثلاثة  التي كان علينا تجاوزها.

قلت له:

- الآن أبدا القيادة واذهب إلى الشاطئ ولا تتجاوز فى سرعتك الثلاثين.

واصلنا الصمت حتى وصلنا إلى وجهتنا: منعطف في الطريق حيث رصيف متهالك. لم نلتق بأي شخص خلال رحلتنا القصيرة.

قلت بعد أن أوقفت السيارة على جانب الطريق:

- انزل الآن .

لم أغفل عنه. أشرت بالمسدس نحو الرصيف القديم. أغمض عينيه وأطلق سيلاً من الأدعية.

- توقف عن ذلك! لا أريد أن أرى دموعك أو أسمع أنينك. سوف تتصرف كرجل. تحمل مسؤولية أفعالك!

– من فضلك، أنا…، لا أستطيع أن أعرف! لقد كنت بعيدا! لو سمعت صوت الإنذار لكنت ذهبت لأرى ما يحدث، لكنت أوقفته. من فضلك لا تؤذيني. لدي إبن...

- أين كنت؟

ربما لم يكن يتوقع السؤال.

-  أنا... كان لدي شيء يجب أن أفعله... بعيدًا، حسنًا ليس بعيدًا جدًا ولكن على بعد بضعة مبانٍ من المكان...

-  لماذا تركت السيارة أمام منزلي؟

- لم أكن أعلم أنه منزلك يا صديقي!

- أنا لست صديقك! إذا قلت ذلك مرة أخرى، سأضع رصاصة في ساقك.

-  حسنا.

- لا ! ليس حسنا! لم تكن تعلم أنه منزلي، ولم تكن تعرف من أنا على الإطلاق. لقد تصادف أنه ملكي، لكن من الممكن أن يكون ملكًا لشخص طريح الفراش، أو لعائلة لديها أطفال يحتاجون إلى النوم والراحة، أو ببساطة لشخص يقدر الصمت ولا يستطيع الحصول عليه بسبب شخص غير مسؤول، فاقد الوعي، شخص يعبث براحة الناس وسلامهم وهدوئهم. وكل ذلك لأنه كان يشرب! هل ستنكر ذلك؟

- لا...أعني، نعم، شربت قليلا، ولكن...

- كم عمرك؟

وصلنا إلى الرصيف.كان يتبول على نفسه.

-  اثنان ... سبعة وعشرون.

-  ماذا  تعمل؟

- أنا أدرس... هندسة الغابات.

- الغابات هاه؟ لماذا؟ حتى تتمكن من التعامل مع البيئة بنفس الطيش؟ أن تفكر فقط في راحتك الشخصية، وتهتم برفاهية الآخرين؟ لست متفاجئا. جيلك كله يفكر بنفس الطريقة. إنهم مسيئون وأنانيون. تقول أن لديك ابنا؟. كم عمره؟

ابتلع ريقه .

قال وهو على وشك البكاء:

- خمسة .

- ليس لديه أدنى فكرة عن مدى اقترابه من أن يصبح يتيمًا، يا للمسكين..

لقد انهار. سقط على ركبتيه وغطى وجهه بيديه. منعته من الصراخ وجعلته يزحف عبر الرصيف. أخرجت حبلاً وقيدت يديه إلى حافة السياج من جانب واحد. كانت عقدتي خرقاء؛ فليس لدي خبرة كبيرة بالحبال، لكن هذا لم يكن مهمًا. تساقط المخاط على شفتيه.

عدت إلى السيارة التي كانت لا تزال تحتوي على المفاتيح. قمت بسحب فرملة اليد ودفعتها يدويًا إلى حافة المنصة الخشبية الهشة، والتي كانت تصدر صريرًا قليلاً. كان الشيء يميل بشكل واضح، عشرين أو خمس وعشرين درجة.

- من فضلك، سأدفع لك ما تريد، وسوف أعوضك. لو سمحت.

لقد ضربته على وجهه مرة أخرى. كانت تلك هي اللحظة التي انهار فيها الرصيف. كان  معلقا فوق جزء ضحل من النهر، لذلك اصطدمت السيارة بشكل أساسي بالصخور والحطام، مما أدى إلى اصطدام مدو. هربت مجموعة من الفئران من الظل. بدأ صوت الإنذار فى الانطلاق .

قلت له:

- هذا لكي تعلم أنه عندما تحتاج حقًا إلى جهاز الإنذار، فلن يأخذه أحد في الاعتبار.

تركته خلفى مع همهماته وهذا الصوت الرهيب. مشيت مسافة بنايتين حتى وصلت إلى حيث كانت شاحنتي القديمة متوقفة: في زقاق، بعيدًا عن الأنظار. دخلت ورجعت إلى المنزل. لا يزال أمامي حوالي ثلاثين اختبارًا لتصحيحها.

(تمت)

***

........................

المؤلف: جونزالو هيرنانديز/ Gonzalo Hernández. ولد جونزالو هيرنانديز سواريز في سانتياجو دي تشيلي عام 1978. حصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة. عمل في وظائف مختلفة، مثل أمين الصندوق، والساعي، والصحفي، وعامل المياومة، وغيرها. يعمل حاليًا مدرسًا للأخلاقيات في جامعة مايور، في سانتياجو دي تشيلي، ويدير أيضًا ورش عمل أدبية للسجناء في مرافق السجون.

 

بقلم: بول أليار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

العزلة الغياب

ووميضها

وموازينها

أَنْ لم نر شيئا ولم نفهم شيئا

*

العزلة  الغياب

أكثر إثارة

في شفق الخوف

من اللمسة الأولى للدموع

*

الجهل البراءة

الأكثر تستّرا

الأكثر حيويّة

هي التي أتت بالموت إلى العالم

***

.................................

بول أليار، طبيعة ثانية - الحب الشعر 1929.

..................

III La Solitude l’absence.

La solitude l’absence

Et ses coups de lumière

Et ses balances

N’avoir rien vu rien compris

La solitude le silence

Plus émouvant

Au crépuscule de la peur

Que le premier contact des larmes

L’ignorance l’innocence

La plus cachée

La plus vivante

Qui met la mort au monde.

Paul ELUARD - Seconde nature; In L’Amour, La Poésie (1929)

قصة: توماس سانشيز بيلوتشيو

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان المنزل ينهار، ولا يفعل المرء، في سن معينة، شيئًا لمنعه. لكن الحقيقة هي أن الأطباق المتسخة كانت متجمعة في المطبخ، ولم يكن هناك من يرتب سريري، وبدأت القمصان تختفي من الخزانة. أعتقد أننا نجونا من النمل فقط لأننا عشنا في طابق مرتفع. وبعد ثمانية أيام، طلبت مني أمي أن أذهب معها لمعرفة ما إذا كان قد حدث لها شيء. كانت قلقة. كنت أراها تعبر الردهة أو تقف في منتصف غرفتها، بقميص نومها، وكأنها نسيت مكان نعالها، وكان ذلك شيئًا مرعبًا. إذا لم تفعل أي شيء حتى الآن، فهذا ليس بسبب الكسل، بل بسبب الاستمرار في انتظارها.

سألت:

- كيف لا يكون لديك رقم هاتفها؟

- لم أكن بحاجة إليه أبدًا.

هكذا هي أمي. إنها تأخذ كل شيء كأمر مسلم به. لم تتغيب إلدا عن العمل مطلقًا دون أن تخبرنا بذلك قبل يوم واحد على الأقل. طوال الاثنين والعشرين عامًا التي أمضتها في منزلنا، لم تنس أبدًا الاتصال بنا.قلت:

- حسنًا، هيا نذهب.

لم أكن أريدها أن تذهب وحدها.

اعتقدت أن هذا ما حدث لي لكوني آخر من يغادر. أولاً ذهبنا إلى غرفة الخدمة وبحثنا في أغراضها. يبدو أن لا شيء مفقود: المئزر الوردي الذي أجبرتها والدتها على التوقف عن ارتدائه، ودفتر الملاحظات والحسابات، وزجاجات العطور، وتلفزيون أبيض وأسود، ربما يكون الأخير في العالم. عندما خرجت من الحمام كانت مفاتيح السيارة على سريري. لم أفهم ما إذا كانت تحثني أم أنها تخشى فقط أن أغير رأيي. وبينما كنا ننزل في المصعد، حاولت أن أستحضر كل الذكريات التي كانت لدي عن ألدا. لقد فوجئت بمدى قلة ما أتذكره. لم أتذكر، على سبيل المثال، أين كانت يوم حصولي على شهادتي، على الرغم من أنني كنت أعرف أنها كانت تجهز المائدة وتطبخ للأصدقاء الذين جاءوا للاحتفال معي في ذلك المساء. وبعد أن غادر الجميع وذهبنا للنوم، قامت بترتيب المنزل وتنظيفه بهدوء. أو في ذلك الوقت أصبت بالتهاب السحايا بينما كان أمي وأبي يقودان السيارة (إحدى تلك المحاولات لإصلاح ما كان ميؤوسًا منه بالفعل). أتذكر منذ ذلك الحين سلسلة رتيبة من الأيام والليالي، والتلفزيون مفتوح باستمرار، والأيدي تغطيني وتطعمني، ووجوه مجهولة.

كان لدى أمي قطعة من الورق تحمل العنوان في يدها. كانت متجعدة، وكادت بعض الحروف والأرقام أن تُمحى. الشيء الوحيد المؤكد الذي كان واضح لدينا هو اسم الحي.

- لا تقلقى. سوف نسأل، وسيخبرنا شخص ما كيف نصل إلى هناك.

منذ أن غادر أبي، تعلمت سلسلة من العبارات المشجعة التي كنت بحاجة إلى تلاوتها. نظرت إليّ أمي بطرف عينها، وهي تبتسم، واعتقدت أنني لو رفعت نظراتها لثانية أخرى، فستتمكن من رؤية كل أسراري، واحدًا تلو الآخر. على الرغم من أنها كانت سيارتها، إلا أنني كنت الوحيد الذي قادها باستثناء ربما أحد إخوتي. لكن كان بيننا اتفاق ضمني كان عليّ أن أطلبها في كل مرة أردت استخدامها.

-  لقد دفعت لها، أليس كذلك؟

تحولنا إلى الشارع. لم تنظر إلي.

- من؟

- إلدا.

- لماذا لم أدفع لها؟

- لا أعلم، ربما نسيت. يمكن أن يحدث.. …

لكنها لم تجب.

- هل يمكن أن يكون قد أساء إليه شيء ما؟ هل قلت لها أي شيء؟

كان بإمكان أمي وإلدا قضاء يوم كامل معًا دون التحدث، لكنهما كانا يعرفان دائمًا ما كان يفكر فيه الآخر. كانت إلدا تقدم الشاي أو العشاء في الوقت الذي شعرت فيه أمي بأنه الوقت المناسب. ذهبت إلى الغرف لترتيبها وتنظيفهاعندما كانت متأكدة من أنها لن تزعج أحداً. قامتاا بتقسيم المنزل حسب الجدول الزمني.

- ماذا تعرف عن إلدا؟

- ماذا تقصد بماذا أعرف عن إلدا؟

– أعني ماذا تعرفين عن حياتها؟

مررنا بمنطقة مصنع بالقرب من النهر. انحنت أعمدة الدخان المنبعثة من المداخن نحو الجنوب. سمعنا بوق سفينة لا نعلم أهي قادمة أم ذاهبة.

قالت:

- ليس كثيرًا .

ظلت صامتة لعدة كيلومترات. كانت الشمس بجانبنا، والظلال امتدت على وجهها.

- أعرف أنها ولدت في باراجواي، في بلدة صغيرة على النهر... الاسم يعني الشمس العالية أو شيء من هذا القبيل، لكنني لا أعرف كيف يقولون ذلك باللغة الجوارانية.

توقفت ونظرت إلي بحماس قبل أن تتابع.

- أعلم أن لديها أربعة أطفال والعديد من الأحفاد. تسعة، على ما أعتقد. لقد كانت مطلقة لسنوات عديدة. كان زوجها نجارًا أو سباكًا، لا أتذكر حقًا. عيد ميلادها في فبراير.

عدت على أصابعها وأضافت:

- ثمانية و خمسون سنة .

لا ببدو أنها متأكدة. من المنعطف، قبل الخروج من الطريق السريع، رأينا قطعة أرض تحت الإنشاء. في المركز، حفروا حفرة ضخمة تبدو أشبه بحفرة أحدثتها قنبلة. قدرت أن المبنى المستقبلي سيتكون من خمسة عشر أو عشرين طابقًا على الأقل.

- من الواضح أنه ضربها.

- من؟

عندما خرجنا من الطريق السريع، كنا لا نزال في منتصف الرحلة. وجاء الجزء الذي لم نعرفه. عندما ابتعدنا عن المدينة، أصبحت اللافتات متقطعة بشكل متزايد وبدأت الطرق الترابية. توقفنا عند أحد المخابز لشراء بعض المعجنات.

- لا يمكننا أن نصل إلى هناك وأيدينا خالية .

وافقت:

- ذلك مع دولسي دي ليتشي.

سألتني:

- هل تعتقد أن شيئا ما حدث لها؟

- لا أعرف. لا أعتقد ذلك.

ولكن بعد ذلك راودتني رؤية لحادث مروع، اصطدمت فيه سيارتان وتصدتا لبعضهما البعض بسبب قوة الاصطدام. لقد تركتا على جانب الطريق، في مواجهة بعضهما البعض. ولا يمكن رؤية أحد يتحرك في الداخل. ثم بدأ الدخان يخرج من الكبائن ببطء. وبعد دقائق قليلة اندلع الحريق. ولم تتوقف أي من السيارات المارة على الطريق.

- إذا عادت، سأوليها المزيد من الاهتمام.

مررنا بحي يضم منازل متماثلة، تعلوها خزانات مياه تشبه المداخن. كان بعضها مأهولًا على الرغم من أنها بدت نصف مبنية. وصلنا إلى شارع ضيق للغاية، حيث أجبرتنا السيارات القادمة في الاتجاه الآخر على التوقف. من مقاعدهم، والزجاج الأمامي في الطريق وأيديهم تمسك بعجلة القيادة، كان السائقون ينظرون إلينا. كان من الواضح أننا لم نكن نعرف ما الذي أوقعنا أنفسنا فيه. كل بنايتين أو ثلاث بنايات، كانت أمي تخرج من السيارة حتى تتمكن من رؤية أرقام المنازل. لأننا لم نتمكن من قراءة اللافتات الموجودة على السيارة أو لأن المنازل لم تكن مرقمة بالترتيب. عند الزاوية، أبطأت سرعتي وسألت رجلاً على دراجة إذا كان يعرف مكان منزل إلدا روباتو. لا يمكن أن يكون بعيدًا جدًا. اقترب من النافذة، ونظر إلى المنازل خلفه، واستغرق كل وقت العالم قبل أن يجيب.

- إنه ذلك المنزل .

الفتاة التي فتحت لنا الباب كان عمرها عشرين سنة لا أكثر. وصل شعرها الأسود الناعم إلى مرفقيها. لم أرها قط في حياتي ومع ذلك قالت اسمي. لقد نادت على أمي بسيدتي. وأشارت بيدها بشكل مبالغ فيه، ودعتنا للدخول. أغلقت الباب خلفنا وأصبحت الغرفة المظلمة فى الأصل أكثر قتامة. خرجت إلدا من المطبخ، وهي تمسح يديها بمنشفة الأطباق. لم تبد متفاجئة لرؤيتنا وخالجنى انطباع بأنها كانت تتوقع قدومنا.

- كيف الحال يا سيدتي؟

قالت أمي بقلق مبالغ فيه:

- إلدا... ماذا حدث لك؟ لقد مر أكثر من أسبوع.

لكن إلدا لم تسمح لها بالاستمرار. قبّلتنا سريعًا وقدّمت لنا ابنتها رومينا، الفتاة التي فتحت لنا الباب. ثم نادت أحفادها واحدًا تلو الآخر الذين ظهروا على الفور في الغرفة. لقد كانوا متحمسين كما لو كانوا يركضون من مسافة بعيدة. دخلت أسماؤهم من أذن وخرجت من الأخرى، لكنهم جميعًا كانوا يشبهون جدتهم بطريقة ما. ووقفوا هناك بفارغ الصبر حتى أذنت لهم بالخروج.

عندما صرنا وحدنا، قالت إلدا إنها تريد أن ترينا المنزل. بدت متحمسة للغاية لفكرة الاستضافة لدرجة أنه كان من المستحيل أن تقول لا. برفقتها، نظرنا إلى عدة غرف. كلما ذهبنا إلى غرفة، تعلق أمي: كم يبدو لطيفًا أو مريحًا أو أنها ببساطة تهز رأسها وتوافق على كل ما تراه. ثم نغادر الغرفة. ونذهب إلى مكان آخر. وكانت الأسقف متفاوتة الارتفاع والأرضيات مغطاة بمواد متنوعة، وكأن المنزل قد تم بناؤه على مراحل على مدى فترة طويلة من الزمن.

أمي، كالعادة، أدركت ذلك قبل أن أفعل. في عينيها، وفي الطريقة التي حركتا بها يديه، عرفت أن هناك خطأ ما. نظرت إلى الغرفة التي كنا فيها مرة أخرى، كما لو كانت المرة الأولى، محاولًا أن أرى نفس الشيء الذي تراه. وذلك عندما بدأت أرى الأشياء التي رأيتها ذات مرة في المنزل. الحلي والأشياء الصغيرة. في البداية، عدد قليل هنا وهناك. لا شيء ذو قيمة أو أهمية. ولكن عندما بدأت أنظر عن كثب، بينما كنا نتنقل عبر المنزل، رأيت الكثير في كل مكان. لقد أضاءوا في ذهني. لقد نظموا أنفسهم كما لو كانوا على الخريطة، مع التواريخ والمراجع. منفضة سجائر زجاجية. زوج من الصناديق الخشبية أحضرتها أمي إلى المنزل من الرحلة. لوحة فظيعة لمنظر طبيعي للبحيرة رسمته عمتي أو عمي - لا أستطيع تذكر أيهما -. كرسي أقسم أنني رأيته في الخزانة قبل بضعة أيام فقط. حاولت تقدير عدد هذه الأشياء التي ربما تخلصت أمي منها طوعًا، وكم منها اختفت للتو على مر السنين دون أن نلاحظ. في هذه اللحظة، أغمضت عيني. لماذا الاستمرار في العد؟ ولكن كان لدي شعور بأن الجولة لم تنته بعد. عندما فتحت عيني مرة أخرى كنا في غرفة أخرى. لقد مشيت هناك بشكل أعمى. وبعد ذلك فهمت الشيء الآخر الذي اكتشفته والدتي بالفعل: كان المنزل بأكمله نسخة طبق الأصل من شقتنا. ولهذا السبب بدا الأمر طبيعيًا جدًا وكان بإمكاني المرور فيه تلقائيًا كما لو كان منزلي. كان من المثير للإعجاب كيف تمكنوا في مثل هذه المساحات الصغيرة من وضع الأثاث في نفس الوضع أو كيف احتلت المرآة نفس الجدار، في مواجهة نفس الاتجاه، في منزلين مختلفين.

أردت أن أتحرك بشكل أسرع، وأن أتقدم عليهم، لأنني اعتقدت أنني أعرف ما سيأتي. مشينا عبر بضعة أبواب أخرى وخرجنا إلى الفناء. في أقصى الفناء، تحت شمس الظهيرة، كان عدد من الرجال يعملون في بناء منزل جديد. لقد استحموا بالعرق. بدوا منهكين، لكن أذرعهم لم تتوقف، كما لو كانوا مصممين على إنهاء المهمة قبل حلول الليل عليهم.

قالت إلدا:

- أبنائي .

لوحنا بيد واحدة بينما استخدمنا اليد الأخرى لحجب الشمس. في ذلك الوقت كانت الأشعة تضربنا، تقفوا بالكاد لثانية لرد التحية ثم عادوا إلى العمل .

لقد تتبعنا الطريق عبر المنزل في صمت.

- رومينا، سنتناول الشاي من فضلك.

تحدثت إلى ابنتها كما تحدثت معها والدتها. دائمًا باحترام وحتى مودة ولكن أيضًا بسلطة. تحدثنا لبقية فترة ما بعد الظهر. وفي وقت ما، سألت أين سيكون الحمام، فقط لكي أكون مهذبًا، لأنني كنت أعرف مكانه بالفعل.

- في الأسفل هناك.

وكانت على الرفوف صور لنا بين صور أطفالها. رأيت نفسي أتلقى الخبز المقدس في الكنيسة للمرة الأولى؛ عندما حصلت على شهادتي في الصف السابع. أخي يتزلج مع الأصدقاء. نحن الخمسة في عشاء عيد الميلاد في وقت مبكر جدا، قبل أن يغادر أبى . كانت بعض الصور قريبة جدًا من بعضها البعض لدرجة أنها أعطت انطباعًا بأننا جميعًا نعرف بعضنا البعض، وأننا جزء من نفس العائلة الكبيرة.

عندما خرجت من الحمام، ظهرت رومينا في المدخل وأمسكت بيدي. مشينا في الردهة إلى ما يشبه الشرفة المؤدية إلى فناء أصغر من الذي رأيناه من قبل. لم أذهب إلى هذا الجزء من المنزل بعد. وفوق رؤوسنا كانت هناك ثلاثة حبال غسيل عليها ملابس. تعرفت على السترة التي كنت أرتديها منذ سنوات عديدة.

قالت:

- أنت لا تتذكرني .

لقد بذلت جهدا. بحثت عن وجهها بين كل الوجوه التي قابلتها في حياتي.

قلت لها:

- نعم . كيف يمكنني أن أنسى؟

- كذاب... عندما كنت طفلة صغيرة، بهذا الطول، أخذتني أمي إلى منزلك. لم يكن لديها من تتركني معه وقد أعطتها السيدة الإذن بذلك. أتذكر أننا كنا نلعب في غرفتك طوال المساء. لقد سمحت لي باستخدام ألعابك ولكن بشرط أن أبقى قريبًا منك، فلا تسمح لي أبدًا بأخذها معي.

ماذا عساي أن أقول؟ كان هناك صمت، لكنه لم يكن غير مريح. هبت الريح عبر الأغطية المعلقة لعدة ثوان، ثم توقف كل شيء. كان بإمكاني أن أعطيها قبلة. لم تكن قبيحة. كان من الممكن أن يكون المشهد المثالي في مسلسل تلفزيوني، فكرت بسخرية لم أشعر بها مرة أخرى منذ ذلك الحين. لكنني لم أفعل ذلك، ورجعنا إلى الداخل دون أن ننظر إلى بعضنا البعض.

كانت أمي واقفة تنتظرني. من وجهها استطعت أن أقول إن موضوعات المحادثة قد نفدت أو أنه ليس من المنطقي البقاء هناك لفترة أطول. واصلت رومينا السير، ودون أن تقول وداعًا، جمعت فناجين الشاي، ثم سمعت صوت الماء في المطبخ.

- جاهز للذهاب؟

- مستعد.

كنا على وشك المغادرة، وفوجئت بقدرتنا على التمثيل جنبًا إلى جنب، وبموهبة عائلتنا في الحفاظ على التمثيلية. قبل مغادرتنا، توقفت إلدا تحت مخروط الضوء الذي ألقاه مصباح.

- أتعلمين يا سيدتي، لقد أردت دائمًا أن أدعوك إلى هنا. لتناول وجبة معا. هناك، في الفناء، هناك مكان لـ...

وجهنا رؤوسنا في الوقت نفسه نحو النافذة، بحثًا عن علامات المشهد الذي تخيلته إلدا، ولكن لم يعد هناك أحد في الخارج، والزجاج يعكسنا صورنا. ابتسمنا وأومأ برأسه.

كان الوقت ليلاً. مع وجود مساحات كبيرة في الظلام، لم يعد الحي يبدو قبيحًا جدًا الآن. كانت هناك رائحة برتقال أو يوسفي، نوع من الحمضيات بالتأكيد. كان شخص ما يقيم حفلة شواء على بعد بضعة منازل. سارت إلدا معنا على الطريق المؤدي إلى الرصيف. كان بعض أحفادها قد تسلقوا النافذة وكانوا ينظرون إلينا. التفتت لألوح لهم. أشرقت عيونهم مثل بريق العيون قبل التقاط الصورة. رأيت رأسين لم أرهما من قبل، وتذكرت المنزل الصغير الموجود في نهاية الفناء. كان لدي شعور بأن جميع المنازل في الحي كانت متصلة ببعضها البعض، وأن الأبواب والممرات لا تنتهي أبدًا. رسمت إلدا الطريق بإصبعها، وأشارت إلى أفضل طريق إلى المنزل، عبر شوارع آمنة ومضاءة جيدًا. لكننا لم نكن خائفين. قلنا وداعًا، وتبادلنا العناق، ووعدنا برؤية بعضنا البعض مرة أخرى.

قالت:

- شكرًا، شكرًا على كل شيء .

عندما ركبنا السيارة رأينا سيارة إسعاف تمر بجانبنا مع إطلاق صفارة الإنذار. عند المنعطف، ضغطت على مكابحها وتراجعت مسافة مائة متر، متخذة مسارها المعتاد.

لم نتحدث طوال الطريق إلى المنزل. فكرت في تشغيل الراديو في وقت ما، لكنني قررت ألا أفعل ذلك. لم أكن أرغب في الاستماع إلى الموسيقى. ومع اقترابنا من المدينة، أصبح المشهد من خلال النوافذ أكثر تطوراً. زادت المنازل والمباني. ظهرت الحدائق والشركات من حولنا. لم يكن يبدو أن أمي تريد أن تقول شيئًا إلا بعد أن وصلنا إلى مرآبنا. لقد لاحظت ذلك في ارتعاش شفتيها. كان موقف السيارات الخاص بنا في الطابق الثالث تحت الأرض، وفي تلك الليلة، بينما كنا ننزل في دوامة المنحدرات، بدا أن الهواء أصبح أكثر قتامة وكثافة. كانت الإطارات تصرخ عند كل منعطف حتى أوقفنا السيارة في المكان المخصص لشقتنا.

قلت:

- وصلنا.

أوقفت تشغيل المحرك ووضعت جهاز الاستريو في صندوق القفازات.

قالت لم أكن أتوقع ذلك:

- أنت بالفعل ولد كبير.من المحتمل أن تغادر قريبًا،أعلم ذلك.وهذا المنزل لا يتسخ بسهولة. يبدو لي أن... أعتقد أنني أستطيع تدبر الأمر بمفردي... على الأقل في المستقبل القريب. على الأقل حتى نجد شخصًا.

نظرت في عينيها حتى عرفت أنني كنت أستمع لكنني لم أقل أي شيء، واستدرت لأغلق الأبواب الخلفية.

(الخاتمة)

***

.........................

المؤلف: توماس سانشيز بيلوتشيو / Tomas Sanchez Bellocchio ولد توماس سانشيز بيلوتشيو عام 1981 في بوينس آيرس. وهو صحفى وكاتب سيناريو ويعيش بين مكسيكو سيتي وبوينس آيرس وبرشلونة. شارك لأكثر من عشر سنوات في الورشة الأدبية للشاعر والكاتب خافيير أدوريز. وفي عام 2011، حصل على درجة الماجستير في الإبداع الأدبي من جامعة بومبيو فابرا، وهي تجربة رائدة في اللغة الإسبانية، مع أساتذة مثل خوان فيلورو، وخورخي كاريون، وخوان أنطونيو ماسوليفر روديناس. في عام 2013، شارك في كتاب "حالات الطوارئ"، وهي مختارات قصصية كتبها اثنا عشر من كتاب القصص الشباب من إسبانيا وأمريكا اللاتينية

 

قصة: سيلفا ألمادا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

نجلس أنا وجانا ريتر على جانبي السرير المزدوج ونراقب الرجل الجريح. يضفي الضوء الأصفر المنبعث من مصباح الكيروسين على الغرفة جوًا شبحيًا. وعلى الرغم من النوافذ الكبيرة المفتوحة، ما تزال الحرارة لا تطاق حتى عند منتصف الليل. ينز العرق من ظهري وصدري ويبلل قميصي. من وقت لآخر، يتحرك ريتر، ويقول أشياء غير مفهومة بصوت أجش، كما لو كانت الكلمات تأتي من قاع البئر. ثم تتكئ عليه جانا وتضع قطعة القماش المبللة على جبهته. وذلك ما يهدئه. يسمح لي الضوء الضعيف بمراقبتها دون أن تدرك ذلك. لجانا وجه طائر: عينان صغيرتان مستديرتان، ومتباعدتان قليلاً، مشرقتان ؛ فم صغير بشفتين رقيقتين. عنق طويل. لم يكن من الممكن إلا أن تكون طائرًا جميلاً بشكل خاص، فشعرها أشقر باهت وصوتها خشن. ولكن كامرأة، فهي جميلة. إن جمالها غريب الأطوار إلى حد ما، دون أدنى شك: عليك أن تعتاد على النظر إليها لتجدها جميلة. ربما لأنها مختلفة تمامًا عن النساء هنا. في المرة الأولى التي رأيتها فيها وجدتها بسيطة وعادية تمامًا وأتذكر أن ذلك جعلني سعيدًا: اعتقدت أن ذلك أفضل لها ولزوجها وللجميع. يمكن للمرأة الجذابة في مثل هذه البيئة الذكورية أن تسبب مشاكل على المدى الطويل. من وقت لآخر تنظر إلي وتبتسم. أعتقد أن هذه هي طريقتها لشكري على بقائي معها. أو مع زوجها. تحت الضمادات الملطخة بالدماء على فخذه، كانت ساق ريتر عبارة عن مزيج من اللحم والأنسجة الممزقة. يجب أن يكون مؤلما جدا. إذا لم يبتلع زجاجة كاملة من الويسكي، فمن المؤكد أنه سيصرخ من الألم. لكنه يمنعنا من استدعاء الطبيب. وقال إنه لا داعي لإثارة مثل هذه الضجة. وصل ريتر الألماني منذ أقل من عام بقليل لتولي منصب رئيس العمال في مصنع الخشب. الرئيس السابق تعرض لحادث مع آلة. أنا أعتني بالكتب وأدير العمال.  أنا اليد اليمنى لريتر، تمامًا كما كنت مع الأخير. لقد كنت أنا من رحب بهما وساعدهما على الاستقرار في المنزل الذي تحتفظ به الشركة لرئيس العمال. إنه في الواقع منزل الشركة الوحيد، لأن بقية الموظفين يعيشون في ثكنات خشبية مؤقتة . وثق بى ريتر على الفور. إنه لا ينسجم مع العمال، وينظر إليهم بازدراء، ولذلك هو ممتن لوجودي كوسيط . ساعدني على تجنب التورط معهم، قال لي أكثر من مرة: هل تلاحظ كيف أن عيونهم جميعاً ماكرة؟ أنا لا أحب ذلك. يبدو أنهم يخططون دائمًا لشيء ما ضدك عندما تحاول التحدث معهم. على الرغم من تعاطفه معي، إلا أن موقفه يوضح تمامًا أنني لست مثله: لو كنت كذلك، لكان أحدنا عديم الفائدة هنا. لكن في نظرهم، أنا لست مثلهم أيضًا، وهو ما أعتقد أنهم يعجبون به كثيرًا فيّ. ربما كبادرة امتنان أو لأنني الشخص الوحيد الذي يتعامل معه هنا، بعد وقت قصير من وصوله دعاني لتناول العشاء في منزله ومنذ ذلك الحين وأنا أتناول الطعام معهم كل ليلة. في الأمسيات القليلة الأولى، تحدثنا عن العمل والسياسة وأشياء من هذا القبيل. رئيس العمال هو محاور عظيم ودائما ما يجد شيئا للحديث عنه. الإشارات التي يشير إليها إلى ماضيه غامضة ولم يقدم أبدًا تفاصيل حول أسباب مجيئه إلى هنا. لكن من تعليقاته فهمت أنه قضى حياته كلها في المدن الكبرى. ربما كان يدير مصنعًا في وقت ما. استغرق الأمر من جانا ريتر بضعة أشهر لتعتاد على وجودي المنتظم على طاولتها. إنها امرأة خجولة جدًا. على الرغم من أنها كانت ودودة دائمًا، إلا أنني اعتقدت أحيانًا أنها تزعجها استضافتي كضيف على العشاء كل ليلة، وأنها رأت ذلك بمثابة تطفل وحتى إساءة لضيافتها. قلت هذا للألماني لكنه تخلص من مخاوفي بإشارة من يده. قال: بالطبع لا، إنها معجبة بك، يستغرق الأمر بعض الوقت لتعتاد على الوجوه الجديدة: كما ترى، ستصبحان صديقين رائعين. على الرغم من أن هذا لم يحدث بالضبط، إلا أنها بدأت تنضم إلى محادثاتنا شيئًا فشيئًا . بعد العشاء، كنا نجلس نحن الثلاثة في الشرفة ونتناول زجاجة أخرى من النبيذ. في بعض الأحيان كنا نجلس لفترة طويلة في صمت، نستمع إلى أصوات الغابة، المظلمة، الكثيفة، المرسومة على سماء مليئة بالنجوم. في إحدى الليالي، لمحت يد ريتر وهي تداعب سمانة ساق زوجته العارية؛ وذلك عندما عرفت أن الوقت قد حان للذهاب. وحدي، في ظلام سريري، دخنت سيجارتي الأخيرة ونمت وأنا أفكر في العلاقات الحميمة التي شهدتها للتو في فى بدايتها  والتي تطورت بالتأكيد بمجرد مغادرتي. كان ذلك الجزء من بشرة جانا اللبنية الخارجة من تحت تنورتها يتردد في ذهني مرارًا وتكرارًا حتى غفوت.  في ذهوله، يضرب ريتر في الهواء ويحاول إزالة ضماداته. أبقيت ذراعه اليمنى ثابتة لبضع دقائق حتى يتوقف عن الضرب. تنظر جانا إلي بقلق، وقد ابتسمت لأجعلها تشعر بالتحسن. أنظر إلى الوقت. إنها بعد الساعة الواحدة صباحًا بقليل. في إحدى الليالي العادية، كنا نتوجه أنا وريتر إلى إل ديسكانسو، بيت الدعارة الذي يبعد حوالي ستة كيلومترات. ذات مرة، بعد حوالي شهرين أو ثلاثة أشهر من لقائنا، سألني إذا كنت قد ذهبت إلى هناك. قلت له أنني فعلت. للحظة، كنت خائفًا من أن رجلًا متزوجًا سعيدًا مثله قد لا يوافق على ذلك، لكنني أعزب في النهاية وليس علي أن أشرح موقفي لأي شخص . لكن وجهه أضاء: قال: أريد أن أذهب معك. أجبته، بالطبع، في إحدى تلك الأمسيات... واقترح لماذا ليس الليلة. في تلك اللحظة كانت زوجته تنظف المطبخ ولم أستطع إلا أن ألقي نظرة في اتجاهها. وقال أوه، لا تقلق بشأن جانا. لسبب ما أزعجني هذا حقًا. قلت له: لا أستطيع اليوم. قال: كل شيء على ما يرام، يمكننا الذهاب غدًا. هل تعرف كيفية القيادة؟ قلت له نعم. وقال رائع. الآن أعتقد أن غضبي في تلك الليلة كان بسبب اهتمامي بجانا. لا بد أنني اعتقدت في أعماقي أنه كان يعاملها بصفقة قاسية، وأنه إذا كان لدي زوجة مثلها فلن أفكر أبدًا في خيانتها مع عاهرة. ربما كانت تلك الليلة بالذات هي التي بدأت فيها رؤية زوجة رئيس العمال في ضوء جديد. في الليلة التالية، كما لو كانت تحاول تسهيل الأمور علينا، اعتذرت جانا بمجرد انتهائنا من تناول الطعام، قائلة إنها كانت متعبة للغاية، وذهبت إلى غرفة نومها دون حتى تنظيف الطاولة. ثم أقلعت أنا وريتر. بينما كنت أقود سيارته على الطريق الوعر، فكرت في نفسي أن الألماني كان محظوظًا في ذلك المساء، وحقيقة أن قيام جانا مبكرًا قد أنقذنا من العذر الذي كنت أفكر فيه لبقية اليوم. كما لو كنت الشخص الذي لديه شيء يفعله خفية . ولكن مع مرور الوقت أدركت أن ما حدث في تلك الليلة لم يكن من قبيل الصدفة. كان الوضع يتكرر عدة مرات في الأسبوع: ادعت جانا أنها متعبة، وأصبح لدينا الحرية في الذهاب إلى إل ديسكانسو. وبطبيعة الحال، لم يكن لدي الجرأة لسؤاله كيف تعامل فى هذه القضية مع زوجته. في البداية شعرت بعدم الارتياح من جهتها، كما لو كنت آخذ زوجها بعيدًا، وأدفعه إلى أحضان نساء أخريات. ولكن لا يبدو أن أي شيء قد تغير بينهما. لم تعاملني جانا بشكل مختلف أيضًا: لقد كانت نفس المضيفة الودية كما هو الحال دائمًا . لم يكن ريتر مهووسًا بالمومسات فحسب، بل كن مفتونات به أيضًا. واضطر صاحب الحانة أكثر من مرة إلى التدخل وإجبارهن على المغادرة مع زبائن آخرين. لو كان الأمر بيدهن، لأمضين الليل كله فى صحبة  الألماني ويتقاتلن على شرف التقلب معه في إحدى الغرف . وقد تسبب هذا في قدر كبير من سوء النية بين الرجال الآخرين، وكثيراً ما أدى إلى حوادث عنف ضد النساء. لم يكن أحد يجرؤ على الدخول في هذا الأمر مع ريتر. تنسل جانا خارج الغرفة. أفرك كفي على الملاءات. على هذا السرير بالذات، يشق ريتر طريقه معها كلما أراد ذلك. يرقد كما هو الآن، وهي ممتدة على وركيه، عارية ومتعرقة، وثدييها يتمايلان مع حركات الجنس. في الظلام، يجب أن يلمع جسد جانا الأبيض مثل تلك اللافقاريات الصغيرة التي تعيش في أعماق البحار. خلال الأشهر القليلة الماضية، كنت آخذ ريتر إلى بيت الدعارة كل ليلة. لقد أقرضته المال حتى. وتمنيت أنه إذا اكتفى بهؤلاء النساء، فإنه لن يرغب في لمس زوجته فيما بعد. وفي الوقت نفسه، تمنيت أن تصاب بالملل من مغامراته . ربما فى محنتها وثقت بى . لم يخطر ببالي ما هو واضح: بما أنني كنت أذهب إلى هناك كل ليلة مع ريتر، فربما لم أكن أفضل منه في نظرها. على الرغم من آمالي، بدا زواج ريتر أفضل من أي وقت مضى. على الرغم من أنهما كانا متحفظين للغاية وليسا حنونين للغاية، كان من الواضح أنهما لم يتظاهرا أمامي، أنا المتفرج الوحيد على حياتهما المنزلية: لقد كانا متوافقين حقًا. وهذا جعلني غاضبا منها. وحيدًا في سريري، غير قادر على النوم، كنت أتعاطف أحيانًا مع رئيس العمال: قلت لنفسي إن جانا لا بد أن تكون عديمة الفائدة ولهذا السبب قضى الليل كله في بيت الدعارة. وفي أحيان أخرى اعتقدت أنه إذا كان ريتر يحب البغايا كثيرًا، فلن يكون من المستغرب أن تكون زوجته في الماضي واحدة منهن. ثم أصابني الغيرة بالجنون: لم أعد أهتم بريتر بل بالطابور الطويل من الرجال الذين تمكنوا بسهولة من الوصول إلى ما كان محظورًا علي. لإخراجها من رأسي، نظرت إلى نساء أخريات؛ لكن بغض النظر عما فعلته معهن، في ذهني، كنت أفعل ذلك معها دائمًا. بعد نوبات الغضب هذه، كنت أراها مرة أخرى، تقدم العشاء أو تقدم سيجارة بعناية في ظلام الشرفة، وأشعر بالخجل وأضطر إلى مقاومة الرغبة في إلقاء نفسي عند قدميها واستجداء غفرانها.  الألماني ليس غبيًا وقد عرفت منذ فترة أنه يدرك مشاعري تجاه زوجته. في بعض الأحيان أظن أنه يشجع ذلك. أعتقد أن كل شيء بدأ بالتقاط الصور. ريتر شغوف بالتصوير الفوتوغرافي. لقد عرض ذات مرة أن يلتقط صورتي. قال أن لدي وجهًا جذابًا للغاية . ثم بدأ بإضافة جانا إلى المقطوعات الموسيقية (وهذا ما يسميها: المقطوعات الموسيقية). لقد جعلنا نقف في وضعية معينة، مما أجبرنا على الوقوف قريبين جدًا من بعضنا البعض لفترة طويلة، وأجسادنا تتلامس مع بعضها البعض. عادة ما نضطر إلى تكرار نفس المشهد عدة مرات. يوبخ جانا لأنها لم تكن متحمسة بما فيه الكفاية وعلينا أن نفعل ذلك من جديد . لقد التقط عشرات الصور لنا، على الرغم من أنني لم أر واحدة منها من قبل. أنا جالس وهي واقفة ويداها على كتفي. كلانا وأذرعنا حول خصور بعضنا البعض. أجلس على مفرش المائدة ذو المربعات، ورأسي في حجرها، وأمثل مشهد النزهة. نقف بجانب بعضنا البعض، متكئين على درابزين الشرفة. كأننا بين يديه أطفال نلعب بالبيت. يبدو أنها لا تحب التقاط صورتها. في كل مرة نتلامس فيها تحت أنظار ريتر الذي يتجسس علينا من خلال عدسة الكاميرا، أشعر بجسدها متوترا. لكنه أخبرني ذات مساء أنه كان لديه سلسلة جميلة جداً من الصور العارية لزوجته. كنت أخشى أن يعرض عليّ أن يريني هذه الأشياء، لكنه لم يفعل. تفاجأت بيد جانا على كتفي. قالت تعال، نخرج إلى الليل الدافئ. يوجد على طاولة الشرفة الصغيرة طبق من الجبن والخبز والمخللات. أيضا كأسين وزجاجة من النبيذ.   تقول: كل شيئًا، لم تأكل شيئًا منذ أن بدأ كل هذا. انها حقيقة. لم أكن أدرك أنني كنت أتضور جوعا. إنها تأكل القليل من الخبز والجبن أيضًا، وتتناول قضمات صغيرة. مثل الطيور. يرقص العث حول ضوء  مصباح الغاز. إنها ترفرف ، بجنون، يعميها السطوع؛ بين الحين والآخر يتمكن أحدها من الطيران مباشرة إلى الأنبوب الزجاجي فتشتعل فيه النيران.  بدو أن الآخرين لا يلاحظون تضحية صديقهم. العث الموجود بداخله يضرب الأنبوب بطريقة غبية محاولًا اختراق الحاجز الزجاجي حتى يسقط في مركز اللهب . يخرج بسرعة مع فرقعة غير محسوسة تقريبًا. بعد ظهر ذلك اليوم، ذهبت أنا وريتر للصيد. كان علينا أن نذهب إلى الغابة لمدة ساعة سيرًا على الأقدام حتى وجدنا آثار خنزير بري. لقد اقترحت أن ننفصل. لقد كانت خطوة متهورة من جانبي، لأنني كنت أعلم أن ريتر كان صيادًا عديم الخبرة ولم يسبق له أن واجه أيًا من هذه الحيوانات. لكنني لم أعتقد أن أي شيء سيئ سيحدث.  صحيح أنه خلال الأيام السابقة كنت أتخيل شيئًا محددًا يحدث له، لكن كانت فكرته هي الذهاب للصيد. الصيد ليس رياضة تثير اهتمامي، على الرغم من أنني مارست الكثير منها عندما كنت مراهقًا، وبتشجيع من والدي. في الليلة السابقة، قال ريتر: لقد عشت هنا في الغابة لمدة عام ولم نذهب للصيد مرة واحدة. ستأتي معي غدا. أخبروني أن الغابة كانت مليئة بالخنازير البرية. أخبرته أن هذا صحيح، وأن المكان يعج بالخنازير البرية، لكنني لست أفضل رفيق لهذا النوع من النزهة. ولكن، كما هو الحال في كل مرة كانت لديه فكرة في ذهنه، لم يقبل الألماني فكرة الرفض. وفي اليوم التالي، كان ينتظرني والبنادق جاهزة. لذلك ذهبنا. صحيح أنه لم يكن علي أن أتركه بمفرده. أتذكر أنني ابتعدت عنه أكثر من اللازم. لكن النظر إلى الوراء لم يكن كافيا. سمعت بوضوح صرخات ريتر وطلقات بندقيته. ثم صمت ثقيل. توقفت أصوات الغابة فجأة. بدأت أشق طريقي عبر الفروع المنخفضة. بسرعة، ولكن ليس بالذعر. كما لو أنني قبلت أنه قد  فات الأوان. أتذكر أن هذا ما فكرت به: لقد انتهى الأمر بالفعل الآن. عندما وصلت إلى المكان، كان ريتر ملقى على الأرض وسط بركة من الدماء. كان الحيوان، الذي كان ملطخًا بالدماء أيضًا، يتحرك بالكاد على بعد متر تقريبًا.ثبتت على عين زجاجية. كان ريتر غير قادر على الحركة وكانت عيناه مغمضتين . انحنيت إلى الأمام وفتحتهما فجأة. وسأل: "أين ذهبت بحق الجحيم". ثم جلس نصف جلسة، وأراح ثقله على مرفقيه ونظر إلى الخنزير. هل قتلته؟ ثم قال: أنا قتلته! . وأطلق ضحكة عالية. ثم اختفى الارتياح والندم في لحظة، وبدأ الغضب العميق والمشتعل ينتشر في صدري. قال: دعنا نذهب يا رجل، لا تقف هناك: ألا ترى أن ساقي مصابة. جررته إلى منطقة خالية وذهبت بحثًا عن المساعدة. حتى الآن، لم يكن لدي الوقت الكافي لاستعادة تسلسل الأحداث. ماذا كان سيحدث لو لم يتمكن ريتر من إطلاق النار عليه في الوقت المناسب؟ على الأرجح أن الخنزير سيقتله. كيف كانت ستأخذه زوجته؟ عندما عدنا ورأت أنه مصاب، بالكاد أعربت جانا عن انزعاجها . للحظة، اعتقدت أنها كانت تأمل أيضًا في وقوع حادث مثل الذي حدث بعد ظهر ذلك اليوم. في الواقع، كان هذا الفكر أكثر تمنيًا من أي شيء آخر. بكل المقاييس، كانت جانا امرأة عملية، وبدلاً من أن تصبح مهووسة وتبكي من القلق كما تفعل أي امرأة أخرى في مثل وضعها، قدمت الإسعافات الأولية لزوجها فى هدوء . وبينما كنا ننظف جرحه، حدق بي رئيس العمال لمدة دقيقتين طويلتين. كنت أخشى أن يتهمني ببعض النوايا الشريرة. لكنه بدأ يضحك وقال: هل ظننتني ميتاً؟ أنت لا تعرفني: يتطلب الأمر أكثر من واحد من تلك الوحوش للقضاء على، أليس كذلك يا جانا؟ لقد خجلت للغاية، على الرغم من أنه كان يمزح. ثم قال: أوه يا جانا، يجب أن نكون شاكرين لوجود صديقنا: لولاه لكنت نزفت حتى الموت في تلك الغابة. إبتسمت. هل لديك ولاعة؟ صوتها يعيدني إلى جانبها. يجب أن يكون الوقت  حوالي الساعة الرابعة صباحًا. فوق الأشجار، تبدو السماء بلا لون  محدد مثل الساعة التي تسبق الفجر. دون أن ندرك، انتهينا من زجاجة النبيذ، وترك كل منا لأفكاره الخاصة. لن أعرفها أبداً. جانا ريتر امرأة غامضة. أخبرتها أنني سأذهب لإحضار الدكتور مالتوس صباح الغد. قالت: أنا لا أحب مالتوس. قلت إنه طبيب جيد.وتقول إن زوجي يحبه أيضًا. وبعد لحظة: لا بأس، استدعيه .وعندما تنتهي من سيجارتها، تقف وتذهب إلى الداخل. ألحق بها في منتصف غرفة المعيشة وآخذها بين ذراعي. ليس هناك مفاجأة في عينيها. مجرد شيء أقرب إلى  الفضول. أقبلها وينفتح فم جانا ريتر بشكل طبيعي على فمي. إنه رطب ودافئ وحلو. على لسانها آثار التبغ والنبيذ. استمرت القبلة للحظة واحدة فقط، لكنها بدت وكأنها أطول قبلة في حياتي. ثم دفعتني بعيدا بقوة. وأمرتنى بالرحيل . قبل أن أرحل، ألقيت نظرة أخيرة عبر باب غرفة النوم المفتوح. في منتصف السرير، يبدو أن ريتر قد نام أخيرًا.

(تمت)

***

....................

المؤلفة: سيلفا ألمادا/ Selva Almada شاعرة وكاتبة أرجنتينية. ولدت عام 1973 في انتري ريوس. أصدرت ديوانًا شعريًا، وروايتين، وثلاث مجموعات قصصية. تعتبر ألمادا واحدة من أبرز المؤلفات الأرجنتينية في جيلها، حيث تستخدم لغة مؤثرة وبسيطة. إنها تصور الحياة الريفية في الأرجنتين الداخلية. تعيش ألمادا في بوينس آيرس منذ خمسة عشر عامًا، حيث تعقد ورش عمل في الكتابة والقراءة.

 

قصة: رولد دال

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بمجرد أن حقق جورج كليفر أول مليون له، انتقل هو والسيدة كليفر من الفيلا الصغيرة الخاصة بهم في الضواحي إلى منزل أنيق في لندن. صار لديهما طاهٍ فرنسي يُدعى السيد إستراجون، وخادم شخصي إنجليزي يُدعى تيبس، وكلاهما باهظ الأجر للغاية. بمساعدة هذين الخبيرين، بدأت عائلة كليفر في تسلق السلم الاجتماعي وفي إقامة حفلات العشاء عدة مرات في الأسبوع على نطاق فخم.

لكن يبدو أن وجبات العشاء هذه لم تؤتى ثمارها. لم يكن هناك حيوة، ولا شرارة لإشعال المحادثات، ولا أسلوب على الإطلاق. ومع ذلك، كان الطعام رائعا والخدمة لا عيب فيها.

قال السيد كليفر للخادم الشخصي:

- ما العيب في حفلاتنا يا تيبس؟  لماذا لا يستريح أحد ويتركنا؟

أمال تيبس رأسه إلى أحد الجانبين ونظر إلى السقف:

-   آمل يا سيدي ألا تشعر بالإهانة إذا قدمت اقتراحًا صغيرًا.

- ما هذا؟

- إنه النبيذ يا سيدي.

- ماذا عن النبيذ؟

- حسنًا يا سيدي، يقدم السيد إستراجون طعامًا رائعًا. يجب أن يكون الطعام الرائع مصحوبًا بالنبيذ الرائع. لكنك تقدم لهم مشروبًا إسبانيًا أحمر رخيصًا وبغيضًا للغاية.

صرخ السيد كليفر:

- إذن لماذا بحق السماء لم تقل ذلك من قبل أيها الأحمق؟  أنا لا ينقصني المال. سأقدم لهم أفضل نبيذ في العالم إذا كان هذا هو ما يريدون! ما هو أفضل النبيذ في العالم؟

أجاب كبير الخدم:

- كلاريت، سيدي، من أعظم القصور في بوردو: لافيت، ولاتور، وهوت بريون، ومارغو، وموتون روتشيلد، وشفال بلانك. ومن أعظم سنوات الخمر فقط، والتي هي، في رأيي، 1906، 1914، 1929 و1945. كان شيفال بلانك رائعًا أيضًا في عامي 1895 و1921، وهوت بريون في عام 1906.

قال السيد كليفر:

- اشتريها جميعًا! املأ الطابق السفلي من الأعلى إلى الأسفل!

قال كبير الخدم:

- يمكنني أن أحاول يا سيدي . لكن مثل هذا النبيذ نادر للغاية ويكلف الكثير من المال.

قال السيد كليفر:

- لا يهمني ما تكلفه! فقط اخرج واحصل عليها!

لقد كان القول أسهل من الفعل. لم يتمكن تيبس من العثور على نبيذ من أعوام 1895 أو 1906 أو 1914 أو 1921 في أي مكان في إنجلترا أو فرنسا. لكنه تمكن من الحصول على نبيذ عامى  1929 و1945. كانت فواتير هذه الخمور فلكية . لقد كانت في الواقع ضخمة جدًا لدرجة أن السيد كليفر بدأ في الجلوس وملاحظة ذلك. وسرعان ما تحول اهتمامه إلى حماسة صريحة عندما اقترح عليه كبير الخدم أن المعرفة بالنبيذ تمثل رصيدًا اجتماعيًا كبيرًا للغاية. اشترى السيد كليفر كتبًا عن هذا الموضوع وقرأها من الغلاف إلى الغلاف. لقد تعلم أيضًا الكثير من تيبس نفسه، الذي علمه، من بين أمور أخرى، كيف ينبغي تذوق النبيذ بشكل صحيح.

- أولًا، يا سيدي، استنشقه طويلًا وعميقًا، وأنفك داخل الجزء العلوي من الكوب، هكذا. ثم تأخذ حسوة وتفتح شفتيك قليلاً وتمتص الهواء، مما يسمح للهواء بالفقاعات من خلال النبيذ. شاهدني أفعل ذلك. ثم تقوم بلفها بقوة داخل فمك. وفي النهاية تبتلعها.

مع مرور الوقت، أصبح السيد كليفر يفكر في نفسه كخبير في النبيذ، وتحول حتماً إلى شخص ضخم الحجم . "سيداتي وسادتي،" كان يعلن على العشاء وهو يرفع كأسه، "هذه مارجو 29! أفضل سنة في القرن! باقة رائعة! انها رائحة زهرة الربيع! ولاحظ بشكل خاص المذاق وكيف أن القليل من التانين يمنحه تلك الجودة الصارمة الرائعة! رائع، أليس كذلك؟

أومأ الضيوف برأسهم، وشربوا، وتمتموا ببعض الثناء، لكن هذا كل شيء.

قال السيد كليفر لتيبس بعد أن استمر الأمر لبعض الوقت:

- ما بال هؤلاء الأغبياء؟  لا أحد منهم يقدر النبيذ الجيد؟

رفع كبير الخدم رأسه ونظر إلى لأعلى وقال:

- أعتقد أنك ستقدر ذلك يا سيدي، إذا تمكنوا من تذوقه. لكنهم لا يستطيعون.

ماذا تقصد بحق الجحيم، أنهم لا يستطيعون تذوقه؟ -

- أعتقد يا سيدي أنك أمرت السيد إستراجون بوضع كميات وافرة من الخل في صلصة السلطة.

ما الخطأ فى ذلك؟ أنا أحب الخل.  -

قال كبير الخدم:

- الخل عدو الخمر. إنه يدمر الحنك. يجب أن تتكون الصلصة من زيت الزيتون النقي والقليل من عصير الليمون. لا شيء آخر.

قال السيد كليفر:

- هراء!

كما تريد يا سيدي. -

. سأقول ذلك مرة أخرى، تيبس. أنت تتحدث عن هراء.الخل لا يفسد ذوقي ولو قليلاً -

تمتم كبير الخدم وهو يغادر الغرفة:

-  أنت محظوظ جدًا يا سيدي.

في ذلك المساء، على العشاء، بدأ المضيف بالسخرية من كبير خدمه أمام الضيوف.قال:

- حاول السيد تيبس، أن يخبرني أنني لن أستطيع تذوق النبيذ إذا وضعت الخل في الصلصة.أليس كذلك، تيبس؟

أجاب تيبس بجدية:

- نعم يا سيدي .

وقلت له هراء. أليس كذلك يا تيبس؟ -

. نعم سيدي -

تابع السيد كليفر وهو يرفع كأسه:

- هذا النبيذ مذاقه بالنسبة لي تمامًا مثل شاتو لافيت 45، والأهم من ذلك أنه شاتو لافيت45.

وقف تيبس، كبير الخدم، ساكنًا ومنتصبًا بالقرب من الخزانة الجانبية، وكان وجهه شاحبًا. قال:

- إذا سامحتني يا سيدي، فهذا ليس لافيت 45 .

استدار السيد كليفر في كرسيه وحدق في كبير الخدم. قال: - ماذا تقصد بحق الجحيم ، هناك الزجاجات الفارغة بجانبك لإثبات ذلك!

كان نبيذ بوردو الكبير هذا، القديم والمليء بالرواسب، يُصب دائمًا بواسطة تيبس قبل العشاء. وكان يتم تقديمها في أباريق من الزجاج المقطوع، بينما كانت الزجاجات الفارغة، كما هي العادة، توضع على الخزانة الجانبية. في تلك اللحظة، كانت هناك زجاجتان فارغتان من لافيت 45 على الخزانة ليراهما الجميع.

قال كبير الخدم بهدوء:

- النبيذ الذي تشربه يا سيدي، هو النبيذ الإسباني الأحمر الرخيص والكريه نوعًا ما.

نظر السيد كليفر إلى النبيذ في كأسه، ثم إلى كبير الخدم. كان الدم يتدفق على وجهه الآن، وكان جلده يتحول إلى اللون القرمزي ثم قال:

- أنت تكذب يا تيبس!

قال كبير الخدم:

- لا يا سيدي، أنا لا أكذب. "في واقع الأمر، لم يسبق لي أن قدمت لك أي نبيذ آخر غير النبيذ الأحمر الإسباني منذ أن كنت هنا. يبدو أنه يناسبك بشكل جيد للغاية.

صرخ السيد كليفر على ضيوفه:

- أنا لأصدقه . لقد أصيب هذا الرجل بالجنون.

قال كبير الخدم:

- النبيذ الرائع يجب أن يُعامل باحترام. إنه لأمر سيئ بما فيه الكفاية أن تدمر ذوقك بثلاثة أو أربعة كوكتيلات قبل العشاء، كما تفعلون أيها الناس، ولكن عندما تسكبون الخل على طعامكم في السوق، فربما تشربون ماء الصحون أيضًا.

نظرت عشرة وجوه غاضبة حول الطاولة إلى النادل. لقد أفقدهم التوازن. كانوا عاجزين عن الكلام.

قال كبير الخدم وهو يمد يده ويلمس إحدى الزجاجات الفارغة بأصابعه بمحبة:

- هذه هي آخر الزجاجات الخمس والأربعين. لقد تم بالفعل الانتهاء من التسعة والعشرين.لكنها كانت نبيذًا مجيدًا. لقد استمتعت أنا والسيد إستراجون بها كثيرًا .

انحنى كبير الخدم وخرج ببطء شديد من الغرفة. عبر القاعة وخرج من الباب الأمامي للمنزل إلى الشارع حيث كان السيد إستراجون يحمل حقيبتيهما في صندوق السيارة الصغيرة التي كانا يملكانها معًا.

(تمت)

***

............................

المؤلف: روالد دال/ Roald Dahl  (1916- 1990): روائي وكاتب قصص قصيرة وكاتب سيناريو بريطاني. ولد في ويلز لأبوين نرويجيين. خدم في القوة الجوية الملكية أثناء الحرب العالمية الثانية، وأصبح بعد ذلك طياراً بطلاً. في الأربعينات بدأ بكتابة الروايات، ولاحقاً أصبحت رواياته من أكثر الروايات بيعاً في العالم. تشتمل أعماله الناجحة الأخرى القصص القصيرة التي غالباً ما تختتم بنهايات غير متوقعة، بالإضافة إلى قصص الأطفال الساخرة .

 

بقلم: مهرنوش مزارعي

ترجمة: صالح الرزوق

***

ما أن أفرغا أول قارورة حتى قال الرجل ذو الشعر الرمادي: "انتهت كل الفودكا".

"لا يزال لدينا زجاجة ويسكي".

نهض الرجل الشاب باتجاه الخزانة، وأحضر زجاجة ويسكي، وملأ كأسيهما، ثم عاد إلى كرسيه وجلس عليها.

"هل سمعت شيئا من داريوش؟".

"نعم. هو الآن في باريس. وجاء إلى برلين ليزورني".

"ماذا يفعل في باريس؟".

"يدرس في مدرسة اللغة صباحا ويقود سيارة عامة في المساء".

"وماذا عن عباس ؟".

"أي عباس؟".

"الذي له شامة كبيرة على خده. كان زميل داريوش في المسكن ...".

"آه ، نعم. أطلق سراحنا معا من سجن الشاه قبل الثورة بأيام".

وبعد صمت قصير، قال الرجل العجوز: "استشهد في معركة مع الباسداران في السنة الماضية في طهران".

خفض الشاب عينيه وحرك الثلج في كأسه. وبعد قليل من الوقت، قال بصوت حزين: "دعنا نقرأ قليلا من الشعر".

"هل لديك شيئ لحافظ ؟".

أحضر الشاب كتابا لحافظ من الرف، ووضعه على الطاولة أمام الرجل الكبير. فقال العجوز: "لماذا لا تقرأ منه بنفسك ؟".

التقط الشاب الكتاب، وقلب في صفحاته، وبدأ يقرأ بصوت مرتفع. عندما فرغت الزجاجة الثانية قال العجوز : "ذهب كل الويسكي أيضا".

رفع الشاب عينيه عن الكتاب، ونظر إلى الخزانة، ثم قال: "لدي بعض النبيذ".

فقال العجوز: "هذا ممتاز. دعنا نفتح الزجاجة".

"يجب أن لا نشرب بلا ضوابط".

"هذا لا يزعجني".

اختار الشاب، وهو يتحرك ببعض الاضطراب، زجاجة من النبيذ من الخزانة وبدأ بفتحها. وقال: "انكسرت الفلينة".

تفحص العجوز الزجاجة، وقال: "لا أعتقد أنه يمكن إخراجها. ادفعها للأسفل".

ضغط الشاب على الفلينة المكسورة لتهبط في الزجاجة وملأ كأسيهما، بينما وضع العجوز شريط كاسيت في المسجلة. وهنا طافت الفلينة نصف المكسورة في الزجاجة. قال: "بصحتك". وصدحت في أرجاء الغرفة موسيقا ناعمة.

شرب الشاب نصف نبيذه وقال: "انظر إلينا، انظر إلى أين وصلت أحوالنا".

ابتسم العجوز بمرارة، وحمل نصف الفلينة المكسورة من الطاولة، ولعب بها بين إبهامه والوسطى.

انتهيا من الزجاجة، وهنا قال العجوز: "هل لديك المزيد ؟".

نظر الشاب إلى الزجاجة الفارغة وقال: "لماذا تنقلب الأحوال هكذا؟. ألم نبذل ما بوسعنا ؟".

منحه العجوز نظرة متعاطفة ولم ينبس بكلمة.

فألح الشاب بقوله: "ألم نبذل كل ما بوسعنا ؟".

راقب العجوز الفلينة وهي تدور بين أصابعه. ولكن قال الشاب: "لماذا انقلبت الحال إلى ما هي عليه ؟". وانسابت الدموع على وجنتيه.

دمعت عينا الرجل العجوز ، وتخلص من نظاراته، وقال: "لماذا لا تقرأ قصيدة أخرى ؟".

التقط الشاب كتاب حافظ وفتحه مجددا ، ونظر إلى أول غزال مرسوم على يسار الصفحة، ثم قال: "فعلنا ما بوسعنا". ثم رمى الكتاب جانبا. وحين توقفت الموسيقا قال الرجل المسن: "هل ترغب بنزهة على الأقدام ؟".

قال الشاب: "حسنا". غير أنه لم يحرك ساكنا.

"هيا ارتد معطفك. دعنا نذهب للحيد البحري".

نهض العجوز ببطء، وبحث عن معطفه، وأطفأ الأنوار. ثم هبطا السلالم معا، وكان العجوز يعرج.

تأخر الوقت، ولكن تجمع الناس حول أكواخ الكرنفال والمنصات على كلا طرفي شاطئ سانتا مونيكا. أحيانا كانت تنطلق أصوات البهجة من حول الأكواخ. في بعض المنصات ترى دببة معلقة، ولها عيون زجاجية مستديرة. توقف الشاب قليلا أمام الملاهي لينظر للجياد الخشبية، ثم سار وراء الرجل العجوز.

وفي كوخ إطلاق النار، توقف العجوز وقال: "هل تعرف كيف ترمي النار ؟".

قال الشاب وعيناه تلمعان: "بمقدوري أن أفك وأركب العوزي بثانيتين".

فقال العجوز: "كنت أسرع أفراد مجموعتي".

فكرر الشاب كلامه: "أستطيع أن أفعل ذلك بثانيتين. كم كان عدد أفراد مجموعتك ؟".

"خمسة. كنا نعبر الحدود ليلا ...".

"كلهم إيرانيون ؟".

"كلا. فلسطينيان وإيرانيان وشخص واحد من نيكاراغوا ".

"في أية سنة ؟".

"ألف  تسعمائة واثنتان وسبعون".

تابع الرجلان حتى نهاية الحيد. ثم مال الشاب بظهره ليستند على السور. ولكن العجوز نظر إلى السماء. وقال: "كانت سماء لبنان حافلة بالنجوم المشرقة. غير أن السماء هنا معتمة وبلا نجوم ".

فرمى الشاب بصره نحو الأعلى.

قال العجوز: "قبل ليلة واحدة من الهجوم على العدو، تمددنا أنا والنيكاراغوي على الأرض لنراقب النجوم. وسألني بمن أفكر. فشعرت بالخجل من الرد. لذلك قلت له: بأمي. فقال: أما أنا فأفكر بصديقتي. ربما لن نلتقي ثانية. أحببت ذلك منه. كم كان شجاعا. ورأيته يخرج صورة من جيبه و ويمعن النظر بها لفترة من الوقت".

وهنا تخلى العجوز عن نظاراته لينظفها وهو يقول: "في تلك الليلة أطلق الإسرائيليون عليه النار".

في مكان ما على الطرف الآخر من الحيد البحري رن ناقوس كنيسة اثنتي عشرة مرة، فقال الشاب: "هل تفكر بالعودة ؟". ومال على ذراع الرجل المسن، ثم سار بتكاسل. كان النور في كوخ الرماية مشتعلا، والدببة لا تزال معلقة هناك. تمعن الشاب بالكوخ ، وهو يجر العجوز من ذراعه وقال : "هيا. لنطلق النار".

راقبه العجوز وهو يضع ربعي دولار في الماكينة المربوطة ببندقية تنتصب فوق سرج، كما لو أنه من رعاة البقر في البراري. وعندما ضغط الشاب على الزناد كان العجوز قد انصرف واختفى في الظل الكثيف.

***

.....................

ميهرنوش مزارعي Mehrnoosh Mazarei: قاصة إيرانية مقيمة في الولايات المتحدة. تكتب بالفارسية والإنكليزية.  من أهم أعمالها: غريب في غرفتي، ثورة مينا وغيرها..

* الترجمة عن ناراتيف الأمريكية. عدد عام 2011. بإذن من الكاتبة.

راينر ماريا ريلكيه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- الانتــــــظار

هي الحياة تسير ببطء

هو القلب تتناقص دقاته

هو أمل ونصفه:

كثيرا وأكثر بقليل بدوره.

هو القطار يقف في منتصف

طريق بلا محطّة

ونسمع صرير عجلاته

ونتأمل عبثا

متكّئين على بابه،

لريح نحسّها ، ثائرة.

المروج مزهرة، المروج

التي يجعلها التوقّف خياليّة.

***

2- طرق لا تؤدّي إلى أيّ مكان

طرق لا تؤدّي إلى أيّ مكان

بين مَرْجين،

كأنما هي بفنّ

حادت عن هدفها

طرق غالبا ليس

أمامها شيء قبالتها لا شيء آخر

سوى فضاء خالص

و الموسم.

***

3- كيف التعرّف مرّة أخرى

كيف التعرّف مرّة أخرى

على ما كانت عليه الحياة الحلوة؟

بتأملّنا ربّما

على راحتِي رسمَ

هذه الخطوط وهذه التجاعيد

التي نرعاها

بالقبض على الفراغ

بهذه اليد من لاشيء.

***

..........................

- راينر ماريا ريلكه (1875- 1926)

Les Grands classiques: poésie francaise.

قصة: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

وظيفة والدي، مثل وظائف الكثيرين في هذه المدينة، طفيلية. لقد كان مصورًا محترفًا، وكان سيموت من الجوع، مع عائلته بأكملها، لولا العرض السخي من الدكتور رويلان الذي، بالإضافة إلى تزويده براتب لائق، حرره من طغيان الإلهام الذي لا يمكن التنبؤ به، وسمح له بالتركيز على مهمة ميكانيكية وبسيطة. دكتور رويلان هو أفضل جراح جفون في باريس. يعمل في مستشفى 15/20، ولا ينفد منه المرضى أبدًا. حتى أن بعضهم يفضل الانتظار لمدة تصل إلى عام للحصول على موعد معه بدلاً من الذهاب إلى طبيب آخر أقل شهرة. يطلب من والدي أن يلتقط مجموعتين من الصور: خمس لقطات مقربة - عيون مفتوحة ومغلقة - قبل العملية وذلك لتسجيل حالتها الأولية. يتم أخذ المجموعة الثانية بمجرد الانتهاء من الجراحة وشفاء الجروح. لذلك، بغض النظر عن مدى نجاح العمل، فإننا عادةً ما نرى عملائنا مرتين فقط. ومع ذلك، يرتكب الطبيب أحيانًا خطأ (لا أحد، ولا حتى هو، كامل) وينتهي الأمر بعين واحدة مغلقة أو مفتوحة قليلاً. من الآخر. ثم يظهر الشخص المعني حتى نتمكن من أخذ مجموعة جديدة سيتعين عليه دفع ثلاثمائة يورو أخرى مقابلها: والدي ليس مسؤولاً عن أخطاء الجراحين. قد يفاجئك أن تعلم أن جراحة الجفون شائعة جدًا وأن هناك العديد من الأسباب التي قد تجعل المريض يخضع لها، بدءًا من عملية التقدم في السن: الأشخاص الذين يصر غرورهم على إبعاد أي أثر للشيخوخة من وجوههم. ومع ذلك، هناك أيضًا تلك التي تتشوه نتيجة لحوادث السيارات والانفجارات والحرائق وسلسلة كاملة من الحوادث المحتملة الأخرى: الجفون حساسة بشكل ملحوظ. في الاستوديو الخاص بنا، الذي يقع بالقرب من ساحة غامبيتا، قام والدي بتأطير بعض الصور التي التقطها خلال شبابه: جسر من القرون الوسطى، وامرأة غجرية تعلق الملابس بجوار مقطورتها، وتمثال معروض في حدائق لوكسمبورغ والذي فاز عنه بجائزة تصوير الشباب في مدينة رين. نظرة سريعة كافية للتأكد من أنه منذ زمن طويل، كان والدي يتمتع بموهبة. لدى والدي أيضًا أعمال أحدث على جدرانه: وجه صبي جميل جدًا مات في غرفة العمليات في رويلان (مشكلة تتعلق بالمخدر)، وجسده ملقى على طاولة العمليات، مغمورًا بضوء ساطع للغاية، شبه سماوي، يدخل بشكل غير مباشر من خلال إحدى النوافذ.

بدأت العمل في الاستوديو عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري وقررت ترك المدرسة. كان والدي بحاجة إلى مساعد ولذا انضممت إلى فريقه. وحينها تعلمت مهنة المصور الطبي المتخصص في طب العيون. ومع ذلك، تم تكليفي لاحقًا بالمزيد من الأعمال المكتبية، بما في ذلك الحسابات. نادرًا ما خرجت إلى المدينة أو الريف بحثًا عن مشهد يلهم عدستي المتقلبة. عندما أمشي، عادةً ما أفعل ذلك بدون الكاميرا، إما لأنني أنساها أو خوفًا من فقدانها. ومع ذلك، أعترف أنه في كثير من الأحيان، أثناء سيري في الشارع أو في ممرات أحد المباني، أشعر برغبة مفاجئة في التقاط صورة، ليس للمناظر الطبيعية أو الجسور كما فعل والدي ذات يوم، ولكن لجفون غير عادية كانت منذ زمن إلى الوقت الذي اكتشفتها بين الحشد. هذا الجزء من الجسم الذي رأيته منذ الطفولة والذي لم أشعر فيه مطلقًا بأدنى قدر من الشبع يذهلني. يتم عرضه وإخفاؤه بشكل متقطع، ويتطلب منك البقاء متيقظًا لاكتشاف شيء يستحق وقتك حقًا. يجب على المصور أن يتجنب الرمش في نفس الوقت الذي يرمش فيه الهدف ويلتقط اللحظة التي تغلق فيها العين مثل المحار المرح. لقد توصلت إلى الاعتقاد بأن الأمر يتطلب حدسًا خاصًا، مثل حدس صياد الحشرات، ولا أعتقد أن هناك فرقًا كبيرًا بين رفرفة الأجنحة ورفرفة الرموش.

أنا من بين نسبة صغيرة من الأشخاص المتحمسين لعملهم، وبهذا المعنى، أعتبر نفسي محظوظًا. لكن هذا لا ينبغي أن يسبب أي ارتباك: فمهنتنا بها بعض العيوب. يمر جميع أنواع الأفراد عبر الاستوديو، معظم الوقت في مواقف يائسة. الجفون التي تصل إلى هنا كلها تقريبًا فظيعة، عندما لا تسبب أي إزعاج، فهي مثيرة للشفقة. ليس من المجاني أن يفضل أصحابها إجراء عملية جراحية. في نهاية شهرين من فترة النقاهة، عندما يعود المرضى، الذين تحولوا بالفعل، لالتقاط مجموعة الصور الفوتوغرافية الثانية، نتنفس الصعداء. نادراً ما يصل هذا التحسن إلى مائة بالمائة، لكنه يغير الوجه بالكامل، وتعبيراته، وإيماءاته الدائمة. في المظهر، العيون أكثر توازنًا، ولكن عندما تنظر عن كثب - وخاصة عندما تكون قد رأيت بالفعل آلاف الوجوه التي تم تعديلها بنفس اليد - تكتشف شيئًا بغيضًا: بطريقة أو بأخرى، تبدو جميعها متشابهة. يبدو الأمر كما لو أن الدكتور رويلان يترك علامة مميزة على مرضاه، علامة باهتة ولكن لا لبس فيها.

وعلى الرغم من الملذات التي توفرها، فإن هذه المهنة، مثل أي مهنة أخرى، تنتهي باللامبالاة. أتذكر رؤية بعض الحالات التي لا تنسى حقًا في مؤسستنا. عندما يحدث ذلك، أقترب من والدي الذي يقوم بتحضير الفيلم في الغرفة الخلفية، وأهمس في أذنه ليسمح لي بتشغيل الفيلم. يوافق دائمًا دون أن يفهم سبب اهتمامي المفاجئ. أحد هذه الاكتشافات حدث قبل أقل من عام، في نوفمبر. خلال فصل الشتاء، يصبح الاستوديو الواقع في الطابق الأرضي لمصنع قديم رطبًا بشكل لا يطاق ويفضل الخروج إلى الخارج بدلاً من البقاء في ذلك الكهف الجليدي المظلم بسبب احتياجات التجارة. لم يكن والدي هناك بعد ظهر ذلك اليوم، وكنت أتجمد حتى الموت عند الباب، وأسلي نفسي بترددات المطر بينما ألعن عميلاً تأخر أكثر من ربع ساعة. عندما ظهرت صورته الظلية أخيرًا خلف السياج، فوجئت بأنه كان صغيرًا جدًا، لا بد أنه في العشرينات من عمره على الأكثر. قبعة سوداء, مقاومة للماء، غطت رأسها وتركت القطرات تنزلق على شعرها الطويل. كان جفنها الأيسر مغلقًا بمقدار ثلاثة ملليمترات أكثر من جفنها الأيمن. كان لكل منهما نظرة حالمة، لكن الأيسر أظهر شهوانية غير طبيعية، ويبدو أنها تثقل كاهله. عندما نظرت إليها، اجتاحني شعور غريب، نوع من الدونية الممتعة التي أشعر بها عادة أمام النساء الجميلات بشكل مفرط.

وببطء مثير للسخط، كما لو أنها لا تهتم بالتأخير، اقتربت مني لتسألني في أي طابق يوجد المصور. ربما خلطت بيني وبين البواب .قلت لها:

- إنه هنا. أنت أمام الباب.

فتحت القفل، وفي لفتة مهيبة لم تستطع تخمينها، قمت بتشغيل جميع الأضواء، مثلما يحدث عندما يظهر أحد أفراد العائلة المالكة في قاعة الرقص.وبمجرد دخولها، خلعت قبعتها وبدا شعرها الأسود الطويل وكأنه استمرار للمطر. مثل أي عميل آخر، أخبرتني أن لديها موعدًا مع الدكتور رويلان لحل مشكلتها. كدت أن أجيب: "ما المشكلة؟" أنت مثالية، لكنني تراجعت. لقد كانت صغيرة جدًا... لم أرغب في إزعاجها، لذلك قلت فقط عبارات مبتذلة. "أنت لا تبدين باريسيًة، من أين أنت؟، قالت بخجل،- بيكاردي  متجنبًا الاتصال بالعين، كما يفعل المرضى عادةً. ولكن هذه المرة، بدلًا من أن أشكرها، وجدت مراوغتها مثيرة .

كنت سأبذل قصارى جهدي لأنظر إلى ذلك الجفن الثقيل والهش طوال فترة ما بعد الظهر، وأكثر من ذلك حتى تنظر إلي تلكما العينانن. سألت متظاهرا بلا مبالاة:

- هل تحبين باريس؟

- نعم، ولكن لا أستطيع البقاء لفترة طويلة. في الواقع، جئت فقط لإجراء العملية.

- باريس سوف تؤثر عليك، يمكنك التأكد من ذلك. عندما لا تشك في ذلك، ستكون في طريقك للعيش هنا.

ابتسمت الفتاة وأحنت رأسها.

- لا أعتقد ذلك. أود العودة إلى بونتواز في أقرب وقت ممكن. لا أحب التغيب عن المدرسة بسبب شيء كهذا.

مجرد فكرة أن هذه المرأة تعيش في مدينة أخرى كانت كافية لإحباطي.بدأت أشعر بالغضب. فجأة، ربما بطريقة فظة بعض الشيء، أنهيت المحادثة وذهبت للحصول على الفيلم. "اجلس هنا" قلت بعد قليل عندما عدت. لم أكن أبدًا في حياتي المهنية غير ودود إلى هذا الحد.جلست الفتاة على المقعد، ثم رجعت شعرها للخلف، وتركت وجهها مكشوفًا. قلت بنبرة متعاطفة: "لا أعرف إذا كنت على علم بذلك". "لكن النتائج ليست مثالية أبدًا. لن تكون عينك أبدًا هي نفسها تمامًا مثل العين الأخرى. هل أوضح لك الطبيب ذلك؟" أومأت برأسها في صمت. "لكنه أخبرني أيضًا أن الجفنين سيكونان بنفس الارتفاع. هذا يكفي بالنسبة لي." لقد شعرت بالرغبة في أن أعرض عليها مجموعة من الصور لعمليات جراحية فاشلة في محاولة لإقناعها. فكرت في إخبارها أنه مهما حدث فإنها ستحمل العلامة الواضحة للمرضى الذين يجري لهم العمليات الجراحية على يد الدكتور رويلان؛ ستنضم إلى قبيلة من المسوخ. لكنني لم أكن شجاعا بما فيه الكفاية. دون أن أنبس ببنت شفة، علقت قطعة القماش البيضاء خلف رأسها، ووجهت المصباح نحو عينيها. بدلًا من اللقطات الخمس المعتادة، التقطت خمس عشرة صورة، وكان من الممكن أن أستمر حتى حلول الظلام إذا لم يصل والدي. عندما سمعته يدخل، أطفأت المصابيح. وقفت الشابة وذهبت إلى المنضدة لتكتب شيكًا قرأت عليه اسمها بخط يد بناتي. وقالت: "تمنى لي التوفيق". "سوف أراك في غضون شهرين." لا أستطيع أن أصف الشعور بخيبة الأمل التي شعرت بها بعد ظهر ذلك اليوم. قمت بتطوير الصور على الفور ووضعت الصور التقليدية في مظروف عليه شعار المستشفى. لقد احتفظت بتلك التي رأيتها الأفضل في درجي: لقطة أمامية ،حالمة، مثيرة. حاولت أن أنساها لكن بلا فائدة. لمدة ثلاثة أشهر انتظرتها بخوف حقيقي حتى تعود لمجموعتها الثانية.لقد عقدت العزم على عدم التواجد هناك. كنت أتحقق كل يوم اثنين من جدول والدي لأعرف متى أجعل نفسي عزيزا. لكنها لم تأت قط. بعد ظهر أحد الأيام في بداية الصيف، بينما كنت أسير على طول الرصيف بحثًا عن جفون مثيرة للاهتمام، رأيتها مرة أخرى. كان نهر السين يتدفق ببطء، وتعكس الصخور المياه الخضراء الداكنة والأمواج الوامضة. كانت تنظر أيضًا إلى النهر لذا كدنا أن نصطدم ببعضنا البعض. ولدهشتي الكبيرة، لم تتغير عيناها على الإطلاق. لقد استقبلتها بأدب وبذلت قصارى جهدي لإخفاء فرحتي، ولكن بعد بضع دقائق لم أستطع التراجع أكثر. سألتها:

- هل غيرت رأيك؟  هل قررت عدم إجراء الجراحة؟

-  تم استدعاء الطبيب واضطررنا إلى تغيير الوقت في نهاية العام الدراسي. سأذهب إلى المستشفى غدا. وبما أنه ليس لدي عائلة في المدينة، فسوف أسكن لمدة ثلاثة أيام.

- كيف تسير الدراسة؟

أجابت مبتسمة:

- لقد قدمت امتحانًا في جامعة السوربون الأسبوع الماضي. أريد الانتقال إلى باريس.

بدت سعيدة؛ رأيت التعبير المفعم بالأمل الذي غالبًا ما يكون لدى المرضى قبل الجراحة في نظرتها.وهو ما يجعل وجوههم المشوهة تبدو أكثر صدقًا. لقد دعوتها لتناول الآيس كريم في جزيرة سانت لويس. كانت فرقة جاز تعزف في مكان قريب، وعلى الرغم من أننا لم نتمكن من رؤية الموسيقيين من مكاننا، إلا أننا كنا نسمع الموسيقى كما لو كانت قادمة من النهر نفسه. لون ضوء الشمس جفنيها باللون البرتقالي. مشينا لعدة ساعات، أحيانًا في صمت، وأحيانًا نناقش الأشياء التي رأيناها من حولنا، المدينة أو آمالها في المستقبل.  لو أحضرت كاميرتي لكنت حصلت على بعض الأدلة، ليس فقط على وجود المرأة المثالية، بل على أسعد يوم في حياتي أيضًا. عندما حل الليل، عدت بها إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه، وغطست بالقرب من بون نوفيل. لقد أمضينا الليل معًا على سرير متهالك، في خطر دائم من السقوط على الأرض. بمجرد أن كنا عراة، أصبح الفرق بيننا لمدة عشرين عامًا أكثر وضوحًا. قبلت جفنيها مراراً وتكراراً وعندما سئمت من ذلك طلبت منها ألا تغمض عينيها حتى أتمكن من الاستمرار في الاستمتاع بتلك المليمترات الثلاثة الإضافية، المليمترات الثلاثة من الشهوانية التي دفعتني إلى الجنون. منذ العناق الأول إلى اللحظة التي أطفأت فيها المصباح، وأنا منهك، شعرت بالحاجة الملحة إلى إقناعها بالعدول عن هذا الأمر. لذا، وتخلصًا من تحفظاتي وموانعي السابقة، توسلت إليها ألا تجري العملية. طلبت منها أن تبقى معي كما كانت في تلك اللحظة. لكنها ظنت أنني كنت أتملقها فقط، وأروي الأكاذيب العظيمة التي يميل المرء إلى قولها في مثل هذه اللحظات. بالكاد نمنا تلك الليلة. لو كان الدكتور رويلان يعرف! وكان يصر دائمًا على أن يحصل مرضاه على قسط كامل من الراحة قبل الجراحة. وصلت إلى غرفة ما قبل العملية مع حلقات تحت عينيها تؤكد جمالها فقط.  لقد وعدتها بأن أبقى معها حتى آخر لحظة ثم آتي لرؤيتها فور استيقاظها من التخدير. لكنني لم أستطع أن أفعل ذلك: عندما جاءت الممرضة لتأخذها إلى غرفة العمليات، لقد تسللت إلى المصعد.

غادرت المستشفى بقلب مكسور، وكأنني شخصًا يعاني من الهزيمة لأول مرة في حياته. فكرت بها كثيرًا في اليوم التالي. تخيلتها تستيقظ وحيدة، في هذه الغرفة المعادية، غارقة في رائحة المطهر. كنت أود أن أكون هناك برفقتها، وكنت سأفعل ذلك لو لم يكن هناك الكثير مما هو على المحك: ذكرياتي، صوري لتلك العيون، كانت ستختفي تمامًا لو رأيتها بعد ذلك، مشابهة لجميع مرضى الدكتور رويلان الآخرين.

في بعض فترات بعد الظهر، خاصة خلال الفترات البطيئة عندما يكون العملاء قليلين ، أضع صورتها على مكتبي وأنظر إليها لبضع دقائق. عندما أفعل ذلك، يغزوني نوع من الاختناق والكراهية اللامتناهية تجاه المحسن إلينا، كما لو أن مشرطه قد شوهني بطريقة ما. لم أخرج بالكاميرا منذ ذلك الحين. ولم تعد أرصفة نهر السين تحمل أية أسرار بالنسبة لي.

(تمت)

***

........................

المؤلفة : جوادالوبي نيتيل/ Guadalupe Nettel  كاتبة من المكسيك. ولدت في مكسيكو سيتي عام 1973 وتدرس الفلسفة والأدب في UNAM، الجامعة الوطنية المكسيكية. حصلت على درجة الدكتوراه. من مدرسة الدراسات العليا في باريس. نشرت نيتل ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية. فازت مجموعتها القصصية El matrimonio de los peces rojos، المترجمة تحت عنوان "التاريخ الطبيعي"، بجائزة ريبيرا ديل دويرو الدولية للرواية القصيرة. كما فازت بجائزة هيرالدي عن روايتها بعد الشتاء (Después del invierno).

 

قصة: رايا سيكينين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

ما الذي يدفع الناس ويجبرهم؟ فكرت بينما كنت أتحرك مع حشد من الناس نحو فحص جواز السفر. ما الدم الغجري الذي يحركني؟ فكرت عندما رأيت حقيبتي مصورة بالأشعة السينية، ومجموعة الكتب والملابس وكل الأوراق الفارغة والمملوءة هناك. فيم العجلة لرؤية كل الخير والشر في العالم؟  فكرت عندما دخلت إلى النفق البلاستيكي الشفاف الذي كان يتقوس عاليا نحو السفينة. ما الجوع، ما العطش إذا كنت تريد رؤية أماكن جميلة، مثلي، فكرت عندما خرجت من الممر البلاستيكي باتجاه السفينة، عليك أن تمر عبر مشاهد قبيحة للوصول إلى هناك. فهل هذا ما يعطي الجمال بريقه الحزين؟ ولهذا السبب نبكي في الأعراس، وعندما يولد طفل. محكوم على خيول الدوار أن تدور في دائرة أبدية على صوت الموسيقى السعيدة. تذكرت العربة التي كانت متوقفة ومغطاة بالقماش طوال الليل، والخيول تستريح، والموسيقى متوقفة، والأطفال يحملون إلى الفراش. لماذا شعرت بالخوف فجأة؟ لقد تخيلت صهيل الخيول، وأشكالها الرقيقة، وحدها تحت القماش،  في الظلام، تتطلع إلى المستقبل.

جلست بالقرب من النافذة وابتعدت السفينة عن الرصيف. استنشقت بشرتي، لكن الرائحة اختفت. في هذا البلد تفوح رائحة الفقر، وكانت رائحة مختلفة عن رائحة شمس الجنوب التي تدفئ اللامبالاة؛ كانت تلك رائحة الخوف القادمة من أرض شمالية فقيرة وباردة، وكان الخوف معديا. تذكرت كلبًا كان يخاف من خوفي، تذكرت أسنانه. لقد كنت أراقب حقيبتي. لم يكن فيها شيء، ولكني جلست كالكلب أراقبها. لم أعد امرأة بعد الآن. شعرت بالرغبة في الزمجرة. ركبت سيارة عبر هذا البلد، نحو فقر مدقع. كنت أعلم أن السيارة كانت بمثابة آلة الزمن هنا؛ تذكرت التاريخ. عبثًا حاولت أن أفكر في هويتي، أن أفكر في التنورة التي اشتريتها للتو، والتي لم أرتديها بعد ولو مرة واحدة – نظيفة، بيضاء، لا ذكريات مرتبطة بها؛ لم تكن موجودة. لقد رأيت خط قطار يمر وسط منطقة منخفضة حيث تنمو شجيرات الصفصاف بشكل دائري كما تنمو في الفضاء المفتوح، وعرفت أنها جميلة، لكنني لم أفهم ذلك. مسار القطار، ودائمًا فكرة أن القضبان تؤدي إلى المدن العظيمة المضيئة، لكنني كنت أعرف: القضبان تقود بعيدًا عنها، إلى وسط السهول، إلى البرية، حيث لن يسمع أحد صرخة واحدة. تذكرت معسكر أوشفيتز، تذكرت رائحة بالات القش، ثم معسكر داخاو، لذلك كان علي أن أزوره أيضًا، وكان هناك كل ما ينبغي أن يكون في معسكرات الاعتقال، لكن الرائحة أزالها الألمان. يا له من عار أن نفتخر بالدموع  القليلة التي سقطت هناك، على الأرضية الأسمنتية.

طوال هذه الأيام في هذه الأرض كنت جائعًا. أكلت كل ما قدموه لي، أكلت طوال الوقت، لكن الجوع لم يهدأ . أحضروا لي الحساء والخبز والكافيار والفودكا إلى طاولتي الصغيرة. كان هناك راديو في كل غرفة، وكلها تشغل محطات مختلفة، وكان من المفترض أن تكون لطيفة، وكان الأطفال يصرخون في الفناء. لقد أكلت كل شيء على الفور، لقد أحضروا المزيد. وعُرضت المناظر الطبيعية: طرق حلقية تمر عبر الحقول. كانت الحبوب تنبت بالفعل، في التربة السوداء، لكني لم أستطع أن أنسى ما كان في التربة. لقد رأيت في المنام موكبًا من الناس، لا نهاية له، يمر في الماضي والحاضر، وفي الصباح استنشقت بشرتي: هل سيحين الوقت قريبًا للانضمام إلى الموكب. لهذا السبب من المهم أن تكون في عجلة من أمرك، فكرت .

لقد كنت بعيدًا عن المنزل، ولكن ليس بعيدًا عما حدث في يوم آخر من هذا الربيع. لقد مشيت سبعمائة خطوة من منزلي، مرورًا بقبور الأبطال، إلى منزل غريب، وهناك وقفت بجوار النافذة المطلية باللون الأبيض ونظرت من الجزء غير المطلي من النافذة عبر الحديقة إلى المنزل الذي أعيش فيه.  لقد تساقطت الثلوج على القبور في الحديقة، على العشب الأخضر بالفعل، ورأيت آثاري في ذلك الثلج. لقد طُلب مني أن أخلع ملابسي، وكانت الغرفة باردة،كنت مستلقيا  فوق ألواح الزجاج الباردة، مضاءً مثل حقيبة في التفتيش الجمركي، كنت قد نظرت إلى ثلج شهر مايو الذي كان يتساقط خلف النافذة. لقد حزنت الآلة، وتوقفت لعبة دوامة الخيل، ولم أكن قد قطعت مسافة بعيدة من قبل؛ عدت عبر الحديقة متتبعًا آثاري، لكن الرحلة كانت أطول. في أحد الأيام، استيقظت في المستشفى، وكان هناك أنبوب متصل بي ينقل الماء المالح من زجاجة وأنبوب آخر ينقل الدم والسوائل مني إلى زجاجة بلاستيكية صغيرة، لم أتمكن من الوصول إلى أي مكان. وعلى الرغم من أنه قيل إنني بصحة جيدة، وأنه مسموح لي بالعودة إلى المنزل والعيش مرة أخرى، إلا أنني مازلت أشعر بالعجلة والحاجة إلى إنجاز كل شيء.

لقد دعوت ذات مرة إلى الموت، والآن أخشى أن يتم الرد على النداء بعد وقت طويل، بعد فوات الأوان، عندما كنت بالفعل مختلفًا وأردت أشياء أخرى. في هذا البلد، في شوارع المدن وفي المحطات المزدحمة، رأيت نفس الشيء أمام الناس، كنا جميعاً جائعين ومستعجلين، يمكننا أن نقتل بعضنا البعض من أجل كسرة خبز. ابتسمنا لبعضنا البعض مثل الذئاب المتساوية في القوة، ولم نكن جائعين بما فيه الكفاية بعد. لقد تجاوزنا بعضنا البعض. لقد شممت الرائحة. وهكذا بدأت أفكر في بشرة الناس. مجرد قطعة صغيرة جدًا من الجلد، داكنة اللون، في وسطها حلمة رجل، وحول الحلمة شعيرات حريرية سوداء، وكيف ينبض القلب تحتها ويحرك الجلد والحلمة مجرد ظل. فكرت في استمرار الحركة الثابتة والمتساوية، وكيف شاهدتها، وفكرت؛ استمر يا قلب لا تتوقف يا قلب. لا تستسلم يا قلب الإنسان. كنت أفكر في الأمر طوال الوقت، ولم أستسلم أبدًا، وعادت العربة إلى الحركة، بخيولها الخفيفة، وكان على كل واحد منها عبء، ورعب في عيون الأطفال، وعادت الموسيقى الخادعة مرة أخرى. تم اصطحابي لرؤية مقبرة ألمانية قديمة، تلة بين الحقول. نمت على التل أشجار كبيرة وتحت الأشجار شقائق النعمان الزرقاء. لم أر صليبًا واحدًا أو شاهد قبر. كانت الأرض هي نفس الأرض كما في أي مكان آخر. مقبرة. قطفت  شقائق النعمان. لم تكن رائحتها مثل أي شيء. سحقتها بين أصابعي لأشم عصيرها؛ لم أشم سوى خوفي. بجانب التل كان هناك حظيرة. قالوا لي: لا تأتي إلى هنا، الرائحة هنا. دخلت على أية حال، وفتحت الباب الخشبي، وخطوت على القش المنتشر على الأرض. ركض الديك المرقط أمام قدمي. يرقد خنزيرً كبير في القش. وكان هناك عشرة خنازير حديثة الولادة، صغيرة ونحيلة وردية اللون. رفعت واحدًا تلو الآخر، وفتحت أفواهها، وتم انتزاع أنيابهم الحادة باستخدام كماشة، وتم وضعهم بجوار الخنزير وبدأوا على الفور في الرضاعة. كانت هناك رائحة الروث والتبن الرطب ورائحة الولادة الليلة الماضية ورائحة حليب الخنزير، رائحة الحياة الحلوة النفاذة. ملأت رئتي منه، وشفيت. استيقظت في ليلة ربيعية. كان الظلام في الصباح. في الخارج، غنى طائر على شجرة في الحديقة، فوق قبور الأبطال.

نهضت وسرت عبر الشقة وفتحت الباب الأمامي وجلست على أعلى درجة من الدرج. تحت قدمي شعرت بنعومة الخشب. قمت بمسح الخشب بيدي، وفكرت في كل أولئك الذين داسوا على الدرج خلال وجود المنزل الطويل.  فكرت في الأحوال الجوية المختلفة، والمواسم المختلفة، والأحذية المختلفة، والأقدام العارية، والخطوات الثقيلة والخفيفة. في المقدمة كان العشب والشجيرات في الفناء، حيث يمكن بالفعل رؤية زخارف الأوراق.في شفق الصباح، بدا الشارع بالأسفل أمام المرفأ وكأنه نهر، تباطأ في جريانه، ورأيت كل المركبات والمشاة الذين مروا به، خيول منهكة بأحمالها، ونساء عجائز، وأطفال بلا أحذية. . رأيت الكنيسة، ثم رأيت بناة الكنيسة على سقالاتهم، ثم المكان الذي ستبنى فيه الكنيسة. وعندما نظرت إلى الطريق مرة أخرى، كان مليئًا بالناس الذين يسيرون كالنهر، كلهم في نفس الاتجاه، وبين الحشد رأيت نفسي. رأيت ضوء الصباح. لقد جاء من خلال الأغصان الكثيفة لشجيرة، وجعل كل فرع يتوهج باللون الداكن، ويومض. وفجأة وصل الضوء إلى ندى العشب الذي تألق. على غصن الشجيرة غنى طائر رمادي بخفة ونزق، أغنية رتيبة وجميلة. رأيت كل هذا، وشاهدته، ثم نهضت وعدت إلى السرير. في الصباح استيقظت مثل كل الناس.

***

..........................

(انتهت)

المؤلفة: رايا سيكينن/ Raija Siekkinen  ولدت رايا سيكينن في كوتكا، جنوب شرق فنلندا، عام 1953. درست الأدب والفولكلور والفلسفة، وعملت في إحدى المكتبات وناقدة أدبية، ومن عام 1984 حتى وفاتها في عام 2004 كانت تكسب عيشها بشكل أساسي من الكتابة. ألفت سيكينن خمسة عشر كتابًا، منها الروايات ومجموعات القصص القصيرة وكتب الأطفال والمسرحيات. حصلت مرتين على جائزة فنلندا لكتاباتها المتميزة.

 

(كتبها وغنّاها بوب ديلان "دِلِن" بمناسبة أزمة الصواريخ الكوبية عام 1963) *

ترجمة د. بهجت عباس

***

أه، أينَ كنتَ، يا ولدي ذا العينين الزرقاوين؟

آه، أين كنتَ، يا فتـايَ العـزيز؟

*

كنتُ أتعثــَّر جنبَ الجبال الإثنيْ عشـرَ التي يكسوها السَّديم،

مشَـيْـت وزحفـتُ في ستِّ طـُرق ٍسريعة ملتـوية،

دخلتُ في وسـط سبـعِ غاباتٍ حَـزانى،

كنتُ أمامَ اثـنيْ عشرَ محيطاً ميـِّتـاً،

كنتُ عشرةَ آلاف ِمـيلٍ في فـم مقـبرة،

وإنَّه لَشديد،ٌ وإنَّه لشديد، إنَّه شديد، إنَّه شديد،

وإنَّ مطراً شديداً سيأخذ في السّـُقوط.

*

آه، ما الذي رأيتَ، يا ولدي ذا العينين الزرقاوين؟

آه، ما الذي رأيتَ، يا فتـايَ العـزيز؟

*

رأيتُ طفلاً ولد حديثـاً يحيط به إثـنـا عشرَ ذئباً وحشياً،

رأيتُ طـريقاً من المـاس خاليـةً من النـاس،

رأيتُ غصـناً أسـودَ تُـرِكَ بدمٍ يقطر منه،

رأيتُ غرفةً ملأَى برجال مع مطارقَ يسيل منها الدّم،

رأيتُ سلَّـماً أبيضَ يغطيّـه الماء،

رأيتُ عشـرةَ آلاف ِمتكـلِّـم ٍوألسـُنـُهم كـلّـُها مقطوعة،

رأيتُ بنـادقَ وسيـوفاً حـادة في أيدي صِـبْـيَة صغار،

وإنَّه لَشديد،ٌ وإنه لشديد،ٌ إنه شديد، إنه شديد،

وإنَّ مطـراً شديداً سيـأخذ في السّـُقوط.

*

آه، ما الذي سمعتَ، يا ولدي ذا العينين الزرقاوين؟

آه، ما الذي سمعتَ، يا فتـايَ العـزيز؟

*

سمعتُ صوتاً لـرعدٍ يهـدر إنـذاراً،

سمعت هـديرَ موجـةٍ يمكن أن تـُغرقَ الدّنيـا كلّـَها،

سمعتُ مئـةَ طبّـالٍ وأيديهم تتـوهّـج لـهـباً،

سمعتُ عشرةَ ألافِ همسـةٍ ولا أحـدٌ يُـصغي،

سمعتُ شخصاً جـائعـاً وأناساً كـُثراً يضحكون،

سمعتُ أغنـيةً لشاعـر مات في المَجْـرى،

سمعتُ صوتاً لمهـرِّج هو مَـن صرخ في زقاق طويل،

وإنَّه لشديد، وإنَّه لَشديد، إنه شديد، إنه شديد،

وإنَّ مطراً شديداً سيـأخذ في السّـُقوط.

*

آه، ومن لقيتَ، يا ولدي ذا العينين الزرقاوين؟

آه، ومن لقيتَ، يا فتـايَ العـزيز؟

*

لقيتُ صبيّـاً يافعاً جَـنْـبَ مُهرٍ ميِّـت،

لقيتُ رجلاً أبيضَ كان يسـيِّـر كلباً أسودَ،

لقيتُ امرأةً شابـةً بجسـد يحترق،

لقيتُ فتـاةً صغيرةً أعطـتـني قوسَ قـزح،

لقيتُ رجلاً هو مَـن جُـرح بحـُبّ،ٍ

لقيت رجلاً آخـرَ هو مَـن جُـرح بكراهية،

وإنَّه لَشديد، وإنَّه لشديد، إنه شديد، إنه شديد،

وإنَّ مطراً شديداً سيــأخذ في السّـُقوط.

*

آه، ما الذي ستفـعل، يا ولدي ذا العينين الزرقاوين؟

آه، ما الذي ستفـعل، يا فتـايَ العـزيز؟

*

أنا عائد قبل أنْ يبدأ المطـر في السّـُقوط،

سأمشي إلى أغوار الغابة السَّـوداء الأشـدِّ عمـقاً،

حيث الناس كـُثـر وأيديهم خـالـيـة،

حيث حبـوبُ السّـُـمِّ تغـمـر مياهَـهم،

حيث البيت في الوادي يلتـقي السّـجنَ الرطبَ القـذر،

حيث وجـه ُ الجـلاّد مـخفـيّ ٌ ببـراعـة دومـاً،

حيث الجـوع بشـْع ٌ، حيث الأرواح ُ منسـيَّـة،

حيث الأسـود هـو اللون، حيث اللاشيء هو العدد،

ولسوف أقوله، وأفكـِّر فيه، وأتكلَّـم عنه، وأتنـفسّـُه،

وأعكسـُه من الجبل حتى تستطيعَ كلّ ُ الأرواح رؤيـتـَه،

ثم أقف على المحيـط حتّـى آخـُـذَ في الغـرق،

ولكـنْ سوف أعرف أغنـيـتي جيـداً قبل أن أبدأَ الغنـاء،

وإنَّه لَشديد، وإنَّه لَشديد، إنه شديد، إنه شديد،

إنَّ مطـراً شديداً سيـأخـذ في السّـُقـوط.

***

.........................

*من مجموعة (مختارات من الشعر العالمي بلغة مزدوجة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمّان/ بيروت 2009).

* ولد بوب ديلان (يلفظ دِلِـن) باسم روبرت ألين زيمرمان Robert Allen Zimmerman  في 24 مايس عام 1941 . هو مغـنٍّ  وكاتب أغاني أمريكي. بل يُعتبر أحد أعظم كتاب الأغاني على الإطلاق، وكان شخصية رئيسية في الثقافة الشعبية على مدار 60 عامًا من حياته المهنية. وفي شرحه لتغيير الاسم في مقابلة أجريت معه عام 2004، قال: "لقد ولدت بأسماء غلط، ومن أبوين غلط" حصل على جائزة نوبل عام 2016 للآداب، وهو الأمر الذى كان بمثابة صدمة لجموع المثقفين في أنحاء العالم، لأنه لم يعرف في الأوساط الثقافية ككاتب، بل عرف عنه عقب منحه الجائزة بأنه مغنٍّ وملحن وشاعر وفنان أمريكي.

قصة: أليخاندرا كوستاماجنا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت رومينا تحدق به، وكان هذا صحيحا. كانت تراقبه من الصف الآخر عند الخروج في السوبر ماركت. وأخيراً قالت: "تشرفت برؤيتك". ثم صححت نفسها: "تشرفت برؤيتكم يا رفاق. أراكم لاحقًا." ومشت بعربتها الفارغة تقريبًا نحو المخرج. وحرك وركيها كما لو كانت ترقص. على الأقل هكذا رأت ماريتا الأمر.

كرر صموئيل بذهول:

- أراك لاحقًا.

قالت ماريتا:

- ماذا يعني ذلك؟

لقد كان دورهما عند الخروج. كان العميل الذي فى الأمام قد حصل للتو على النقود من أمين الصندوق وترك المساحة خالية لهما للمضي قدمًا.

سأل صموئيل:

- ماذا يعني؟

- هل مازلت تراها؟

- أف!

تنهد الرجل وهو يملأ الحزام الناقل بالتفاح والبرتقال وبعض الليمون والخس والفاصوليا الخضراء. أولاً الفواكه والخضروات، ثم منتجات الألبان، ثم البضائع الجافة. دائما نفس الشيء.

-   أخبرني، ماذا يعني أراك لاحقًا؟

-  إنه الوداع...

- هل لديك شيء لتخبرني به؟

ضغطت عليه ماريتا.

قال لصبي الحقائب الذي بدأ بوضع البقالة في الأكياس البلاستيكية منذ فترة طويلة.

- لا، احتفظ بالفواكه مع الفاكهة من فضلك.

سأل الصبي:

- ثم أين يجب أن أضع ورق التواليت؟

تردد صموئيل:

- مع سائل غسل الصحون. لا أعرف...

توسطت ماريتا:

- ورق التواليت يوضع مع المناديل من فضلك .

بدات أمينة الصندوق وكأنها آلة مبرمجة. قامت بتمرير الرمز الشريطي الخاص بالمنتج، والضغط على زر، ونظرت إلى الشاشة، ثم نقرت، ثم مررت الرمز الشريطي، ثم نقرت مرتين. ولم يتبق سوى الدجاج والبيض لإكمال عملية الشراء.

قالت ماريتا مرةً أخرى:

- أخبرني.  أنا أستمع . كلي آذان صاغية.

- ليس الآن يا حبيبتي.

اعتذر صامويل وثبت عينيه على يدي عامل الحقيبة، الذي كان في تلك  اللحظة يضع الدجاجة في كيس أصغر. وبدا أيضًا أنه يعتذر لأمين الصندوق.

- الآن أنت محرج... لكن الجميع لاحظوا كيف كانت تنظر إليك .

ثم التفتت إلى أمين الصندوق:

- لقد رأيت تلك الفتاة الصغيرة، أليس كذلك؟

ولم تستجب أمينة الصندوق. أمسكت ماريتا رأسها بين يديها. لقد ضغط عليها، زادت من الضغط عليها. كما لو أنها بالضغط بقوة يمكنها أن تتوقف عن كونها هي. ماذا تعني تلك اللفتة؟ ماذا بحق الجحيم كانت ستفعل الآن؟ تساءل صموئيل. متى ستفهم ماريتا ذلك؟

قالت أمينة الصندوق:

- خمسة عشر ألفًا وثمانمائة وثمانية وأربعون بيزو .

فتح صموئيل محفظته وأخرج ورقة نقدية بقيمة عشرة آلاف بيزو. ضغطت المرأة على الزر وفتحت الصندوق. ثلاثة صفوف للأوراق النقدية وزاوية للعملات المعدنية.

- هل تريد التبرع بالبيزوين لمؤسسة سانتا إسبيرانزا؟

قال صموئيل:

- نعم.

قاطعته ماريتا:

- لا.

ثم رفعت يديها عن رأسها وعادت إلى طبيعتها مرة أخرى..

صحح  صموئيل الأمر مع نظرة محرجة:

-  نعم.

كررت مارينا:

- لا ، لا نريد التبرع بأي شيء.

أعادت أمينة الصندوق أربعة آلاف ومائة واثنان وخمسين بيزو. شكرًا لك على التسوق معنا، مرحبًا بك، نراكم لاحقًا، إلى اللقاء. فصل صموئيل القطع النقدية وأعطاها للصبي: مائة واثنان وخمسون بيزو.

تذمرت ماريتا:

- وأنت تعتقد أنك تحل الأمور ببضع قطع  من النقود المعدنية الصغيرة .

قال الرجل:

- إلى متى ستستمرين في هذا الهراء؟

أمسكت ماريتا بالعربة وبدأت في تحريكها عبر الردهة. كان صموئيل في الخلف. توقفا أمام كشك الصحف اليومية. أفاد عنوان المساء أنه تم العثور على 125 ألف غوريلا في الكونغو. انحنى كلاهما إلى الأمام لقراءة نفس العنوان: 125 ألف غوريلا. ثم ابتعدا عن الصحف واستمرا في دفع العربة نحو المخرج. نظرا إلى بعضهما البعض قبل الخروج. بدا كلاهما آسفًا ومذنبًا.. وكأنهما سئما من أنفسهما.

- أخبرني إذا كنت لا تزال تراها. أتوسل إليك.

- ماريتا...

تمتم صموئيل. ودخلت إلى ذهنه صورة عابرة، مثل وميض البرق، لماريتا ورومينا وهما يتخلصان منها. المرأتان تشبهان زوجًا من الحيوانات البرية: القبضات، والمرفقان، والركلات، والدفعة في التوقيت المناسب؛ خد ينزف، ضلع مكسور، سيارة الإسعاف.

- هل هناك حقا شيء تريد أن تخبرني به؟

أراد أن يقول أنه في المرة القادمة لن يكذب عليها. في المرة القادمة كان سيشعر بالعصبية. نعم، لقد كان يرى رومينا كل أسبوع؛ نعم، وهو مستمر في منحها بدلًا، وأنه لن يتوقف عن رؤيتها أبدًا، حتى لو أخبروه أنها قاتلة متسلسلة. حتى لو طعنتهما ذات يوم أثناء مغادرتهما السوبر ماركت. نعم، فهو لن يتوقف عن رؤيتها أبدًا لأنها ابنته. هذا ما سيقوله لماريتا في المرة القادمة. ولكن لم تكن المرة القادمة بعد، مع عربة التسوق التي تفصل بينهما، كذب عليها صموئيل.

- لا، أنا لن أراها بعد الآن.

- أتعلم …؟

ترددت ماريتا ولم تكمل الجملة. أمسكت رأسها بكلتا يديها وأغلقت عينيها. ماذا تعني تلك اللفتة؟ تساءل صموئيل مرة أخرى. كل شئ. كان ذلك يعني أن ما كانت تفكر فيه، الفكرة التي خرجت عن نطاق السيطرة داخل عقلها المنفتح، لم تكن سوى خيط باهت من فكرة مظلمة للغاية بحيث لا يمكن إطلاقها هناك، عند مخرج السوبر ماركت، أمام ذلك الرجل الذي بدا فجأة وكأنه رجل غريب تماما.

ثم أنزلت يديها ورفعت شعرها على شكل كعكة، وقالت:

- احترس من العجلات .

ثم أخذت العربة.

***

...........................

المؤلفة: أليخاندرا كوستاماجنا/ Alejandra Costamagna: أليخاندرا كوستاماجنا كريفيلي كاتبة وصحفية تشيلية. ولدت عام 1970 في سانتياجو لأبوين أرجنتينيين وصلا إلى تشيلي عام 1967 هربًا من دكتاتورية الجنرال خوان كارلوس أونجانيا. وهي مؤلفة لأربع روايات وخمس مجموعات قصصية. على الرغم من استمرارها في كتابة الروايات، طورت كوستامانا القصة القصيرة، لدرجة أنها أعادت تحويل روايتها الأولى إلى قصة قصيرة، Había una vez un pájaro (ذات مرة كان هناك طائر)، والتي ظهرت في عام 2013. في كتاب يحمل نفس العنوان، مصحوبا بنصين آخرين. كان أسلوبها الأول في الكتابة من خلال المذكرات التي بدأت في كتابتها بشكل غير منتظم منذ سن العاشرة، ولكن في سن المراهقة بدأ كوستاماجنا في التعامل مع الكتابة بجدية أكبر بعد دخولها مدرسة فرانسيسكو ميراندا. درست الصحافة في جامعة دييجو بورتاليس وحضرت ورش عمل جييرمو بلانكوو بيا باروس و كارلوس سيردا، وأنطونيو سكارميتا. وفي وقت لاحق حصلت على درجة الماجستير والدكتوراه في الآداب. كانت محررة القسم الثقافي في صحيفة La Nación وأنشأت ملحق الشباب La X. عملت في قناة Rock & Pop، ودرّست  فى ورش عمل أدبية، وعملت كمعلقة مسرحية في الصحف والمجلات الوطنية، وكمراسلة وكاتبة عمود. لعدة مجلات. كتبت لمجلات مثل جاتوباردو ورولينج ستون والمالبينسانتي. ظهرت أعمالها في مختارات مختلفة وترجمت إلى الإيطالية والفرنسية والدنماركية والكورية. تم تكريم كوستامانا بالعديد من الجوائز، بما في ذلك ألتازور (2006) وآنا سيغيرز (ألمانيا، 2008) لأفضل كاتبة في أمريكا اللاتينية لهذا العام.

 

بقلم: كابكا كسابوفا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

هناك أشخاص يعتقدون أن مصيرك يطاردك. ولكن "يطاردك" تعبير خاطئ. هناك أماكن في العالم تحتوي مصيرك. تتريث مثل جلد ينتظرك لتدخل فيه، ويأخذ شكله، ويصبح أنت. بالنسبة لي، تبين أن المكان هنا، في شارع جنكشن، يناسبني. وهذه المدينة تحتويني، وهي كذلك منذ قبل يوم مولدي في كاتوفيتسة، مع أنه يمكن أن تعتقد على سبيل الخطأ أنها كايتن، المكان الذي تعرض فيه العديد من الضباط البولونيين للذبح والقتل على يد الجيش الأحمر. كلا. كاتوفيتسة لم تشهد مذبحة تذكر بها. ولكنها مجرد منفى في المعسكر الشرقي السابق. وهكذا أنا أخرج على الموضوع (أنتِ أفضل خروج على سياق حياتي كما اعتاد جاكسون أن يقول).

وصلنا إلى إدنبرة في صيف عام 2005، أنا وجاكسون. كانت الشوارع مزدحمة بأشخاص لهم شعر ملتصق برؤوسهم، ووجوه ملونة، وكأنهم خرجوا للتو من فيلم "قلب شجاع". وكان يبدو أنهم على وشك محاصرة القلعة. ولكن تبين انه احتجاج على مؤتمر الدول الثماني. وخلفوا وراءهم النفايات والرسومات، ولكن كنا قلقين من أشياء أخرى. على سبيل المثال أين سنقيم. كان جاكسون يعرف دان، الشاب والعسكري السابق. والبناء حاليا. وهو إنكليزي بوجه ضخم يشبه رعاة البقر قليلا، ولكنه الشخص الوحيد الذي استقبلنا. وتبين أنه مفيد حقا - حسنا. هكذا كان شعوري في البداية، فقد قدم لنا إحدى شققه الرخيصة للإقامة، ولم يكن إيجارها يزيد على كلفة غرفة فقط.  

(يقولون هنا في إسكوتلاندا 'إقامة' وليس 'سكنى' كما لو أنك في فندق. يسألونك 'أين تقيم؟'. كما لو أن كلمة السكن فضفاضة ومبالغ بها، كما لو أنه لا يوجد شيء دائم).

وكان دان يقول لي: احزمي أمرك يا ريناتا كوفالسكا. ويلفظ كنيتي كما لو أنها نكتة كبيرة. ثم يسألني: هل أنت بولونية أم أمريكية، أم جاسوسة مزدوجة لعينة؟. ويضحك بملء فمه، ويهتز وجهه البدين. فأضحك أيضا. يا للجحيم، على الأقل بوسعه أن يلفظ اسمي. هو لا يحب الاشياء المبهمة، أقصد دان، وكما أعتقد لهجتي المختلطة تسبب له الحيرة. كان يريد لنفسه أن يتكلم بلهجة شبابية مستقيمة، ولكن صفقات العقارات التي قدمها، لم تكن شريفة ومستقيمة تماما. ومرة حاول أن يضع يده على مؤخرتي في إحدى الحفلات، حينما كان مخمورا، وكان جاكسون ينظر باتجاه آخر، ومع ذلك لم أمتعض منه بعكس الأخريات. لا يوجد لدى دان صديقات. فقط سلسلة من البنات للمعاشرة - وكان طيبا معي، بطريقته الخاصة. وآخر مرة رأيته فيها حينما جاء إلى الشقة ليخبرني أنه سيرحل عن إدنبرة. وكان متعجلا، كما لو أن الشرطة تطارده.

قال لي: "يمكنك الإقامة في هذه الشقة، أنا لا أحتاجها. ولا أطالبك بأي ايجار". كان في طريقه إلى إسبانيا، مؤقتا، ولكن نسيت التفاصيل. كنت أحاول أن أخبره عن المبنى، وعن أحلامي، حتى أنني عرضت عليه بعض رسوماتي وكانت قيد الإنجاز. قلت لنفسي كنت مهذبة، ولكنه تابع النظر لي وهو يهز رأسه.

قال: "يا ريناتا كوفالسكا أنت امرأة طيبة. ولكنك حمقاء. مثل جاكسون. افعلي ما تشائين، تمنياتي لك بالتوفيق". وهذه المرة لم يضغط على اسم الكنية. وأدهشني أن أراه مقهورا، ثم صفق الباب وراءه.

في تلك الليلة انتابني حلم رأيت فيه دان يمشي، وكان صغير الحجم ومشوشا، ويعبر من حقل ملتهب. تابعت دفع الإيجار لعدة أسابيع. ثم أخبرني المصرف أن المبالغ أعيدت. وأنه لا يوجد حساب مصرفي بذلك الاسم. ولم يدهشني ذلك. كانت أحلامي صادقة دائما، وأقرب للواقع في كل الأحوال. الأحلام كالأطفال: ما عليك إلا أن تعرف كيف تتواصل معهم. وهكذا انتقلنا إلى هذه العلية الكئيبة والواسعة التي تخص دان في شارع جنكشن في ليث. وكانت نصف النافذة مكشوفة على البحر. قال جاكسون: "انظري للفرق بين هنا والنرويج بعين خيالك. يا لهذا الشيء الرائع واللعين".  غرقنا بالبهجة والحبور. كانت شقة على الطراز القديم بسقف مرتفع وموقد أصلي وأرض خشبية. ولكن حالما دخلنا وجدنا على أرض المطبخ ملاعق محترقة وبقايا جرذان على الفراش. وكانت نافذة الحمام محطمة ولذلك تسللت منها الحمائم.

توجب علينا التخلي عن كل شيء، وتبخير المكان.

قلت لجاكسون: "آه. لم أتصور أبدا أنني سأعيش في محطة قطارات".

رد: "محطة قطارات أفضل من قبر ضيق".

نحن الاثنين - أمريكية بولونية وأسترالي- لا نعرف الكثير عن إدنبرة. ومع أننا كنا عاطلين عن العمل، نحن أخيرا معا، بعد ثماني عشرة شهرا من المراسلات حول العالم، أنا في كراكوف، وهو في أفغانستان وبريطانيا. كان قد أنهى أيام خدمة الجيش، وأنا أسعدني الخروج من بولونيا. وخبرتي القليلة بالحياة كبولونية حقيقية لا تزيد على سنتين  ولم أنجح بعملي الفني. ولكن لو لا ذلك ما قابلت جاكسون في أول شهر لي في بولونيا، خلال فصل الصيف.  كنت أرسم الشارع. وجاء هذا الشاب أمامي، بزوايا جسمه التي أحرقتها الشمس، معتدا بنفسه بطريقة غريبة، وبتسريحة بحرية وصندل المسيح. وعلى ظهره حقيبة وغيتار. 

قال: "طاب يومك. أعلم أن أنفي كبير وقبيح، ولكن هل بمقدورك أن ترسميني لأرسل البورتريه إلى أمي في بريسبين؟".

كان في إجازة من الجيش البريطاني. وأنفقنا أسبوعين معا في شقتي العلوية في كراكوف قرب الحمائم،  وشعرت بمعنى كل ما يجري، كأنني أعيش في أحد أحلامي. بالنسبة لي كل شيء جرى بوقت واحد - العودة إلى بولونيا بعد عشر سنوات من الحياة في الولايات المتحدة، وتقمص حياة فنية، ثم كان أحيانا يبدو لي غير متوقع، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه ينتمي لحياة الجيش القاسية. في إحدى المناسبات حينما كنا على هذا الجسر العملاق، قفز على السور الحجري وسار فوقه لبعض الوقت. وتوقف الجميع لمراقبته خائفين. كان يبدو كأنه يمشي بجواري ثم اختفى ولم يعد موجودا. ولاحظت أنه يستمتع بالمخاطرة. ولدى مغادرته بكى كلانا في المطار، ثم تبادلنا الرسائل، والإيميلات لدهر طويل.

أقر الجميع أنني بلهاء. لم أكن أعرف الرجل، فقد التقينا في الشارع، دون أن أعرف شيئا عن ماضيه، والله وحده يعلم ماذا كان يفعل في أفغانستان (تكتم على ذلك في رسائله، وكلمني عن تعلمه اللغة البولونية من زميل له)، ثم ما هذا الاسم العجيب.. جاكسون - اليس المفروض أنه اسم العائلة؟. الآن يتبادر لمعلوماتي شيء آخر. انتابني حلم أننا نعيش في غرفة قرب الحمائم، والمدينة أمامنا وبعيدة. وحلم آخر كنا فيه ننام على فرشتين في صالة واسعة ورطبة يتردد فيها الصدى كأنها كهف. ('احذري يا ريناتا، قال لي حينها فنان كبير بالعمر وصديق والدي. نجا من المآسي ودخل السجن في أيام الحكم الشيوعي. 'احذري. المثالية فهي الوجه الثاني للانتهازية. هما مثل وجهي التوأم يانوس'.

بعد ثمانية عشر شهرا، التقينا مرتين، وكنا نكتب. لم أقابل غيره، وأخبرني جاكسون أنه يفكر بي كل ليلة، حتى لو أنهم تحت القصف. واعترف لي أنه شعر بالاعتلال لأنه لا يمتلك بيتا يخصه، وقال إنه يرغب بالعودة إلى شوارع المدينة والبداية من جديد، من الصفر، على أن أكون معه. ولكنني لم أحن إلى أمريكا، ولم أكن راغبة بالتواجد في بولونيا، شعرت أنني لا أنتمي لها.

أبدى جاكسون عدم رغبته بالعودة إلى بريسبين - فهي بلدة ذات عنق أحمر، كما يقول عنها - ولذلك رأى أن إدنبرة مكان مثالي.

واتفقنا أنها مكان محايد.

وفر كلانا بعض النقود، وتجولنا في غضون الشهور الأولى في أرجاء المدينة، صعدنا إلى مقعد آرثر، ونقبنا في زواريب المدينة القديمة، وهو الإجراء المعتاد في أي مكان جديد. ولم نفترق أبدا. وكل شيء رأيناه، وأحسسنا به، وشعرنا به، لم يباعد بيننا. كانت هذه مدينتنا!. وليث هي حينا. وكانت لها رائحة قوية من البحر والحجارة المبلولة والكحول. وفي الأيام الهادئة تنتشر رائحة خفيفة تخيم على المدينة - كأنها عطن جوارب رجل، ممزوج مع عطن الخميرة. والسبب هو البارات. فالناس هنا شاحبون، وأعتبر أنها معجزة أنهم على قيد الحياة، ويحتلون البارات القديمة من الصباح حتى صباح اليوم التالي. ويتسكعون في الزوايا  التي تتخللها أعقاب السجائر، وهم يدمدمون من بين بقايا أسنانهم المسودة.

على طول ممشى ليث تبرز الدكاكين البولندية كالفطور المعدية. ومحتوياتها النوستالجية تملأ الواجهات - معلبات مخلل الخيار الصغير، الخبز الأبيض الذي يتفتت، النقانق المدخنة، البسكويت الشيوعي الذي أتذكره منذ أيام الطفولة. وفي إحدى المرات دخلت فقط لتبادل بعض الكلمات القليلة بالبولونية. على طول شارع جنكشن محال الطعام السريع تبيع السلامي الشفاف والجبنة الفرنسية  وبجوارها مباشرة محال هندية وباكستانية تبيع أشياء دميمة مصنوعة من البلاستيك. والرجال في تلك المحال بوجوه غير حليقة والنساء بليدات على نحو غريب. ويبدو معظم الناس هنا إما أنهم مروا بحادث ما أو أنهم على وشك التورط بحادث. هنا في ليث وجدت كل شيء أحتاجه: لون القرميد الدموي، حجارة الأضرحة الرمادية، سواد الهباب، غروب السماء، عكارة النهر، المقابر بلونها الأخضر النضر على ضفاف الأنهار في الربيع. وطبعا كنت أخيرا، وآخرا، مع حب حياتي.  كنت في ثلاثيناتي، ولم أرزق بغرام مستفحل من قبل. في البداية كنا بحاجة لبعض التعديلات - فلوحاتي تغطي الأرض، ولم أكن أحب تنظيف الأطباق حتى تتراكم في المغسلة، بينما هو معتاد على الانضباط، يطوي ثيابه بدقة متناهية، يلمع بوطه كل الأوقات. ولكن حين يتعلق الموضوع بحب العمر، وبعد مرور ثمانية عشر شهرا وأنت تراهن بكل شيء عليه، يجب أن تحاول. كان حقا يبدو أحيانا غريبا، وفي الصباح الباكر يغمره هذا المزاج العجيب، فيكون شديد السعادة، أو قانطا تماما، وينظر لي بعينيه السوداوين ليقول: "إنها هذه المدينة. هي التي تدخل في رأسي". فأحضنه فقط ويرتجف بين ذراعي كأنه عليل، ولكنه يقلع عن الكلام، وأحذو حذوه فأصمت. كنت أفضل معالجة الأمور بالجنس وبنزهة قرب نهر ليث. في تلك الشهور الطويلة التي غمرني خلالها برسائله، كنا نعترف بما في داخلنا ونتكلم كشخص أشرف على الموت. وأحيانا يعزف على غيتاره. وكان يعرف لحنا واحدا، وهو لحن أغنية 'لدغة'. (قال في رسائله، واحتفظت بها جميعا: لو أنني في الغد انفجرت وتحولت إلى هباء لن يلحق بك ضرر. لأنك من الفضاء الخارجي. وأنا من سيضيع إذا فقدتك. ولأكون صادقا لم يمر علي وقت لم أكن ضائعا فيه إلى حد ما. وأحيانا كأنني أريد أن أنفجر إلى ذرات، هل تفهمين ما أقول؟".

الحقيقة أنني كنت أرسم، وهو لا يعلم ماذا يفعل. كنت دائما أخرج بأفكار من أجله، ولكنه لم يهتم بأي منها. ولم يكن جاهزا للعمل بخدمة أي إنسان، كما قال، وهو يرغب بشق طريقه الخاص - والمشكلة أنه لم يستدل عليه بعد. ومن الظاهر ان هذا شيء شائع بين شباب أنهوا عملهم العسكري. كان متمسكا بالخروج في 6 صباحا للجري وتمرين الضغط على ضفة النهر لعدة ساعات. وأحيانا يصعد حتى نهاية كرسي آرثر ثم يعود. وحالما بدأت بالقلق عليه، لاحظت المبنى في الجهة المقابلة من الشارع. كنت أجلس دائما وراء نافذة غرفة النوم تحت قنطرة لوثتها الحمائم، وأدخن أول سيجارة صباحية - كنت قد عاودت التدخين في بولونيا - ولكن الآن فقط انتبهت للمبنى. عمليا لم يكن من الوارد أن لا انتبه له، ولكن هذا ماحصل. أو بالأحرى شيء في داخلي لم يكن جاهزا له، كما لو أنني لا أريد التفكير به. والآن لاحظته.  وكلما نظرت به زادت صعوبة صرف نظري عنه. كان بناء قوطيا وكبيرا من الحجارة. واسود بفعل الوقت والهباب. كل نوافذه مغلقة. كلها ما عدا إحداها في اخر طابق، ولها قضيب بشكل الصليب. أطرافه الصغيرة الحادة موجهة نحو السماء مثل يدين معقودتين للصلاة. جرى ذلك في صيف عام 2006. وفي الخريف، اشترى دان أو أستأجر البناء، مع أنه موقع أثري تحت الحماية، وتكفل جاكسون بتحويله إلى بنسيون "رحلات". وبمعونة شاب صغير يدعى نك وجد طاقما صغيرا للعمل في ليالي الشتاء. وافتتح الفندق في أيار من العام التالي، قبل ميعاد مهرجانات الصيف بفترة مناسبة. وبدأ أوائل الرحالة بالتوافد عليه كما لو أنك فتحت صنبور ماء. وجهزت بيدي لافتة ملونة للترحيب بالقادمين إلى "بنسيون . شارع. جنكشن".

أراد أن يسميه "بنسيون الأسترالي السعيد". قلت له: لندع الاسم بسيطا. وعموما لا علاقة لك به، فهو شيء من تاريخ شارع جنكشن، في مدينة ليث، منطقة الشاطئ، بإدنبرة. بدا عليه التردد، ولكنه لم يعارض. وأنجزت الناحية الفنية والتصميمات في الداخل، ووضعت بعض صور ليث في إطارات، لأمنح المكان جوا طقوسيا، ولتصبح له شخصية قوطية. 

ولكن لم أحب المبنى. كنت أرتجف دائما بسبب رطوبة الجدران وبرودتها،  كما لو أنني في مقبرة. وكأنني في مقبرة شعرت بحضوري وتواجدي. لم أكن شيئا يعيش ويحيا، ولكن كنت هناك دائما. وحتى بعد أن انتهوا من كل شيء وأصبح جاكسون المدير والمشرف العام وأنشأ علاقات مع الزبائن، لم أكن مرتاحة للمبنى. تابعت النظر باتجاهه من نافذة غرفة النوم. في بعض الليالي، كان القمر الأبيض يتأمله مثل عين عمياء من الرخام. وفي الظلام تجعله القنطرة غير العادية المنحوتة على واجهة المبنى كأنه فم مفتوح أمام سماء وردية بلون اليرقات. ومهما كان أصله - في الصيف كان يزدحم بالجوالين الشباب والهيبيين كبار السن - ولكنه يبدو من نافذتنا دائما متداعيا. كان جاكسون مشغولا ولا وقت لديه للتفكير بالماضي ولم يكن متطيرا. فهو أسترالي عادي. ولكن لم أرفع عيني عن المبنى. كان يحوي الكثير من التفاصيل الدقيقة. وله رؤوس حجرية منتفخة تقطب معالمها أمامك.  وعلى أحد الجدران، بين رأسين من هذا النوع، تجد نقوش رضيع أشرفت على الزوال. أما الرقم 1798 فقد نقش على جدار آخر، وهو سنة إنشائه، وعلى جزء آخر من الهيكل الخارجي، شكل صغير منحوت يمثل رجلا مكتسيا، ولعله قس أو طبيب، وبيده كتاب، وفي أسفله حروف باهتة محفورة باللاتينية، ولكن لم تسعفني معرفتي بفك ألغازها.  لا يعرف أحد في المحلة أشياء تذكر عن المبنى، باستثناء أنه احترق، دون تحديد تاريخ الحادث، والجميع يحتفظ له في ذاكرته بهيئة مزرية. دمدم دان بعض الكلمات عن ميتم فكتوري، أو ربما مدرسة داخلية، ولكنني لا أثق بكلمة واحدة تأتي من دان. وفكرات أن أنقب عن معلومات في أرشيف مدينة ليث، وحينها سنحت لي الفرصة لرسم عدة بورتريهات لقاء مبالغ نقدية، ثم انشغلت عن متابعة الأمر. ولكنني أتذكر وقوع أحداث عابرة صغيرة. في إحدى المرات حينما كنت أعمل ليلا عاد جاكسون من البنسيون. كانت تلك أسعد أوقاتي. أرسم على مسافة مرتفعة قرب الحمائم وأنتظره. لم يقبلني، بعكس عادته. تجاوزني ووقف عند النافذة.

قال: "كما تعلمين هذا المكان يؤرقني منذ فترة. فيه أبواب لا تفتح، هل سمعت بذلك؟".

نظرت إليه من المرسم وسألته: "ماذا تقصد؟".

"أقصد أنها لا تفتح. مع أنها غير مقفلة، لكنها.. لا تفتح. لم أجد أي تفسير. وتوجب علينا أنا ونك أن نركل عددا منها الليلة. توقعنا أن شيئا غريبا يجري في الغرفة. ولكن لا - فقط أيقظنا جمعا من الزبائن الذين اعتقدوا أن السقف ينهار عليهم. وبدونا مثل الحمقى. حتى أن الباب لم يكن موصدا. فقط.. لا أعلم. حصل ذلك من قبل. أحيانا لا يفتح من الجهتين. كأنه جدار. كأنه جزء من الجدار".

ماذا يمكنني أن أقول؟. لم تكن عندي خبرة بالأبواب. وهو الذي عمل لعشر سنوات ببناء الجسور والتفجيرات.

قلت: "تحتاج لمزيد من النوم وتقليل القلق". وكان هذا أسوأ مما لو لزمت الصمت. مرت علينا مناسبات أخرى من هذا النوع  حينما واجهتنا أمور على نحو متزايد في المبنى ولم يمكننا  تفسيرها. زيادة اختفاء الأشياء ربما هناك لصوص ببن السكان الذين طالت إقامتهم - بعضهم بصراحة يتسببون بالمخاوف. ولكن أشياء اختفت من غرف مغلقة بنوافذ شاهقة وضيقة جدا لا يمكن حتى لمسخ صغير أن يتسلل منها لو وجد نفسه في داخل المبنى حيا. وقال جاكسون هناك أشياء اختفت من أمام عينيه وعيني نك أيضا. مثلا حزمة من الأوراق النقدية على الطاولة، تستدير لتحمل شيئا، وبعد لحظة - تختفي النقود. أشياء أخرى أيضا - ثياب، فراشي أسنان، وحتى جهاز تلفزيون اختفى في الليل. وأشياء غير ذات قيمة مثل الكراسي والجوارب غير المغسولة وسلة غسيل كاملة.

قال دان في إحدى المرات: "حسنا هذه إسكوتلاندا، ماذا تتوقعين من بلاد اللصوص ونشالي النقود الصغيرة. ربما ستجدين المفقودات في شركة تحويل النقود. في منعطف الشارع".

ثم قال المكان مسكون. وجاء إلينا ليشاركنا الشراب ومعه آخر صديقاته، وكان يرتدي التوكسيدو لسبب ما.

التفت نحو البنت وقال: "يجب رفع الأسعار. أليس كذلك يا جاك؟. فهذا أول بنسيون مسكون بالأشباح في إدنبرة. الناس يحبون هذه الترهات. ما رأيك؟'. 

قالت بصوت رخيم: "لست متحمسة". ويجب أن أكون صادقة أيضا مع جاكسون. وكان علي أن أطلب منه أن يتخلى عن البنسيون، ويجد عملا آخر. ولكن لم أفعل. وأسعدني أنه لا يهرول نحو كرسي آرثر جيئة وذهابا مثل المهووس. وكنت أفتخر به، وكان هو فخورا أيضا. اختيرت إحدى بورتريهاتي ، عن الفنان البولوني المسن في كراكوف، ونسختها من الصورة، كي تكسب جائزة BP للبورتريهات التي يمنحها المتحف الوطني*. وتبع ذلك عدة مهام أساسية. ولكن لم يعمل جاكسون موديلا لي لأرسمه. ولم يسمح بشيء يزيد على خطوط عامة. قال: "كلا. هيئتي قبيحة. ارسمي إنسانا آخر بمظهر أجمل". وكان يكره التصوير. يئست من الإلحاح بعد فترة قصيرة. وفي آخر عشر شهور اكترى ليون غرفة في البنسيون، وحجز سريرا لفترة مفتوحة. وكان سابقا مدمنا وهو من مرسيليا. يبلغ 45 عاما لكنه يبدو في الـ 60، بوجه نكد الهيئة. مع ذلك أحبه جاكسون، وكنت ألاطفه. وكان ليون يزورنا في شقتنا ويمضي معنا ساعات الليل كله، وهو يدخن ويتفلسف، ويراقبني وانا أرسم. سألته ماذا أتى به إلى إدنبرة.

قال: "آه. كما تعلمين. أتيت لمشاهدة فرقة سيكس بيستولز في لندن منذ عشرين عاما ولم أرجع".  وكان غامضا قليلا حول أسباب رحيله عن لندن. ولكن لديه قصص جميلة عن العمل في مشرحة بصفة تقني تشريح.

قال: "تحصل على 50 جنيها عن كل جثة. ذمرة ذهبنا من أجل جثة واحدة فوجدنا اثنتين. الأب والابنة. ضربة حظ. توفيت بعد إجهاض غير موفق. لفها الأب في سجادة. فأصابته سكتة قلبية. لم يفارق الاثنان خيالي. لا أعلم لماذا. ولكن هذا ما جرى. أن تصبح أسير بعض الأشخاص أحيانا. وستحزن حينما تفتح الثلاجة في مكان العمل في أحد الأيام وتكتشف أنهما غير موجودين - 'لأن عائلتهما استردتهما'.

كان ليون دائما يحثني على مرافقته بزيارة بعض 'الكنوز' المحفوظة جانبا في المقبرة. ولكن لم أذهب معه. وكان جاكسون يمازحه بقوله عليه أن يكون حاضرا، حينما يأتي بورك وهير السفاحان، لأنه حينها سيجد عملا يستفيد منه كثيرا.

وهكذا حينما تمكنت أنا وجاكسون من تدبر بعض الوقت في خاتمة المطاف واختلاسه من مشاغل الحياة في إدنبرة، بدا أنه من الطبيعي أن يقدم جاكسون شقتنا إلى ليون ليعيش فيها. كنا عازمين على إنفاق كانون الثاني من عام 2009 في أستراليا، وزيارة عائلة جاكسون، والاستجمام ببعض الشمس لنلون بها جلدنا الإسكوتلاندي الباهت. انتحر والد جاكسون حينما كان جاكسون صبيا ولم يخبرني بالواقعة. ولكن أرادت أمه أن تخبرني بكل هذه الأسرار. ثم بعد أسبوعين من العطلة تلقينا مكالمة هاتفية من نك. وأخبرنا أن شقتنا بحال لا يسر. وليون اختفى. و 'قذارة غريبة' تجري في البنسيون. عدنا بالطائرة، وصوت حاد يصفر في رأسي - "كنت أعلم هذا. كنت أتوقعه". ووصلنا لحظة كانت الشرطة على ضفاف النهر تحت جسر شارع جنكشن. وكانوا يرتدون معاطف مطر صفراء ومعهم كلابهم. وكان الجو ماطرا. كانت شقتنا مغطاة بأعقاب السجائر والرماد، وكل شيء اعتقد أنه ثمين اختفى. ولكن لم يكن لدينا أشياء كثيرة. والأهم أنني وجدت لوحاتي سليمة. سقطت على ركبتي ودموعي تذرف وصرخت "شكرا لك يا الله، ولو أنني لا أؤمن بك، شكرا". من الواضح أن ليون لا يقدر فني، وإلا لباع اللوحات. وأعتقد أنها لم تكن ميتة بما يكفي بنظره. وكل صورنا في الشهور الست الأخيرة، ابتداء من كراكوف، اختفت مع الكومبيوتر. ذهب جاكسون إلى البنسيون. لم تكن المشكلة بالأبواب الآن، أو اختفاء بعض الموجودات، ولكن البشر. الناس 'اختفوا'.

قلت: "ماذا تعني اختفوا. تعني أن العاهرة ليون رحل مع مقتنياتنا ولم يترك عنوانه؟". الاطمئنان على سلامة لوحاتي جعلني قوية.

"لا. أعني أن ابنة الزوجين الكنديين الصغيرة كانت موجودة. هناك في سريرها طيلة الليل، ولكنها اختفت في الصباح. ومر على اختفائها ثلاث ليال. مثل الشابين الإسرائيليين اللذين تركا كل ما لديهما على السريرين - جوازات السفر، النقود، الكاميرات، كل قذاراتهما - واختفيا منذ أسبوع. وكذلك البنت الإسبانية ظهرت آخر مرة في الأسبوع الماضي. أقصد هذا النوع من الاختفاء".

كانت له في عينيه نظرة فارغة، النظرة التي أكرهها. قال: "الشرطة تنقب في أرجاء المكان. فحصوا حسابنا. ووجدوا أن دان يتلاعب". كان دان يتصرف لأن حساباتنا حرجة، وبعد ذلك جرى كل شيء بسرعة. تم تحديد مكان ليون في بنسيون داخل بلفاست. واعتقل بتهمة الخطف والقتل. وفي النهاية أدين فقط بالسرقة من شقتنا وحيازة المخدرات. ولم يتم العثور على أي شخص من الذين اختفوا. لا ميتا ولا حيا. لم تجد الشرطة شيئا. ثم أغلق البنسيون دون تحديد وقت لافتتاحه. ليس لأن السياح المفقودين شغلوا الصحف الرسمية، ولكن لأنه بعد الفحص والتدقيق، اكتشفت عدة مخاطر في البناء. بالإضافة إلى أن دان وجاكسون حصلا له على رخصة 'أعمال خيرية'.

ولم تغادر عيني جاكسون النظرة الفارغة، وبدأ بالحركة مجددا، كان يعمل لساعات كل يوم، ودائما يحمل حقيبته العسكرية. حاولت أن أكلمه، ولكنه كان مشغولا جدا. ولم يجامعني بعد ذلك أبدا. كان يحضنني ويرتجف فقط. كنت أستيقظ في الليل وأرى أنه غير موجود، ولكن أعلم مكانه من تفحص مفاتيحه المرتبة بعناية على الخطاف في الردهة: وأرى مفاتيح البنسيون غير معلقة. إنه هناك. في الطرف الآخر من الشارع. حينما اكتشفت ذلك أول مرة، عبرت الشارع، وشاهدته في الصالة الكبيرة. كان جالسا في الظلام، متكتلا على نفسه مثل كومة من الغسيل بين عدة فرشات قديمة. ولكنه لم يلحظني، ولم أكلمه، وعدت أدراجي إلى الشقة، وبكيت حتى هجعت. وحينما ذكرت له أنني ذهبت إلى الطبيب، قال إنه باستراحة، والبنسيون ليس شيئا هاما عنده. ثم حينما حل الصيف اختفى، وكاتت الهررة تتسافد على السطح. ولم تجد السلطات أثرا له يدل أنه غادر البلاد. كل ما أخذه معه حقيبته. لم يسحب شيئا من النقود من حسابنا المشترك، وأخبرني نك أن جاكسون احتفظ بنقود البنسيون السائلة - عشرات الألوف من الجنيهات - في علبة زجاجية أودعها في مكان سري ما.  ولم يكن نك يعرفه، أو على الأقل لم يخبرني به. ثم غادر نك بدوره ولم أشاهده مجددا، حتى عاد في الشهر الماضي وله لحية الرحالة. وذكر شيئا عن لقاء مع جاكسون في مانيلا، حيث يدير بنسيونا اسمه "الأسترالي السعيد"، ويعاشر امرأة محلية. وحاول أن يعرض علي صورة، ولكنني لم أكن مهتمة. ومع ذلك كانت الصورة لإنسان متوحش بلحية وشعر زيتي طويل. طلبت من نك أن لا يزورني مجددا، وربما وبخته وصحت بوجهه. كان جاكسون يجذب أمثاله وأمثال ليون بكرمه وبراءته. وكانوا هم بدورهم يمتصون دمه كالعلق.

مر عام منذ اختفاء جاكسون. قال أحد الأصدقاء: "أنت مثل امرأة من برنامج تحدي الأمواج. شهيدة الشهداء. وذلك النذل اختفى حتى دون وداع".

وبعضهم رأى أنني أصبحت شاذة، وجعلني كلامهم أضحك.

قال آخر: "عليك أن تبحثي عن أواني النقود المخبأة. إن لم يرحل لكانت الأواني بين يديك".

ولكنها نقوده. مهما كانت طريقة كسبها. ويوجد ما يكفيني في حسابنا المشترك لبعض الوقت. نصحني صديق آخر بالعودة إلى الرسم، فهو شفاء وعلاج لي. ولكنني أرسم، يا ناس، إنما لا أعرض لوحاتي على  أحد. وهو مشروعي الضخم. (انتهيت طبعا من بعض البورتريهات، وهي لوحات لمخنثين، من الأثرياء، ولا يفيد أن ترفض عملا مأجورا يوكل إليك).

كما أنني لست مجذومة، يا ناس، وأعيش في شارع جنكشن، قبالة مبنى متواضع أمتلكه، كان في السابق بنسيونا. وكان قبلئذ مصحة احترقت وتضررت، وقبل ذلك مدرسة داخلية وقبلها كان ميتما، وقبل ذلك مستودعا لمعلبات اللحوم. ودائما، دائما، كان أشخاص يختفون، ولذلك أغلقته في النهاية. 

كيف لي أن أعلم بذلك؟. لأنني بحثت عنه في أرشيف ليث، حيث يوجد سجل لتاريخ كل مبنى، بتفاصيل إسكوتلاندية قاسية. وأيضا علمت بذلك لأنني أستطيع الاتكال على أحلامي لتخبرني بما جرى. الأحلام فوق الزمن. كما ترون ليون نتاج وقت قصير، لا شيء غير ذلك. ولكن المبنى هو مكان الجرائم الحقيقية. إنها جرائم الوقت، جرائم غير شخصية. وهي دمعة في نسيج الوقت، هذا المبنى، وفكاه غير المثبتين يقضمانك. وهو ينتقم لأولئك الذين تحللوا معه. فهو يتغذى على  حياة البشر. والناس المتوارون سقطوا في فخه، وراء أبواب لا يمكن فتحها - ليس جاكسون فقط، ولا البنت الكندية فقط، ولا الإسرائيليان. ولكن أيضا من اختفى من قبلهم، في التقمصات السابقة للمبنى. جميعا التحموا بالجدران، الرضع، المرضى، والجزارون بمريولاتهم المبقعة. ورأيت كل شيء بوضوح، وبدون أي شك توجد غرفة في الطابق الثاني من المبنى، حيث النافذة التي لها شكل المصلوب…

وكل شيء سيتضح بعد أن أنتهي من الرسم.

فأنا لم أبلغ الخاتمة بعد. مع كل ضربة فرشاة، كنت أقترب من جاكسون. كنت أعلم أنه ينتظرني لأحرره من سجنه. ولم أكن أريد أن أخيف أحدا بإخباره عن ظروف الليل، حينما أجلس في غرفة نومي وراء النافذة وأدخن، وأسمع من النافذة ذات الشكل المصلوب في أعلى البنسيون، أصواتا خافتة تعزف. وهذا له معنى، لأنني أعلم ما أعلم. بعض الأماكن تضم مصيرنا، ولا حكمة بإنكار ذلك. حاليا، بدأ العمل بالبناء مجددا. جاء الرجال ونصبوا السقالات، ومع أنني أمتلك المفاتيح، أخشى أن ينتهي الوقت قبل إتمام مشروعي. في بعض الليالي، حينما تأتي الرياح من المحيط، تتطاير الستائر البلاستيكية من السقالة، وتضرب الحجارة وتغطي على صوت الغيتار تماما. وفي تلك الليالي أشعر بالوحدة الموحشة، كما لو أن روحي تقعقع في داخل إحدى العلب الفارغة التي كانت للخيار المخلل الصغير البولوني، العلب التي تركلها الريح في ممرات متنزهات ليث، وهي ممرات تنبع من مكان مجهول وتقودك إلى مكان مجهول آخر، باستثناء ما يصل إلى البحر الرصاصي في الشمال. فهي تمتد على طول هذا الطريق حتى تبلغ النرويج.

***

.....................

* BP  اختصار بريتيش بيتروليوم.

* كابكا كاسابوفا Kapka Kassabova. شاعرة وروائية من أصل بلغاري.

 

بقلم: رينيه أفيليس فابيلا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد كان بلدًا فقيرًا ومتخلفًا لدرجة أنه من أجل العيش بشكل عادل، كان عليه أن يلجأ إلى تصدير المنتجات الوحيدة التي يمتلكها: الأوهام والآمال. في البداية خططوا للحصول  طلبيات كبيرة من جميع أنحاء العالم: لا بد من الحصول على أوهام وآمال مستوردة، اعتقادا أنها ستحقق نتائج أفضل من تلك المصنعة محليًا. بفضل هذا الوضع، ازدهر اقتصاد البلد الفقير بشكل ملحوظ وعرف مواطنوه مستويات جديدة من العيش الرفاهية الكاذبة . ولكن جاء الوقت الذي لم يرغب فيه أحد في العيش على أية  أوهام أو آمال، حتى لو كانت مستوردة. الآن يريدون الحقائق بأي ثمن، وأيا كان مصدرها. زاد الطلب على الحقائق، حتى اختفت مبيعات الأوهام والآمال تمامًا. فقدت البلاد مصدر دخلها وعادت إلى بؤسها المعتاد.السكان الحزينون، الذين لا يملكون المال لاكتساب الحقائق،استهلكوا منتجاتهم الخاصة ويعيشون اليوم على المعجزات.أما المترجم الخائن فقد حذف الجملة الاخيرة من الخرافة وعلى القارىء الذكى أن يتوقعها.

(تمت)

***

.............................

المؤلف: رينيه أفيليس فابيلا (15 نوفمبر 1940-9 أكتوبر 2016)  كاتب وراوئي وصحفي مكسيكى . ولد في مكسيكو سيتي في 15 نوفمبر 1940؛ توفي في 9 أكتوبر 2016 م .درس العلاقات الدولية أجرى دراسات عليا في باريس، حصل على جائزة الصحافة الوطنية من نادي الصحفيين المكسيكي لأفضل مكمل ثقافي في إل بوهو، في عام 1990. جائزة الصحافة الوطنية المكسيكية للنشر الثقافي 1991. الجائزة الوطنية للصحافة من نادي الصحفيين المكسيكي لأفضل مقال متعمق في عام 1992 وجائزة كولومبيا الوطنية للسرد .

 

بقلم: ليودميلا أندروفسكا

Людмила Андровска

КЪЩАТА С ПРИЗРАЦИТЕ

ترجمة وتقديم: خيري حمدان

***

بيت الأشباح

بكت عندما علمت يانا بأنّهم يتحدّثون عن مسقط رأس جدتها وخالاتها بالسوء وأنّه بيت أشباح. انقبض قلبها حين قرأت الإعلان ورأت صور البيت الذي اختفت من فضائه الساحر كلّ آثار ذكريات طفولتها. قرأت في التعليقات الواردة في ذيل الإعلان أنّ البيت جميل لكنّه مصاب باللعنة وأنّ أصحابه أصيبوا بلوثة وماتوا الواحد تلو الآخر، وأنّهم قد لاحظوا ظلالا تتجوّل في أنحائه في ساعات الليل. تلك كانت أجمل سنوات حياتها، وهناك أمضت مرحلة شبابها وفتوتها.

ولدت حين أنهى للتوّ والداها الثانوية العامة وحصلا على منحة لمواصلة الدراسة الجامعية. اضطرّا لإبقائها في كنف الجدّ والجدّة. ثمّ ولد أخوها يافور الذي أمضى طفولته في حديقة الأطفال، وكان يمضي فيها طوال أيام الأسبوع. باح لها يافور بأنّه يحسدها لسنوات طفولتها التي قضتها في بيت العائلة..

صحيح بأنّها أمضت طفولة مشرقة.. اعتنى بها الجدّ والجدّة واستجابا لكلّ مطالبها، وأجمل ما تذكره حين كانت جدّتها تصحبها إلى تلك المدينة لزيارة أخوتيها اللتان ترمّلتا في وقتٍ مبكّر قبل أن تلدا أطفالا. رفضتا الزواج ثانية وعاشتا في بيت العائلة تحيط بهما الذكريات وصور معلقة على الجدران وكانت يانا بمنزلة ابنتهما.

البيت كبير مكوّن من طابقين. الأوّل على ارتفاع مترين فوق سطح الشارع يحتوي على مطبخ ومرافق صحية وصالة استقبال وقبو واسع حفر في أصل صخرة عميقة. البهو عميق ومظلم ورطب غارق في ظلمة حالكة. تحضر أمّها لزيارتها بين الحين والآخر أثناء زيارة بيت الأخوات وتُحتجز يانا في القبو لساعات طويلة لتظهر للخالات بأنّها مسؤولة وتحرص على تربية ابنتها، ومنذ ذلك الحين أصيبت الفتاة برهاب الظلام.

الطابق الثاني أكثر رحابة والممرات المنيرة تؤدّي إلى غرفتي نوم الخالة نيدا والخالة كاتيا. وتستخدمان الغرفة الثالثة الواسعة مخزنًا، لأنّها تفضي إلى ساحة البيت الثانية ومن فوق رأسيهما يشقّ ضوءٌ خفيف الطريق. ساحة الحديقة مكوّنة من 3 طوابق، الأوّل يعمرُ بالأشجار المثمرة ومن تحت مظلة كبيرة وطاولة وأرائك. وفي الطابق الثاني دالية مثقلة بقطوف العنب العذبة. أمّا الثالث والأعلى فهما مجرّد روضة خضراء تستلقي يانا فوقها تحت أشعة الشمس، ويكشفُ المكان مناظر واسعة بديعة في عمق المدينة. تمنّت لو تتمكّن يومًا من العيش في هذا المنزل، أن تنتقل بصورة نهائية إلى هذه المدينة - العاصمة القديمة للبلاد لتحتلّ وظيفة ما، وأن تتنزّه في أيام العطل الرسمية ونهاية الأسبوع في أنحاء القلعة أو بمحاذاة النهر برفقة صديقتها آنا التي تعيش في المنزل المجاور..

هناك بالقرب من بيت صاحبتها آنا منزل صغير للغاية حفر في الأرض يعيش فيه رجل عجوز هزيل، شعره أبيض لا يحادث أحد، ولا يرفع أنظاره عن سطح الأرض وبالكاد يخطو على قدميه، وغالبًا ما تتساءل يانا عن أحوال بيته من الداخل لكنّها لم تتجرّأ ولا حتى مرّة واحدة لمحادثته أو الذهاب لزيارته.

وعلى بعد بيتين أو ثلاثة ينتهي الشارع بساحة مبنى الكنيسة. يانا تحبّ الذهاب إلى هناك، تجلس قبالة الجدار المزيّن بالنقوش وترسم الأيقونات. توطّدت العلاقة مع آنا التي تكبرها بأربع سنوات من خلال حبّهما للرسم والموسيقى. ويومًا بعد يوم باتتا صديقتان لا تفترقان وأخذ الجميع يخاطبهما بـ "أختين أبجديتين". كلاهما تملكان شعرًا جعد واسميهما يبدآن وينتهيان بالحرف الأول والأخير من الأبجدية.

بعد أن أنهت الصفّ السابع عادت مع والديها إلى البيت، ثمّ فارقت الجدّة والجدّ الحياة الواحد تلو الآخر. شعرت يانا بالحسرة والوحدة فقد كانا أكثر من والدين. تعامل أخاها بادئ الأمر معها بقسوة لكنّه مع مرور الوقت حاول التقرّب والتودّد إليها، وكان من الصعب عليها أن تعتاد كلّ ذلك، خاصّة وأنّ والدها لا يعيرها أدنى انتباه، وأمّها تجدها مجرّد عبء لا فرار منه. ترشّحت للقبول في جامعة جديدة افتتحت في مدينة خالتيها وسرعان ما سافرت لتكمل دراستها العليا هناك.

تلك هي أجمل سنوات حياتها، آنا أنهت دراستها العليا في العاصمة صوفيا وعادت، لتلتقي ثانية مع صديقة عمرها.

واصلت يانا تلقي المحاضرات والرسم في الكنيسة، تدرس وتحضّر للامتحانات تحت الكرمة وتجلس خلال فصل الشتاء بمحاذاة النافذة في غرفة الجلوس، تستمع لأحاديث الخالتين الخافتة، يتخلّله قرقعة المدفأة، وتراقب كذلك نُدَفِ الثلج المتساقط. الشتاء في هذا المكان رائع ورائق. يخرج الجيران معًا لتجريف كثبان الثلج المتراكم على الطرق. وفي المساء تستلقي في سريرها، في مخزن لجمع سقط المتاع الذي أصبح غرفتها الخاصّة، تستمع للضجيج في أرجاء المنزل. صرير، طقطقة، كأنّ خطوات خفيفة تعبر من خلال الممر، ثمّ يُسمع ثانية أصوات الطقطقة هنا وهناك. يعيش المنزل حياته الخاصّة خلال ساعات الليل.. تتخيّل هيئة أحد أجدادها، طويل القامة، مثقّف وذو شارب، يمتلك مصنع لدباغة الجلود. يعود ليلا متعبًا ويبتسم لبناته الثلاثة اللواتي يتعلّقن برقبته، وفي الخلف الجدّة تنتظر، أنيقة مبتسمة. لا بدّ أنّ روحاهما ما تزالان تتجولان في أنحاء البيت، ويرقبان البنات بعد أن كبرن وتقدّمن في السنّ..

- هل البيت مسكونٌ بالأرواح يا خالة كاتيا؟ تسأل يانا الخالة الحبيبة، وهي بدورها تبتسم وتلتزم الصمت.

تغيّرت الكثير من الأمور منذ طفولتها، خالتاها طاعنتان في السنّ، تضاءل حجمهما، وأصبحتا هادئتين ومتسامحتين أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لكنّهما يتعاملان معها حتى اللحظة كأنّها طفلة صغيرة ويرفضان منحها الفرصة لأداء بعض الأعمال المنزلية. "عليك أن تهتمي بدروسك". تقولان وتضيفان – "سنعتني بأنفسنا، لا تقلقي!". لكن الخالة كاتيا كما يبدو ليست على ما يرام، سرعان ما تراها تلهث مرهقة، وتكثر من الاستلقاء في السرير. أصرّت يانا على إرسالها لمراجعة الطبيب، لكنّها رفضت.

العجوز في البيت المقابل توفيّ منذ زمن طويل، وأقدمت عائلة من قرية ما على شراء المنزل. تريفون وتوتكا هما المالكان الجديدان، سمينان للغاية، وجهاهما محمرّان يشيان بالرضا والغرور والغطرسة ولديهما توأم ذكور – إفغيني وإفدوكي. توتكا تعمل بصورة مجزّأة وتعود باكرًا. يدرك الجميع حضورها حين يرتفع صوتها الجهوري عاليًا وهي تصرخ: غانتشووو، دوتشووو، عودوا فورًا إلى المنزل! وهما بدورهما يسارعان بالعودة خلال لحظات، يمرّان بجوارها برأسين منحنيين، لتجنّب صفعاتها خلف الرقبة. "لماذا يطلق القرويون أسماء جميلة على أبنائهم ثمّ يشوّنوها؟". تتساءل يانا وتجيب آنا: "لأنّهم لا يقوون على القفز والارتقاء..؟ ثمّ تضحكان.

في إحدى المرّات وإثر عودتها من المحاضرات سمعتُ يانا صوت تريفون. دخلت إلى غرفة الجلوس ورأته جالسًا فوق الطاولة وخالتاها قبالته تحتضن أحدهما الأخرى ويشددن على أصابعهن. شاهدت أمامهما وعاء حلوى وكأس ماء، لكن لا أحد يجرؤ على تناول شيء منها. التزم تريفون الصمت ما أن دخلت ووقف ببطء.

- إيه، عليّ أن أغادر. همهم الرجل وتسلّل خارج الغرفة من دون أن ينظر تجاهها.

انتظرت يانا حتى سمعت صوت انغلاق الباب الخارجي.

- ماذا يريد هذا؟ تساءلت.

التزمت المرأتان المسنّتان الصمت.

- يريد استبدال بيته ببيتنا. همهمت أخيرًا كاتيا: أحد أقربائه حقوقي في البلدية، سيجري تقييم للمنزلين.. سيدفع لنا تعويض بقيمة ألفي ليفا..

- بيته من دون حديقة، كيف لكم التفكير باستبدال هذا المنزل بحدائقه الثلاثة الكبيرة! مقابل تعويض لا يزيد على ألفي ليفا؟ صاحت يانا باستهجان.

- قُيّم منزلنا بأربعة آلاف ومنزله بألفين. قالت الخالة نيدا.

ارتجفت يانا من شدّة الحنق لكنّها فضّلت التزام الصمت.

- إيه، هذا منزلكما، ولكما أن تقرران ما تشاءان. أردفت يانا وغادرت.

ثمّ توالت الأحداث بصورة متسارعة. اكتشفوا ورمًا سرطانيًا في مرحلة متقدّمة لدى الخالة كاتيا ولم يمضِ سوى شهر حتى فارقت الحياة. "لماذا يموت أولئك الذين نحبّهم قبل الآخرين؟". تساءلت يانا متفكّرة بخالتها وجدّها وجدّتها. وبعد أقل من أسبوع جمعت الخالة نيدا حاجاتها ومتاعها ولم تكن يانا على علم بما تنويه الخالة خلال ساعات النهار، لتواجدها مساء قط في البيت، لكن ما أن شاهدت الدواليب والخزانة فارغة حتى أدركت أنّ خطبًا ما قد حدث.

- أين متاع الخالة كاتيا؟ سألت يانا وأردفت: ولماذا جمعت حاجياتك في حقائب؟

- تصدّقت بها على الناس. أجابت الخالة وأضافت: سأغادر إلى بانكيا.. يوجد هناك نزل لكبار السنّ، لكلّ نزيل غرفته الخاصّة ولدينا دورة مياه وتلفاز.. استبدلت هذا المنزل، لأنّه كبير وواسع، لكنّي لا أقدر على العيش في المنزل الأصغر. أمّا أنتِ فيمكنك الانتقال للعيش هناك حتى انتهاء دراستك..

حارت يانا بم تجيب.

- كان عليك انتظار مرور أربعين يومًا من وفاة الخالة كاتيا على الأقل.. همست يانا أخيرًا.

أنجزت في اليوم التالي من دون تأخير كافّة الاجراءات الإدارية عند كاتب العدل، الذي تبيّن بأنّه أحد المقرّبين من تريفون، ثمّ ظهر شخص ذو شارب مسنّ يقود سيارة موسكفيتش ماركة "أليكو"، واقتاد نيدا إلى مقر حياتها الجديد. تبيّن لاحقًا بأنّه حفيد زوجها المتوفّى خلال العام 1925، وأدركت أيضًا أنّ خالتها قد اشترت السيارة مقابل المال الذي حصلت عليه كتعويض ومن فارق السعر ضمن صفقة استبدال المنزل. "متى أحسّت هذه العِقبان بحصولها على المال؟" أرادت يانا طرح هذا السؤال، لكن لا وقت لذلك، لأنّ عليها الانتقال للعيش إلى البيت الصغير الآخر.

عندها أدركت كذلك بأنّ الخالة نيدا قد تركت كافّة الأثاث لمالكي البيت الجدد. سمح لها تريفون نقل سريرها الصغير وخزانة متواضعة وطاولة صغيرة وسخّان ماء "يونغا"، لعدم حاجته إليها في منزل الخالة الجديد الواسع. أدهشتها وقاحته المفرطة، تفقّدت يانا الطابقين كيلا تنسى شيئًا وذلك تحت أنظار توتكا الثاقبة. كلّ هذه المقتنيات الثمينة، طاقم أوعية الكريستال من فيينا، اللمبات المزيّنة بالنقوش والثريات والأثاث الأنيق سيبقى لاستخدام المالكين الماكرين الجدد..

ساعدتها آنا خلال عملية الرحيل وللمرة الأولى شاهدتا الكوخ الصغير من الداخل الذي يسكنه للرجل المسنّ الوحداني. كان عليهما الهبوط ثلاث درجات تحت مستوى الشارع لبلوغ الطابق الأول المشيّد في الأسفل. السلالم الخشبية تؤدي إلى الطابق الثاني واستُغلّ الفضاء الفارغ من تحت السلالم لتجهيز خزائن ودواليب، كما شاهدتا إلى اليسار حوض ماء، وفي عمق المكان مخازن ودورة مياه. تنتهي السلالم برواق صغير يؤدّي إلى غرفتين متقابلتين. وفي كلّ جهة وناحية أسقف كثيرة مبطّنة بخشب الأبلكاش، أسقف متدنيّة على ارتفاع شبر فوق مستوى الهامة، اختارت يانا الغرفة إلى اليمين من الممر حيث تظهر المدينة والمدرّج الروماني بكلّ رحابته عبر النافذة. الغرفة الأخرى مطلة على حدائق خالتيها وإلى الجهة الجانبية رأت نوافذ ذاك المبنى. أبقت هي وآنا أنظارهما متعلقة ببيت الخالتين وشاهدتا في الحديقة تريفون الذي استمرّ يحدّق بهما، وسرعان ما أن أزاحتا أنظارهما عن تلك الجهة. ثمّ همهمت آنا:

- قذر!

قامتا بطلاء الجدران والغرف ورسمت يانا بعض اللوحات ووضعت السخّان الصغير فوق حوض الماء، اشترت لاحقًا طبّاخ وأطباق طعام، وعلّقت ستائر على النافذة، بهذا صمّمت ركن مطبخ متواضع. غالبًا ما تحبّ الجلوس على الطاولة عند نافذة غرفتها لتستمتع بالمنظر الخارجي. ولا تسارع في المساء بإشعال الأضواء ويحلو لها من هناك رؤية أنوار المدينة التي تحوّلها للوحة متنوعة رائقة. للمرّة الأولى في حياتها لم تشعر بالرهبة من العتمة. وفي ساعات الليل المتأخّرة تدخل إلى الغرفة الأخرى لتحدّق في مبنى الخالتين من خلف الستار الرقيق. الشارع كلّه غارق في النوم والمنزل ساكن ومظلم لكن يانا على استعداد لمراقبتها لساعات طويلة. كانت مطمئنة لأنّها لن تواجه في هذا الوقت المتأخّر نظرات تريفون.

عملت خلال فترة الدراسة مقابل مكافآت مالية لدى صحيفة محلية ولصالح الراديو. ظنّت بأنّ عليها تقديم الأوراق والوثائق للعمل بصورة دائمة وقد أنهت دراستها.

اتصلت بوالدتها بعد أن نالت الشهادة الجامعية وأخبرتها بأنّ الخالة نيدا قد توفيت نتيجة لاحتشاء عضلة القلب، وكأنّ هناك فارق كبير بشرح كيفية وفاتها..

حضرت والدتها بصحبة أخيها في اليوم التالي بسيارة تأبين الموتى لنقل الجثمان. دفنت الخالة بجوار أختها كاتيا، وحدهما تريفون وتوتكا لم يشهدا مراسم الدفن والتأبين. 

ثمّ انطلق جميعهم إلى المنزل الصغير. تجوّلوا في أنحاء البيت وجلست والدتها على الكرسي حوالي الطاولة عند النافذة.

- منظر خلاب. قالت الأم واستدارت تجاه ابنتها: تعرفين جيّدًا بأنّه لا يمكنك البقاء هنا فترة طويلة. لقد أنجزت كافّة المعاملات الإداريّة وغدًا أنقل ملكية البيت لأخيك. هو رجل وستنقل كافّة أملاك العائلة باسمه. أنتِ قادرة على تدبير أمورك.. لا تتسكّعي ولا تتردّدي أكثر من ذلك، عليك أن تعثري على زوج قبل أن يفوتك القطار..

التزمت يانا الصمت وكانت على بينة من أنّ منزل الجدّ والجدّة قد نقلت ملكيته لأخيها يافور فور وفاتهما. وتذكر أنّها قد سألت والدتها: "لماذا تفعلين ذلك، ألن يغادر للدراسة إلى الولايات المتحدة الأميركية؟". "سيتمكن من شراء منزل هناك حال بيع هذه الأملاك". تجيب الوالدة وبهذا تنهي المحادثة مع ابنتها.

- لقد اعتنيتِ جيّدًا بالمنزل يا أختي، سأعثر بسهولة على مستأجر. قال يافور.

- أمهلوني أسبوعين لأرتّب أموري. قالت يانا بصوت خفيض.

توجهت خلال ساعات الليل إلى الغرفة الأخرى، وتعلقت أنظارها هناك بذلك البيت. تهيّأ لها أنّها قد رأت ظلّين باهتين يقفان بمحاذاة النافذة في غرفة الجلوس، ينظران إليها بحزن بالغ. وانضمّ إليهما شخص ثالث.. فركت عينيها وحدّقت مجدّدًا، البيت غارقٌ في الظلمة. كانت على وشك العودة إلى غرفتها عندما أضاء النور إحدى غرف الطابق الثاني. ثمّ أضيئت الأنوار في غرفة الاستقبال وعلى السلالم وممر الطابق الأول، انفتح باب المطبخ وقبل أن تضيء النور سمعت صوت صراخ مرعب. صوت توتكا الأجش يهذي بكلمات غير مترابطة ومبهمة. انطلق كذلك صوت خطوات متسارعة، ركض أحد الأبناء إلى أمّه وسرعان ما امتزج صراخه بعويلها. تراجعت يانا خطوتين في عمق الغرفة، واستيقظ الجيران الواحد تلو الآخر إثر الجلبة التي عمّت أرجاء المنزل. خرج أحد أبناء توتكا إلى حديقة البيت صارخًا:

- أشباح! أشباح..

ثمّ سقط على الأرض وهو يصرخ وما يشبه الرغوة تخرج من فمه.

ظهرت بعد ذلك سيارة إسعاف في الشارع الضيّق المرصوف بالحجارة ونقلت الفتى وأمّه إلى المستشفى.

بلغ يانا بعض أخبار العائلة قبل رحيلها إلى صوفيا، مكث إيفدوكي عدّة أيام في المستشفى من دون أن تتحسّن حالته ثمّ نقل إلى قسم الأطفال للأمراض النفسية. وبعد خمسة أيام عادت توتكا إلى البيت بوجه شاحب ونظرات هائمة وأغلقت على نفسها هناك. منع تريفون أيّ شخص من الاقتراب منها، وشخصيته القروية ذات الشكيمة الصلبة حالت من دون تجوّل الأشباح والطلاسم والحوريات والمخلوقات الفضائية داخل المنزل. وبين الحين والآخر وفي ساعات الليل يُسمع صراخ توتكا تصرخ: ابتعدوا عنّي، دعوني وشأني..

وفي صباح أحد الأيام ركب تريفون سيارة الموسكفيتش الروسية المنشأ وغادر مع زوجته إلى القرية، ويجيب على أسئلة جيرانه بأنّها انتقلت إلى هناك للاهتمام بوالديها المسنّين المريضين. وفي الوقت نفسه، حمّلت يانا متاعها وملابسها في عربة أحد زملاء صديقتها آنا الذي أنجز مهمّة عمل في المدينة ليعود إلى مقرّ إقامته في صوفيا. أبقت يانا على الأثاث واللوحات وغيرها من المتاع واصطحبت معها ما خفّ حمله من الملابس، لتنتقل هي الأخرى للعيش في العاصمة، وقد تمكّنت آنا قبل ذلك من استئجار شقة صغيرة لصديقتها، شغلتها سابقًا خلال فترة دراستها.

أمضت الليلة الأخيرة جالسة قبالة ذاك البيت المُضاء طوال الوقت. بعد تلك الليلة التي شهدت حضور سيارة الإسعاف ونقل ابن وزوجة تريفون للمستشفى، حرص الرجل على إبقاء الأنوار مضاءة طوال الليل في المنزل. بقي هو والتوأم الآخر إفغيني في الطابق العلوي من المنزل. نقّلت يانا أنظارها من نافذة إلى أخرى واسترجعت في مخيلتها كلّ ركن فيه وكلّ لحظة أمضتها هناك طوال السنوات الماضية. تنهّدت وترطّبت عيناها، ألقت نظرة على الحديقة وكأنّها قد شاهدت هناك تحت المظلّة هيئة ثلاثة أشخاص يفيض النور منهم يتحلّقون الطاولة، ينظرون إليها ويلوّحون لها بأيديهم. مسحت يانا عينيها وأمعنت النظر في تلك البقعة. لا، لا شيء هناك والعتمة تلفّ أنحاء الحديقة.

- وداعًا. همست ومضت إلى الغرفة الأخرى. وقفت بمحاذاة النافذة وألقت نظرة إلى أنوار المدينة الوامضة الملوّنة الغارقة في النوم.

وفي الصباح وقبل الشروق بقليل ذهبت إلى المقبرة، جلست عند قبري خالتيها وطأطأت رأسها ثمّ وقفت وهمست "وداعًا" وغادرت المكان. وبعد أقل من ساعة نقلت متاعها إلى الشارع بعينين ناعستين تساعدها آنا. قاد إيفو العربة إلى الخلف في الشارع الضيّق المرصوف بالحصى، تعرّف أحدهما على الآخر، ثمّ وضع زميل آنا المتاع في المقعد الخلفي، تعانقت الفتاتان وطفر الدمع من أعينهما.

- نبقى على تواصل. همست آنا. ثمّ انطلقت العربة مبتعدة.

التزم إيفو الصمت طوال معظم الطريق، سألها حين اقتربا من صوفيا عن المكان الذي ترغب الهبوط فيه. أخبرته يانا بالعنوان، تنهّد إيفو وقال بأنّه يعرفه جيّدًا، إنّه عنوان آنا القديم. مبنى رائع ومستقلّ أيضًا. ثمّ سألها إذا كانت تعرف آنا منذ وقتٍ طويل؟ أخبرته عندها بحكايتها منذ طفولتها والدمع ينهال فوق وجنتيها، أخبرته عن تعلّقها بالمدينة، وحدّثته عن خالاتها وعن منزلهما الخلاب. ثمّ انهمر الدمع غزيرًا من عينيها وعجزت عن متابعة الحديث. وضع يده فوق يدها لتهدئة روعها. وأخيرًا بلغا العنوان صامتين. ساعدها إيفو بنقل حقائبها إلى الشقّة الصغيرة وقبل أن يفترقا كتب لها رقم هاتفه.

اتصلت يانا بآنا وشكرتها ثمّ اتصلت بأمّها. أخبرتها بأنّ يافور قد غادر في الصباح الباكر إلى الولايات المتحدة الأميركية وعرضوا البيت الصغير لسمسار عقارات. لم ترغب الأم برؤيتها لأنّها متوترة وحزينة لسفر أخيها، ولن تحضر قريبًا لزيارتها في صوفيا. تنهّدت يانا بارتياح وأنهت المكالمة.

مرّت الأيام مسرعة وهي تتنقل ما بين مكاتب دور النشر والصحف. إنّهم يعرفونها جيّدًا فقد كتبت العديد من المواضيع والتقارير من العاصمة القديمة واستقبلوها بصفتها مراسلة لهم هناك. طلب منها زميلها في الجامعة سابقًا المسؤول عن قسم الثقافة تقديم طلب وظيفة، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى قُبلت للعمل بانتظام.

اتصلت بها آنا قبل نهاية الشهر لتخبرها بآخر الأحداث. أفادت بأنّ تريفون قد أرسل التوأم الآخر إلى القرية وبدأ عملية ترميم شاملة للمنزل، لكن أعمال البناء والتصليح التي يقوم بها نهارًا تدمّر بالكامل خلال الليل. وفي اليوم التالي يبدأ من جديد بعناد غريب وفي الليل تُسمع أصوات غاضبة وتحطيم لكافّة الإصلاحات في البيت. لم تعلّق يانا على حديثها، لم تجد ما تقوله واكتفت بالاستماع لصوت آنا التي أخبرتها في نهاية المطاف، بأنّ إيفو قد طلب رقم هاتفها وسيتصل بها قريبًا، فهو في طريقه لزيارة المدينة.

بعد أيام اتّصل بها إيفو لكنّها رفضت الذهاب معه إلى المدينة: "ما يزال الوقت مبكّرًا، لست جاهزة، أحتاج لمزيد من الوقت". تفهّم الرجل موقفها وأنهى المكالمة.

بعد قرابة السنتين اتصلت به ورجته أن يصطحبها إلى هناك في رحلته التالية. وفي الأثناء كانا يلتقيان ويحتسيان القهوة، في البداية على فترات متقطعة بعيدة، ثمّ كثرت لقاءاتهما وارتادا معًا المسرح ودار الأوبرا والمعارض الفنية، ثمّ باتا لا يفترقان ويلتقيان يوميًا. اقترح عليها إيفو أن تنتقل للعيش في منزله لكنّها فضلت عدم التسرّع وأخيرًا انطلق الاثنان إلى المدينة الحميمة.

ذهبت بادئ الأمر إلى المقبرة، القبران مهجوران والأعشاب تحجبهما. نظّفت القبرين وأشعلت شمعتين اشترتهما من متجر قريب عند المدخل. همست قائلة "ارقدوا بسلام" ارتجف ضوء الشمع حين لامسهما الهواء المنطلق من فمها. ابتسمت وتصلّبت ثمّ انطلقت لرؤية صديقتها آنا.

عبرت الشارع وصدرها منقبض. شعرت كأنّها لم تغادر أبدًا هذا المكان. ألقت نظرة إلى بيت الخالات وشاهدت هناك توتكا تجلس في الحديقة وقد هزل جسدها وذاب لدرجة يصعب تصديقها. حدّقت توتكا بيانا ما أن رأتها، عرفتها على الفور، وقفت ورفعت رأسها بتعالي، وضعت يديها على خصرها وحسرت عينيها، كأنّها تريد أن تثبت لها بأنّها هي سيدة المكان، ولن تسمح لها يومًا بتخطّي عتبة المنزل. وقفت الفتاتان بمحاذاة النافذة وألقت يانا نظرة خاطفة إلى حديقة المنزل المقابل. توتكا ما تزال جالسة هناك خافضة رأسها ناعسة على وشك النوم.

- المرأة ليست بخير تتناول الأدوية لتحافظ على هدوئها وتبدو كأنّها مخدّرة. الأسوأ من هذا، اكتشفوا لديها سرطان.. نفس الداء الذي أودى بحياة الخالة كاتيا.. لم يبق أمامها الكثير من الوقت..

- كان علينا أن نتقابل في مكان آخر في المدينة، أنا لا أرغب برؤية أفراد هذه العائلة.

أمضى ثلاثتهم مع إيفو أمسيتهم في مطعم بانورامي قبالة قلعة المدينة التاريخي، وشاهدوا استعراض الأضواء المثير. ثمّ رافقوا آنا لبيتها وبيت الخالات ما يزال مضاءً بأكمله.

- هذا حال المنزل كلّ ليلة. قالت آنا: يشتكي الجيران منذ سنوات طويلة من هذه الأضواء الكاشفة لأنّها مزعجة في ساعات الليل.. 

لم تنه حديثها فهم يدركون جيّدًا بأنّ تريفون على الرغم من عدم إيمانه بالمخلوقات الغريبة الخضراء إلا أنّه يبدي خوفًا من الأشباح. أخبرتهما آنا بأنّ تريفون أرسل ابنه إفغيني للدراسة في مدينة أخرى، حيث تتواجد مدرسة ومسكن داخلي والفتى على وشك الانتهاء من المرحلة الثانوية. يعود إفغيني خلال العطل إلى هنا، كما يزور أجداده في القرية. أمّا التوأم الآخر إفدوكي فقد أرسل إلى مستشفى الأمراض النفسية للبالغين، ومن غير المتوقع أن يخرج قريبًا من هناك.

عادت كاتيا وإيفو إلى الفندق وطلب منها إيفو الانتظار على الشرفة، ظهر بعد قليل يحمل زجاجة شمبانيا وكأسين، انسكبت رغوة الشراب وقبل أن يرفع النخب، أخرج علبة صغيرة بخاتم وعرض عليها الزواج..

هاتفت والدتها ووالدها عند عودتها إلى صوفيا ودعتهما لحضور مراسم توقيع عقد الزفاف. كانا قد قررا قبل ذلك عدم إقامة حفل زفاف، فإيفو يتيم وأصدقاؤهما يعدّون على أصابع اليد الواحدة، وعلى الأرجح سيتواجد في حفل التوقيع هما والإشبين والإشبينة. رفضت أمّهما بالطبع الحضور، وتعذّرت ببعض المشاكل، لكنّها هنّأتها لأنّها استمعت لنصيحتها، على الرغم من تأخّر الوقت.. 

- أتدري، لا يوجد ما يجبرنا على إقامة حفل توقيع عقد الزفاف هنا في صوفيا، من الأفضل أن نقوم بذلك في المكان الذي جمعنا للمرّة الأولى. ثمّ احتضنت إيفو.

اتصلوا بآنا وطلبا منها حجز موعد في مكتب الزفاف التابع للبلدية بعد شهرين، وأصرّ إيفو على إجراء مراسم زفاف كنسية أيضًا.

بعد الانتهاء من مراسم المصادقة على عقد الزفاف المدني والكنسي انطلقا إلى المطعم المفضّل قبالة قلعة المدينة. وأثناء رفع الأنخاب في المطعم، لم تمتلك يانا نفسها وهمست في أذن آنا تسألها عن أوضاع توتكا وتريفون.

كلّ شيء حدث بسرعة بالغة. توفيت توتكا بعد يومين من حضور يانا الأخير. وبعد أسبوع أخبروا تريفون بأنّ ابنه إفدوكي قد أصيب بجلطة توفيّ على إثرها. دفنهما في القرية معًا ثمّ عاد إلى المنزل وأغلق الأبواب عليه وأبقى الأضواء مشتعلة ليل نهار. غالبًا ما يسمع الجيران صراخه ونحيبه في الداخل، وحاولوا مرارًا دقّ الباب، لكنّه أصرّ على عدم دخول أيّ شخص إلى البيت. ثمّ خيّم الصمت هناك طوال أيام، حتى انطلقت منه رائحة تحلّل كريهة. اتصل الأهالي بالشرطة، حضر رجال الأمن وحطّموا الباب الخارجي. نُشر لاحقًا في التقرير الطبّي بأنّ تريفون قد أصيب باحتشاء عضلة القلب.

- نفس الإصابة التي تعرّضت لها الخالة نيدا. همست يانا.

- عرض إفغيني البيت للبيع، لكن لا أظنّ أحدًا يجرؤ على شرائه. أردفت آنا.

نظرت يانا إليها باستغراب لكن صاحبتها لم تضف شيئًا لما قالته للتوّ.

في المساء بعد عودة الزوجين إلى غرفتهما في الفندق، جلست يانا بالقرب من الشرفة وأخرجت الهاتف واستطلعت إعلانات بيع العقارات، توقّفت عند إعلان بيت الخالات وقرأت بعض التعليقات الصادمة التي وصفت البيت بالملعون والمسكون وطفقت بالبكاء. اقترب منها إيفو وضمّها إلى صدره. همست يانا قائلة:

- عفوًا، يجب أن أذهب إلى المنزل.. وحدي. لو سمحت.

هزّ رأسه علامة الموافقة.

انتعلت حذاء رياضيًا وسارت من دون جلبة فوق الشارع المرصوف بالحصى. ألقت مصابيح الطريق أضواء باهتة والمنازل غارقة بالعتمة. لا أحد في الأنحاء باستثناء بعض القطط التي تظهر بين الحين والآخر تموء.

بلغت منزل الخالات وتوقفت ثمّ ملأت رئتيها بالهواء وألقت نظرة إلى النوافذ المعتمة. لا شيء يوحي بالحياة خلفها. ثمّ نقلت أنظارها تدريجيًا إلى الحديقة وعندها شاهدتهم. ظلال باهتة لثلاث فتيات ينظرن إليها ويلوحن بأيديهنّ إليها. رفعت المرأة الواقفة خلفهم يدها هي الأخرى لتحيتها. ثمّ ظهر خيال رجل طويل القامة أنيق ذو شارب عريض. احتضن المرأة وبناته وانطلقوا إلى داخل المنزل. التفت إليها مبتسمًا وهزّ رأسه مرحّبًا.

شاهدت يانا الظلال تسير عبر الممرّ تجاه إحدى النوافذ، ثمّ تجاه نافذة أخرى وانطلقوا جميعهم إلى الطابق الثاني. إنّهم سادة المنزل، وحدهم سادة المنزل، مضوا ليخلدوا للنوم.

***

.......................

ليودميلا أندروفسكا

ولدت الأديبة ليودميلا أندروفسكا في العاصمة صوفيا، نالت شهادة الماجستير في الأدب البلغاري من جامعة "فليكو تيرنوفو" عاصمة بلغاريا القديمة. عملت في مجال الصحافة والتحرير والإخراج السينمائي. شغلت منصب المدير العام لدار النشر "ديباكورت". صدر لها رواية "فوضى" عام 2001، وترجمت للغة الألمانية. صدر لها سيناريو بعنوان "دانتي" عام 2008، يتناول حياة الشاعر الإيطالي الشهير دانتي أليغييري. كما صدر لها مجموعة قصصية بعنوان "كل ما يذهب" عام 2015. القصة المترجمة من مجموعتها الأخيرة التي صدرت خلال العام الحالي 2024 تحت عنوان "كاترينا مديتشي من أوسوينا العليا".

قصة: ماريلين فيلينتو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان هناك أحد عشر رجلاً على مرأة واحدة ذات فجر."أنت تعتقد أن هذه الأشياء لن تحدث لك أبدًا"، هي العبارة النموذجية للعقلية الضيقة الأفق للطبقات المتميزة، غير القادرة على فهم أن الحياة تتكون من مصادفات وأحداث غير متوقعة على طول الطريق. لا يتطلب الأمر الكثير من الفلسفة. اقتباس بسيط من كلمات جون لينون يقول، "الحياة هي ما يحدث لك بينما أنت مشغول بفعل أشياء أخرى." كان هناك أحد عشر رجلاً في فجر واحد. تعطلت السيارة فجأة في الساعة الثانية صباحًا في شارع مهجور في حي للطبقة الوسطى. ارتجفت المرأة من الرعب: هذا هو المكان الذي سأتعرض فيه للاغتصاب. لم تستجب السيارة، وألقت باللوم على العطل غير المفهوم .

اكتسبت مدينة ساو باولو العملاقة أبعادًا مخيفة في صدى الفجر الصامت. السيارة، قطع من الصفيح والحديد وسوائل غير مفهومة، لم تستجب. نزلت المرأة وحدها. في هذه الأوقات، اعتمادًا على المرأة التي أنت عليها، لن يكون هناك رجل بجانبك. كانت بعيدة في الخارج. أعطى هذا فكرة دقيقة عن أسوأ شعور بالوحدة لديها. نظرت حولها بحثًا عن علامات الحياة، شعرت ببدايات اليأس.

السيارة، صامتة، تحولت إلى عمود خرساني، قطعة من الأسفلت، مادة جامدة لم تكن تبدو كما لو كانت تعمل . من قبل عندما كانت تعمل - بدت السيارة مثل الناس، الرجل الكبير، الذي سيعيدها إلى المنزل بأمان. سلامتها الشخصية وسلامتها الجسدية وحياتها تعتمد عليه. كانت إحدى حالات الإدخال الخاطئ للتكنولوجيا في مجال الحياة العالمي: نمو المدن الكبرى، واستعباد الإنسان للآلة، والفوضى الاجتماعية. ستتعرض للاغتصاب في منتصف الشارع عند الفجر.

لكنه سرعان ما قاومت. بعد كل شيء، كان الأمر دائمًا على هذا النحو. حتى عندما كانت طفلة صغيرة، انبعثت قوتها الداخلية في مواجهة مخاطر الليل المفترضة. كانت حياتها الحقيقية سيئة للغاية في ذلك الوقت لدرجة أنها لم تكن تخشى الظلال الكامنة في الظلام.

كانت دائمًا تواجه بشجاعة الأشباح التي تطارد طفولتها. لقد تعلمت مبكرًا أن تجد كل شيء كذبة محضة. سرعان ما تعلمت أن تعتقد أنه لا شيء يمكن أن يكون أسوأ من الحياة الواقعية والناس أنفسهم .

كان الرجال الأوائل الذين طلبتهم للمساعدة على دراجة نارية. لم تر أن سيارة ثالثة كانت تتبعهم. توقفوا، نصفهم في حالة سكر. جربوا بالمفتاح بدون عنف .

كان الثلاثة التاليون معًا في سيارة فاخرة رأتها من بعيد. توقفوا. حتى أن أحدهم عرض عليها هاتفه الخلوي إذا أرادت الاتصال لطلب المساعدة.

وكان الثلاثة الآخرون تجارًا أقاموا بالفعل أكشاكًا لمعرض اليوم. تظاهر أحدهم، وهو رجل أسود، بأنه مشلول، قفز على ساق واحدة، عندما أدرك أنها قادمة لطلب المساعدة. ضحكت. قام الثلاثة بدفع السيارة إلى المنصة الأخيرة .

كان آخرهم البواب وحارس العقار، اللذان أنهيا وضع السيارة في المرآب. شعرت وكأنها ملكة، قمعت الرغبة في تقبيل كل هؤلاء الرجال، خدم الليل اللطفاء، على الفم. بعد كل شيء، آري! وكما قالت إحدى الشاعرات، لقد سئمت من أنصاف الآلهة. بعد كل شيء، كان  فى الإمكان وجود أشخاص شرفاء في هذا العالم.

( تمت)

***

...................

المؤلفة: ماريلين فيلينتو/ Marilene Felinto. ولدت ماريلين فيلينتو في مدينة ريسيفي، في المنطقة الشمالية الشرقية من البرازيل، عام 1957، لكنها نشأت في مدينة ساو باولو، حيث استقرت عائلتها في عام 1969. وهي كاتبة روائية وقاصة وقد حصلت على أهم جائزة في الأدب البرازيلي جائزة/Jabuti  فى عام 1993م . ماريلين فيلينتو مترجمة من الإنجليزية إلى البرتغالية، وقد ترجمت أعمال فيرجينيا وولف وجوزيف كونراد وإدجار آلان بو ورالف إليسون وهيلتون آلس وغيرهم.وهي صحفية تكتب حاليًا عمودا في الصحيفة البرازيلية اليومية المرموقة/   Folha de S. Paulo  عملت فيلينتو كاتبًا زائرًا لقسم اللغة الإسبانية والبرتغالية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 1992 ومحاضرًا في العديد من المؤسسات الأمريكية والأوروبية.

 

Diamond District and Sleeping

By Katharine Weber

قصتان: كاثرين ويبر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(1) حى الماس

همس الرجل العجوز:

- دعى الحجر يخبرك بما يريده ويسمح له بأن يصبح ذلك الشيء. نظرت إيزابيل عبر العدسة وانحنت على طاولة عمل جدها. حدقت باهتمام في الماس الذي كان يعرضه عليها .

سألها:

-  أترىن؟ ادرسيها جيدًا. هل تتذكرين  كيف بدا الأمر عندما عرضته عليك الأسبوع الماضي وأخبرتك أنني سأقطع هذه المرة التالية؟

حصاة بيضاء، قطعة ملح؟" تم إغراء إيزابيل بتذوقها، لكنها في العاشرة عرفت بشكل أفضل. أعادت له المصباح. كانت تقضي كل فترة بعد الظهر بعد المدرسة في مكان عمل جدها الصغير في الشارع 47، بعيدًا في الطابق الثالث في أحد أقدم المباني في حي الماس، بينما كانت والدتها تعطي دروس العزف على البيانو لبوسيندورفر في الشقة. عاش الثلاثة معًا في شارع ويست 76، فوق منزل جنازة معروف.

راقبت إيزابيل جدها وهو يعمل على مقعده، وهي تعلم أنه لن ينزعج إلا إذا تحدث إليها أولاً، مع العلم أن عمله كان دقيقًا مثل جراحة الدماغ. لقد أنجزت واجباتها المدرسية في الضوء الخافت في مكتبه القديم المزدحم حيث كانت أوراقه مكدسة، في انتظار اللحظة التي سيقف فيها جدها، ويقوم بخلع غطاء رأس المكبر الخاص به مع العدسة المضيئة، وينهض، ويطفئ ضوء عمله.، يضع أدواته ببطء ثم يقفل صينية الحجارة في الخزنة المثبتة على الأرض بمسماير أسفل منضدة عمله.

أجاب أخيرًا:

-  نعم، هذا صحيح .

بعد توقف طويل عادت إلى معركة جيتيسبيرغ:

- مثل شيء غير مهم يمكنك إحضاره إلى المنزل من شاطئ البحر. لكن جمالها كان مخفيا . والآن ماذا ترى؟ تم الكشف عنها.

تحدث بهدوء دون أن ينظر، كما لو كان يأخذ على نفسه:

- هذا يسمى قطع الزمرد. إذا سمحت لخصائص الماس بإرشادك، فستحصل على شيء رائع. إذا حاولت إجبارها على أن تكون شيئًا لا تريد أن تكون - بيفت! يمكن أن تتحطم. أو يمكن أن يقاومك بألف طريقة أخرى سأشرحها لك يومًا ما. فقط تذكرى أنه إذا كنت مخطئًة في اختيارك، فإن الحجر سوف يغرق ويرفض أن يكون ما تريده، لأنك أخطأت في طبيعته الحقيقية. وفى هذه الحالة لن يكون لديك شىء .

أثناء سيرهما نحو مترو الأنفاق، مرا بنوافذ المتاجر ذات الإضاءة الزاهية، واحدة تلو الأخرى، حيث لا يمكن رؤية أي شيء سوى مناظر طبيعية قاتمة من المخمل الأزرق،، وسرادقات مخملية حمراء فارغة، وصالات سوداء قاحلة مخملية.. في بعض الأحيان، في الأيام التي يغادران فيها مبكرًا بقليل، كانت إيزابيل ترى أحيانًا أيدي تصل إلى النوافذ مرارًا وتكرارًا وتأخذ الأشياء الثمينة لحفظها بأمان حتى اليوم التالي من العمل. أمسكت بيد جدها، وبدت المسامير الخشنة على راحة كفه مثل الحصى الثمينة التي كانا يحملانها إلى المنزل معًا .

***

(2) نوم

قالا لها  إنها ليست مضطرة إلى تغيير الحفاض. في الواقع، لن تضطر إلى فعل أي شيء على الإطلاق. قالت السيدة وينتر إن تشارلز لن يستيقظ بينما هي والسيد وينتر في الخارج في السينما. قالت إنه غارق فى نوم ثقيل من لا حاجة لزجاجة له أو أي شيء. قبل مغادرة السيدة والسيد ونتر قالا برجاء حاسم لا تنظرى إلى الطفل النائم لأن الباب  يصدر صريرا عاليا للغاية .

لم تحمل هاريت طفلًا أبدًا، باستثناء لحظة وجيزة عندما كانت تبلغ من العمر ست سنوات تقريبًا، عندما كانت السيدة أدلر جارتها قد أعطتها بشكل مفاجئ اللفة الضئيلة التي كانت طفلها الجديد، أندريا. جلست هاريت بلا حراك وبدأت ذراعاها تتألمان من التوتر حتى استردت السيدة أدلر طفلها. آندي الآن في السابعة من عمره ممتلئ الجسم، أكبر من هارييت عندما كانت تحمله في ذلك اليوم .

بعد ساعتين من قراءة كل الرسائل المملّة المتراكمة بدقة على مكتب في غرفة النوم والنظر في ألبوم زفاف كئيب مليء بصور لأشخاص يرتدون ملابس  سخيفة و في حاجة ماسة لتقويم الأسنان (كانت هارييت قد انتهت لتوها من استخدام تقويم الأسنان لمدة عامين وكانت شديدة التحمل. مدركًا لمشكلات سوء الإطباق) أثناء تشغيل القنوات على تلفزيونهم، أدارت هاريت مقبض باب الطفل بحذر شديد، لكنه بدا مغلقًا. لم تجرؤ على قلب المقبض بمزيد من الضغط، فماذا لو أحدثت ضجة وأيقظته وبدأ في البكاء؟

وقفت أمام الباب وحاولت سماع أنفاس طفل، لكنها لم تسمع أي شيء من الباب سوى صوت السيارة التي كانت تمر من حين لآخر في الشارع بالخارج. تساءلت عن شكل تشارلز. لم تكن متأكدة حتى من عمره. لماذا وافقت أن تعمل جليسة أطفال عندما اقترب منها السيد وينتر في نادي السباحة؟ لم تكن قد رأته من قبل وكان من الممتع أن يعتقد أنها قادرة، كما لو كانت مجرد فتاة في سنها يؤهلها تلقائيًا لتكون جليسة أطفال .

عندما عاد آل ونتر إلى المنزل، كانت هارييت قد أكلت معظم ما تركه السيد والسيدة ونتر في الأوعية الزجاجية على طاولة القهوة: أولاً الأزرق بالكامل، ثم الأحمر، ثم الأخضر بالكامل، وهكذا، تاركة في النهاية اللون الأصفر فقط.

أعطياها الكثير من المال ولم يسألاها عن أي شيء. بدا أن السيدة وينتر تنتظر مغادرتها قبل فحص الطفل. قادها السيد وينتر في صمت إلى منزلها. عندما وصل إلى المنزل قال لها، زوجتي. تردد ثم قال: - أنت تفهم أليس كذلك؟ وأجابت هارييت بنعم دون النظر إليه أو التأكد مما يتحدث عنه، رغم أنها تعرف حقًا ما كان يقوله لها، ثم نزلت من سيارته وشاهدته وهو يبتعد بسيارته .

(النهاية)

***

.......................

المؤلفة: كاثرين ويبر (ولدت في 12 نوفمبر  1955) روائية وكاتبة  أمريكية. شغلت كاثرين كرسي ريتشارد إل توماس للكتابة الإبداعية في كلية كينيون لمدة سبع سنوات (2012-2019). وقبل ذلك، درست الكتابة الإبداعية في جامعة ييل (لمدة ثماني سنوات)، وكانت أستاذًا مساعدًا في برنامج الكتابة للخريجين في كلية الفنون بجامعة كولومبيا لمدة ست سنوات. قامت بالتدريس في العديد من ورش العمل الدولية للكتابة. لها ست رويات ومجموعة قصصية واحدة .

 

قصة: تيولندا جيرساو

ترجمها عن البرتغالية: مارجريت جول كوستا

ترجمها عن الإنجليزية : د. محمد عبدالحليم غنيم

***

السبب الذى جعلنى أتبرع بالحيوانات المنوية لأول مرة لم يكن من أجل أن أملأ العالم بأولادي، ولكن للحصول على المال لشراء لوح تزلج جديد والذهاب إلى السينما كثيرا. لم أكن أعتقد أن هذا سيغيرني.

كنت شابا حينها. لقد كان عملاً بسيطًا ومبتذلًا، كما اعتقدت، مثل التبرع بالدم أو نخاع العظام أو بعض الأعضاء القابلة للزرع. تلقى التبرع بالحيوانات المنوية دعاية أقل، هذا كل شيء. لم تكن هناك دعوة عامة للمتبرعين بالحيوانات المنوية، لكننا لعبنا دورًا مهمًا أو مفيدًا، وهذا هو سبب تحمسنا - ليس كثيرًا، هذا صحيح، ربما أربعين دولارًا أو نحو ذلك، لا أكثر.

لقد لاحظت أيضًا أنه تم وضع المزيد من القيود على من يمكنه منح الحيوانات المنوية، أو هكذا بدا لي: بصرف النظر عن الفحوصات الصحية التي قاموا بها، الجسدية والعقلية، فرصة التبرع بالحيوانات المنوية أقل بكثير من فرصة التبرع بالدم.

لماذا؟ تسائلت. اعتقدت أن السبب في ذلك هو أن إنجاب العديد من الأطفال من نفس الرجل لن يكون فكرة جيدة ؛ يمكن أن تنشأ مواقف غير سعيدة وسفاح القربى إذا وقع أخ وأخته في الحب.

في ذلك الوقت، على الرغم من ذلك، لأنني أحببت الفكرة، غالبًا ما فكرت كيف سيكون من الممكن، من الناحية النظرية، للرجل أن ينجب المئات أو حتى الآلاف من الأطفال. حدثت مثل هذه الحالات في الكتاب المقدس وفي الحضارات القديمة. كان إنجاب المئات من الأطفال امتيازًا لملوك ورجال عظماء آخرين في العالم.

لم يعد هذا الامتياز موجودًا في حضارتنا التكنولوجية الحديثة. لن أجعل الآلاف أو المئات أو حتى العشرات من النساء حوامل. ولكن الأمر المخيب للآمال هو أن العملية كانت تخضع لرقابة مشددة. كل ما يمكنني فعله هو التبرع والمغادرة.

في ذلك الوقت، كان طولي ستة أقدام تقريبًا ومجنونًا بالتزلج على الألواح. في طريقي المفضل، حول المنتزه، كنت أركض تحت الأشجار بسرعة فائقة، وأتخلص من سحب الغبار وأطحن آلاف الأوراق الجافة. سمعني الناس قادمًا وقفزوا بعيدًا عن طريقي.

على لوح تزلج كنت أكبر من ذاتي الفعلية، ليس فقط لأنها أضافت بوصة أو نحو ذلك إلى طولي الكبير بالفعل، ولكن لأن السرعة أعطتني سمات لم أكن أمتلكها، كما لو أنها يمكن أن تدفعني إلى بُعد آخر. أثناء السباق في المنتزه، كنت أنظر إلى أعلى أغصان الأشجار، وإلى الطيور، والغيوم، والسماء، وأكون ممتلئا بشعور مسكر، مثل الشعور بالنشوة الجنسية تقريبًا.

جاءتني فكرة وجود هذا العدد المذهل من الأطفال، مثل الملك، بينما كنت على لوح التزلج، أتسابق أمام بستاني وكان في يدي خرطوم، يسقي مساحة عريضة من الإقحوانات. اعتقدت أن الماء مثل السائل المنوي: تدفق سلس، يتلألأ في ضوء الشمس، يروي عطش النباتات بنوع من الكرم البدائي.

القوة التي لا تنضب لشاب. شعرت بعد ذلك بشعور خارق - قفز ورفع لوح التزلج بحركة خاطفة لطيفة، صعودًا وهبوطًا درجات، نزول المنحدرات وأداء قفزات بهلوانية. بلا سقف، كان هذا شعورًا مذهلاً حقًا: أن تكون خالدًا، مثل الإله تقريبًا.

ثم نظرت إلى النساء بشعور من التفوق كان سيبدو سخيفًا بالنسبة لي قبل تبرعى. لكن في ذلك الوقت، شعرت بقوة هائلة: لقد حملت امرأة واحدة، وربما عدة نساء. سيكون أطفالي في مكان ما يسيرون على هذه الأرض.

عندما مررت على لوح التزلج بحشد من الفتيات، فكرت، "يمكنني يمكنني أن أوفر لكن جميعًا أطفالًا ".

بنظرة واحدة وبدون تباطؤ، كنت سأختار أجمل فتاة وأفكر: "يمكنني أن أعطيك طفلاً. وأنت. وأنت. وأنت ".

كنت شابًا قويًا وخصبًا، وشعرت أن هذا هو كل ما أحتاجه لغزو العالم.

لكن الحياة لم تسر كما توقعت. ربما لم أكن ذكيًا كما تخيلت. ربما لم يكن ذهني موثوقًا به. لقد فقدت وظيفتي وأصدقائي، وفقدت زواجين وعدد قليل من العشاق الذين دخلوا حياتي وخرجوا منها مرة أخرى.

حدث هذا قبل وبعد عدة لقاءات مؤسفة، أدت إلى سنوات من تعاطي الكحول والمخدرات، تعافيت منها بشكل أو بآخر. دعنا نقول أن العلاج كان ناجحًا نسبيًا ويسمح لي بكسب بعض المال من وقت لآخر عن طريق جز العشب. بخلاف ذلك، ليس لدي مال. أنا بلا مأوى.

عندما أشعر بالضعف حقًا، أحاول استحضار شيء لأتمسك به، بعض الذكريات الجيدة. أحاول ولكن في كل مرة أفشل. لا أستطيع أن أتذكر حقًا ما شعورى عندما كنت ذلك الشاب.

غالبًا ما أجد نفسي أفكر في أطفالي: من هم وماذا يفعلون وأين سيكونون وما الوظائف التي سيحصلون عليها ونوع الحياة التى يعيشونها.

ولكن هذا كل ما في الأمر. إذا حاول أحدهم الاتصال، فلن أوافق على مقابلته. لا أريدهم أن يروني وأنا على هذه الحالة، حتى لا يكتشفوا ما أصبحت عليه.

أريد لهم أن يكونوا الشخص الذي كنت عليه في أيام التزلج تحت الأشجار. وأتمنى أن يكونوا أقوياء وجميلين، وآمل أن يكون طموحهم مثلي هو غزو العالم. أتمنى لهم كل التوفيق والسعادة.

ومع ذلك، لا أفكر أبدًا في أمهاتهم. في مخيلتي، النساء غير مهمين، تمامًا كما كنت بالنسبة إليهن عندما لقحتهن عن بعد، وذلك بفضل هذه التطورات التكنولوجية ؛ بعد كل شيء، كن يطلبن فقط الحيوانات المنوية الخاصة بي واعتبروني، فردا، قابل للاستهلاك تمامًا.و غير موجود على نحو.

عندما أتخيل الأطفال، فهم الآن أنا وحدي.

أفكر فيهم كل يوم تقريبًا. يكبرون وينقصون في العمر والحجم، حسب خيالي. فى لحظة واحدة، ما يزالون صغارًا جدًا وينامون في سرير أطفال؛ ثم فجأة يلوحون بالوداع وهم في طريقهم إلى المدرسة، يركضون على العشب ويلعبون مع الكلب ويلعبون الرجبي ويجدون صديقة ويذهبون إلى الجامعة ويحصلون على شهادة ويتزوجون ويعيشون حياتهم.

لكنني لست وحيدًا تمامًا، لأنني أعلم أنهم موجودون في مكان ما. التفكير فيهم يمنحني ارتياحًا وهميًا معينًا، يمنحنى شعورًا بالفخر تقريبًا. حتى لو لم يجدوا السعادة أو النجاح، ما زلت أشعر بالحب نحوهم، أو ربما التعاطف. لأن الأمور ربما لم تسر بالطريقة التي توقعوها أيضًا.

وربما لم يولد البعض.

أعتقد أن هناك شخصًا على وجه الخصوص لم يولد أبدًا ونسيه الجميع منذ فترة طويلة، بدءًا من الأم. بالنسبة لي، على الرغم من أنه موجود دائمًا، وكنت سأذهب إلى أبعد من ذلك لأقول إنه المفضل لدي. اشتريت له صندوقًا موسيقيًا صغيرًا، بحجم علبة الثقاب، وفي كثير من الأحيان، في الليل، أقوم بضبط الموسيقى وتشغيلها وتدوير المقبض الصغير، حتى ينام.

(تمت)

***

.....................

المؤلفة: تيولندا جيرساو / ولدت تيوليندا جيرساو في كويمبرا بالبرتغال. تكتب القصص القصيرة والروايات والمسرحيات وترجمت أعمالها إلى عدة لغات. حصلت على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة ألبرت نيلسون ماركيز لإنجاز العمر في عام 2018. نُشرت قصصها في العديد من المجلات والمجلات الصادرة باللغة الإنجليزية، وترجمت اثنتان من رواياتها إلى اللغة الإنجليزية: شجرة الكلمة، التي فازت بجائزة كالوست جولبنكيان للترجمة عام 2012 م، ومدينة أوليسيس. ونشرت آخر رواية لها بعنوان: عودة جوليا مان إلى باراتي فى البرتغال والبرازيل عام 2021 م. درست تيوليندا جيرساو في جامعات كويمبرا وتوبنجن وبرلين، وكانت محاضرة برتغالية في الجامعة التقنية في برلين و أستاذة كاملة في جامعة نوفا دي لشبونة، حيث درست الأدب الألماني والأدب المقارن.عاشت لمدة ثلاث سنوات في ألمانيا، وسنتين في ساو باولو بالبرازيل.

تأليف: آر. جى.لارسين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت هى زوجة الواعظ وخادمة المحتاجين، تعطى كل فرد ما يطلبه، وتأخذ من كل فرد ما يستطيع  أن يعطيه. وكل هذا فى معظم الأحيان فقط  فى مقابل كلمة "شكراً لكم " أو مجرد إيماءة تواضع بسيطة، لكن فى كثير من الأحيان لم تكن تقدم كخدمة على الرغم من ضآلة  الدعم المقدم للكنيسة من رعاياها، إلا أن العشب كان يشذب دائمًا، ويتم الاعتناء بالزهور، وفوق ذلك  تم إنجاز أنشطة التوعية العديدة نحو الرعية.

كانت كاثلين تيت ماجينس صغيرة جداً لأن تكون زوجة لواعظ لتخلو للثرثرة خلف السياج و كانت كذلك جميلة جداً. لقد تجنبت كاثرين الثرثرة وجلسات الشاى ومعظم صلوات النساء الجماعية، ولكن بدلاً من ذلك انهمكت فى الأعمال اليومية للكنيسة. كانت الأبرشية واحدة فقط من خمس أبرشيات تحتاج إلى رعاية. الأربعة الباقية كانت متفرقة على بعد خمسمائة ميل، وكانت جميعها ريفية صغيرة وأكثر ازدهارًا قليلاً من هذه. قضى زوجها معظم وقته متنقلا بين الأبريشيات بينما كانت تدير هى الجبهة الداخلية. بدأ خط سير رحلته كإجراء مؤقت من قبل الأبرشية ولكنه سرعان ما أصبح دائمًا بسبب العروض الهامشية وتقلص عدد الكهنة المتاحين. فلن يقبل الكثيرون العمل فى  أبرشية ريفية حيث أصبح جمع التبرعات جزءًا ضروريًا لتأمين دخلها..

تعرفت كاثلين على جيم ذات صيف،معسكر نشاط الكنيسة، فكرت أن ريفراند ماكجينى ذكى وجسور.بالتأكيد كان مختلفا عن الشباب الذين قابلتهم من قبل. تزوجت من جيم فى العام التالى. فى السنوات الثلاثة الأخيرة، لم تعد متأكدة جداً أنها قد اختارت جيداً.الأمسياب القليلة التى قضاياها معاً افتتحت بالصلاة وانتهت بها. ولمدة طويلة كانت هناك فترات صمت ممل بينهما،وفوق ذلك، كانت هناك أوقات بدا فيها تحفظ جيم الشديد وكأنه نقص في الطاقة، و فى أوقات أخرى بدا فيها تصميمه،أقرب إلى العناد. ولكن أقلقها أكثر ميله نحو المزيد من الغلظة وثقل الدم حيث أصر أن تدعوه جيمس وليس جيم حتى عندما يكونان وحدهما. وكانت  وحدها كثيراً كثيراً، انتظرت وصبرت وصلت من أجل أن يتغير حتى تعبت من الانتظار ثم شرعت فى إيجاد الأجوبة."الله يساعد الذين يساعدون أنفسم ". هذا بالضبط ما قالته لنفسها.

كان صباح يوم الأحد وسط تقديم الخدمات عندما اكتشفت ذلك الشاب الغريب. قدرت أن سنه بين اثنتين وعشرين و وثلاثة وعشرين عاما، بدا ذلك من ملامحه اللطيفة وبنيته القوية. كان أطول قامة أو أقل و كان هناك فى عينيه السمرواتان ما يغرى باقتحامه. كانت كيث قد أخذت موضعاً بالقرب من القهوة والخط الفاصل بين الباب والشماسة التى تبيع التذاكر لدعم نشاط الكنيسة القادم من الشباب. كان الرجال يحضرون بانتظام من أجل التبرع الآن بعد غلق الطواحين وانخفاض أسعار الماشية و اشتروا المزيد من القوارب، كبارا و صغارا ولكنهم جميعاً يبدو الجوع على بطونهم والتعب فى عيونهم. حزرت كيث بشكل صحيح أن الشاب كان عابر سبيل، مسج الغرفة بأمان من تحت القبعة ذات الحافة العريضة، تحركت مقتربة من منضدة بيع التذاكر. ركزت كيث عينيها عليه وهو يدخل، قرأت ما فى عينيه، الآن صارت أكثر قرباً منه.

سألته:

- هل تهتم بتناول كوب من القهوة  بدون مقابل؟

أدهش العرض الشاب حين أخذ على غرة، لكنه قبل العرض فى تردد. ناظراً حوله وعرف أنه فى مكان غير ملائم.

- سيكون ذلك بالتأكيد أفضل اختيار من أخذ تذكرة النقود والجرى بها من الباب. أليس ذلك ما كنت تفكر فيه؟

اتقد الغضب فى داخله، فتغير وجهه وقد رأت كيث شعلة الغضب فى عينيه.

قال محتجاً:

- أشك بان زوجة واعظ كبير السن تقوم بمراقبة درج النقود يمكن أن تتركنى أفلت بدون عقاب.

لكن كان يمكن رؤية الكذب فى رده وعينيه اللتين كانتا الآن تنظران بعيداً تجاه الخمس عشر أو الست عشر دولار التى فى الطبق. لم تبد هى أى رد. كانت هادئة، ذلك بالضبط ما كان يفكر فيه بالفعل، يمسك بالنقود ويضرب بقوة. كيف عرفت؟

- حسناً، عليك أن تعذرنى. نحن هنا فى الغالب جادون ولا نبتسم كثيراً.

وعندئذ ضحكت، وابتسمت له قائلة:

- الآن هل يمكن أن أثير اهتمامك بكوب من القهوة؟

كان صوتها هذه المرة ناعمًا وغنيًا وجذابًا بدون أى تحريف.

قال:

- نعم سيكون ذلك لطيفاً يا ماما. شكراً لك.

لم يكن واثقاً من نفسه فى كثير من المرات لكن تأكد جداً من أنه أحب الدفء البسيط فى هذه المرأة الجميلة ذات الشعر الأسود.

قدمت له كوب القهوة فى المطبخ مع عدد من الكعكات المحلاة، مقترحة أنه سيكون أكثر راحة هناك معه ولكى تضمن أن يتبعها جازفت وقالت له:

- لقد أخطأت هناك.

- ماذا تقصدين؟

أجاب، دون أن يكون مستعداً للاعتراف بأنها قرأت مقاصده بأإحكام

- حسناً، السيدة العجوز دومجريه كانت ستعطيك النقود التى تريدها إذا سألت ولكنك لم تسأل مرتين  مهما يكن، ليس هذا خطأ. إنها ليست زوجة الواعظ بل أنا زوجة الواعظ.

فغر الشاب فمه دهشة وقال:

- آسف. لم أقصد أية إساءة، أنا حقاً انزلقت رجلى فى هذا الأمر دون أن أقصد؟

ضحكت ثانية، ضحكة حلوة ودودة، ليس له ولكن استمتاعاً بالموقف.

- ذلك جيد تماماً. كل شىء على ما يرام. ليست هناك مخالفة.

بينما استدارت لتأتى ببراد القهوة، لاحظ هو أسلوبها الناعم فى حركتها وأحب ما رآه. عادت فى ثوان وصبت كوباً آخر من القهوة.حاول تقدير عمرها وقدر انها فى نفس عمره، جلست فى مواجهته لفترة دون كلام ولكنها لم تكف عن التحديق فيه.ركز بعينيها الصافتى الزرقة بقوة عليه. وجد نفسه ينظر إليها،غير قادر على الابتعاد.ثمة تجعيدة خفيفة ظهرت تحت عينيها أثناء عودة الابتسامة إلى وجهها. قالت:

- انظر، أعرف أنك من المحتمل أن تعمل معروفاً، لكن أيضاً يمكننى أن أرى لديك الكثير من الكبرياء، يمكننى أن أستفيد من مساعدتك فيما بعد بعد ظهر اليوم مبكرا قبيل المساء. أنا قصيرة اليد وعلى أن أعد وجبة على شرف كل الذين قدموا مساعدة أو نشاطاً خلال هذا العام. لا استطيع أن أطلب منهم المساعدة، لأنهم هم الذين سيكونون الضيوف.إذا أردت أن تحصل على عشرين دولارا يمكنك أن تحضر إلى هنا حوالى الرابعة والنصف بعد ظهر هذا اليوم عند الباب الخلفى وتمكث للمساعدة فى غسل الأطباق والقدور والغلايات.

لم يكن هناك رد فورى من ناحيته.

- يمكنك أن تأكل عندما يأكلون، وسأعد لك وجبة غذاء أخرى يمكنك أن تأخذها فيما بعد، لك أن تقبل هذا أو ترفضه، لكن يجب أن أعرف الآن.

تأمل المرأة من ناحيته ووجدها جذابة جداً. لم يسبق له أن كان مع العديد من النساء. استيقظت قوته كاملة وهو يراقب شفتيها، وعينيها، ويديها. ثمة قوة وجمال هناك لم يجربهما بعد. اراد أن يعمل أى شىء ليسعدها ولم يكن متأكداً لماذا شعر بهذه الطريقة، أجاب:

- نعم،سأكون هنا.

- عليك أن تفهم أن هذا عمل دقيق، لا عمل لا مال. أحتاج إلى الالتزام. لابد أن أكون متأكدة من الاعتماد عليك فى هذا الأمر.

- بالطبع، أنا عند كلمتى.

- ما اسمك؟ لعله من الأفضل أن أعرف الكثير عنك.

- يدعوننى فرانك.

- أوه.أحب ذلك كثيراً.نعم. إنه يناسب جداً. فرانك سأتوق إلى رؤيتك هنا بالضبط ( أشارت إلى الباب الخلفى )عند الساعة الرابعوالنصف،  بالمناسبة، اسمى كاثلين ولكن ادعونى كيث.

أخذت يديه بين يديها لتؤكد على الصفقة. شعر الدفء من لمس يديها. تمنى لو يدوم ذلك لوقت طويل. استدار ونظر بينما الباب يغلق خلفه لكنها كانت قد ذهبت لترعى جمعها من الضيوف. فكر فرانك "يا إلهى. لقد وقعت فى حب زوجة الواعظ". تمشى عبر قضبان السكة الحديدية، حتى وجد مكاناً معوشبا تحت برج خزان للماء. ثم جاء النوم فى النهاية. مع المرأة ذات العينين الزرقاوين حلقت جيئة و ذهاباً فى حلمه قائلة:  "أوه أحب ذلك جداً يا فرانك ". وكانت عارية تماماً بجواره.همست:" يمكنك أن تقبل هذا أو ترفض فرانك،لكن لابد أن اعرف الآن ".

كان فرانك عند مدخل الكنيسة الخلفى فى الرابعة والنصف تماما وكان قد اغتسل بالماء الفائض من خزان الماء، وجفف نفسه، ومشط شعره الكنستائى بمشط كان يحمله فى حافظة نقوده، وكان قد ارتدى قميصاً نظيفاً مازال يرى منه التجاعيد حيث كان ينام على ظهره،القميص مثل البنطلون الجينز به عدد من الخروق وإحدى ساقيه ممزق من عند خلفية الساق. نظف أسنانه عدة مرات، وهندم نفسه أمام نافذة محطة السكة الحديد قبل أن يغاد.وقف باعتدال ثم طرق الباب الخلفى، كان على وشك أن يطرق طرقته الثالثة عندما صر الباب الخارجى فجأة.

- حسناً حسناً، انظر إلى نفسك فرانك، رجل جديد لم أره أبداً من قبل.

ابتسمت كيث ودعته للدخول. كانت هى قد نجحت فى الذهاب إلى المنزل والنوم حوالى ساعة، وإرسال جميع الرسائل لاجتماع الواعظ لشهر قادم. وبعد ذلك، فحصت الحلوى التى تعدها لحدث المساء. فكرت فى العشاء الأخير وتمنت أن يكون عشاء لجمعها الأخير. تعرف أن ذلك لن يكون. أخذت حماماً، وغيرت ملابسها مرتدية ملابس الشغلل العملية.اتصلت بالعديد من الكبار لترى إذا ما كان برنامج هذا المساء جاهزاً وسألت إذا ما كانوا يقومون هم  بالخدمة بينما تهتم هى بالسفرة والطبيخ. وهذا ما اتفق عليه، ثم كان هناك اتصال بقائد مجموعة الشباب، بوب، نعم. هناك يمكن أن يكون هناك عشرة صبية لتقديم خدمة الطعام والمنضدة الحافلة. فتشت كيث فى خزانة جيمس لمدة دقيقتين وحصلت على ما تحتاجه  ثم حملت الحلويات فى شاحنة جيمس توقفت عند مكتب البريد لتضع دعوات الاجتماع وهى فى طريقها إلى الكنيسة، وصلت إلى الكنيسة مبكرة خمس عشر دقيقة لتجلس فى هدوء فى ظلام المطبخ   استجمعت أفكارها، وأخذت تخطط للمساء.

عند الدقة الثالث سمحت لفرانك بالدخول.

- أعتقد أنه الأفضل أن نبدأ يا فرانك. حانت ساعة العمل.

كانت تشرح بينما فرانك ينصت.أسرع فرانك للإطلاع على الأشياء والاحتياج إلى المساعدة القليلة لكل شىء تحت يده.عمل فرانك تقريباً لمدة ساعة ونصف دون توقف فيما عدا الأوقات التى كان يراقب فيها كيتى وهى تنحنى لوضع شىء أو الوصول لشىء ما على الموقد. يا إلهى!  لقد كانت رائعة. كانت ترتدى قطعة واحدة من الملابس القطنية فوق ما يفترض أنه ملابس قطنية داخلية. عندما كانت تنتحنى أو تعتدل كانت ملابسها ترتفع. وبينما كانت تتحرك بعيداً مع كل حركة قليلة من أردافها كان اللباس ينزلق قليلاً حتى تحرر أخيراً، استطاع بالكاد أن يمسك نفسه، من وقت لآخر تنظر إليه. تمنحه ابتسامة لطيفة ولأنها كانت تقف فى المطبخ الحار بدأت ملابسها القطنية الخفيفة تنقع بالعرق فاستطاع أن يرى حدود ظهرها وأضلاعها والشق بين ردفيها والمنطقة الصغيرة المبتلة التى شوهدت عبر المريلة تحت صدرها. كانت ما تزال تعمل. عند الساعة السادسة والربع، دخل قائد الخدمة المسائية المطبخ وهمس بشىء إلي كيتى استدارت واندفعت بسرعة نحو المساحة الصغيرة التى تحمل الأحواض والرفوف تغسل الصحون، المساحة التى يشغلها فرانك حالياً مع وعاء كبير يبدو أنه يحتاج إلى جهد كبير جداً لدعكه وتنظيفه.لم يشعر بمجيئها بسبب ضوضاء عتاد المطبخ والماءالجارى.تحركت بالقرب

منه وقالت فى صوت ناعم.

- فرانك

قفز وشعر بالإحراج لأنه لم يكن يلحظ وجودها.

- أنا جد آسف. لم أكن أعرف أنك هنا.الضوضاء كثيرة جداً.

- أعرف. أحتاج منك أن تتولى الأمور بينما أقوم بتبديل ملابسى. يريدون منى أن أخرج وأقدم إنحناءة تحية عند تقديم خدمة الحلوى.لا يمكن أن أخرج هكذا.أنا فى فوضى.

فكر فرانك إنها على العكس من ذلك ولكن بحكمة لم يقل شيئاً. أضافت:

- أنا ذاهبة لأقوم بتبديل ملابسى سريعا فى تلك الحجرة حيث احتفظ بالملابس الاحتياطية. فقط تأكد من عدم وصول أحد إلى هنا. حسنا.

- أكيد.

مالت فوق الحوض قليلاً وهى تتحدث إليه. استطاع أن يشم عرق بشرتها ورائحة خفيفة لعطر الليلك. كذلك أمكنه أن يرى امتلاء صدرها تحب الفستان القطنى. تحدثت بصوت أرق من الذى تحدثت به إلى الآخرين خلال الساعتين الماضيتين.

- أقدر لك عملك الشاق يا فرانك. الآن راقب ذلك الباب. إنه بدون قفل.

أصابت فرانك رعشة لكنها لم تكن شيئاً بالمقارنة بما شعر به عندما أعيد فتح باب غرفة الملابس. كشف مدخل الباب عن جسدها. ارتدت لباساً حريراً وردى اللون ولبست حذاء بكعب عال ومشطت شعرها إلى أعلى فى لفة ووضعت فوقه قبعة ذى حافة مرنة لتغطية شعرها الممشط بغير عناية، وأفضل من كل ذلك، فكر فرانك. كانت مضيئة من الخلف. لقد كشف  المصباح ذى المائة وخمسين وات الآتى من المخزن عن كسمها الرائع.

- حسناً، ما رأيك؟

- أعتقد أنك حقا كاملة.

شعر بالحرارة تصعد إلى وجهه وعرف بأنه خجول. استدارت لكى تخرج من المطبخ. اتخذ قرارً سريعاً.عرف أنه لن يستطيع أبداً أن يغير وضعه أو حياته بالسرعة الكافية التى تجعله يصنع أى فارق،لكنه أيضاً فكر أنه بطريقة أو بأخرى يمكن أن يعبر لها حقيقة مشاعره نحوها. لقد اتخذ ذلك القرار، بدأ فى وضع القدور بعزيمة جديدة. سمع صوت التصفيق من حوله قبل أن تعود كيث.عندما لاحظ عودتها إلى المطبخ.أنزل القدور. مسح يديه ليجففها،واقترب منها.كانا وحدهما فقط مع صوت غليان القهوة فى الخلفية، وصوت طنين الثلاجة الخفيض.

اقترب أكثر وأمسك يدها. سألها:

- كيف سارت الأمور؟

لم تحبه ولكنها لم تبعد عنه أيضاً، لم تكن هناك أية إشارة إلى ما تفكر فيه وهى تنظر بثبات إليه. بدأت الكلام:

- فرانك.

فكر على الفور أنه قد تجاوز الحد.ولكنها استأنفت:

- أتساءل إذا ما كنت تحب أن تجلس وتأكل بعد أن أغير ملابسى.

قال:

- آه، نعم  سيكون ذلك عظيماً.

غادرت سريعاً، توقفت للحصول على حذائها وغيارها من حجرة المخزن بعد 15 دقيقة. عادت وقد غيرت ملابسها كلها.تلبس الآن صندلاً وثوبا بسيطا من الكتان. شعرها نازل خلفها فى شكل ذيل الحصان بسيط. بدت نظيفة ومغسولة ولكن أكثر احتشاما. ثمة أثر لكل انحناءة أو خطوط تحت الرداء.لاحظ فرانك أنها أزالت احمر الشفاه، كذلك اختفت رائحة عطر الليلك، جهزت طبقين من كل ما قدم للضيوف هذا المساء،أكلا فى صمت، من وقت لآخر كانت هناك مقاطعات بسبب تحريك الموائد أو فحصها بعد التنظيف، وفى النهاية صارا وحدهما، تكلمت هى أولا:

- كيف كانت الأمور يا فرانك؟

- بالتأكيد جيدة. كل الأمور حقا جيدة.

- بدوت عصبيا إلى حد ما لفترة قصيرة، اعتقدت ربما أنا الذى جعلتك مضطرباً أو ربما أكون قد قلت شيئاً ما كان يجب أن يقال. أحياناً أصير متسلطة بعض الشىء؛ فأعيش الدور أكثر من اللازم.

أجاب:

- لا ؛ لقد كنت عظيمة. لست متسلطة مطلقاً.

كذب فى ذلك.

- فرانك، أنا متسلطة. أحب أن أكون مسئولة. أنا لست متملقة. أعرف. وبعض الناس حولنا يستائلون عن ذلك، لكن شخص ما يجب أن يترك الأشياء تجرى. زوجى جميس، يكون بعيداً فى معظم الأوقات.أنا أعمل أفضل ما أستطيع، وهذا غالباً ما يكون صعباً على.أفكر فى

مسئولياتى بجدية.هل تفهم؟ عهودى؟

- نعم. أستطيع  أن أفهم هذا.

كان قد اقترب منها بوصة ولكنه الآن تراجع قليلا مع تطرق الحديث إلى زوجها وعهودها. حسنًا، لقد افترض أن هذا كان من أجل الليلة. فرض الأمر عليه وسُجن في سجن بلدة صغيرة حتى بلغ الثمانين، إلا إذا تم شنقه على الفور. أنهيا الطعام وتحدثا فى أشياء التى لا أحد منهما يمكن أن يذكرها فى الصباح، قال:

- أظن أننى على وشك الانتهاء من هذه القدور الأخيرة.

قال ذلك ثم أخذ نفساً عميقا.

- سيكون ذلك عظيماً سأنظف أنا هذه الصحون وأنت تعمل ذلك. ولكن يجب أن أتأكد قبل  من أن الأولاد أغلقوا الباب وهم خارجون.

كانت قد ذهبتت لإنهاء شئونها بينما علق هو بعض المناشف الرطبة لكى تجف ثم خلع مريلته البلاستيكية التى كان قد لبسها لكى لا تبتل ملابسه.وبمجرد أن انتهى من القدور عادت كيتى. قالت:

- فرانك. هل تأتى معى لدقيقة؟

كانت هذه الدعوة مصحوبة بابتسامة لطيفة.

- إلى أين نذهب؟

- أوه، سوف ترى.

ضحكت وسحبته من يده. سارا عبر الكنيسة الخالية. كانت الدنيا قد أظلمت فى الخارج ، فقط نور الشوارع يلمع عبر زجاج التوافذ المغبش وهما يسيران فى محراب المعبد، وفوق منصة المذبح. أحس فرانك بدفء يديها، فشعر بالارتياح. خاف أن تتركه، وهو لم يرد أن تمسكه اليد حتى النهاية، عهود أم لا عهود.

- أحضر هنا غالباً فى الليل عندما تكون الكنيسة هادئة والجميع قد آبوا إلى منازلهم. أليس جميلاً؟

التفت لتواجهه الآن.أخذها بين ذراعيه وقبلها. شعر باستجابتها وهو يقبل عنقها وكتفيها. وضع يديه على وركهاوهى تحتضنه، أبعدت يديه، قائلة:

- لا. فرانك. رجاء لا.

وضع يده مرة ثانية ونجح فى مداعبتها قبل أن تبعد يديه مرة أخرى، فى المرة الثالثة لم تقاوم ولكن بدأت فى فتح الأزرار فى مقدمة جلبابها بينما واصل فرانك تقدمه بمجرد سقوط الجلباب عن كتفيها، رمته بعيدا وقالت:

- بسرعة فرانك، رجاء.

فى لحظة كانا معاً فوق المذبح فى عناق، عاريين تماما، فى غمرة عاطفته لم يلحظ أنها علقت ساقها اليمنى خلف ركبته اليسرى وذراعها اليمنى لفته حول ذراعه اليسرى. فجأة انقلبت واندفعت بسرعة، ممسكة بيده الطليقة من رسغها لتقلبه على ظهره، دبست يده بكل قوة على الأرض وبدأت تطلع وتنزل بقوة فوقه، نقلت يدها اليسرى لتدبس رسغه الآخر. كان مندهشاً لحركتها وقوتها أيضاً.عندما أراد أن يتحرك وجد صعوبة فى ذلك نتيجة لعاطفتها وعزيمتها. ارتفعت فوقه على مرفقيها،وهى ما تزال تهتز فى إيقاع رقيق بينما ثدياها فوق وجهه.

- فرانك لا تتوقف.

ثم بدأت تقفز بقوة وعنف.آخذة به إلى أماكن لم يرها أبداً.عندما كانت جاهزة وحاسمة لم تستطع أن تنتظر طويلاً. اندفعت إلى أعلى وإلى أسفل مع زيادة فى القوة حتى انتهيا. ظلت فى نفس الموضع وهى تقبل عنقه ووجه مراراً وتكراراً. بذات المفاجأة التى بدأا بها لقاؤهما

انتهى أيضاً، نهضت كيتى، أمسكت بجلبابها. ابتسمت:

- ابق هنا وانتظرنى، سأعود حالاً.

تساءل:

- أين ستذهبين بملابسى؟

- فقط لا تتحرك. ارقد هنا. سأعود سريعاً. أوه. إذا الضوء فى الدهليز دخل هنا فإنه سيكون الحارس الليلى. لم يدخل إلى هنا أبداً، ولكن لا تبدى أى صوت حتى لا تلفت نظره. سأرسله للمبيت فى البيت الليلة وسأعود حالاً بأشيائك. ثق فى يا فرانك. لن أنساك. يكفى أنك كنت رائعاً.

اختفت كيتى ورقد فرانك بهدوء فوق المذبح، عارياً، يفكر فى كل ما حدث. فكر إنها كانت أعظم ليلة رائعة فى حياته. بدأ يشعر بالإضطراب عندما لم تأت بعد خمس دقائق.وبعد عشر دقائق، بدأ يشعر بالقلق. عند الدقيقة الخامسة عشرة أتى الضوء من الدهليز لذلك انبطح فوق الأرض ممتداً وراء المنبر، وانتظر فى صمت. أخيراً فتح الباب المؤدى إلى المحراب وظهرت كيتى مرة ثانية وهى تحميل أشياءه.

- أين كنت. لقد بدأت أظنك أنك غادرت؟

ضحكت:

- ساذج أنت. ملابسك القديمة ممزقة.هذه على مقاسك ونظيفة. يمكنك أن تحتفظ بها. وفوق ذلك أعددت لك وجبة غذاء لكى تأخذها معك.هذه محفظتك التى كانت فى الجيب وهذه العشرون دولاراً التى وعدتك بها.

اقترب منها ولكنها أوقفته هذه المرة:

- أنا امرأة متزوجة يا فرانك. خذ فقط هذا واذهب ـ رجاء استخدم هذا الباب الجانبى.  وسوف ينغلق خلفك.

- كيث !

- فقط اذهب وإلا ستفقد القطار القادم. إنه متجه شمالاً. سيأتى فى حوالى الساعة الحادية عشرة ونصف.

ضغطت على يده فى لطف وأسرعت إلى مغادرة المحراب.

انشغلت كيتى بالأمور المطلوبة في مكتب الكنيسة لبعض الوقت، مستمتعة بجهدها وسعيدة بالراحة التي استقرت فى داخلها.سجلت ملاحظة لنفسها يجب على الحارس أن يحضر حصرا غير مستعملة من فصل روضة الأطفال الذى فوق إلى الحجرة الصغيرة فى غرفة الكنيسة العلوية الأسبوع القادم. قبل أن تغلق وتعود إلى المنزل للاغتسال، توقفت متساءلة ما ذلك الذى أثاره فيها؟ هل كان القميص الأزرق أم طريقة التصاقه بجسدها؟ ربما كان النسيج الحريرى الشفاف والضوء خلفها؟ ربما فقط تحديقها فيه؟ فكرت قليلاً ثم قررت أن ذلك ربما يكون عندما وضعت قليلاً من عطر الياسمين وانحنت لتقول لفرانك أن يراقب الباب. من يعرف؟ قالت لنفسها أعتقد أن أحسن جزء عندما تركته على المذبح عارياً تماماً. وكانت صعدت السلم من المدخل إلى غرفة الجوقة العلوية وراقبته لوقت طويل. وعندما أصبح قلقاً، نقرت على الضوء فى الدهليز. وهو ما أبقاه ذلك فى مكانه.أحبت الجنس وأحبت أن تكون هى المتحكمة، أحبت حتى فرانك، أخذت قميصه وبنطلونه بساقه الممزقة ( أمكنها أن تشم رائحته فيهما ) وعلقتهما على شماعة فى غرفة صغيرة تحت السلم، بجوار ثمانية أزواج أخرى ليس من بينها ملابس زوجها على الحائط الأول من المكتب. كان هنا; اقتباس داخل إطار يقول " يستجيب الله للصلاة " فى الحائط المقابل استقر إطار آخر يقول " يساعد الله أولئك الذين يساعدون أنفسهم، فكرت: " حسناً، أحياناً كلاهما.غداً سيكون هناك طاقم من مصلحى السطوح لمدة أسبوع لإعادة إصلاح الجناح الجنوبى كله، وبالتأكيد  كان لديها خطة عمل جاهزة لهم.

(تمت)

***

.........................

المؤلف: أر.جى. لارسين / R.G.Larsen: كاتب وروائى أمريكى ولد فى سان فرانسيسكو. و يعيش حالياً فى سانتا روزا بكاليفورنيا حيث يكتب القصص القصيرة والرواية.

 

قصة: إينيس جارلاند

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بالأمس، مثل كل يوم جمعة، رتبنا للقاء عائلة وودز في محطة قطارات تيجري. وصلنا مبكرًا بأكثر من ساعة، كما لو كنا ذاهبين في رحلة بالطائرة، وأسقط أبي جميع الحقائب على الرصيف وطلب مني البقاء معه. وكما هو الحال دائمًا، أرادني أن أكون إلى جانبه لأسمع ما تقوله مكبرات الصوت في حالة وصول الحافلة المائية مبكرًا. لم يسبق أن جاء مبكرًا أبدًا، لكنه يقول أن هناك مرة أولى لكل شيء ويطلب الصمت بإيماءات مبالغ فيها، والتي لا يعيرها أحد أي اهتمام. كانت أمي قريبة، ولكن ليست قريبة جدًا (الإيماءة في منتصف المحطة هي أحد الأشياء التي لا تغتفر والتي "يفعلها أبي لإهانتها"). وكانت قد لفّت أحد أوشحتها حول رأسها حتى لا تفسد شعرها، وكانت تضع الكثير من الماكياج. مع ملامحها المتوترة، كل ما كان مطلوبًا هو الإضاءة الخافتة لفيلم قديم لتكون بطلة الرواية في لقاء كلاسيكي مع حبها الحقيقي الوحيد. أمي ممثلة كامنة في جسد ربة منزل، وهي مقتنعة بأن الناس ينظرون إليها دائمًا. ولهذا السبب فهي دائمًا لا تشوبها شائبة ولن تفعل أبدًا أي شيء لا يمكن أن يكون على غلاف المجلة.

وعلى النقيض من ذلك، وصلت إليسا وودز وهي تجري وتصرخ، كما لو كنا الوحيدين في الصالة. بمجرد أن رأتني، أعطتني حقيبة مليئة بالكتب لأحملها. كانت تحمل نفس الحقيبة منذ أن عرفتها، مع تفكك السحاب و خلع المقابض، والكتب كلها تتساقط على الرصيف. تقول إنها تجلبها لي، لذلك قرر أبي أنه "من المناسب" أن أحملها. الحقيقة هي أن إليسا تحب القراءة بصوت عالٍ: لي أو لأي شخص آخر. حتى في الرحلات بالحافلة المائية كانت تقرأ بصوت عالٍ. إذا واصلت حمل الكتب لها، فهذا ليس بالضبط لأنه مناسب: شيئًا فشيئًا كنت أسرق الكتب التي أحبها أكثر ومن ثم كونت مكتبة رائعة في خزانة غرفتي في الجزيرة.

صعدت أنا وأمي وإليسا على متن البابوريتو وكان أحد البحارة يرفع المصدات عندما ظهر خوان وودز وهو يجري. ما يفعله في المحطة لغزا، لأنه لا يظهر إلا لحظة مغادرة القارب للرصيف. توقف عند اللوح الخشبي، وألقى الحقائب إلى أبي، وقفز على القارب. لقد رأيته يقوم بهذه القفزة مليون مرة (منذ أن كنت طفلة صغيرة، كنت أشعر بعقدة في معدتي أتمنى وأخاف أن يسقط) وهذا يذهلني دائمًا. يبذل أبي جهدًا أكبر في محاولة الإمساك بالأكياس أكثر مما يبذله خوان عندما يقفز على سطح السفينة، وقدماه خفيفتان كالقطط، ويداه الكبيرتان مفتوحتان كما لو كان يمسك بشيء صلب، حيث لا يوجد سوى الهواء لأي شخص آخر. حتى أبي، مع هوسه بالدقة في المواعيد، لم يجد في نفسه ذات مرة أن يطلب من خوان أن يصل مبكرًا.

أثناء رحلة القارب، وعلى الرغم من الوجوه التي كان أبي يسحبها، قرأت إليسا بصوت عالٍ من رواية عاشق الليدي تشاتيرلي. تختار قراءاتها وفقًا لجمهورها. تقرأ لسكان الجزيرة الكلاسيكيات، معتقدة أنها تنفذ حملة لمحو الأمية لامرأة واحدة، وتسعد بإثارة فضيحة فرقة بوينس آيرس بمقاطع أو عبارات تشوه سمعة الزواج والأبوة والدين والمجتمع وكل شيء. حيث تعرف أنه الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لهم. اختارت يوم الجمعة تلك المقاطع الأكثر إثارة من رواية عاشق الليدي تشاترلي وأفسدتها بالصراخ فوق ضجيج المحرك. ضاع نصف ما قالته عندما سار القارب بسرعة، وعندما توقفنا عند رصيف ما أو آخر، عادت إلى قراءتها بابتسامة متعجرفة. نظرت إليّ بين الجمل للتأكد من أنني كنت منتبهًا؛ كان الأمر أشبه بالجلوس في الصف الأول من الفصل مع مدرس كان مهووسًا بي. لقد وجهت لها تعبيرًا يشى بانتباهى، لكنني لم أستمع. كنت أنظر إلى الصفصاف على الشاطئ. ففي هذا الوقت من العام، تكون مليئة ببراعم خضراء شبه شفافة، وتبدو في الشمس  كما لو أن الضوء يشرق من داخل أوراقها.

تقع جزيرة وودز في جدول ضيق. بالأمس، بمجرد أن استدارت الحافلة المائية لإنزالنا على الرصيف، دخلت رائحة زهر العسل إلى المقصورة مع برودة الظل، وشعرت وكأنني أسبح في الهواء الأخضر، في بئر ماء معطر. غمرت المياه أجزاء من الحديقة، وتألقت أزهار الأزالية في الماء، مثل بالونات ضخمة تطفو على سطح النهر.

كانت عملية تحويل الحافلة المائية معقدة للغاية. كان الربان مسرعًا للعودة، لكن التيار كان يعمل ضده ولم يتمكن البحار الذي كان يحمل الخطاف من المؤخرة من الدفع في الوقت المناسب. وقف خوان على الرصيف وأصدر الأوامر بتلك الثقة التي تحظى دائمًا باحترام الآخرين، حتى لو كانت هذه هي المرة الأولى التي يرونه فيها في حياتهم. يقف هكذا، ساقاه متباعدتان وجبينه مقطب، بدا مثل غريغوري بيك في موبي ديك.

وقد قلت له ذلك عندما انطلقت الحافلة المائية، فحدق بي.

قال، وقد فعل هذا الشيء الغريب بفمه، وهو نوع من تجعيد الشفاه، وهو ما يفعله عندما يحركه شيء ما:

-  متى رأيتِ موبي ديك يا كلارا؟ هل تعلمين أنك مراهق كبير في السن؟

يقول لي هذا دائما.

لقد أزهرت الوستارية الموجودة على الشرفة بغزارة منذ نهاية الأسبوع الماضي. بقيت في الظل وأغمضت عيني. يبدو لي أحيانًا أن الرحلة هناك تشبه إحدى تلك السمفونيات التي تبدأ ببطء وتنمو وتنمو حتى تنفجر. بالأمس انفجرت عندما كنت تحت الوستارية.

في المساء ذهبت للسباحة. سبحت ضد التيار، ببطء في البداية، مدركًة قوة ذراعي، وتنفسي، وثبات ساقي، لكن بعد فترة خف جسدي، وأصبح لينًا وقويًا في نفس الوقت، وكان بإمكاني السباحة. الى نهاية الارض. عندما خرجت من النهر كانت ساقاي ترتجفان. كان الظلام قد حل بالفعل. دخلت المنزل واستلقيت على السرير والنور مطفأ. كانت الصراصير والضفادع تغني بصوت عالٍ جدًا. كان الضجيج من حولي ومن تحتي شيئًا صلبًا رفعني على وسادة من الصوت.

قبل العشاء، بدأت أمي وإليسا تتحدثان بصوت عالٍ عن طلاق شخص ما أو آخر. أمي تؤيد الزواج مدى الحياة وتقول إليسا إنه اختراع عفا عليه الزمن (تقول "عفا عليه الزمن"). تتحدثان دون سماع أنفسهما، كما هو الحال دائمًا عندما تتحدثان عن هذا الموضوع، وتقاطعان بعضهما البعض وتتظاهر أمي بأنها عاجزة عن الكلام عند سماع نفس الأشياء التي تقولها إليسا دائمًا. في الصالة الصيفية، يحاول أبي إشراك خوان في إحدى مشاريع التجارية المستحيلة.

خرجت إلى الرصيف الخشبي. بدا أن نوافذ المنزل تطفو في الظلام، وفي الصالة الصيفية كان وهج سيجارة خوان مرئيًا، ثم اختفى. ومن مكان ما جاءتني أصوات وموسيقى سعيدة، وعندما هدأت الرياح سمعت المراكب القادمة من نهر بارانا. كنت أود أن أعيش على إحدى تلك المراكب، أبحر ذهابًا وإيابًا في النهر، وأعلق ملابسي حتى تجف في الشمس، ولا أتحدث مع أي شخص؛ بين الحين والآخر، عندما أمر بقارب ما، كنت أطلق الصافرة وأرفع يدي: لفتة صغيرة لا يمكن رؤيتها من مسافة بعيدة، تكاد تضيع وسط الضجيج الهائل.

رأيت وهج السيجارة يتقدم على الطريق المؤدي إلى الرصيف وجلس خوان على المقعد بجانبي.  سألنى:

- أكل تحت الطلب؟

أضحكني السؤال ولكنني لم أجب. لقد نادوا علينا لتناول الطعام وفي ظلام الطريق لم يتمكن من رؤية ابتسامتي.

أثناء العشاء سألتني إليسا عن سبب عدم حضوري مع صديق. إنها تسألني هذا السؤال دائمًا. أجابت أمي، كما هو متوقع:

- لقد كنت أقول لها نفس الشيء مرارا وتكرارا.إنها لا تستمع إلي .

قال أبي:

- إنها تحب أن تأتي بمفردها .

لقد حاول أن يبدو وكأنه لا يهتم، لكنه فى الحقيقة مهتم. إنه مهووس بما هو طبيعي. وبالنسبة له، ليس من الطبيعي أن آتي إلى الجزيرة معهم في نهاية كل أسبوع، وأنا في السادسة عشرة من عمري. إنه يحب ما أفعله، لكن هذا ليس طبيعيا.

استمرت إليسا:

- أليس لديك صديقة تريدين أن تحضريها معك؟

كما لو كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدثون فيها عن الموضوع، تذكرت أمي عمتها المعادية للمجتمع، وتحدث أبي عن شباب اليوم وكيف كانوا في أيامه يخرجون في عصابة وكانوا جميعًا أصدقاء - بما في ذلك الفتيات -ثم شعر الجميع بالحنين؛ لقد تذكروا بعض الأشخاص الذين لم يعودوا يرونهم، مثل شخص قُتل في العام السابق، وأولئك المطلقين والذين تزوجوا مرة أخرى. لذا، وبفضلي، أصبح لديهم ما يتحدثون عنه لبقية الوجبة. إن فكرة إحضار صديق أمر مثير للسخرية تمامًا، لكنهم لا يستطيعون أن يفهموا أنه بالنسبة لي، من المستحيل أن آتي مع صديق كما هو الحال مع عدم الحضور على الإطلاق.

عندما اشترت عائلة وودز المنزل، كان يحتوي على غرفتي نوم ومطبخ في الخلف وغرفة معيشة في المنتصف، وكان الجزء الأمامي بأكمله عبارة عن شرفة أرضية. في أحد أقسام الشرفة قاموا ببناء صالة صيفية وغطوها بناموسية. في البداية كنت أنام على أريكة متهالكة     مزينة بزخارف نباتية، حتى خطر ببال خوان أن يخصص لي غرفة. كانت لديه فكرة رائعة تتمثل في وضعها بعيدًا عن الغرف الأخرى، وفصلها عن الصالة الصيفية بممر قصير. الليلة الماضية، عندما بدأت أمي في التحدث باللغة الفرنسية، والتي تعتبر بالنسبة لها أفضل لغة في العالم، وبالنسبة لي هي اللغة الوحيدة التي تعلمت التحدث بها بشكل صحيح، وبدأوا مرة أخرى في موضوعات المحادثة التي كانت إليسا تستخدمها حيث تحب إثارة فضيحة الطبقات الوسطى (تقول أمي بالفرنسية : فصل البرجوازية)، وأنا أقدر صمت تلك الغرفة، بعيدًا عن المحادثات المتكررة التي تجري في نهاية كل أسبوع.

تناولنا الإفطار اليوم على الشرفة، في ظل الوستارية. عندما خرجت، كانت إليسا قد وضعت للتو الصينية على الطاولة. فناجين الخزف البيضاء، وإبريق القهوة الذي يتصاعد منه البخار، وأواني المربى الزجاجية، ومناديل الكتان، والزبدة، وكل شيء يتلألأ في هواء الصباح، كان كل شيء مثاليًا لدرجة أنه بدا بعيد المنال، معلقًا مثل لوحة فنية في ضوء الشمس. كانت إليسا قد نظفت الشرفة ولم يبق أي أثر لزهور الوستارية الزرقاء الشاحبة التي عادة ما تغطي الأرض؛ وهذا أزعج خوان.

قالت إليسا بغضب:

- في نهاية الأسبوع الماضي، كان المنزل بأكمله مليئًا بالزهور المداس عليها .

سخر:

- كم هو مروع!

- بالنسبة لي كان الأمر كذلك. بالطبع البعض منا يحب العيش في حظيرة للخنازير.

شخر خوانوقال:

- كما لو كنت أنت من قام بالتنظيف يا سينورا!

هذه هي الضربة القاتلة التي يستخدمها في كل نقاشهما: فهو دائمًا ما ينتهي به الأمر بالقول، بطريقة أو بأخرى، إنها برجوازية.

كان هناك صمت مشؤوم. إليسا، كما هو الحال في كثير من الأحيان، استخدمتني من أجل الخروج من المأزق.

قالت:

- هل ترين يا كلارا؟

ثم اضافت موجهة الحديث لأمى التي اعتقدت أنه لا ينبغي لي أن أسمع مثل هذه الأشياء:

- كما أقول لك دائمًا. الزواج هو انتصار العادة على الازدراء.

لاحقًا، عندما كنت أنا وإليسا نجمع الورود في الحديقة، عادت إلى نفس الموضوع.

- أصعب ما في الأمر هو الحب والكراهية في نفس الوقت. ألا تعتقد ذلك؟

وبعد ذلك، دون انتظار الرد، قالت وهو أفضل شيء سمعتها تقوله على الإطلاق. قالت:

- عليك أن تكرهى بمرح .

عندما ذهبنا إلى رصيف المراكب الصغيرة أكدت لي أن التحدث معي كان بمثابة التحدث إلى شخصية بديلة نقية تمامًا. لقد أبهرني أنه من دون التحدث، كان من الممكن خداع أعين شخص آخر بشكل كامل.

أخذت أمي حمام شمس وهي مستلقية على ظهرها مع قبعة من القش تغطي وجهها، وكان أبي وخوان يلعبان الطاولة. فتحت إليسا كرسيها في ظل الكازوارينا واستلقيت أنا في الشمس على ظهري على أحد كراسي الاسترخاء.

وعيناي نصف مغمضتين، شاهدت الماء يتدفق مسرعًا.

أحضر لي خوان الجين ومشروبا منشطا. لقد صنعها باستخدام الكثير من الثلج وشريحة ليمون على حافة الكوب، كما يفعلون في الحانات الذكية.

قال ليجعلني أضحك:

- أنا مدين لك بمظلة صغيرة .

أحب أن أتناول الجين والمنشط الأول بسرعة كبيرة، حتى تسترخي ساقاي ويفرغ رأسي. أحب ذلك لأنني أصبح يقظة جدًا، ليس تجاه الأشياء التي أشعر بها عندما لا أشرب الخمر،  بل تجاه الآخرين الموجودين بالأسفل ولا يريد أحد رؤيتهم. أحب جسدي عندما أكون هكذا، الطريقة التي ينفتح بها، وينقلب من الداخل إلى الخارج، مثل سيدة فى الليل  .

شعرت بالشمس على ظهري وخشب الرصيف على جلد فخذي. كان حار جدا. أصبح ضجيج السيكادا أعلى فأعلى. نزلت على الدرج لأجلس وقدماي في الماء. كان الأمر كما لو كان شخص ما يداعب كاحلي بقطعة قماش حريرية. كانت أصوات أمي وأبي تأتيني من وقت لآخر. كانا يتحدثان عني. طفت زهرة الوستارية التي جاءت مع التيار بالقرب من الدوامة التي تشكلت خلف مصدات الرصيف وسقطت في فجوة الماء. نزلت إلى المركز، ثم عادت إلى الحافة وبقيت هناك، تدور بلطف. في بعض الأحيان كانت تسقط وتخرج مرة أخرى، تتوقف عند حافة الدوامة، وكأنها مترددة، ثم تسقط مرة أخرى، حتى تخرج فجأة وتبتعد مرة أخرى مع التيار. ذهبت إلى النهر. اعتقدت أن الماء أمسك بقدمى وكان يسحبني إلى الداخل. تركت إحدى ذراعي حول طوق النجاة الدائري الذي وضعه خوان وتركت نفسي أذهب. لقد غرقت رأسي. فكرت في تركها مثل زهرة الوستارية.

عندما عدت إلى الرصيف استلقيت على الألواح الخشبية الدافئة.

من خلال الرموش المبللة رأيت جثة خوان من الخلف. استقرت عيناي للحظة على مؤخرة رقبته، على ذلك النوع من الرابية المقلوبة التي يحددها الشعر على مؤخرة العنق، ثم نزلت إلى أسفل ظهره، متتبعة أثر العرق. في تلك اللحظة استدار وقدم لي، بلفتة، جينًا ومنشطًا آخر. اقترب مني، وجلس القرفصاء إلى جانبي، ولمس وجهي بالكأس الباردة.

قال بصوت عميق:

- سوف تذوبين .

قالت أمي عندما أدركت أنه كان يعطيني كأسًا آخر:

- إن القدرة على تحمل الكحول بشكل جيد، كما تقول، شيء، وشيء آخر أنها تسكر في نهاية كل أسبوع .

قال أبي وهو غير راغب في الدخول في جدال:

- اثنان كثير.

ضحكت إليسا:

- ما الذي يقلقك؟ لديها ساقان مجوفتان. الكحول لا يؤثر عليها.

تأكدت أن هذا كان ثاني سوء تقدير كبير لها في ذلك اليوم.

طلبت إليسا المساعدة في إنزال القارب في الماء وتركته هناك، جاهزًا للاستخدام لاحقًا. هي الوحيدة التي لا تحب القيلولة. تخرج لاستكشاف الجداول أو لجمع التوت البري أو البرتقال، حسب الموسم.

لم أكن أرغب في تناول الغداء. ألقى أمي وأبي اللوم على الجين والمنشط. أردت أن آتي إلى غرفتي وأخلع ملابسي. استلقيت على السرير..دفعت اللحاف بقدمي حتى علقت في الملاءات البيضاء، ووجهي للأسفل. أغمضت عيني. عاصفة من الرياح تداعب ظهري. غفوت مع الأصوات البعيدة، واستيقظت على صوت محرك القارب وهو يغادر..كان والداي وخوان في غرفة المعيشة الصيفية. يمكن سماع الأصوات بوضوح. قالت أمي إنها ستذهب إلى غرفتها ثم شممت سيجار أبي وخوان. كان الكرسي المصنوع من الخيزران يصدر صريرًا عدة مرات، وبين الحين والآخر يضرب أحدهما زجاج طاولة القهوة بكأس أو بمنفضة سجائر. قال أبي إنه خطط للإغماء بدلاً من أخذ قيلولة، فضحك خوان.

قال بعد فترة:

- لقد نسيت نظارتك .

لكن أبي أجاب بأنه لا يخطط للقراءة.

أحب أن أكون منتبهًة لكل التفاصيل، وألا يفوتنى أي إيقاع للحركات. يبدو أن كل شيء قد توقف، كما كان قبل العاصفة. أحيانًا أسمع صرير الكرسي المصنوع من الخيزران لبضع دقائق أخرى – إذا لم ينته خوان من سيجارته، على سبيل المثال – أحيانًا يغني، ببطء شديد، كما هو الحال الآن، بصوت أجش تنقبض له معدتي. أنا أستلقي على ظهري. يتبع الخطوات على خشب غرفة المعيشة الصيفية طرق حاد على الباب المؤدي إلى الردهة. يحب خوان أن ينظر إلى الصور التي علقتها على الحائط أمام غرفتي. لقد قمت بفتح ساقي قليلاً. يدخل بصمت، كالعادة، ويقف ينظر إلي. عندما يمارس الحب معي، فهو ينظر إلي أيضًا. وأسمح لنفسى بالاسترخاء، كما لو كنت في حالة سقوط، وعيناي مغمضتان.

(الخاتمة)

***

........................

المؤلفة:  إينيس جارلاند /Inés Garland  كاتبة ومترجمة أرجنتينية، مقيمة في بوينس آيرس. وهي مؤلفة ثلاث مجموعات من القصص القصيرة وثلاث روايات، El rey de los Centauros (2006)، Piedra، papel o tijera (2009)، وUna vida más verdadera (2019). جارلاند هي أول كاتبة من أمريكا اللاتينية تحصل على جائزة Deutscher Jungerliteraturpreis لعام 2014 عن روايتها Piedra، papel o tijera. تُرجمت كتبها إلى الألمانية والفرنسية والهولندية والإيطالية، من بين لغات أخرى. في عام 2018، فازت بمنحة لورين للمترجمين، وفي عام 2021 بجائزة Premio de Literatura Juvenil Alandar. في فيلم Whirlpool، تستحضر جارلاند الإثارة والمخاطر المرتبطة بعلاقة غير مشروعة، حيث تواجه كلارا البالغة من العمر ستة عشر عامًا نفاق عائلتها الثرية وأصدقائهم خلال عطلة نهاية الأسبوع في دلتا تيجري.

 

بقلم: ويكي وانغ

ترجمة: صالح الرزوق

***

قرر الاثنان أنه يتعين عليهما الليلة الخروج لوجبة سوشي. منذ سنتين تقابلا بالإنترنت. وقبل ثلاثة شهور اشتركا بسكنى بيت واحد. قبل ذلك كانت تعيش في بوسطن، وهي الآن معه في نيويورك.  كانت المرأة باحثة إحصائية مع مصرف في مركز المدينة. أما الرجل كان معلم أحواض سيراميك في استوديو في أطراف المدينة. وكلاهما في أواخر الثلاثينات من العمر. ولم يرغب أي منهما بإنجاب أولاد. والاثنان يستمتعان بالوجبات الآسيوية، وبالأخص السوشي، ولا سيما أوماكاسي. وكان هذا هو ما أعجبهما وفاجأهما. وناسب كلا منهما بطريقة مختلفة. هي شعرت بالقلق حينما نظرت إلى قائمة من الخيارات، ومنحت نفسها فرصة التفكير مرة ثانية. أما هو فقد اختار أن يجاملها. سألته وهي تقلب دليل الأطعمة بصفحاته وكلماته المتعددة: ماذا تفضل؟. فرد يقول: أفضل الذي تحبين أن تأكلي منه.

وقبل أن يبلغا المطعم، وصفه الرجل بقوله "فجوة في جدار". وعثر عليه في قائمة تتضمن أفضل أماكن السوشي في وسط هارلم. ولم يكن هناك أماكن كثيرة. ولذلك قال: أرى أنها ليست قائمة بأفضل الأماكن المتخصصة بالسوشي، وربما هي قائمة بكل هذه الأماكن. وأضاف: فاستعدي لها منذ الآن.

ردت: ولكن لا يوجد حفرة في الجدار.

وتبين أن المطعم كما قال الرجل. غرفة ضيقة مع بار سوشي ومكان لدفع الحساب. وقف وراء البار معلم سوشي مسن. وجلست على منصة النقود نادلة شابة. وقدرت المرأة أن الصالة لا تتسع لأكثر من ست بالغين مع طفل. ومن المستحسن أن تكون أماكن السوشي صغيرة المساحة. ولدى الدخول منحت الرجل نظرة. وقالت نظرتها: هل سيكون الجو مناسبا؟. بالعادة يذهبان إلى وسط المدينة جريا وراء السوشي، وهي أماكن حسنة الإضاءة، ومزدحمة، وبلا رائحة سمك قوية. ولكن تأخرت هذه الليلة القطارات الذاهبة إلى مركز المدينة لأن شخصا قفز على القضبان في محطة "بورت أوثوريتي" وصدمه القطار.

وهذا شيء يجب على المرأة أن تعتاد عليه في نيويورك. في بوسطن، قطار الأنفاق لا ينفع، ولكن المحطات نظيفة وهادئة، ولا أحد يزعجك وأنت على متن القطار. وكذلك نادرا ما يسجل أي تأخير بسبب قفز أشخاص أمام القطارات. وربما لا تعتبر القطارات دائما طريقة أسرع للموت. في نيويورك، تنقلك الأنفاق إلى المكان الذي تريد أن تذهب إليه، ولكن عليك أن تتحلى بالصبر والتحمل. مثلا في نهاية شهرها الأول لاحظت المرأة شخصا يبول في زاوية المركبة. وتسولوا منها النقود عددا كبيرا من المرات. وإذا لم يكن معها نقود سيطلبون منها الطعام أو قلما أو منديلا لتنظيف الأنف. وفي رحلة إلى بروكلين بقطار L، تلقت ركلة على وجهها تقريبا من ولد يرقص حول عمود من الحديد. ورفضت أن تقدم له النقود.

قال الرجل أنت تقلقين كثيرا. وكان يردد هذا الكلام كلما ذكرت أن نيويورك لا تمنحها الشعور التام بالألفة. ولا ينتهي الموضوع فقط عند عدم التآلف، ولكن تشعر باستمرار أنها بخطر.

رد الرجل: أنت تبالغين.

في المطعم منح المرأة نظرة منه. وهذه النظرة أعربت عن شيئين: الأول أنت تقلقين كثيرا. والثاني نحن هنا للتسلية - أنا أسلي نفسي، وحان دورك لتسلي نفسك.  ولكنها لم تكن جاهزة لتسمم نفسها بالطعام.

قال الرجل كأنه قرأ أفكارها: إذا أصابك الدوار، يمكنك أن تلوميني.

أخيرا لاحظت النادلة وجود الاثنين. كانت تنظف طلاء الأظافر من أصابع يدها. نظرت نحوهما لكنها لم تنهض، وعوضا عن ذلك أشارت لهما نحو البار.

وقالت بصوت ناعس: اجلسا في أي مكان ترغبان به. ثم توارت وراء ستارة سوداء مزركشة بحروف صينية تدل على الشمس.

حينما بدأت المواعيد الغرامية بينهما، اتفقا أن يعيشا معا بعيدا عن الرايات الحمر البراقة، وبالفعل لم يشاهدا تلك الرايات. ولتكون الأمور عادلة بينهما، حاول كل منهما أن يجد عملا في مدينة شريكه. ولا يوجد ما يدهش أن الطلب على  محلل اقتصادي في نيويورك أعلى من الطلب بكثير على مدرب صناعة قدور في بوسطن.

كتب لها يوم وصلت شركة النقل إلى شقتها القديمة: انتصرنا. وردت بصورة وجه يبتسم. ثم لاحقا بصور الغرف الخالية: غرفة المعيشة والنوم والحمام، مع صورة أكوام الأثاث والأشياء التي تبرعت بها، حتى إذا عاشا معا، لن يكون لديهما، مثلا، مجموعتا غرفة طعام، ولا عشرون قدرا ومقلاة، ولا سبع أزواج من السكاكين، وهكذا.

كانت واحدة من هؤلاء الناس - النوع الذي يصمم صفحة أكسيل وتضع فيها كل الممتلكات وترسلها له، حتى يتسنى له أن يذكر لها ما لديه، ويحدد النوعية والكمية، وهذا يجعل لامتلاك سبع أزواج من السكاكين معنى، إن كانت بسماكة مختلفة وأطوال مختلفة. ومن الطبيعي أن بمقدورهما الاحتفاظ بأزواج من أشياء غير متماثلة، منعا للتكرار.

وكان هو واحدا من هؤلاء الناس - النوع الذي ينظر إلى صفحة أكسيل ويرمش بعينيه.

قبل الانتقال النهائي قامت بالبحث عن أفضل وقت لتسافر فيه بشاحنة كبيرة إلى المدينة. ولم ترغب أن تشغل مساحة واسعة. وسيؤلمها لو أن الشاحنة تسببت بسد طريق واندلاع أبواق السيارات من خلفها. وعلمت من الإنترنت أن سكان نيويورك صعبو المراس، وربما يمكنهم التعامل مع أي موقف. ولكن ذكرت الإنترنت أيضا أنه لتلافي غضب النيويوركيين خلال ساعة الزحام اختاري الخامسة صباحا. وحينما وصلت في الخامسة صباحا كان بانتظارها في ردهة مبناه. ومعه قهوة وقميص إضافي فضفاض. ثم طبع عليها قبلة تشجيع. وبعد القبلة قدم لها رزمة من المفاتيح. كانت أربعة بالإجمال: أحدها للمبنى، والآخر لغرفة النفايات، وواحد لصندوق البريد، وواحد لباب شقتهما. ولأن كل المفاتيح لها مظهر متشابه، أخبرها أنها بحاجة لشهر لتعرف مفتاحا من آخر، ولكن لم تستغرق غير يوم واحد، وحلت الموضوع. وأسعدها أنه مبتهج. وكانت تتساءل دائما، لكن لا تعلن عن سؤالها، إذا كان قد بحث بصدق عن عمل مثلما فعلت هي شخصيا.

قال الرجل حينما قدمت النادلة كأس شاي ساخن لكل منهما: أريد ماء فقط. كانت الحرارة تبلغ ثماني درجات في الشارع، وأوضحت النادلة أن الشاي، مصنوع من الشعير، ويقدم عمدا وخصيصا مع محار المحيط الهادئ، وهو أول طبق من وجبة أوماكاسي. لم يكن يبدو على النادلة أنها أكبر من الثامنة عشرة. آسيوية بأنف موشوم بالألماس، وبحلقة في شفتها البنفسجية. وحين خاطبها،  نظرت المرأة للحلقة وعضت شفتها. كانت المرأة آسيوية كذلك (صينية)، ورؤية آسيوية أخرى بثقوب في وجهها ذكرها بكل الأمور التي تملصت منها في طفولتها. أراد والداها المهاجران لها الأفضل، ولا يمكن أن تتخيل أن تعود إليهما وبشفتها حلقة. أولا لأن والديها سيجبرانها على التخلص منها، ثم سيعاقبانها بالضرب، ثم، سيذكرانها أن حلقة في الشفة تجعلها تبدو مثل مجرمة، وفي هذا البلد لن يتساهل الجميع مع أحد بوجه آسيوي ومثير للشبهات. وإذا كان مظهرها يشبه مجرمة، ستلاقي المصاعب بالقبول في الجامعة. وإن لم تنتسب للجامعة، لن تحصل على فرصة عمل. وإن كانت دون عمل، لن تتأقلم مع المجتمع. وإن لم تدخل في الحياة الاجتماعية، قد ينتهي بها الأمر إلى السجن. في النهاية تقودها حلقة في الشفة إلى السجن - ماذا يمكن أن ينفعها ذلك؟. فهي لن تعمل مع السيرك. وهي ليست عضوة في جماعة إفريقية محلية . وهي ليست مارلين مانسون. (ولسبب غريب كان والدها يعرف مارلين مانسون واستمع له وأحبه).

ثم في السجن بإمكانها كسب الصداقات مع أخريات لهن حلقات في شفاههن وتكوين عصابة. ولكن سيسألها أبواها: هل هذا ما تريده لنفسها؟. أن تكون في السجن مع عصابة من ذوات الحلقة في الشفة؟. وسترد: كلا.

قال الرجل: الشاي إذا. وابتسم للنادلة الفاتنة. كانت جميلة.  والشفة البنفسجية ذات الحلقة متناسبة مع الخصلة البنفسجية في شعرها، والتي أضافتها لتنسجم مع لون طلاء الأظافر البنفسجي. عموما أبدى الرجل إعجابه بالبذة السوداء العادية التي ترتديها النادلة. وردت النادلة على هذا الاطراء بإبداء إعجابها بالإطار المستدير لنظارته.

قال الرجل: آه. يا لهذه الأمور السخيفة. ورفع نظارته عن أنفه لبعض الثواني.

قالت النادلة كأنها تقرر حقيقة: ولكنها ليست سخيفة. وصديقي المقرب لا يرفعها عن وجهه. مع أن وجهه لا يلائمها.

إذا فقد الرجل الاهتمام، لا يعرب عن ذلك علنا. ولو علم أن للنادلة الجميلة صديقا حميما لجعل غزله معها يأخذ منحى مسليا. فكرت المرأة: لكن الصغار الآن مختلفون. حتى أنها كانت دون صديق خاص حتى دخلت الجامعة. لم تكن جريئة هكذا حتى أنهت دراستها. ولكن لربما لا تعاني النادلة من أبوين مهاجرين. وربما ولد أبواها هنا. وهذا يضعها أمام توقعات مختلفة. أو أن مفهوم الأبوة هنا مختلف تماما عن طريقة تربيتها على يد أبوين مهاجرين قاسيين محرومين من التوقعات.  احتمال آخر: ربما النادلة متبناة. وفي كل الحالات كل الرهانات ليست مشجعة. وفكرت المرأة:  والأولاد في الوقت الراهن ليسوا مختلفين ولكن محظوظين. أرادت أن تقول للنادلة:  ليس لديك أي فكرة، كم يتعب بعضنا في حياته، لتتمكني من صباغة شعرك بلون بنفسجي ولتثقبي شفتك بحلقة.

لمس الرجل المرأة الجالسة بجانبه مثل صنم. وقال: نظراتك ميتة.

ولاحظت النادلة ذلك أيضا، وتنهدت. كانت أكواب الشاي دون قبضات. والشاي حارا جدا ولم يتمكن أحدهما من حمل الكوب دون قبضة بطمأنينة.  وكانا ينفخان على البخار، على أمل أن يبرد السائل، وتبادلا التعليقات حول سخونته. وحتى تلك اللحظة لم ينطق طاهي السوشي مع الشريكين بحرف. ولكن بدا أنه متحسس لأنهما لم يشربا الشاي، وهو يجهز محار البحر الهادئ (وتبين أنه لذيذ جدا).

قال أخيرا: هذه هي الطريقة اليابانية.

ومد يده على البار ليحمل كوب المرأة. ثم رفعه بحذر بقدر ما يستطيع بأطراف أنامله وإبهامه. ووضع اليد الأخرى تحته كأنها صينية.

كرر: هذه هي الطريقة اليابانية.

وأعاد الكوب إلى المرأة. حاول الاثنان تقليد الطاهي، ولكن لعل أيديهما كانت أنعم منه. آلمت الطريقة اليابانية اليد كأنك تضعها في ماء يغلي. أفلت الرجل كوبه. ولم ترغب المرأة استفزاز الطاهي، وحملت كوبها حتى اخدرت يداها. وبعد أن ادرك الرجل أن الطاهي يعرف اللغة الإنكليزية، حاول أن يكلمه.

سأل: ما نوع هذا الكوب؟. يبدو أنه صناعة يدوية. وطلاؤه مذهل.

ثم التفت الرجل إلى المرأة، وأخبرها أن الطلاء الأخضر المزرق  مختلف في الكوبين.

قال: المادة أكثر سماكة وإعتاما في هذه البقعة من كوبها بالمقارنة معه.

قالت المرأة: هممم.

بالنسبة لها الكوب مجرد كوب.

قال للطاهي: هذا طراز يونومي، أليس كذلك؟. طوله أكبر من عرضه، ودون قبضة. نعم. بلا قبضة. وبقاعدة مشحوذة. ويستعمل في حفلات الشاي التقليدية.

نظر الطاهي بارتياب إلى الرجل. ربما تساءل إذا كان الرجل يعبث معه، كما يفعل الناس أحيانا كلما واجهوا ثقافة مختلفة. فهم يحاولون الاستفزاز، ولكن تأتي النتيجة مفيدة تماما، وتمنحك المعلومات التي تأخذها من الأشخاص الذين تستفزهم حتى يبدو هذا الشخص أحمق.

سأل: "وهل هذا هو الجانب المسلي، أم هناك المزيد من البعوض الذي سيحط على وجهي سريعا؟".

قالت المرأة: إنه صانع قدور.

التفت الرجل بسرعة إليها، كما لو أنه يحتج وسألها: لماذا قالت ذلك؟. وضحك، وهو يميل إلى الخلف، وتقريبا سقط عن مقعده. قال للطاهي: متأسف. لم أكن أريد أن أحرجك. الكوب جميل، ويجب أن تفتخر  بشيء مثله إذا تواجد في مطبخك. أنا أفتخر به.

قال الطاهي: شكرا لك. وسكب أول قطعة سمك. وضعها على طبقين من السيراميك الأخضر المزرق كالكوب، ولم يهتم الرجل بذلك.

قال الطاهي: وجبة ممتعة. ورفع إبهامه.

ورد الرجل برفع إبهامه أيضا.

أعجب المرأة طريقة الرجل البسيطة بالتعامل مع كل الأمور. لم يكن يأخذ أي شيء على محمل الجد. ويقترب منه بطريقة طبيعية. ولاحظت المرأة ذلك، مع أنه يعمل وحده في معمله، وبنفس الوقت لا يستمتع بصحبة الآخرين فقط بل يرغب بها. وحينما يغادر معمله يتكلم مع الجميع. أحيانا كلامه مضحك، وهذه طريقته بكلامه مع طاهي السوشي. وأحيانا يثرثر ويلهو، كما فعل مع النادلة. ولم يزعج المرأة غزله. وعوضا عن ذلك ارتاحت لأن رجلها مرغوب. وإذا لم يكن وسيما، فوجهه ودي وخداه متوردان. وجاء في ذهنها كلمة "إجمالا". كان مثل شخص غادر للتو  لوحة من لوحات نورمان روكويل.

أول لقاء غرامي بينهما كان على سكايبي. وتضمن تبادل شرب النبيذ ومشاهدة نفس الفيلم كل على جهازه  اقترح "بيت الخناجر الطائرة"، فاستحسنته مع مشاهدة شريط آخر. ربما ليس شيئا صينيا تماما، ودون أي تقليل من موهبة جانغ ييمو، أن لا يكون من المدرسة القديمة.

سألها: ماذا يعني "مدرسة قديمة"؟.

قالت: أقصد عائلة تانغ.

ولكنها فضلت مشاهدة شيء أقرب للتيار الأساسي، وتدور أحداثه في الوقت الراهن، وحكاياته عن غير الآسيويين. ولم تكن تريد من الرجل أن يعكر مزاجها، إن كان هذا ما يحاول أن يفعله، في حقيقة الأمر.

رد ولكنه فيلم مفضل لدى النقاد.

وانتهى بهما الأمر لمشاهدة "بيت الخناجر الطائرة". كان الفيلم صينيا بالكامل، مع ترجمة إنكليزية في أسفل الشاشة. وبعد زيادة تأثير الكحول، سأل الرجل المرأة إن كانت الترجمة دقيقة.

قالت المرأة: أظن. مع أنها لم تفهم إلا نصف الكلام. وكانت تقرأ الترجمة الانكليزية ولا تستمع للكلام جيدا. وكان الرجل يعرف أكثر منها عن أبطال النزال Wuxia.  وكذلك الأمر بخصوص عائلة تانغ، ولا سيما صناعة القدور. في أيام تلك العائلة، أتقن الصينيون طلاء القدور اللماعة. واشتهروا بالطلاء الصقيل ثلاثي الألوان، وهو مزيج من الأخضر والأصفر والأبيض. وذكر لها أن اسمه بالصيني سانساي sancai. وفاجأها ذلك قليلا. كلا، فاجأها ذلك وصدمها.

قال لها بعد نهاية الفيلم والانتهاء من شرب النبيذ: ستعرفين الطلاء حالما ترينه.

في اليوم التالي أرسل لها صورة جمل من أيام تانغ مع طلاء سانساي. وكان يشبه الجمل الموجود بجوار موقد أمها طيلة خمسة وعشرين عاما.

سألت المرأة بعض صديقاتها. معظمهن آسيويات، ولكن أيضا بينهن القليل غير آسيويات: هل هذا راية حمراء؟. لم ترغب أن تتابع مع هذا الرجل إن كان مهتما بها لأنها صينية فقط. فقد سمعت عن هؤلاء الرجال، ولا سيما من يعقدون المواعيد بالإنترنت. سمعت بـ "الحمى الصفراء". ولم تحب اسمها. أن تسمي شيئا للفت النظر باسم وباء ينقله البعوض الذي يتسبب بموت واحد من كل أربعة مصابين جديا يترك د لديك انطباعا عن هذا الشيء. أخبرتها أقرب صديقاتها أن ما تفعله هو تعقيد للموضوع، وبحث عن أخطاء غير موجودة، وهذا سبب أنها عازبة رغم أنها بلغت السادسة والثلاثين. فالرجل صانع قدور، ومن الواضح أنه ملم بتاريخ القدور. ولربما هو يحب فيلم "بيت الخناجر الطائرة". وقالت لها صديقة من غير الآسيويات: إنه شاب ولعله يعتقد أن فنون القتال شيء مفيد.  وقالت لها صديقة آسيوية: ربما أراد أن يؤثر بك فقط.

ردت: سنرى.

اقترح من أجل لقاء سكايبي التالي كوميديا رومنسية تدور أحداثها في إنكلترا. في الأسبوع التالي اختار فيلما أمريكيا موضوعه المطاردات. الأسبوع اللاحق فيلم دراما عن التجسس الروسي. وبعد المشاهدة كانا يتحادثان حول الفيلم، ثم حول أمور أخرى. وأخبرها أنه مر بعدة علاقات متينة، وانتهت آخرها قبل عام.

سألته المرأة: وكيف كانت تبدو؟. والحقيقة أنها أرادت أن تعرف إذا كانت صينية. رد الرجل: إنها لطيفة، ولكنها عصبية قليلا.

سألته المرأة مجددا: ولكن كيف كانت؟. رد الرجل: ماذا تعنين؟. كانت يهودية وطويلة. ولم يقترح مشاهدة فيلم صيني آخر. وحينما تبادلا الزيارات، لم يأكلا في أماكن الصينيين ولكن أيضا أماكن فرنسية وإيطالية ويابانية. واهتمت به لأنه شاب منتظم. زار معظم صديقاتها، ووجدت هؤلاء الفرصة لإخبارها أنها محظوظة بالتعرف على شاب مثله: عازب وأمريكي - وعلاوة على ذلك فنان. وبعمرها. و"أمريكي" يعني لبعض صديقاتها أنه "أبيض"، والمعنى أنها تتسلق السلم الاجتماعي. ولكنها لم تفكر بأي شيء من ذلك من قبل، والآن ها هي تفكر بهذا الاتجاه. وربما فكرت بكل هذه القضايا قبل الآن، غير أنها لم تنتبه وتعترف بذلك الآن.

في النهاية أصبحت المرأة جاهزة لتسأل الرجل:  لماذا اختار "بيت الخناجر الطائرة" لأول لقاء. وكان جوابه أقل من توقع زميلاتها. قال: إنه اختيار عشوائي. ففي ذلك اليوم ظهر الفيلم على متصفحه مع تزكية ضمنية تفيد أنه قد يهمه. وكرر: وكذلك حصل على ثناء النقاد.

وهكذا أغلقت الموضوع. والسؤال الأساسي حول أسباب لقائه معها تمت إزاحته من الطريق. الدافع ليس أصولها الصينية. وهما واحد من مليار ثنائي يتكون من بنت آسيوية وشاب أبيض وكلهم يذرعون أرجاء الأرض.

أدى طاهي السوشي عمله بسرعة مستخدما يديه الاثنتين، ولم يكن بوسع المرأة إلا أن تنبهر به. ثم سكب من حوض عملاق يحوي الأرز الدافئ كرتين صغيرتين. وجعل الكرتين بشكل كتلة متطاولة. ثم ضغط شريحة من السمك فوق الأرز باستعمال أصبعيه، السبابة والوسطى، وجعل النيغيري (نصفي القطعة) في راحة يده تبدو مثل دمية سيارة براقة. وغمس فرشاة رقيقة، بلمسة أخيرة منه، في صحن صلصة سوداء، ودهن برشاقة أعلى السيارة. ولف بعض قطع النيغيري بشرائط من أعشاب النوري nori. وترك شرائح من السمك على صفيحة صغيرة كي تتفحم ويأكلها الآخرون. وأعجبت المرأة به. كان الطاهي يشبه العاملين في فندق الفور سيزن "المواسم الأربعة" أو ماندرين أورينتال "السيد الشرقي". بين تقديم الأطباق كان ينظف مكانه ويثرثر معهما. وبسبب صوته المنخفض توجب على الصديقين أن يصغيا بانتباه وأن لا يمضغا بصوت مسموع. أخبر الرجل الطاهي أنهما يسكنان على مبعدة عدة شوارع. أما الطاهي فيسكن في كوينز، وهو بالأساس من طوكيو. وقال الرجل: إنه شاهد الطاهي يعمل هنا من قبل. ورد الطاهي: هذا مستحيل. وأصر الرجل على كلامه. وأكد أنه كان يمر بهذا المطعم يوميا في طريق عودته من الأستوديو، ولكنه لم يدخل أبدا، وكان ينظر نحوه بين حين وآخر. وقد رآه. قال: هو أنت. وكان يعمل بجد وراء البار.

ضحك الطاهي وقال: مستحيل.

سأله الرجل: لماذا تنكر؟.

رد: لأن هذا يومي الأول هنا.

قال الرجل: آه. ومع ذلك رفض أن يقر أنه مخطئ. وتابع. وسأل ما إذا كانت إدارة المطعم عائلية. وربما لم يشاهد الطاهي، شخصيا، ووقع نظره على أخيه أو صديقه. وبالتأكيد أجرى الطاهي مقابلة عمل. وربما شاهده يوم كان موجودا، ويستلم العمل من الطاهي السابق، والذي قد يكون أخاه أو صديقه. وهنا وضعت المرأة يدها على فخذ الرجل.

ضحك الطاهي مجددا، ضحكة أطول وأعلى من سابقتها. ونظر إلى المرأة، ولم تكن قادرة على استيعاب نظرته. أوضح الطاهي أن المطعم لا تديره عائلة واحدة. وهو لا يعرف سابقه. وحصل على العمل بالأمس وأجرى المقابلة بالهاتف.

وفي النهاية نسي الرجل الموضوع، وتحسنت مشاعر المرأة. لو تابع لتوجب عليها أن تتدخل وتكلمه. ولشرحت له (بطريقة مواربة) أنه يبدو ملحاحا، وأنه يفترض رؤية هذا الطاهي من وراء النافذة، وقد بنى على ذلك فكرة أخوة مزعومة بين الطهاة. ويجب أن تضمن كلامها الموارب طرفة - كقولها آه - ألا تعتقد معي - أننا جميعا - نشبه بعضنا البعض - وسيضحك الرجل وتشاركه المرأة الضحك، وسيقهقه الطاهي. ويجب أن تذكر ذلك بطريقة مضحكة، لأن المرأة تعلم أن الرجل لم يكن يقصد الإلحاح. وأراد فقط أن يكون صادقا. كذلك على المرأة أن لا تفاقم من الأمور الصغيرة. حتى أنها لم ترغب أن تكون واحدة من تلك النساء، اللاتي تلاحظن كل صغائر الأمور وتضفين عليها معنى لا تحتمله. ثم ألم تتبادل مع أقرب صديقاتها الآسيويات طرفة مضحكة أيضا حول تصنيف البشر حسب لون الشعر والعيون، وكل لون يشكل فئة متشابهة؟.

ولكن الضحك مع الصديقات يختلف عنه إذا كان مع الرجل.

ولبعض الوقت شعرت المرأة بعلاقة قرابة مع الطاهي، ولكن ذهبت تلك اللحظة وانقضت.

بعد أن أنهى الاثنان شرب الشاي، عادت النادلة وقدمت لها زجاجة ساكي غير مقطر. كانت لا تزال تبدو مضطربة مما سبق. وكلمت الرجل لتشرح له أن النيغوري يتضمن بعض الأعشاب والقليل من القرنفل.  أعادت المرأة الساكي ولم تتذوقه. وحام الرجل بأنفه فوق الكأس للحظة طويلة، وقال إنه يستطيع أن يشم شذا شيء قوي.

قالت المرأة: كحول؟.

شيء آخر.

قرنفل؟

شيء غيره.

وأرادت المرأة أن تضيف أن الرجل قد يكون شم رائحة "لاشيء"، لأن النادلة هي من تتكفل بكل شيء. إمكان المرأة أن تعرف لأنها قرأ لصاقة الزجاجة، وكانت تذكر بوضوح أن الساكي يحتوي نكهة الفاكهة مع آثار من الحمضيات.

فكرت المرأة: ما مشكلتي؟. إنها تعنى بأمور لا معنى لها. هذا لا شيء. مال الرجل وحك بأصبعه ما تحت ذقنها. تحسنت مشاعرها، ولكن ليس تماما. وابتسم الطاهي لهما وهو يقطع شريحتين رقيقتين من السمك النهاش.

بعد مرور ما يكفي من الوقت، بدأ الرجل بالدردشة مجددا مع الطاهي. قال: إنه يشعر بالفضول. السوشي لذيذ. ولكنه يتساءل أين عمل الطاهي من قبل. لا بد أن له سنوات خبرة طويلة. هذا ما لاحظه. وتابع الرجل كلامه بالنيابة عنها أيضا وقال: إنه لم يتناول أوماكاسي مثل هذا خلال سنوات مع أنهما جابا أفضل أرجاء المدينة.

سأل الطباخ: أين؟

وذكر الرجل الأماكن، وأومأ الطاهي بالموافقة، ومال الرجل حتى احدودب ظهره. وشعرت المرأة بحاجة ماسة لتتدخل. معظم هذه المطاعم التي تقدم أوماكاسي كانت فكرتها. ولتكون صريحا حينما شرعا باللقاء، كان الرجل يعرف ما هو الأوماكاسي، ولكنه لم يجربه. قال: إن الفرصة لم تفرض نفسها. وتساءلت المرأة هل كلامه يعني ضمنا: أنا لا أعرف كيف أتناول هذه الوجبة، ولا أريد أن أبدو أبله إن دخلت وطلبت طلبا خاطئا.  ولذلك في واحد من أوائل لقاءاتهما رافقته إلى مكان في بوسطن. وكانت تعرف الطاهي، وكان صينيا. معظم الطهاة الصينيين يعدون أطعمة يابانية، كما لو أنها أرقى وأكثر جاذبية. كلمت الطاهي الصيني باللغة الصينية عن الأوماكاسي الياباني، وهو سلوك لا تعرف كيف تنقله إلى والديها، فقد كانا يمتعضان من اليابانيين، أو جديها، فقد مرا بالحرب بين الصين - اليابان، ولديهما مشاعر عدائية ضد اليابانيين.

وما يثلج الصدر أن ذلك التاريخ ليس جزءا من شخصيتها. فقد ترعرعت في الولايات المتحدة. ولم تشعر بالضغينة تجاه شعب وثقافة وطعام اليابان.  وعموما المسألة هي: إنها حينما زارت الرجل في نيويورك، ألقت نظرة على قائمة أسماء الأماكن. وقد أخبرته أن "أوماكاسي" تعني باللغة اليابانية "أنا أترك الأمر لك". وهناك نقطة إضافية. أنها دفعت. ليس دائما ولكن في معظم الحالات، ولا سيما في الأماكن الأعلى سعرا. وكان هناك معنى لهذا الدفع. فهي تكسب أكثر منه، وتناول أوماكاسي معا أصبح شيئا دائما بينهما. وهي ترتاح لوجود أشياء بينهما.

قالت المرأة: هناك ذلك المكان في بوسطن. تذكر؟. المكان الذي أرشدتك عليه. أول وجبة أوماكاسي تناولتها. وحينما قالت ذلك تساءلت: هل هي بحاجة للدفاع عن نفسها، عموما خرج الأمر من اليد وانتهى.

قال الرجل دون أن ينظر إليها: طبعا.

ثم سأل الطاهي: أين كنت تعمل؟.

قال: في مطعم في وسط المدينة.

ثم ذكر اسمه، ولكن لم يتعرف عليه لا الرجل ولا المرأة.

قال: ربما لن تتعرف عليه. فهو مكان خاص جدا. وعالي التكلفة. ولا يفتح يوميا. كنا نفتحه بحجز مسبق فقط. ولتحصل على الحجز يجب أن تتصل برقم معين غير مدرج في القائمة، ولكن نتناقله شفهيا. وإذا اتصلت، تطلب الكلام مع المدير. ويجب أن يتعرف عليك المدير، وإلا أجاب أن الرقم خاطئ ويغلق الخط.

قال الرجل: أنت تمزح. ثم نظر إلى المرأة وسألها: هل سمعت ما قال؟.

سمعته بالتأكيد. فالطاهي لم يكن يهمس. انحنى الرجل على البار، وأصبح جسمه فوق صواني نوري وزبدية الصلصة. ارتكز على كوعيه، مثل ولد صغير بانتظار دعوة من أمه إلى المطبخ. ولاحظت المرأة أنه محبوب، وانتابتها أرق المشاعر مجددا.

قال الرجل: أعتقد أنه نالك الإرهاق منهم. التعامل مع تلك الطائفة من الأغنياء.

لا.

ربما توتر وإجهاد. أراهن أن مكانا على هذه الشاكلة يحتاج لساعات طويلة من العمل المرهق. بحفلاته الخاصة تلك. وبأشخاص لا يعرفون أين ينفقون نقودهم.

لا.

أضف لذلك أنك غير قادر أن تتصرف بحرية. ما يريده الزبون يحصل عليه. وربما تواجه في مكان مغلق من هذا النوع مطالب عجيبة.

نعم، ولكن ليس هذا هو سبب طردي من العمل.

مطرود؟.

بدا على الرجل اهتمام أكبر. وقال للمرأة: هل سمعت ذلك؟.

ثم توجه له وقال: إذا تعرض كبير الطهاة للطرد، هذا يعني أن الطاهي يحمل إشارة قرمزية، وكان الرجل يحترم ذلك.  وكان قد بدأ دوار الكحول. وقد فرغت زجاجة الساكي، فأحضرت النادلة غيرها.

سأله الرجل: ولماذا طردوك؟. وقدم للطاهي كأس ساكي، لكنه اعتذر عنها.

حركت المرأة كأسها بين يديها من جهة لجهة أخرى، وحدقت بالجدار الذي تغطيه لوحة أمواج عملاقة توشك على تدمير ثلاث قوارب صغيرة الحجم. وارتاحت المرأة لأن الرجل يعمل في مجال غير مجالها. وهذا يعني أن التنافس بينهما محدود جدا، وما يجمع بينهما شيء ملموس وحقيقي. ولم يكن الرجل مهتما بالنقود، وهو ما فتنها به. ولاحظت أنه يتمتع بروح حرة، ولكن كيف لا يزال حتى اليوم على قيد الحياة، إن لم يكن مهتما بالنقود؟. أما هي، من ناحيتها، لديها عناية أكبر بها وبمصدرها. وهي تحب عملها، وأكثر ما يعجبها به أنه مستقر وبمرتب شهري. ومع أنه لا يسعها أن تتكلم حول ذلك مع الرجل، والذي كان يقول أحيانا لزملائه، المصرفيين، حينما وجهت ملاحظات عملية، عن طريقة تقاسم الشيك. بعد أن ذكر ذلك، قام بحركة هزلية ببؤبؤي عينيه ليؤكد للجميع أنه يمزح.

ضحكت تقول: هذا شيء مرح.

ولكن لاحقا، حينما سألته: لماذا فعل ذلك، وضع يده على رأسها وقال: إنها تسرف بالتفكير. وهو يستفزها لأنه يعتز بها. فهي تعمل في مجال لا يمكن أن ينجح فيه بملايين السنين. أرقام، منحنيات - بمجرد أن يسمع بها على الهاتف يباشر رأسه بالدوران، من الواضح أن هذا العمل مهم وضروري. وبمقدورك أن تؤديه، حسنا، لنواجه الحقيقة، لأنك أذكى مني.

وما أن انتهى الرجل من كلامه حتى غمرت المرأة السعادة وشعرت ببالون البهجة يرتفع من بطنها إلى فمها.

لماذا طردوك؟.

لم يرد الطاهي. ولكنه غسل يديه، وكانتا مغطاتين بسائل أحمر، وحمل مشعلا ليشوي به قشرة سمك السلمون القريب منه.

بعد عام من المواعدة، رافقت الرجل لمقابلة والديها. وكانا يعيشان في ضاحية أنيقة في سبرينغفيلد، ماساشوسيتس. والدها يعمل في شركة تصمم الأطراف الصناعية. وأمها ربة منزل. في الصين عملا في مهنة مختلفة. والدها أستاذ علوم الكومبيوتر، وأمها موظفة مبيعات، ونجاحهما توقف في العمل السابق، على أنهما بارعان وسريعا البديهة باللغة الأم، وليس بالإنكليزية. وبين حين وآخر، كان والدها يؤدي مهاما أكاديمية في الخارج، تتضمن اللقاءات وإلقاء محاضرات.  ويتهيأ لها بثياب مناسبة قدر الإمكان. ويسجل رؤوس أقلام مسبقا.  ثم أثناء المحاضرة السؤال الوحيد الذي يواجهه، بالعادة من مهرج يجلس في الصفوف الخلفية، هل بمقدوره التكرم وتكرار عبارة أو فقرة من الفقرات.

وعملت أمها في جي سي بيني، ثم تقاعدت. في الصين، تتبع موظفة المبيعات الزبون من مكان إلى آخر مثل ظله، ولكن لا يوجد من يريد لأمه أن تفعل ذلك في جي سي بيني. في الحقيقة كانت أمها هدفا لعدة تقارير أنها تشبه اللصوص. والآن والداها مرتاحان في بيت مساحته ألفا قدما مربعا. ومجهز بصندوق بريد بلاستيكي، ويشبه بقية بيوت المحلة. وربما أحب والداها تماثل بيوت الضواحي، لأنها من الخارج، لا تستطيع أن تعلم أن اثنين من الصين يأويان هنا. ولم يكن يخجل والداها لأنهما من الصين، وعلما ابنتهما أن لا تخجل من جذورها، أيضا. وأخبراها: أنت إنسانة مثل أي كائن بشري آخر، وحصل ذلك حتى قبل أن تنتبه أنه عليها أن تؤمن بهذه الفكرة.

لم تكن المرأة متأكدة من رد فعل ابويها،  فقد أحضرت إلى البيت أصدقاء آخرين، وكان الاستقبال باردا. وكان الرجل أول صديق تأتي به إلى البيت بعد انقطاع طويل. لسوء الحظ أصبحت مشكلة العرق أصعب، فهو أول صديق أبيض تأتي به إلى هنا. فهل رحب به والداها لأنه فرصة تهرب بها ابنتهما من العنوسة، أو بسبب المفاجأة، كما لاحظت زميلاتها، محظوظة؟. ومثل كل مشكلة معقدة في الحياة، كانت قضيتها مزيجا من الطرفين. ولكن هل هي بنسبة خمسين بالمائة لكل طرف، أم أنها عشرون مقابل ثمانين بالمائة، وإذا كانت حالتها هي الاحتمال الثاني، من له الثمانون ولمن العشرون؟.

طيلة عطلة الأسبوع انتابت المرأة الحمي. وانشغل دماغها لأقصى الحدود. وراقبت الرجل وهو يساعد أمها في حديقة الخضار، ثم يساعد والدها بتجريف الممشى. ولم تصدق عينيها وهي ترى والدها يخرج ومعه زجاجة ويسكي. لم تعرف أنه يشرب الويسكي. وعادت لإجراء حساباتها على أساس خمسون بالمائة لكل طرف ووضعت بحسبانها الويسكي. ومع كل وجبة وضعت أمها زوجا من عصا الطعام والملاعق. وحينما اختار الرجل العصا ابتسم له والداها كأنه قرد فطن وضع الخنزير البدين في الحفرة المضلعة. فهو قادر على استعمال عصا الطعام بشكل صحيح. وربح ابتسامة إضافية بسبب ذلك. ثم امتدحا كل شيء فيه، من لون شعره حتى لون حذائه.

وسر المرأة دماثة والديها، كما لو أنها حلت عقدة الأبوين الآسيويين صعبي المراس. وسابقا أوضحت للرجل أن والديها باردان، ولكن البرود مجرد انعكاس لسنوات الجدب والحرمان وليس لأن طبيعتهما هكذا. وحينما تبين أن والديها ليسا باردين، غلب المرأة السرور، ولاحقا تساءلت لماذا لم يتشددا معه. ولماذا كان والدها اقرب لأي أب أمريكي عادي، ورحب بالرجل على أعتاب بيتهما النمطي بايحاءات تنذر بأب نمطي يوجد على شاكلته كثيرون؟.

مع نهاية عطلة الأسبوع جرتها أمها جانبا لتخبرها أنها مستعدة لتناقش فكرة الانتقال إلى نيويورك. وكان الرجل هو من اقترح الفكرة، ولم تعرف المرأة كيف ترد عليه.

"أنا قلت - يوجد سبعة عشر جهاز تلفزيون في هذه النقطة ولا يمكنك أن تشاهدي بها برنامج رقصة الخيول؟".

قالت لأمها: لا أعلم بعد. ولكننا سنبحث عن عمل في المدينتين.

وافقت الأم وقالت: طيب. ثم ذكرتها أن رجلا مثله لن ينتظر طويلا.

قدم لهما الطاهي في آخر طبق من وجبة أوماكاسي بيضة تاماغو التقليدية مع أرز السوشي.  كانت البيضة منفوشة وحلوة المذاق. سأل الطاهي: كيف وجدا المذاق؟. كان يسأل هذا السؤال بعد كل طبق، وكتفاه متهدلان إلى الأمام، وكان الرد - أطيب بيضة تاماغو مع أرز السوشي على الإطلاق - فارتد بكتفيه إلى الخلف مثل ريح عاصفة.

فكرت المرأة: هذه طريقة يابانية. أو ربما هذا أسلوب آسيوي. أو لعله طبيعة البشر.

والتحلية كانت الكثير من مثلجات الموكا. وفيما تبقى من الوجبة تابع الرجل توجيه الأسئلة للطاهي ليعلم أسباب طرده. وحينها وصلت زجاجة ساكي أخرى.

قال الطاهي: لا يوجد شيء مهم.

قال الرجل: أشك بذلك. هيا. نحن هنا كلنا أخوة.

ولكن لم يكن الرجل ولا المرأة يعرفان اسمه. وهو لا يعرف اسم واحد منهما. وخلال تناول الوجبة لم يأت أحد إلى المطعم. فقط وقف بعضهم خلف الواجهة ونظر إلى لائحة الطعام، ثم تابع طريقه.

أخيرا قال الطاهي: الإدارة.

وكان قد انتهى من تحضير السوشي وبدأ بتنظيف طاولته. وبعد تنظيفها غسل الرقع. وكرر التنظيف.

واعتقدت المرأة أنه لم يكن يقصد المبالغة بالتنظيف. ولكن ليبدو أنه مشغول وهو يروي قصته.

سألت: وماذا جرى؟. وكان عليها أن تخمن وتعرف.

قال الطاهي: فصلوني من عملي قبل ثلاثة أسابيع. فالمدير حجز الصالة مدة يوم من أجل حفلة تضم خمسين شخصا، وتصادف أنه يوم عطلتي. ولما استدعاني، رفضت في البداية، وكانت الحفلة على شرف أحد الزبائن المعروفين. قلت له لا يمكنني الاعتناء بخمسين شخصا بمفردي، وعليه استدعاء شخص إضافي. قال حسنا. وبعد ساعة أتيت. ولم أجد أحدا غيري. أنا فقط. كان المدير صينيا، وقال إنه استدعى طهاة آخرين ولم يتجاوب معه أحد.

توقف الطاهي عن التنظيف لحظة ليغسل الرقعة. وتابع يقول: لست أبله. وعلمت أنه يكذب. فجهزت السوشي لشخصين. ورفضت أن أعد وجبة للبقية، الثمانية والأربعين. وفي النهاية انفض عقد كل الحفلة.

قال الرجل: أنت شجاع.

ولم تعلق المرأة.

علقت قطعة من البيض بين أضراسها وحاولت أن تخرجها باستعمال لسانها. وحينما فشلت، استعملت الأصبع. وضعت أصبعها في مؤخرة فمها. ثم جرت قطعة البيض وسقطت على الفوطة  - ولم تكن صفراء واسفنجية ولكن بيضاء كالرغوة.

قالت المرأة بشكل ميكانيكي، بطريقة كلام والديها: أنا صينية.

عاود الطاهي تنظيف طاولته. ونظف الرجل حنجرته. ثم قال دون أن يوجه كلامه لا للطاهي ولا المرأة ولكن لجمهور غير منظور: ليس هذا ما عناه الطاهي.

قالت المرأة أعلم. ونظرت للرجل. أعلم أنه لم يقصد ذلك. فقط أردت أن أصرح بذلك. ولا أقصد شيئا معينا أيضا.

حرك الرجل عينيه ولمعت شرارة حنق في وجه المرأة. ربما شرارتان. وتخيلت أنها تحمل عودي تنظيف أسنان وتثقب بهما عيني الرجل الجميلتين ليتوقف عن النظر يمينا وشمالا. ثم تخيلت نفسها تسكب كأسا من المارتيني الجاف مع الزيتون.

قال الطاهي: آسف. وكان يرتب علب بذور السمسم وسمك البونيتو. وهو يبتسم دون أن ينظر بأحد. وفي اللحظة التالية بدأ يهمهم ولم تعرف المرأة هل هو يأسف على ما قال، أم أنه يأسف لأنها صينية. أم الاثنين معا؟ وأرادت أن تسأله، ماذا يؤسفه، وما نسبة كل سبب، ولكن هذا سيجعلها تبدو حمقاء. ولم تكن ترغب بذلك، وأيضا لم تكن تريد أن تبدو وردة صغيرة وهادئة. وها هي، لا تتكلم، وتتأرجح بين الحدين. في الحقيقة ماذا يمكنها أن تقول؟. كان عمر الطاهي فوق الستين. والصينيون، كما سمعت، أرخص شيء.

لم يقل لها الرجل من قبل: يا عزيزة قلبي.

والآن قال: يا عزيزة قلبي. حصلت على كفايتك من الكحول كما أظن.

ثم التفت إلى الطاهي. أعتقد حان وقت الانصراف.

بعد ذلك تكلم الطاهي مع النادلة. وناداها لتساعد الاثنين في تسديد الفاتورة. وضعت المرأة أمامها بطاقتها الائتمانية، وتظاهر الرجل أنه لم يلاحظ. ودفعت لها إكرامية معتادة تبلغ عشرين بالمائة.

قال الرجل حالما خرجا: ماذا كان ذلك؟. كان الجو أبرد. وهما بحاجة لخمس عشرة دقيقة ليبلغا المنزل مشيا.

قالت المرأة: أنا لست حانقة عليه.

لا يجب أن تغضبي. كان يخبرنا بحكايته.

كررت ولذلك لست حانقة.

فهمها الرجل. مشيا بصمت لبعض الوقت قبل أن يقول: انتبهي. لست أنا من روى الحكاية، ويجب أن لا تأخذي كل شيء على أنه موضوع شخصي. ولكنك تأخذين كل الأمور كأنها مشاكل شخصية.

حقا؟.

وأيضا يجب أن تكوني منتبهة أكثر لنفسك.

أنتبه لماذا؟.

تنهد الرجل.

أنتبه لماذا؟.

قال الرجل: حسنا. ثم وضع يده على رأسها وطلب منها أن لا تتعبه بالمزيد من التفكير.

***

...............................

* الترجمة عن النيويوركير. عدد 18 حزيران 2018.

* ويكي وانغ Weike Wang كاتبة أمريكية من أصل صيني. من أهم أعمالها رواية "كيمياء". فازت بجائزة قلم / همنغواي عام 2018.

 

بقلم: أولغا زلبيربورغ

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما بلغت عامي الـ 55 فكرت الوالدة بالتقاعد. لكنها لم تتوقف عن الكدح - ولم تحرز أي تقدم على هذه الجبهة - مع ذلك قررت أن تذهب باتجاه آخر، وانتسبت لدورة لغة إنكليزية متقدمة بعد العمل. وكانت أختها الأكبر بالعمر تتبع نفس الدورة. ولم تكن الوالدة ترضى أن تتخطاها أختها بأي شيء. وفي هذا الأسبوع، كلفهما المدرب بترجمة كلمات بعض الأغاني. وعزمت والدتي أن تحتل مرتبة A، فأرسلت لي رسالة قصيرة تستغيث بها لأشد من أزرها.

كتبت: "هل معك أحد؟".

أخبرتها: بينك فلويد من "الجدار". كانت فرقة بينك تشاهد في التلفزيون برنامج "دخان المسدس"، والجدار الذي في الرأس انتهى تقريبا، ولم يكن بمقدورهم أن يتوقفوا عن التساؤل إن كان هناك أحد يستطيع المساعدة بهدمه من الخارج.

"هل من أحد معك؟". سؤال يحتمل الشعور بالقلق.

قالت الوالدة: "آه. من الافضل أن أرسل إليك كل التمرين. فقد أخطأت بالفهم".

قلت لها: حسنا. أنا أتقن اللغة الإنكليزية.

ردت أمي وكتبت بسرعة: "لا تكوني أمريكية جدا". كنت أتابعها بصعوبة.

ثم سألت:"الحب يبدل كل شيء، ماذا يعني هذا الكلام؟".

كان الفرق بين بطرسبورغ وسان فرانسيسكو أحد عشر ساعة. والساعة 9 مساء بتوقيتها يقابله الساعة 10 صباحا بتوقيتي، وكنت للتو قد تناولت قهوة الصباح وبدأت أستعرض بريدي الإلكتروني. وكان لدي واجبات ملحة، ولذلك لن يتوفر لي وقت مناسب للكلام. حينما يكون الوقت عندي مساء، ستكون مشغولة بواجباتها، ولن تجد بدورها الفرصة لتكلمني حين تكون مشغولة بالعمل.

"الحب يبدل كل شيء". لم أجد احتمالين للتعبير. سألتها كيف فهمته؟.

قالت: "عليك أن تحبي كل ما يطرأ عليك من تحولات".

ولم تلاحظ أن "الحب" في هذه الجملة جاء بصيغة اسم، و"تبديل" جاء بصيغة فعل. ولكن في تفسيرها أصبح الحب كالأمر، شيء مفروض. "أحبب التبدل". من الواضح أنها بحاجة لمساعدة. كنت أهيب بها أن تتعلم الإنكليزية ومنذ سنوات - وبين حين وآخر كانت تكلمني عن إنهاء إجراءات تقاعدها، لتنضم لي في أمريكا - وتعلم اللغة الإنكليزية سيفيدها حتما.

سألتها: "ما هو الفاعل في هذه الجملة؟".

كتبت على الفور تقول: "لا يوجد فاعل في الجملة. إنها جملة بلا فاعل".

ذكًرتها أن هذا غير وارد، وفي اللغة الإنكليزية، لكل عبارة خبرية كاملة فاعل، وحينما تفكر بهذا الافتراض، لا بد أن تصل إليه.

كتبت: "الحب يبدل كل شيء. آه - هذا تفكير سلفي ومتخلف". 

وتساءلت كيف تتعامل خالتي مع هذا التمرين، وهل طلبت من ابنها الذي يعيش في السويد المعونة. يمكن للأختين التعاون، والتمرن على مهارات الكلام، كلما اجتمعتا معا على عشاء أو تقابلتا في البيت الريفي لتقليم أشجار التفاح أو لجني الفريز، ولكن كلا. اعترضت الوالدة على الاقتراح. وقالت " "أنا أفضل منها باللغة الإنكليزية، ثم لماذا يجب أن أساعدها؟. دعيها تهتم بنفسها. هي أنانية وتتصرف بهذا الأسلوب". كان من السهل لي، وأنا في الجهة الثانية من المحيط، أن أتخيل الحياة الاجتماعية الضيقة في مسقط رأسي. ولكن حوارا من هذا النوع ذكرني فورا كيف هي الأمور في الحقيقة. كل شيء بين الأختين عرضة للتنافس. وحتى حينما تجنيان الفريز معا، تحرصان على تحديد وزن محصول كل منهما للتأكد من أنجز أكثر. وكل من أمي وخالتي تدبرتا أمر نقل أبنائها للجانب الآخر، حيث العشب أكثر نضرة، والآن بقيت إحداهما أمام الأخرى. ولم يكن لدى الوالدة وقت للاستمتاع بنجاحها، وهي متحمسة للمتابعة.

"الجميع يبحث عن شيء؟" - ما معنى هذا؟. هذا إيقاع. ماذا تفهمين من 'أحلام سعيدة'؟.

ردت: "أعتقد أنها تعني أن كل إنسان يتجسس على غيره".

ولكن هذه ليست ترجمة، وإنما تشخيص، وبوضوح لا يوجد شيء يمكنني عمليا أن أعينها به.

كنت على وشك إغلاق بريدي الإلكتروني. ولكن وصلتني رسالة من ابن خالتي. ورد فيها: "كل إنسان يبحث عن شيء؟ ترجمي من فضلك".

كتبت أرد: "يجب أن تفهم المقصود. هذه لغة إنكليزية بنسبة 101".

رد: "أنا في وسط اجتماع ولا مجال عندي للدردشة".

وكان هذا أطول عبارة سمعتها من ابن خالتي خلال ما يزيد على شهر. ورغم خشونة رسالته، جلست في كرسيي وقهقهت أمام، شاشة الكومبيوتر. كانت الساعة 11 ظهرا، وصباحي قد مر وانقضى، ولكن لم أكن مهتمة. ماذا لو تعلمت أمهاتنا اللغة الإنكليزية بهذه الطريقة، ثم أتين إلى قربنا؟. يجب أن أتدرب على المرونة في جدول أعمالي، لأحب التغيرات وأنسجم معها.

***

.....................

أولغا زلبيربورغ Olga Zilberbourg كاتبة أمريكية من أصول روسية.

قصة: جيسيكا تريت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

قطي في الممر، يقضم عظامًا ناعمة. لقد بدأ المطر: صوت دافئ مكتوم، قطرات كبيرة وناعمة، وليس المطر الشديد الداكن الذي حدث بالأمس. كل شيء رطب وأخضر، مبلل، أو منقوع.

يأتي قطي ويجلس على المكتب الذي أكتب عليه. يترك مخلبه بصمة حمراء شاحبة على الصفحة. يريد أن يُخدش خلف أذنيه ويستلقي على ظهره لجذب المزيد من الاهتمام. يعتقد أنه يعيش حياة جيدة وهو يفعل ذلك. يعيش في الداخل مدللا ومرعيا. في الخارج يعيش الحياة السرية للصياد.

أكلة اللحوم وآكلة النباتات: قام ابني بتقسيم ديناصوراته إلى مجموعتين، مع حساب العدد الذي لديه في كل منهما. نتعلم أن آكلي النباتات هم أكثر بطونًا: معدة ضخمة لمعالجة كل تلك المواد النباتية القذرة.

أكلة اللحوم أصغر حجما وأكثر صرامة، وأجسادهم آلات صيد فعالة. يحب ابني آكلي اللحوم أكثر من غيرهم: أسنانها الحادة، وفكوكها المفتوحة الشرسة، وأذرعها الممدودة خلف الفريسة. إنه يفضل المفترس على الفريسة،  وهي كلمات تعلمها مؤخرًا.

ولكن في الصباح:

- أمي؟ ما هذا؟ ماذا خطوت؟

وقمت بتنظيف قدمه العارية والبساط، الملطخ بالدماء، من الحواصل التي تركتها قطتنا خلفها أثناء الليل. ابني يحدق في ما أطرده بعيدًا.

- هل كان فأرًا؟

- نعم أعتقد ذلك.

إنه الصيف والأشياء الميتة تتكاثر: الفئران، والسنجاب، وإذا كنا سيئي الحظ: طائر صغير، ريشه الناعم يطفو في المنزل لعدة أيام، مثل بذور الصقلاب.

انسحبت القط  إلى الخزانة، وهو يعجن سترة سقطت على أطراف الحذاء. جعله الخدش يخرخر، وسرعان ما ينكمش على نفسه لينام بعيدًا طوال اليوم.

يسألنى ابنى:

- هل سنموت؟

نقوم بتنظيف أسناننا، وهي طقوس يؤديها ابني على مضض، خاصة في الصباح.ثم يسأل مرة أخرى:

- هل سنموت؟

-  نعم ، ولكن.. ليس لفترة طويلة، وليس ربما 100 عام...

- لا! نحن لسنا كذلك، ولن نموت أبدًا.

صمت – كلانا يفكر – ثم السؤال مرة أخرى:

- هل سنموت؟

أتردد – إنه في الخامسة من عمره فقط.

- نعم، ولكن..

- لا!

ويضرب صدري. ما لا يحبه، يحاول التغلب عليّ مباشرة. أعلم أنني بحاجة للتحدث معه حول عدم الضرب عندما يكون غاضبًا،  لكنني الآن أتحمل اللكمات. أصير لطيفًة ومراوغة.

- ربما لن نموت..

يجب أن يعرف أنني أقول ذلك فقط لأنه يريدني أن أفعل ذلك، فأنا أبرر ذلك.

- أبداً. لن نموت أبدًا.

-  ربما..

-  ربما يعني لا. لن نموت.

وهذا ما يقرره. في الوقت الراهن على أية حال. لقد ذهب إلى غرفة نومه، حيث توجد ديناصوراته. صراخ! سمعتهم يصطدمون ببعضهم البعض، صراخ، لديناصور يهاجم ترايسيراتوبس، لكن ترايسيراتوبس* لديه قرون وجلد سميك، فقد يكون قادرًا على الهروب حيًا. يمسكه آكل اللحوم السريع من ساقه الخلفية، ويغرز أسنانه؛ يعض قطعة كبيرة من ترايسيراتوبس. سوف يموت آكل النبات الفقير ببطء.

قال لي ابني أثناء تناول الغداء:

- سأشرب الماء فقط.

-  ولم ذلك؟

- لأنك إذا شربت الماء فلن تموت.

أومأت برأسي، وأتساءل كيف وصل إلى هذا الاستنتاج.

ثم تذكرت كتابًا قرأناه مؤخرًا عن جسم الإنسان: يمكننا أن نعيش لعدة أيام بدون طعام، ولكن بدون ماء نموت. أسكب له كأسًا آخر، وأنا سعيدة لأنه يفضل الماء على الصودا، على الأقل في الوقت الحالي.

من نافذتي أرى القط  في الخارج. أشاهده وهو يدور حول شيء ما في العشب الطويل. يسير بهدوء، ودائرته تضيق، وتقترب، ثم فجأة يقفز، وظهره مقوس. لديه شيء ما بين كفيه، على الرغم من أنني لا أستطيع رؤية ما هو.

نجد ذلك الشيء على أرضية الحمام - مهجور هذه المرة، لم يؤكل أو يجرح، ولا حتى ندبة دموية: فأر حقل بني صغير ذيله عبارة عن سلك طويل. يحدق ابني به ويشاهده وأنا أضعه في منشفة ورقية.

- هل هو حي؟ هل ستتركه يخرج؟

أومأت برأسي، على الرغم من أنني لست متأكدة مما إذا كان ميتًا أم مذهولًا. أخذت الحزمة الصغيرة إلى الطابق السفلي لأدفعها خارج الباب الخلفي تحت الشجيرات في الخارج.

يسألنى ابني:

- هل هرب؟

أخبرته أن الأمر قد حدث، على الرغم من أنني لم أره حقًا وهو يهرب.

قرأت من الكتاب السميك الذي حصلنا عليه من المكتبة، "كل شيء عن الديناصورات" : "كانت الديناصورات الكبيرة آكلة النباتات تبتلع الحجارة وهي تأكل. وبقيت الحجارة في الأمعاء، مما ساعد عضلات المعدة على طحن الأوراق والأغصان لتكوين حساء ناعم لزج من النباتات. "يمكن للديناصورات، مثل أباتوصور، هضم هذا الحساء بسهولة أكبر"

- كان الأباتوصور هو البرونتوصور. اقرئي عن أكلة اللحوم الآن يا أمي.

"كان للألوصور عيون كبيرة، تقريبًا ضعف حجم الحيوان آكل اللحوم الأكبر حجمًا، تيرانوصور ريكس." كان يوجد فوق العينين رفرف من العظم يشكل حافة للعين يمكن استخدامها لتظليل العيون من الشمس. كان للألوصور حوالي 40 سنًا في الفك العلوي و32 سنًا في الفك السفلي. كان طولها يصل إلى أربع بوصات، وكانت الحواف الأمامية والخلفية حادة ومسننة، مثل سكاكين شرائح اللحم، لتقطيع اللحم. وعندما تبلى أو تتآكل، تنمو في مكانها أسنان جديدة "... واصلت القراءة. لا يبدو أن الكلمات تجعل ابني ينام؛ إنه يقظ، عازم على معالجة أي شيء جديد قد نتعلمه. يتسلل قطنا إلى الغرفة عبر باب الخزانة. لقد وجد طريقه، كما يفعل عادة، من خلال مساحة  التي تمتد عبر الدور العلوي، والمرآب الملحق، إلى الخارج. يقفز على السرير الذي نجلس فيه، ويتسلل من أمامنا، ويحتك فروه بنا بالتناوب وهو يشق طريقه حتى النهاية. يعجن نقطة ساخنة وسرعان ما يلتف على نفسه ويخرخر بهدوء. يحب ابني أن يصبح سريره مكان الراحة المفضل لقطنا. بمجرد أن أغلقت الكتاب، قال لي:

- أغلقي الباب يا أمي.

أفعل ذلك، ومن الجانب الآخر سمعته ينزلق من السرير الذي وضعته فيه، ويغلق باب الخزانة بقوة، ثم يدلف مرة أخرى بين الأغطية.الآن القط  محاصر في الغرفة، ولا يوجد ممر سري إلى عالم الليل بالخارج. على الأرجح أنه لم يدرك هذا بعد. وأتساءل كم من الوقت سوف يدلل ابني ويتحمل مداعبته المستمرة.إنهما يرقدان الآن، جسدان دافئان ملتصقان ببعضهما البعض: أحدهما يخرخر، والآخر يمسد، وسرعان ما يرتعش ويحلم.

(النهاية)

***

.........................

* المؤلفة: جيسيكا تريت/ Jessica Treat ولدت جيسيكا تريت في كندا ونشأت في نيو إنجلاند وإسبانيا. وهي مؤلفة ثلاث مجموعات قصصية، بما في ذلك "أكلة اللحوم" و"أكلة النباتات". تم نشر قصصها ومقالاتها وقصائدها النثرية وترجماتها على نطاق واسع في مختارات ومجلات أدبية. وهي حاصلة على جائزة زمالة الفنان لمزيد من العمل في مجال الخيال من لجنة CT للفنون، وجوائز زمالة الفنان من Fundacion Valparaiso وCivitella Ranieri. وهي أستاذة اللغة الإنجليزية في كلية نورث وسترن كونيتيكت المجتمعية، حيث تقوم بتنسيق مهرجان ماد ريفر الأدبي السنوي، وتشارك في رئاسة لجنة التخطيط الثقافي، وتعمل كمستشارة لأعضاء هيئة التدريس للنادي الإسباني.

** ترايسيراتوبس:هو جنس من الديناصورات السيراتوبسيانية التي عاشت في أواخر عصر ماستريخت في أواخر العصر الطباشيري، حوالي 68 إلى 66 مليونًا.

 

بقلم: أرتير ريمبو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

بلباس أسود في الثلج وفي الضباب

وعند الكوّة المتقّدة،

مؤخّراتهم دوائر،

*

على ركبهم، خمس أطفال صغار، يا للبؤس!-

ينظرون إلى الخبّاز يُعِدّ

الخبز الأشقر الكبير.

*

يرون الذراع القويّة تدير

العجين الرماديّ وتدفعه

في ثقب يتّقد نارا.

*

يسمعون صوت الخبز اللذيذ ينضج.

والخبّاز بابتسامته العريضة

يدندن بلحن قديم.

*

متحاضنون، لا أحد يتحرّك،

على نَفَسِ الكوّة الحمراء

الساخنة مثل ثدي.

*

عندما، في منتصف الليل،

على شكل كعك، متوهّج، أصفر

يُخرج الخبز من الفرن،

*

عندما، تحت الأخشاب المدخّنة

تغنّي الرقاقات المعطّرة

والصراصير،

*

وعندما يتنفّس الثقب الدافئ الحياة،

أرواحهم مسرورة جدّا

تحت ثيابهم الرثّة

*

يشعرون برضا العيش،

الصغار المساكين! يلفّهم البرد،

أن يَكونوا هنا، جميعا

*

يلصقون أنوفهم الوردية الصغيرة

بالشّبيكة، ينخرون أشياء

بين الثقوب

*

بكلّ حمق، يصلّون

ومُنْحَنُون نحو هذه الأضواء

للسماء المفتوحة،

*

بشدّة حتّى تمزيق سراويلهم

و قميصهم الأبيض يرتعش

في ريح الشتاء.

***

"المذعورون"أرتير ريمبو، الكراس الأول لدواي، (11) مارس - اكتوبر 1870.

...........................

 

Les Effarés

Noirs dans la neige et dans la brume,

Au grand soupirail qui s'allume,

Leurs culs en rond,

*

À genoux, cinq petits, - misère ! -

Regardent le Boulanger faire

Le lourd pain blond.

*

Ils voient le fort bras blanc qui tourne

La pâte grise et qui l'enfourne

Dans un trou clair.

*

Ils écoutent le bon pain cuire.

Le Boulanger au gras sourire

Grogne un vieil air.

*

Ils sont blottis, pas un ne bouge,

Au souffle du soupirail rouge

Chaud comme un sein.

*

Quand pour quelque médianoche,

Façonné comme une brioche

On sort le pain,

*

Quand, sous les poutres enfumées,

Chantent les croûtes parfumées

Et les grillons,

*

Que ce trou chaud souffle la vie,

Ils ont leur âme si ravie

Sous leurs haillons,

*

Ils se ressentent si bien vivre,

Les pauvres Jésus pleins de givre,

Qu'ils sont là tous,

*

Collant leurs petits museaux roses

Au treillage, grognant des choses

Entre les trous,

*

Tout bêtes, faisant leurs prières

Et repliés vers ces lumières

Du ciel rouvert,

*

Si fort qu'ils crèvent leur culotte

Et que leur chemise tremblote

Au vent d'hiver.

***

Les Effarés, Arthur Rimbaud, 1er cahier de Douai, (XI), mars/octobre 1870

 

بقلم: فيليب تيرمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

هذا ما تركني معه والداي -

الكلمة التي نفكر بها

حين ننطق بأي كلمة غيرها،

الكلمة التي نريد أن تكون

شيئا أعلى من الكلام، والكلمة التي أحملها

بين بقية المفردات

منذ ولادتي وحتى مماتي، الكلمة

التي أضطرب من الإعلان عنها،

وأختار التكتم، وربما أذكر

أول حرف منها ثم أنسحب إلى الخلف

وأتحد بالصمت. ولكن ها هي:

مطبوعة على جواز سفري، تخاطر بنفسها

كلما عبرت بها من بين رجال الأمن،

وكلما  أرادت أن تنتشر وتسافر

من بلد إلى الذي يليه. لماذا،

بعد كل هذه الرحلات، تريد فجأة

أن ترفع صوتها وتذكر اسمها بنغمة كأنها

تدل على الفراق؟ لماذا لا نفهم -

هذا التودد، هذه التحية، هذا السلام؟.

***

........................

* العنوان الحرفي للقصيدة "شالوم هو اسمي الأوسط"، وقد أرسلها لي الشاعر ردا على تهنئتي له بالعام الجديد. ومن الواضح أنه يبكي ويذرف الدموع على ما يجري في غزة. أرسل لي أيضا قصيدتين باللغة العربية لشاعر من غزة هو ناصر رباح. ولابنته التي تبلغ من العمر 25 عاما ولكن لا أعرف اسمها. وكتبت له فورا إنني لست مع حل الدولتين. وإلا وصلنا لسيناريو كوريا الشمالية والجنوبية أو لسيناريو الستار الحديدي الذي هدمه غورباتشوف. واخترت علنا النموذج الجنوب الإفريقي.. دولة ديمقراطية واحدة تضم الجميع ويحسم شكل حكومتها صناديق الاقتراع.

لم يرد. حل الدولتين برأيي نكسة ثالثة بعد هزيمة 48 و67. ولو أنه مقبول لماذا رفضنا التقسيم بعد أول حرب في فلسطين. ولماذا رفضته مصر والسعودية يوم أعلن مؤتمر الخرطوم عن سياسة الـ 3 لاءات: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف. وأتذكر اليوم جيدا كلام طبيب مستوصف حكومي فلسطيني كان صديقا للعائلة، اسمه الأول فانوس. قال للوالد تعلمنا من الهزيمة أكثر مما تعلمته إسرائيل من انتصاراتها. ونصحني بقراءة "فجر الإسلام" لأحمد أمين. على فكرة الدكتور فانوس شاب ماركسي. اختفى من حياتنا مثلما اختفى البيت الذي كنا نجتمع فيه، والمستوصف الذي كان يديره. فقد خربتهما داعش عام 2014. ويذكر شهود عيان أن شباب داعش كانوا من الرقة ويحملون بواريد روسية الصنع "كلاشينكوفات" وليس البواريد الإمبريالية الأمريكية.   

قصة: أليس بيالسكي

ترجمة: د. محمدعبد الحليم غنيم

***

اتفقنا على الالتقاء في مترو الأنفاق في باغراتيونوفسكايا للذهاب معًا إلى جوربوشكا لمشاهدة فرقة بانك سيبيرية. وأوضح جروموف كيف يمكنني التعرف عليه:

- أنا أرتدي نظارة، وهي ملفوفة بسلك على جسر أنفي ، حسنًا، ولدي لحية.

قلت بسعادة:

- أنا أيضًا أرتدي نظارة، نظارتي الشمسية. نظارتي مكسورة أيضًا. ستتعرف عليّ الفور.

لقد كانت الحقيقة، كان من المستحيل أن يفتقدني، لقد برزت وسط الحشد.

عندما بدأت مرحلة موسيقى الروك أند رول في حياتي، كان أحد أهم الأهداف التي حددتها لنفسي هو تصميم صورة. الصورة تحدد كل شيء. كانت السترة الجلدية السوداء، والجينز الأسود الضيق، والأحذية القتالية، والشعر الذي يقول: "لقد تعرضنا للقصف للتو - حاولت الهرب واستخدمت رأسي كمكابح" والنظارات الشمسية الداكنة التي يتم ارتداؤها طوال العام هي عناصر إلزامية لأي شخص يحترم نفسه. الروك. كان فخري وفرحتي هو زوج من النظارات السوداء للدراجات النارية التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية. وهذه هي القصة وراءهم: بعد أن قلبت المنزل رأسًا على عقب أثناء بحثي عن ملابس الروك المناسبة، حان الوقت لمداهمة شقق الجدات والعمات والأصدقاء الذين كانوا بعيدين عن حياة الروك أند رول،أي أولئك الذين يوافقون على إعطائي خرقًا قديمة لا أحد يحتاج. سوبا، صوفيا، جدتي لأبي، كان لديها مكان تخزين كبير إلى حد ما في شقتها. لقد صرحت ذات مرة عن طريق الخطأ، ثم ندمت بعد ذلك على ذكر أنها احتفظت بالعديد من غنائم الحرب التي أخذها الجد ماتفي من الحرب العالمية الثانية.

فكرت:

- لقد كان في معركة برلين، بعد كل شيء. لا بد أن يكون هناك الكثير من الأشياء القيمة هناك.

وهكذا ذهبت. صعدت إلى مكان التخزين على صوت صرخات صوفيا اليائسة القادمة من الأسفل. "عدد لا يحصى من الماس يتألق في الكهوف الحجرية". وبالفعل اكتشفت كنزاً حقيقياً. القبعات والقبعات ومعطف من الصوف وبدلة من الحرير الأبيض وسترة عسكرية على غرار ستالين، لا أستطيع حتى سرد جميع العناصر التي وجدتها. لكن النظارات الشمسية الداكنة كانت أهم اكتشاف على الإطلاق. كانت النظارات الأصلية التي يستخدمها سلاح المشاة الألماني المتنقل: كبيرة جدًا لدرجة أنها غطت عيني بالكامل، حتى على الجانبين، بعدسات داكنة للغاية. كانت تلك النظارات لا تقدر بثمن: لم يكن لدى أحد شيء مثلها وكانت رائعة. عندما ارتديتها في الشارع، بملابس سوداء، وشعري داكن اللون، تفرق الحشد. ولكن سرعان ما وقعت الكارثة. انزلقت النظارة من يدي وتشققت إحدى العدسات. دمرت،قمت بزيارة مارينا وجليب، أعز أصدقائي والمقربين مني، للتخلي عن الكرة المجنونة التي لم تتح لي الفرصة حتى لإنشاءها. نشرب لتكريم ذكراهم. فكر جليب في الأمر، ثم أخرج لفافة من الشريط اللاصق الأبيض، وهو لاصق يترك بقايا من الغراء على يديك، وألصق العدسة المتشققة بشريطين متداخلين قطريًا. وبينما أضعف ذلك رؤيتي، فقد أضاف أيضًا عناصر الخطر والمغامرة الضرورية إلى صورتي. الآن لم يهرب الجميع مني فحسب، بل تخلوا أيضًا عن مقاعدهم في وسائل النقل العام. لم يجادلني أحد، جامعو التذاكر في مترو الأنفاق وعمال النظافة في المتاجر لم يصرخوا في وجهي، لم يوبخني أحد.

من ناحية أخرى، كانت قصة رجال الشرطة مختلفة تمامًا. كانوا يوقفونني بين الحين والآخر ويطلبون بطاقة الهوية. في تلك الحالات، خلعت النظارات، وأخرجت جواز سفري وتحدثت إليهم بصوتي الذكي وحسن التصرف كفتاة من عائلة جيدة. وكانوا يسمحون لي دائمًا بالرحيل. وبطبيعة الحال، كان ذلك تعبيراً عن الانصياع من جهتي، وقد عاتبني بعض أصدقائي على ذلك قائلين: "أي نوع من التمرد هذا إذا كنت تتجولين حامللة بطاقة هويتك وتقدمين أوراق إقامتك في موسكو عند الطلب؟"

- ولكن ماذا علي أن أفعل، إلى جانب ضرب الرأس بالهراوة عندما يُطلب مني الحصول على بطاقة الهوية؟

ومع ذلك، وعلى الرغم من هدوئي الشديد، إلا أنني شعرت أنني أفتقر إلى بعض التفاصيل التي من شأنها أن تجعل إطلالتي فريدة من نوعها. ضربة الفرشاة النهائية.

لفترة طويلة، ربما لمدة عام أو نحو ذلك، كنت أجمع دبابيس ذات طابع سوفياتي. كان تخصصي في الغالب لينين. كان لدي الكثير من لينين الصغار! زهرة-لينين، بوتون-لينين، لينين الصغير على دبوس شعر (مشبك شعر عليه رأس لينين صغير)، لينين مثلثي، لينين مربع، لينين على شكل ماسة، كرة – مجموعة لا نهاية لها. وبصرف النظر عن لينين، كنت أحب الميداليات ذات الطابع الشيوعي. أصبحت تلك الميداليات مجال خبرتي. ومن بين كل هؤلاء، كان آل جاجارين الأكثر روعة. كان لديهم وشاح صغير عليه عبارة "أول رائد فضاء في العالم" ويتأرجح على الميدالية جاجارين مبتسمًا يرتدي خوذة فضائية. ممتاز! كان لدي ما لا يقل عن عشرين من هؤلاء الجاجارين. لم أستطع مساعدة نفسي. اشتريت كل ما في المتجر. وسأقدمها لاحقًا كهدايا للأصدقاء. لقد علقتها على صدري، حوالي خمسة أو ستة منها - واحدة فقط أكثر من عدد الأوسمة التي كان يحملها بريجنيف. حسنًا، حسنًا، كان هناك عدد قليل من دبابيس لينين هنا وهناك من أجل ترك انطباع وصورة ضخمة لـ بي.جي. الذي علق على صدري كالصليب.

في مساء يوم 4 مايو، وجدت نفسي في وضع معقد إلى حد ما. كنت قد خططت للذهاب إلى مهرجان البانك، الذي كان من المفترض أن يستضيف مشهد البانك بأكمله في موسكو، وبالتالي كنت بحاجة إلى ارتداء الملابس وفقًا لذلك. لكنني رتبت أيضًا للقاء جروموف هناك. لقد كان أحد صحفيي موسيقى الروك الرائدين في البلاد، ورئيس تحرير صحيفة جونزو تحت الأرض، النسخة الروسية من رولينج ستون. كنت أحلم بأن أصبح صحفيًة لموسيقى الروك، وكنت مهووسة بذلك، لذا كنت بحاجة إلى ترك الانطباع الصحيح لدى جروموف.

استعدادًا للقاء المهم، كنت أستعد لساعات أمام المرآة. وبشكل عام، كنت مسرورة بمظهري. لكن كانت لدي شكوك حول أيقونة جريبنشيكوف. من المؤكد أن الأشرار سينظرون إلى الأمر بشكل سلبي، لكنني لم أهتم بهم، كان بإمكاني أن أفعل وأرتدي ما يحلو لي.

من ناحية أخرى، قد يظن جروموف أنني مجرد فتاة صغيرة غبية، بي جي أخرى ذات أنف مخاطي. جماعي، ولا يأخذني على محمل الجد. ولهذا السبب واصلت ارتداء القلادة ثم خلعها. قررت أخيرًا أن أرتديها، وإذا لزم الأمر، سأخلعها بسرعة قبل اللقاء.

التقينا على الرصيف. تبين أن جروموف كان رجلاً نحيفًا وشعره طويل – ممسحة من الشعر الملون بالقش ولحية حمراء كثيفة. كان شعره يتطاير مع النسيم، وبرزت لحيته، وابتسم فمه الأحمر آكل اللحوم. ومع ذلك، كان من الممكن أن تكون عدسات نظارته رمادية اللون ومربوطة بالأسلاك، حيث كان طوله فوقي 1.90 مترًا؛ كان من الصعب جدًا معرفة ذلك. وتخيلت أننا كنا رفقاء الروح مع نظارات مكسورة متطابقة . كان يرتدي ملابس عادية إلى حد ما، ولم يكن هناك أي شيء استفزازي للغاية. ولكن عندما رآني أصيب بالذهول. انخفض فكه ونظر إلي لبضع لحظات دون أن يقول كلمة واحدة. لقد استمتعت بالانطباع الذي تركته، ولم أتعب من ذلك أبدًا. لم يكن صوتي وطريقة كلامي تشير إلى المخلوق الذي سيواجهه، وهو وحش هرب منه الجميع.

سأل جروموف بمسحة من السخرية:

- نعم، أرى أن نظارتك مكسورة بالفعل. كيف يمكنك رؤية أي شيء من خلالها؟ إحدى العدسات مثبتة بشريط لاصق وشعرك يغطي الأخرى...

أجبته:

- عندما تفقد حاسة البصر لديك، تصبح الحواس الأخرى أكثر حدة. علاوة على ذلك، أنا أتدبر أمري.

كنا بالفعل على المصعد الكهربائي، نصعد. وكان الجميع ينظرون إلينا. بدا  الأمر غير مريح.

- إنه الليل، والجو مظلم في الخارج. ألا تريدين خلع نظارتك؟

- مُطْلَقاً. أنا لا أفترق عنها أبدًا. حتى أنني أنام بها.

- حسنًا، اعتني بنفسك. لكنني أنصح بخلع جريبنشيكوف. لن يعجبك المشهد هناك،  وعلى أية حال، فهو لا يتماشى مع بقية مظهرك. هذا لا يصلح.

اللعنة، فكرت، لقد نسيت خلعه، كم هو متخلف! الآن يعتقد أنني حمقاء وأن البناكس سيسببون لي المتاعب بسبب ذلك أيضًا. لكنني لم أرغب في إظهار الضعف ولذلك  ظل ب.ج.  على رقبتي مثل طائر القطرس.

تجمع أفراد البانكس عند على الممرات المؤدية إلى جورباشاكا. لقد كان ذلك رائعًا حقًا: الموهوك الملون، والوشم، وأقراط الأنف. وكيف فعلوا ذلك! وكل هذا في منتصف السبق الصحفي العميق. لا أستطيع أن أتخيل كيف تمكنوا من الوصول إلى هنا؛ عادةً ما تقوم الشرطة بسحب أي شخص يرتدي الجينز الممزق والموهوك من بين الحشد ويأخذونه على الفور إلى مركز الشرطة، حيث يقومون بتفتيشه في الظلام ثم رميه في حظيرة القردة..

وصلنا مبكرًا نظرًا لأن جروموف كان أحد منظمي المهرجان، وتوجهنا على الفور إلى الكواليس. شعرت كما لو أنني قفزت عبر الزمان والمكان ووجدت نفسي فجأة في لندن، حوالي عام 1977. الموسيقيون - بشعر طويل أو برؤوس حليقة، يرتدون الجينز والجلد، مثقوبون بشكل كبير، وجميعهم في حالة سكر، مع القيثارات ولوحات المفاتيح وآلات موسيقية. لميكروفونات - تتنقل من غرفة تبديل الملابس إلى أخرى. كان هناك الكثير من النساء في الجوار: مجرد فتيات وكبيرات في السن أيضًا، يضعن المكياج والعطور ويشعرن بجو من العاطفة. عرّفني جروموف إليهن:

- هل لي أن أقدم لك أليسيا وايت سوان - صحفية ناشئة.

اقترب مني وهمس في أذني بابتسامة متعجرفة:

- أعتقد أن هذا أفضل بكثير. أنت بحاجة إلى اسم مستعار يلفت الانتباه. الى جانب ذلك، بلان باللغة الروسية يعني الأبيض. إنه يناسبك.

نظرت إليه فى ذهول: لم أعرف بماذا كان يفكر، لم أبدو كالبجعة البيضاء على الإطلاق. لكنني لم أحمل اهتمام جروموف لفترة طويلة. كان يصرف انتباهه رجل طويل القامة، نحيف للغاية، يبلغ من العمر حوالي 25 عامًا، ذو شعر أسود طويل.

- أوه، إنه مصمم الجرافيك لدينا. أنا في حاجة ماسة إليه. ساشا، انتظري!

وبهذا اختفى رفيقي عن الأنظار.

بقيت في نفس المكان لفترة من الوقت، حتى أدركت أن جروموف لا بد أنه ذهب للقيام بواجباته كمنتج للحدث وأنه يجب علي أن أتدبر أمري بمفردي..

بذلت الفرق السيبيرية قصارى جهدها، لكن أداءها كان سيئًا وكانت كلمات الأغاني غير واضحة. لكن الديسيبل والتستوستيرون خرجا عن نطاقهما، وتدفقت الكلمات البذيئة من المسرح في تيار مستمر، مما غرس الفرح في قلوبنا، المخدرة من البرد السوفييتي. كان بعض البانكس المحملين بالبيرة يبذلون قصارى جهدهم.

بعد الحفلة وقفت بخجل عند المخرج ولم أعرف ماذا أفعل: هل يجب أن أسير إلى مترو الأنفاق وحدي، أم أنتظر جروموف أم أذهب للبحث عنه خلف الكواليس؟ وذلك عندما ظهر فجأة خلفي.

سألنى:

- إذا بماذا فكرت؟

أجبته وأنا أزن كلماتي بعناية:

- إنهم هواة.أنا صحفية موسيقى الروك على أية حال، حتى لو كنت في البداية.

- وإلى جانب ذلك، أنت تعرفين نجاحهم الكبير، "في منزل الجدة": "يا جدتي، أنت مثيرة جدًا/ أنت تفردين عجينة البسكويت/ وتنزلين لتنفخى .هذا كلام سخيف. أنت لا تقول ذلك. إما أن تسقط عليك أو تضربك.

يا إلاهي! هذا هو الاتحاد السوفييتي عام 1988 ـ مملكة النفاق البيوريتاني. عمري 18 وما زلت عذراء. لم أتلفظ بهذه الكلمات مطلقًا طوال حياتي ولكن ها أنا ذا أناقش بشكل عرضي الجنس الفموي مع شخص غريب عمليًا يجب أن يكون أكبر مني بعشر سنوات! ومع ذلك،يبدو أنني أبهرته بتطوري وعدم مبالاتي، لأنني لاحظت أنه كان ينظر إلي بفضول.

- نعم. لقد أخطأوا قليلاً في الجزء المتعلق باللغة. لكنهم في النهاية بانكس، والشيء الرئيسي هو قوتهم التعبيرية. هل تحب موسيقى البانك؟ ماذا تستمع إلى على أية حال؟ وبصرف النظر عن "حوض السمك" بالطبع.

- ليست أكويريوم بفرقتي المفضلة على الإطلاق. هذه هي "أصوات مو"! بيتيا عبقري !!! لقد شاهدت جميع حفلاتهم هذا العام.

- فلماذا لا تعلقين مامونوف بدلاً من جريبنشيكوف على رقبتك؟

- بادئ ذي بدء، ليس لدي صورة لمامونوف، وعلى أي حال، لا أحد يعرف من هو. من ناحية أخرى، بي جي مشهور ولهذا السبب يشعر الجميع بالغضب الشديد عندما يرونه. وإذا كان لدي مامونوف على رقبتي، فسيبدأون في طرح أسئلة مثل "من هو هذا الرجل؟" فهمت؟ سوف يضيع التأثير كله.

انفجر جروموف ضاحكًا.

- التأثير... أنت مجرد مراهقة سخيفة، تصرخ وتغضب من رؤية نجمك المفضل. أنت مجنونة حقًا بجريبنشيكوف أو تسوي ...

- أنت لا تفهم، تسوي هو...

- بالطبع لا أفهم. إنها خصيتى التي تعترض طريقي. يتمتع بجاذبية جنسية قوية تعمل على المبيضين أو في أي مكان تتشكل فيه الهرمونات.

- كما صرخت الفتيات وبكين في حفلتي "البيتلز" و"رولينج ستونز"، لكن ذلك لم يمنعهن من أن يصبحن أفضل فرق الروك.

- بالتأكيد، لكن كلتا الفرقتين سئمتا من المعجبين لدرجة أنهما توقفا عن العزف المباشر وحبسا أنفسهما في استوديوهات التسجيل. ومن ناحية أخرى، يستمتع تسوي بكل هذه الضجة...

مشينا إلى منزله للاستماع إلى بعض التسجيلات المهمة للغاية؛ تلك التي كان عليك معرفتها قبل كتابة أي شيء عن موسيقى الروك.

لقد غرقت فى الصمت. ورغم كل جهودي في الظهور بمظهر جدي وهادئ، ورغم معرفتي بالجنس الفموي، إلا أنهم وصفوني بالفتاة الجاهلة واتهموني بأن لدي رحمًا أيضًا.

نظر جروموف إلي وضحك .

- أوه، لقد صنعت وجهًا. مثل طفل رضيع... فلنخلع النظارات، لأن والدي في المنزل. إنه أستاذ، كما تعلمين، ومحاضر في جماليات العصور القديمة - ربما يشعر بالذهول.

انحنى وخلع نظارتي، وأزال الشعر عن وجهي.

- نسيم خفيف من الحقول... نضارة...

انحنى نحوي وأخذ نفسًا عميقًا.

- انتظرى، ما هذه الرائحة؟ الزهور البرية. كيف قال بونين ذلك؟

وينبعث منهما جمال خجول،

عزيز على القلب والعين

يتحدثان عن الأيام المنسية

الأيام مشرقة.

لم يتفاجأ البروفيسور داد على الإطلاق بأن ابنه أحضر فتاة غريبة إلى المنزل في منتصف الليل. تركني جروموف وحدي معه بينما كان يرتب غرفته بسرعة، وقد أجرينا بالفعل محادثة ممتعة للغاية. كان الأستاذ ساحرًا للغاية، ومليئًا بسحر العالم القديم. لاحقًا استمعنا أنا وجروموف إلى بينك فلويد وتي ريكس على أسطوانة قديمة مكونة من 8 مسارات. كانت جميع الألبومات على بكرات مغناطيسية، وكان إدخالها في الآلة يتطلب قدرًا لا بأس به من المعرفة والخبرة. لقد كانت طقوسًا، نوعًا من المراسم المقدسة.

لقد فقدت بوصلة الوقت. كان هذا الرجل الأكبر سنًا، سلطة حقيقية في مجاله - يمكنك حتى أن تسميه أسطورة، وكان يجري محادثة حقيقية معي كما لو كنا متساوين. كان لديه مجلته الخاصة تحت الأرض، وقام بتنظيم مهرجانات موسيقى الروك البديلة، وتم القبض عليه من قبل الشرطة، حتى أن المخابرات السوفييتية لاحقته. أخبرني أنني أبدو مثل البجعة وأن رائحتي تشبه رائحة البنفسج أو زهور النسيان أو أي زهرة برية أخرى. تلا بونين وسيد باريت. كان هاتفه يرن لكنه أخبر الجميع أنه مشغول، ولا يستطيع التحدث، ثم عاد إليّ. كان رأسي يدور…

سألني جروموف فجأة:

- كيف ستعودين إلى المنزل؟ لقد فات الوقت بالفعل. المترو لا يعمل.

- واو، بالفعل اثنان!

شعرت بالرعب لأنني لم أتصل بالمنزل ولم أحذر أمي من أنني سأتأخر. لقد علمت أنني ذهبت إلى حفل موسيقى الروك بملابسي، والآن حل الليل، وما زلت غير موجودة. من المحتمل أن أمي لن تنام، إنها تصاب بالجنون، وتعتقد أنهم أخذوني إلى مركز الشرطة. لكن هل اتصل بها؟ في حضوره ؟ أظهر له أنني لست شخصًا مستقلاً مسؤولاً أمام والديه؟ مستحيل!

سأل جروموف غير مبال:

-  هل ترغبين في البقاء معى؟ أستطيع أن أرتب لك سريرا على الأريكة.

-  لا، لا، سأعود إلى المنزل، بسيارة الأجرة.

- أين تعيشين؟

- في ساحة كراسني فوروتا، شارع ستروباسمانيا.

- في المركز مباشرة؟ سيكلفك ذلك عشرين روبلًا على الأقل.

- لا بأس. لدي نقود.

- حسنا، كما يحلو لك. سأرافقك.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: أليس بيالسكي/ Alice Bialsky ولدت أليس بيالسكي في موسكو، وهاجرت إلى إسرائيل عام 1990 عندما كانت في العشرين من عمرها. درست بيالسكي السينما والتلفزيون في جامعة تل أبيب. أخرجت عددًا من الأفلام الوثائقية التي تم بثها في إسرائيل والخارج. "التاج ليس ثقيلًا" هو أول ظهور أدبي لها. ولدت أليس بيالسكي في موسكو لأبوين يهوديين منشقين، في عام 1968، وهو العام الذي سحقت فيه الدبابات السوفيتية ربيع براغ. هاجرت إلى إسرائيل عام 1990 ودرست السينما والتلفزيون في جامعة تل أبيب. أخرجت عددًا من الأفلام الوثائقية التي تم بثها في إسرائيل والخارج.كانت رواية "التاج غير الثقيل" أول رواية لبيالسكي. ظهرت لأول مرة باللغة الروسية في عام 2011، ونشرتها شركة Eksmo. في عام 2014، نُشرت الترجمة العبرية والمقتبسة لاقت استحسانًا واسع النطاق من النقاد، واعتبرت بمثابة عمل رائد في الأدب الإسرائيلي المعاصر. تم اختيارها كواحدة من أفضل الروايات الإسرائيلية الأولى في القرن الحادي والعشرين من قبل صحيفة يديعوت أحرونوت، وحصل بيالسكي على منحة كتابة للروائيين لأول مرة من قبل مكتبة إسرائيل الوطنية. نُشر كتاب بيالسكي الثاني بعنوان "أشخاص زائدون عن الحاجة" باللغة العبرية في عام 2018. وفيه، عادت إلى أبطال رواية "التاج ليس ثقيلًا" وتحكي قصة حياتهم قبل سنوات عديدة من انهيار الاتحاد السوفييتي.

 

قصة: ماتيلد مرواني

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في أول يوم لي في المدرسة الثانوية، ذهبت مبكرًا مع أمي. كلانا يرتدى ملابس أنيقة. اشترت لي أمي بنطال جينز جديدًا بحزام سلسلة وركبتي ممزقة، حتى أنها أخذتني إلى مصفف الشعر وقالت إنني أستطيع الحصول على خصلات شعر في شعري.وسمحت لي بوضع أحمر الشفاه.فستانها يتطابق مع قميصي.عند البوابات طلبت من أبي أن يلتقط لنا الكثير من الصور.

المدرسة خالية.أنا وأمي نلقي التحية على المعلمين ومدير المدرسة،وهم لطيفون جدًا. يقولون جميعًا إنني أشبه أمي كثيرًا وأنهم سمعوا أنني كنت ذكيًا حقًا. أنا احمر خجلا وابتسم. شيء آخر يقولونه هو أنني طويلة جدًا بنفس الطريقة التي يقول بها الجميع دائمًا أنني طويلة جدًا. يسألني المعلم كم عمري. أقول إنني في العاشرة من عمري ولكني سأبلغ الحادية عشرة في الشهر المقبل. أنظر إلى أمي بينما أتكلم. يقول المعلم عشرة! يقول المعلم إنني أبدو وكأنني في الرابعة عشرة من عمري. تقول أمي يومًا ما سأكون امرأة طويلة، امرأة طويلة جدًا، وضغطت على يدي.

أتناول الغداء مع أمي وجميع المعلمين ويتحدثون عن الرحلات المدرسية إلى الخارج. هناك رحلة في مارس إلى فرنسا وأخرى في مايو إلى إسبانيا، وأسأل أمي إذا كانت ستذهب في رحلة إلى مدريد، فتهمس بنعم وتبتسم.

يصل جميع الأشخاص الآخرين في الساعة الثانية بعد الظهر. لقد تم وضعنا في مجموعات وألوح وداعًا لأمي ووجدت جولييت ومالوري وأخبرتهم أن والدتي تأكدت من أننا في نفس الفصل ويقولون إن الأمر رائع جدًا لأننا لا نعرف أي شخص آخر. في الممرات يلقي المعلمون التحية علي ويسألني الناس كيف أعرف الجميع وأقول إنني أعرف الكثير من الناس. نتحدث أنا ومالوري وجولييت عن كيف سيكون هذا العام رائعًا.

في مرحلة ما في منتصف العام الدراسي، تتوقف أمي عن الذهاب إلى المدرسة. بدأت بالنوم في المكتب بالطابق السفلي وأتساءل عما إذا كان والداي سيحصلان على الطلاق لأن مالوري قالت إن والديها كانا ينامان في غرف منفصلة قبل الطلاق. عندما تتحدث مالوري عن طلاق والديها، تقول دائمًا إن كل ذلك بسبب تلك العاهرة. وأنا وجولييت نتفق على أن كل ذلك بسبب تلك العاهرة. في المنزل، أنا لطيف حقًا، ولا أقول سوى أشياء لطيفة حتى يشعر والداي بالرضا، وربما لا يحتاج والدي إلى الطلاق. على الرغم من أنه إذا كانت هناك عاهرة، فلا أعتقد أن هناك الكثير الذي يمكنني فعله بخلاف معرفة من هي العاهرة.

تقضي أمي الكثير من الوقت على الأريكة في غرفة المعيشة، ويحضر لها الأب الطعام على صينية، وهي من الصعب إرضاءها عند تناول الطعام. إنها تريد قطع طعامها لها وتريد أن يكون كل شيء سهل الأكل. نشاهد برنامج الاكس فاكتور معًا كما نفعل كل ليلة سبت، لكن عندما أحضر لها شيكولاتة مارس كما أفعل دائمًا في ليلة السبت، تقول لا، تقول إن ذلك سيجعلها تشعر بالمرض وتبدو منزعجة. ثم في ليالي السبت الأخرى لا تشاهد وهي تنام فقط. وعندما أغني معها تتنهد وتستدير لذا أتوقف عن الغناء. وفي إحدى المرات قبلتها ليلة سعيدة وهذا أيقظها وأخبرتني عن إيقاظها. ما يعنيه ذلك هو أن والدي يجب أن يوصلني إلى المدرسة الآن ولا يمكننا استخدام موقف سيارات المعلمين الآن وعلينا أن ننتظر في الطابور مع جميع الأشخاص الآخرين الآن.

في المدرسة يسألني الجميع أين أمي وكيف حال أمي. يجدني تلاميذها في ساحة اللعب ويقولون إنك ابنة السيدة هيل، أليس كذلك؟ هل يمكنك أن تقولى لها أننا نقول مرحبا؟ أخبريها أيضًا أن معلمة العرض سيئة للغاية وأننا نفتقدها! هل يمكنك أن تقولى لها؟ من أفيفا كليو وأبيجيل. هل ستخبرينها؟ أفيفا كليو وأبيجيل. أكرر أسميهما في رأسي طوال اليوم. يتحدث المعلمون بأصوات هادئة في نهاية الفصل ويسألونني إذا كانت ستعود وإذا كانت بخير. أقول ما قيل لي أن أقول. أقول أنها مصابة بعرق النسا. يومئ المعلمون ويقولون نعم، عرق النسا سيء حقًا وأنا أقول نعم، عرق النسا سيء حقًا.

في إحدى الليالي، عرضت على أمي واجباتي المدرسية باللغة الإسبانية، فأظهرت لي فتحتين محترقتين في فروة رأسها حيث لا يوجد شعر. لقد أظهرت لي الأوشحة. يصل شعر مستعار عبر البريد وهو أجمل بكثير من شعرها الحقيقي لأنها شقراء. لقد فقدت وزنها وأخبرتها أنها تبدو جيدة. تقول أنه يمكنني الحصول على أي عدد أريده من شيكولاته مارس. أنا آكل أربعة.

توضع الواح شيكولاتة مارس دائمًا على أطباق بنية اللون. وعندما أشرب عصير البرتقال، يجب دائمًا أن أشربه من الكوب ذي الخطوط البرتقالية، وإذا أعطاني أحدهم عصير برتقال من الكوب ذي الخطوط الزرقاء، أرميه في الحوض عندما لا ينظر. اللون الأزرق هو الماء، ولا أستطيع أن أضع عصير البرتقال في كوب الماء. أنا دائمًا أعطي أمي أدوات المائدة الصفراء لأن مدرس العلوم قال إن الشمس مع الماء جيدة والشمس مع الماء جيدة والأصفر هو لون الشمس.

أشاهد الحلقات الثلاث من برنامج (المسحوات) كل يوم بعد المدرسة ولا أحد يطلب مني أن أطفئ التلفاز.

أخبرني أبي أن أتوقف عن سؤال أمي عن واجباتي المنزلية باللغة الإسبانية، لكني لا أمانع لأنني أجيدها، أردت فقط التأكد. وعلى أية حال، لم أكن أرغب في السؤال بعد الآن، لأنها الآن عندما تحاول أن تقول أشياء، لا تكون دائمًا واضحة تمامًا. على سبيل المثال، في أحد الأيام أرادت مني أن أحضر لها كوبًا من الماء، لكنها طلبت مني أن أضع علامة على الطريق ولم أفهم ذلك إلا لأنها أشارت إلى الشرب ،تقول أن هناك كيسًا من الماء في دماغها. وأتساءل من أين يأتي الماء.

تغادر أمي المنزل وتذهب إلى المستشفى، وفي المستشفى يوجد الكثير من المقابس فوق السرير والأنابيب أيضًا والأسلاك أيضًا، وتطلب مني أمي أن أتوقف عن شد رموشي. تقول رموشك الجميلة رموشك الجميلة. هناك أيضًا شرفة عالية جدًا ويمكنك رؤية النهر بالأسفل. النهر يلمع، النهر ناعم.

يمكنني مشاهدة المزيد من التلفاز. يمكنني أن أكون على الكمبيوتر طوال الوقت. أخبر جولييت ومالوري بكل شيء كنت أراه وأتناوله، فيشعران بالغيرة ويقولان إنني محظوظة جدًا. يقولون أنه ربما يمكنني أن أطلب المزيد من الأشياء لأن والدي لم يعدا يرفضان ذلك، لذلك أطلب زوجًا من الأحذية الرياضية ويشتري لي أبي أغلى الأحذية، وهي الأحذية الأرجوانية، ثم أطلب لعبة سيمز ويشتري لي اثنين.

بعد ظهر يوم الجمعة، كنت أتناول الآيس كريم أمام التلفزيون وتتصل عمتي فيرجينيا وتسألني عن حالي وأقول إنني بخير. وتقول يا عزيزي أنت لست بخير وأنا أضحك. أقول إن عليّ أن أذهب لأداء واجباتي المدرسية لأنني أريد مواصلة مشاهدة مسلسل المسحورات ، أشعر بالقلق حقًا عندما يبدو أن بايبر ستموت ولكن بعد ذلك ألقت أخواتها تعويذة وأصبحت بايبر بخير وأضع رقائق الشوكولاتة في الآيس كريم الخاص بي.

يأتي عمي بيتر ويعطيني عشرين جنيهًا، ويقوم هو وأبي بإزالة السجادة من المكتب، ويأخذان كل الأثاث ويضعان المشمع على الأرض. إنه مثل الخشب إلا أنه ليس مثل الخشب على الإطلاق. وأتساءل أين ذهب الأثاث. كانت هناك خزائن للكتب ومكتبين وثلاثة كراسي وسرير، وكان الأمر دائمًا فوضويًا للغاية. الآن أصبح كل شيء نظيفًا وقاموا بتركيب سرير في المستشفى ثم أمي في سرير المستشفى. أود أن أعرف مكان جهاز الكمبيوتر لأنني أنشأت للتو عائلة جديدة في سيمز. أنا لا أسأل أين هو في هذه اللحظة.

عندما تصل الجدة، تضع صورة البابا على المنضدة. وعندما يزورني جدي، يأخذها ويعطيني مشغل أم بى ثرى.

في المدرسة أثناء فترات الراحة، سمحت لمالوري وجولييت بالاستماع إلى الأغنية على مشغل أم بى ثرى الخاص بي. عليهما أن تأخذا الأمر بالترتيب لأن هناك سماعاتين فقط. هناك أغنية واحدة فقط على مشغل أم بي ثرى وهي أغنية حزينة، لكن مالوري وجولييت تقولان إنها ليست أغنية حزينة، ولكن ربما يكون ذلك لأنهما لم يسمعاها في أسرتهما عندما يكون الجو هادئًا ومظلمًا.

الآن يتعين علينا دائمًا قضاء فترات الراحة في الملعب. قبل أن نتمكن من التجول في المدرسة وإذا رآنا أي شخص في الممرات، يمكنني فقط أن أقول إنني سأرى أمي، يمكنني أن أقول إنها السيدة هيل.

أحصل على المستوى الأول فى كل اختباراتي ويهنئني المعلمون، لكن السيد بنسون مدرس الرياضيات يسألني عما إذا كانت أمي لا تزال تعاني من عرق النسا عندما يعيد لي امتحاني وأقول نعم. أقول أن عرق النسا سيء حقًا. يقول إنه وضع ملاحظة لها داخل الاختبار وأخبره أنني سأعطيها لها. في البداية اعتقدت أنه ربما يكون عشيقها السري وإذا لم أعطها إياه، فلن يحصل والدي على الطلاق. ولكن بعد ذلك قرأت الملاحظة وجاء فيها أنه يأمل أن تشعر بالتحسن وأن تتصل به إذا احتاجت إلى أي شيء وقام بتدوين عنوانه ورقم هاتفه. مما يعني أنه ليس حبيبها لأنها ستعرف بالفعل مكان إقامته إذا كانت بينهما علاقة غرامية. لذلك أخبرت مالوري أن والدي سيبقيان معًا.

تموت أمييوم الخميس يأتي أبي إلى غرفتي ليخبرني ويبكي على سريري ويعطيني مناديل وهو لا يقول في الواقع إنها ماتت، بل يقول فقط أن الأمر انتهى، لقد انتهى الأمر.

لا أذهب إلى المدرسة يوم الجمعة والاثنين عطلة رسمية. إنه مناسب جدًا للجنازة لأنه تعني أنه يمكن للجميع الحضور. يقول الكاهن شيئًا عن قيام المعلمين بجلب الحشود، وصحيح أن الكنيسة ممتلئة جدًا. كتبت أفيفا كليو وأبيجيل قصيدة لها وقاما بتلاوةها ويقول الجميع يا لها من قصيدة جميلة. وفي المنزل بعد ذلك، أتناول جميع الأطعمة المفضلة لدي مثل البيتزا الصغيرة ولفائف النقانق ومونستر مونش. بعض الناس يقدمون لي الهدايا. امرأة تعطيني أقلامًا لامعة.

الكمبيوتر موجود في غرفة المعيشة الآن وأنا ألعب سيمز طوال يوم الثلاثاء. أجعل الزوجين يمارسان الكثير من الجنس. أنا أجعلهما ينجبان الكثير من الأطفال. أطفال أطفال أطفال. أجعلهم يأكلون كثيرًا حتى يصبحوا سمينين. أشتري اثني عشر سلمًا لحمام السباحة حتى يتمكنوا دائمًا من الخروج.

أعود إلى المدرسة يوم الأربعاء. الجميع يقول أنهم آسفون وأنهم جميعًا طيبون معي. حتى الأشخاص الذين لا أعرفهم، حتى الفتيات الجميلات، حتى الأولاد الوسيمين في صفوف السنوات العليا. الجميع يريد التحدث معي. حتى لوك جلاس.عانقني لوك جلاس وكان قلبي ينبض بسرعة كبيرة وأخبرت جولييت ومالوري أن لوك جلاس عانقني و قد صرن متحمسات جميعًا.

تبدأ معلمة اللغة الإنجليزية درسها بإخبار الفصل بأنني شجاعة جدًا للعودة إلى المدرسة قريبًا، وتطلب من الجميع أن يصفقوا لي، فيصفقون جميعًا وهو أمر لطيف جدًا.

في هذه الأيام يرسل الناس الكثير من الزهور إلى المنزل. دائما الزهور في المنزل.

الغرف رائحتها طيبة.

وكل شيء جميل.

(النهاية)

***

للشاعر

ALMEIDA GARRET

ترجمها عن البرتغالية جميل حسين الساعدي

***

من دلّ النجم على الطريق

الذي يسلكهُ في السمـــاء

أين تعلّم الطائر بناء عشه وفي أيّ زمان

من قالَ للنبتةِ ـ (أزهري)

ولليرقةِ الصامتة

انسجي كفناً لكِ من الحرير

ولفّي الخيوطَ حولك

*

من علّم النحلة أن تطير في المرج

تطنطنُ طالبةَ العسل

لا تفرّقُ بين زهرةٍ

بيضاء أو حمراء

كنتِ كياني يا حبيبتي

وعيونكِ حياتي

وحبّكِ كلّ خيــــري

آه لم يخبرني بذلك أحد

*

كما يدورُ النجمُ في السمــاء

وكما تجري النحلةُ في المرج

وكما مصير كلّ كائن

يكشــفُ عن نفسه غريزيا

جئتُ لأحقّقَ مصيــــري

في صدركِ الإلهـــــي

فأنا لا أعرفُ أن أعيش إلا فيكِ

ولاأستطيعُ أن أموت إلا من أجلكِ

***

........................

* شاعر برتغالي رومانسي مهم ولد عام 1799 في  بورتو وتوفي عام 1854 في لشبونة .بسبب أفكاره الليبرالية قضى الفترة من 1823 الى 1828 في المنفى في كل من انكلترا وفرنسا. أسس المسرح الوطني البرتغالي وكتب مسرحيات نالت شهرة واسعة

.......................

النص البرتغالي

Destino

Quen disse á estrela o caminho

Que ela há-de seguir no cé?

A fabricar o seu ninho

Como é que a ave aprendeu?

Que diz á planta- “Florece!”

E ao mudo verme que tece

Sua mortalha de seda

Os fios que Ihos inreda?

*

Insinou alguém á abelha

Que no prado anda a zumbir

Se á flor branca ou á vermelha

O seu mel há-de ir prdir?

Que eras tu meu ser,querida,

Teus olhos a minha vida,

Teu amor todo o meu bem...

Ai! Não mo disse ninguém.

*

Como no céu gira a estrela,

Como a abelha corre ao prado,

Como a todo o ente o seu fado

Por instinto se revela,

Eu no teu seio divino

Vim cumprir o meu destino...

Vim,que em ti só sei viver,

Só por ti posso morrer

بقلم براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

سعيدة

انها كلمة لا تطلع علينا

الا في اعياد الميلاد

*

اما عن بقية العام،

فكأنها قد رزمت ووضعت في العلية

مع مستلزمات الزينة والأشياء اللماعة،

بانتظار وقتها الذي ستلمع فيه.

*

نادرا ما نخلق مشاكل حولها.

لا نطلقها من اجل ايام الميلاد العادية

او مناسبات الذكرى السنوية؛

لا تتطفل على فرحة اي عام جديد الا بالخطأ.

*

لكنها في اعياد الميلاد

تبرز وهي تفتح عينيها وتغمضهما في الضوء،

بوجنتين حمراوين وبزهو، في حالة مثالية من الانتشاء الخفيف،

مدونة نفسها في بطاقات اعياد الميلاد،

*

تحيـّي الأصدقاء على عتبات الأبواب،

تعانق افراد العائلة قبل ان يخلعوا احذيتهم،

تدفئ الغرباء على الأرصفة المثلجة.

"اعياد ميلاد سعيدة،" هكذا نقول. "اعياد ميلاد سعيدة."

***

........................

* عرف الشاعر براين بيلستن خلال السنوات القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر) على الرغم من كونه شخصية يلفها الغموض ولا يعرف عنه الا النزر اليسير. ظهرت له أول مجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) في عام 2016 ورواية بعنوان (يوميات احدهم) في العام الحالي. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي. 

 

بقلم: ستيفن ليكوك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعض الأشخاص - ليس أنت أو أنا، لأننا نسيطر تماما على أنفسنا - لكن بعض الناس يجدون صعوبة حقًا في قول وداعًا عندما يكونون على الهاتف أو يقضون المساء مع أحد. مع اقتراب اللحظة التي يشعر فيها الزائر أنه يحق له المغادرة، يقف ويقول فجأة "حسنًا، أعتقد أنني..." ثم يقول الناس، "أوه، هل يجب أن تغادر الآن؟ بالتأكيد ما يزال الوقت مبكرًا! "ويتبع ذلك صراع يرثى له....

أعتقد أن أتعس حالة من هذا النوع من الأشياء التي عرفتها على الإطلاق كانت حالة صديقي المسكين ميلبومينوس جونز، وهو قس- يا لهذا الشاب العزيز، وكان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا فقط! لم يستطع الابتعاد عن الناس. كان متواضعا جدا لدرجة أنه لم يكذب، ومتدين جدا لدرجة أنه لا يريد أن يبدو فظا. حدث الآن أنه ذهب لزيارة بعض أصدقائه في أول ظهيرة من إجازته الصيفية. الأسابيع الستة التالية كانت كلها خاصة به - لا شيء يفعله على الإطلاق. تجاذب أطراف الحديث لبعض الوقت، وشرب فنجانين من الشاي، ثم جمع نفسه، وفجأة قال:

- حسنًا، أعتقد أنني...

لكن سيدة المنزل قالت:

- أوه، لا! سيد جونز، ألا يمكنك حقًا البقاء لفترة أطول قليلاً؟

كان جونز كعادته دائمًا صادقًا. قال:

- أوه، نعم، بالطبع، يمكنني البقاء.

- إذن من فضلك لا تذهب.

مكث جونز. شرب أحد عشر كوبا من الشاي. هبط الليل. قام مرة أخرى.

قال بخجل:

- حسنًا الآن، أعتقد أنني حقًا...

قالت السيدة بأدب:

- يجب أن تذهب؟ اعتقدت أنه ربما كان بإمكانك البقاء لتناول العشاء...

قال جونز:

- حسنًا، لذلك يمكنني، كما تعلمين، إذا...

- إذن من فضلك ابق، أنا متأكدة أن زوجي سيكون سعيدا.

قال فى خفوت:

- حسنًا، سأبقى.

ثم غرق مجددًا في كرسيه، ممتلئًا بالشاي،وبائسًا فى ذات الوقت.

عاد الزوج إلى المنزل. تناولوا العشاء. جلس جونز طوال الوجبة وهو ينوى المغادرة عند الساعة الثامنة والنصف. تساءل جميع أفراد الأسرة عما إذا كان السيد جونز غبيًا وحزينًا، أم أنه مجرد غبي.

بعد العشاء، تعهدت سيدة المنزل "بتسليته" وعرضت عليه بعض الصور. لقد عرضت عليه متحف العائلة بالكامل، وبعضها تقريبًا - صور عم الزوج وزوجته وشقيق والدته وابنه الصغير، صورة مثيرة للاهتمام بشكل رهيب لصديق عم زوجها بزيه البنغالي، صورة رائعة للغاية لكلب شريك الجد، وكلب الزوج الشقي الرهيب كالجحيم لحفلة تنكرية. في الثامنة والنصف، كان جونز قد فحص واحد وسبعين صورة. كان هناك حوالي تسعة وستين آخرين لم يكن لديه. نهض جونز وناشدهم:

- يجب أن أقول ليلة سعيدة الآن.

قالوا:

- تقول ليلة سعيدة! لماذا الساعة الثامنة والنصف فقط! هل لديك شيء لتفعله؟

- لا شيء.

اعترف جونز، وهو يغمغم بشيء عن إقامته لمدة ستة أسابيع ثم ضحك فى حزن.

اتضح أن الطفل المفضل لدى العائلة، وهو طفل جميل حقًا، قد أخفى قبعة السيد جونز، لذلك قال الأب إنه يجب عليه البقاء ودعاه للتدخين والدردشة. دخن الأب وتحدث إلى جونز وبقي جونز يحاول كل ثانية أن يقول وداعا، لكنه لم يستطع.

ثم سئم الأب ببطء من جونز، ونفد صبره وأخيراً قال ساخرًا إنه سيكون من الأفضل لو بقي جونز في الليل، يمكنهم جعله سريرًا مؤقتًا. لم يفهم جونز ما قصده وشكره والدموع تنهمر على وجهه. ترك الأب جونز ينام في الغرفة الفارغة وشتمه من صميم قلبه سرا.

بعد أن أنهى الإفطار في اليوم التالي، ذهب الأب إلى العمل في وسط المدينة وترك جونز ليلعب مع الطفل، حزين القلب. اختفت هالته تماما. كان يريد فقط المغادرة طوال اليوم، لكنه كان مسكونًا في رأسه، ولم يستطع المغادرة. عندما عاد الأب إلى المنزل في المساء، تفاجأ وانزعج عندما وجد جونز لا يزال هناك. لقد فكر في إخراجه بمزحة وقال إنه يعتقد أنه يجب عليه أن يكلفه مقابل مجلسه/ وجباته. هو! هو! حدّق الشاب غير السعيد برهة، ثم أمسك بيد الأب، ودفع إيجار شهر له، ثم انهار وبكى كالطفل.

خلال الأيام القليلة التالية، تذبذب مزاجه ولم يستطع أحد الاقتراب منه. بالطبع، كان يعيش بالكامل في غرفة المعيشة، وبدأ قلة الهواء وقلة التمارين في التأثير سلبًا على صحته. قضى الوقت في شرب الشاي والنظر إلى الصور. كان يقف لساعات يحدق في صور صديق عم الأب في زيه العسكري - يتحدث إليه، وفي بعض الأحيان يشتمه بمرارة. كان من الواضح أن عقله كان في حالة تدهور.

ثم تفاقم الوضع. حملوه إلى الطابق العلوي في حالة هذيان من الحمى. كان الوضع خطيرًا للغاية بعد ذلك. لم يتعرف على أي شخص، ولا حتى صديق عم الأب في زي البنغال. في بعض الأحيان كان ينهض من سريره ويصرخ: "حسنًا، أعتقد أنني..." ثم يرتد على الوسادة بضحكة مروعة. ثم، مرة أخرى، يقفز ويبكي، " كوب شاي آخر والمزيد من الصور! المزيد من الصور! هار! هار!

أخيرًا، بعد شهر من العذاب، توفي في آخر يوم من إجازته. يقولون أنه في اللحظة الأخيرة، جلس على سريره بابتسامة جميلة واثقة على وجهه وقال: - حسنًا، الملائكة تناديني، أخشى أنني يجب أن أذهب الآن حقًا. عمتم مساء.

سرعان ما هربت روحه من السجن، مثل قطة تُطارد فوق سور حديقة.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: ولد ستيفن بي إتش بتلر ليكوك (30 ديسمبر 1869 - 28 مارس 1944) في إنجلترا وانتقل إلى كندا عندما كان في السادسة من عمره،عمل ليكوك فى كندا مدرسًا كنديًا وعالمًا سياسيًا وكاتبًا فكاهيًا، وقيل أنه بين عامي 1915 و1925، كان أشهر كاتب فكاهي ناطق باللغة الإنجليزية في العالم. حيث عرف بروح الدعابة الخفيفة إلى جانب انتقاداته لحماقات الناس.

بقلم: دابيداه مارتن

ترجمة: صالح الرزوق

***

شعر أومو برين أنها خرجت منه - صيحة ناعمة من طائر قلق يحوم بالجوار اختلطت بثرثرة  البحر المنتظمة. محا الكانفاز الرمادي اللون وجهزه ليوم آخر.  وحينما وقف في منتصف الشاطئ محاصرا بحطام سفينة اختلط مع أشياء لفظها البحر رفع عينيه إلى النجوم وترنم بأغنية من بدايتها حتى نهايتها. وكان يرقص كيفما اتفق وهو يغني، ويتوقف أحيانا، كأنه ينتظر ردة فعل جمهور غفير من طيور البحر. فتنتني رؤية رجل يبلغ عمره ستين عاما ويرقص بهذه الهمة. وحينما طلبت مقابلته حدد لي موعدا في تراي فادا بتمام الساعة الثالثة صباحا. وصلت حينما أشارت ساعة جيبي لحوالي الثانية والنصف - والساعة إرث تناقلته العائلة عن جدي. وهي أول هدية عيد ميلاد اشترتها له زوجته، وكان يقول لي إنه ينظر لزجاجتها وكأنها نافذة على الحياة التي تنتظره بعد الحرب. وحينما بدأ قلبه يضعف ووصل بعمره إلى ثمانية وستين عاما، علم أنه لم يبق لديه فترة طويلة. وفي أحد أيام الصيف المشرقة طلب أن يراني. كان راقدا على السرير. وحينما جلست بجواره بدأ يروي لي النكات والحكايات. كنت بعمر ثماني أعوام. قبض على يدي بشكل أخرق ووضع فيها الساعة. ونظرت عيناه في عيني، وحينما أفلت الساعة شعرت كأنه يقول لي شيئا، ولكن لم أكن متأكدا منه. ثم طلب مني أن أتعهد له بالعناية بالساعة، وأن أنظر إليها وكأنها نافذة. كانت الساعة الثالثة إلا ربعا حينما سمعت صوت أومو بريم المرتعش يغني أغنية غيلية قديمة وهو يشق طريقه إلى  الشاطئ.

وكان يقول:

"Far am faca mi an oigh

في الموضع الذي رأيت فيه العذراء حينما كنت بشبابي

Thuit mi og anns a’ ghradh

والتي وقعت بحبها".

كانت النسمات الخفيفة تحمل صوته وتعانق بها الشاطئ. وكانت خطواته محسوبة، ولكنها ذكية مثل الدببة حين تحاول أن تقبض على سمكة سلمون من النهر. ناديته ولكنه لم يرد حتى أنهى غناءه. بعد ذلك صمت لحظة، كما لو أنه يترك فرصة لجمهوره المخلص أن يصفق لعرضه الملكي. وحينما رفع رأسه سأل بصوت رخيم: "بماذا يمكنني أن أخدمك؟".

قلت بصوت مضطرب قليلا بسبب مهابته: "حسنا. طلب مني جدي أن أزورك".

لزم أومو الصمت.

فتابعت: "اشترى واحدة من بواباتك وقال إنه يعرفك جيدا. اسمه كامبيل ماكدونالد". كنت متأكدا أنه سيترتب على ذكر الاسم استجابة، ولكنه ركز نظرته على شيء خلف كتفي.  وفجأة فتح ذراعيه وبدأ بالرقص مجددا. وقفت هناك بصمت كما لو أنه كان معنيا بتسلية غيري، نوارس البحر مثلا أو ربما نفسه. وحينما انتهى انحنى وملأ قبضته بالرمل وسألني: "كم حبة رمل في يدي؟".

قلت: "لا أعلم. ربما عشرة آلاف".

قال: "هذه هي المشكلة. أليس كذلك؟. أنت تصل لدرجة تعتقد معها أنك تمتلك كل الإجابات، أو على الأقل يفترض بك أن تعرفها، ثم تكتشف أنك لا تعرف شيئا، وتشعر بالخوف. ولكن كل ما عليك أن تفعله هو أن تحاول وتعدها".

حان دوري للالتزام بالصمت.

وتابع أومو يقول بلهجة المنتصر: "أول شيء شيدته في حياتي بيدي كان قلعة من الرمل، وغضبت لدى عودتي في اليوم التالي لأرى أن التيار هدمه. ولم أرجع إلى الشاطئ لعدة شهور. ثم تبادر إلى ذهني في أحد الأيام أنه بمقدوري أن أعيد بناءه". وافقت بهزة رأس بطيئة، قبل أن انتبه أنه لا ينظر لي. لذلك اكتفيت بالقول: "آه، آه" بطريقة بينت أنني لم أفهم بشكل جيد.  بدأ يمشي عبر الشاطئ وينتشل قطعا صغيرة من الخشب كلما وجدها، وتبعته، على أمل المزيد.

سألته: "هل فعلا أنت تستفيد من هذه الأخشاب العائمة في صناعة بواباتك؟".

توقف عن المسير، والتفت ليواجهني. وكانت طريقة نظره لي وهو يكلمني من عالم آخر. ثم قال: "في نفس سنة عقد قراننا أنا وزوجتي، بنينا البيت الذي أعيش فيه، وكنا ننتظر المستقبل. كنا في الثالثة والعشرين. وكانت تسبح في البحر حين جرتها الأمواج المرتدة. ولعدة سنوات لم أطأ الشاطئ ثم تذكرت قلاع الرمال. وكل عام منذئذ أعود إلى  هذا الشاطئ وأجمع كل ما يلقي به البحر على البر وأستفيد منه في بناء بواباتي".

"آه، أنا متأسف. لم أكن أتصور ذلك".

قال: "كان هذا آخر مكان جمعنا. وأعتبر أن كل ما يلقي به الماء هدية لي من زوجتي. في بعض الليالي أسمع صوتها يرقص حول أذني مع الريح. كما ترى دائما عندي كفايتي من الخشب لأصنع بوابات أكسب تكاليف حياتي منها. والخشب الذي يتبقى من الحطام هو أقوى أنواع الخشب".

أجبت: "لم أفكر بالموضوع بهذه الطريقة". وانتابني الفرح لأنني قلت شيئا ما.

عاد أدراجه على الشاطئ، وأشار إلى طوف كبير أحاط به الزبد، وقال: "ساعدني في إعادة ذلك الخشب إلى البيت  إن كان لديك وقت".

قلت وأنا أطلق سراح ابتسامة مقتضبة: "لا مشكلة".

ونحن نقترب من بيت أومو كانت الشمس المبكرة تهدد بطرد الضباب الذي خيم على الشاطئ. كان من الصعب أن نميز التفاصيل في الضوء الباهت، ولكن من مسافة بعيدة ظهرت أجزاء من البيت وهي تتحرك مع الرياح. عندما اقتربنا أمكننا رؤية أن أشياء عشوائية خارج البيت. وبينها  شبكة صيد بالية تتدلى من طرف مدخنة، وعفن مخضر ينساب من طرف الجملون، ومقود قديم يبرز من حافة النافذة، ولا يزال في مكانه، ويدور.

قال: "اتركها هناك". وأشار إلى كومة ضخمة من الخشب. وجدت أنه يصعب علي أن أعتقد أن كل خشبه قد لفظه البحر على الشاطئ، ولكن لم يمكني صياغة السؤال بسرعة كافية، دون أن أتهمه بالكذب، ثم ذهبت إشراقة اللحظة كلها.

قال أومو: "إن كنت تتساءل عن باحة بيتي، فهي عبارة عن ماضي زوجتي. اعتادت أن تأتي بكل النفايات من الشاطئ حينما أكون غائبا. قالت هذا يعطي البيت جوا خاصا وشخصيا". ثم أطلق ضحكة صغيرة وتابع: "جمعت كل هذه الأشياء بأقل من عام، تخيل كيف يكون البيت لو أنها حية حتى الآن". لم أشعر بالقدرة على مجاراته بالضحك، ولكنني أصدرت صوتا هو ما بين الضحك والشخير.

قال وهو ينحني: "كانت أجمل إنسانة عرفتها. والآن من المستحسن أن نحصل على كوب شاي ندفئ به أنفسنا".

قلت بحماس مفرط: "هذا عظيم".

قال: "بدأت أصاب بوجيب في القلب إن لم أشرب كل ساعة كوب شاي. مثل سكان الجزر الحقيقيين".

جهز أومو إبريقا على الموقد، وجلست في كرسي خشبي قديم، من حلقة من الكراسي المرتبة بلا نظام في المطبخ حول مساحة فارغة في المكان الافتراضي لطاولة الطعام.

قلت بصوت ناعس قبل أن أجرع ملء فمي من الشاي: "إذا دخلت الشمس سيكون صباحنا جميلا". لم يدهشني أنه تعامل مع أحد تعقيباتي بالصمت، لذلك تابعت الارتخاء في كرسيي، وأغمضت عيني قليلا. وبعد دقائق سمعت صوت طرقات أومو على الخشب الذي حملناه إلى البيت للتو.

حتى لا أظهر بمظهر الكسول تركت كوب الشاي وخرجت لأنضم إليه.

قال دون أن يرفع عينيه عن الخشب: "كنت بعمر اثني عشر عاما حينما صنعت أول بوابة. كان لدى الوالدة فسحة تزرع فيها الخضار. غالبا البطاطا، وسنويا كان كلب الجيران يتلف بعضها، ولذلك طلبت في النهاية من الوالد أن يصنع لها بوابة تردع الكلب. حسنا، تابع الوقت زحفه وكان لدى الوالد أشياء أهم لذلك قررت أن أصنعها بنفسي. جمعت ما أمكن من الخشب، وكنت على وشك تثبيتها بالمسامير، حينما خرج والدي، واتهمني بقلة الاحترام وضربني بقفا يده، قبل أن يحمل الخشب ويلقيه في النار". صمت لحظة  كأنه يقلب أفكاره في رأسه.  وقال: "لم أكن مصمما على شيء في حياتي قبل صناعة تلك البوابة. كنت أهدف لتحدي والدي وإسعاد أمي. وهذا شيء غريب". ضحك من تلقاء نفسه وأضاف: "بعد ذلك بيومين أصبح والدي دون عمل وتركنا وحيدين. أقصد كان فيزيائيا موجودا معنا، ولكن كل ما يشغله الشراب وشتم الغبي الذي 'لا يمكنه العثور على سمكة الراهب حتى لو وضعتها في مؤخرته'، وأتذكر علامات وجه أمي حينما شاهدت أول بوابة قمت بتجهيزها، وحينما طبخت أول محصول جنيته من البطاطا الجديدة. قالت إنها أجمل بوابة رأتها على الإطلاق".

قلت بقدر ما أستطيع من العفوية: "البوابة التي صنعتها لجدي تبدو وكأنها صناعة الأمس".

قال وهو يرفع جذع الخشب بيديه: "صنعتها من طرح البحر الذي يشبه هذا".

ومع اشتداد وهج نور الصباح لاحظت بوابة تلوح من فوق قارب خشبي وراء سقيفة أومو.

سألته وأنا أشير إلى الزورق: "هل تخزن بواباتك هناك حين تنتهي منها؟".

قال مبتسما: "كلا. تلك صنعتها لزوجتي. كل عام في عيد ميلادها أصنع بوابة وأحفر اسمي في أسفلها ثم أجدف في عرض البحر، وألقيها في المحيط. وحينما أترك البوابة أصلي أن تنجرف لتقع في أيد أمينة". شقت ابتسامة طريقها إلى وجهه الذابل وكان يحدق بالمحيط الأطلنطي. تابع يقول: "لا يوجد شيء يفصلنا عن أمريكا". ثم التفت بانتباهه إلى شظية خشبية كانت بين يديه.

جلست هناك لعدة دقائق. انتابني حلم نهاري. وتصورت فيه حدائق على طول الشاطئ الشرقي لقارة أمريكا وتحرسها بوابات تحمل توقيع أومو برين. 

***

......................

دابيداه مارتن Daibhidh Martin: شاعر وقاص بريطاني معاصر من جزيرة لويس الإسكتلاندية.

قصة: إم جي هايلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان أبي يجلس على عتبة بابي. كان رأسه العاري معرضًا لأشعة الشمس الكاملة وكان يحمل ثمرة أناناس. لم يكن لدي أدنى فكرة عما كان يفعله هناك. ولم يعطني أية إشارة أنه قادم.

- بابا. ماذا تفعل هنا في وقت مبكر جدا؟

قال:

- استرخِ. لا يوجد ما تقلق عليه أو منه.

لم تكن الساعة الثامنة والنصف بعد، ولم أكن في مزاج مناسب له. كنت قد عدت إلى المنزل لتوفير أجرة الحافلة بعد نوبة ليلية مدتها عشر ساعات، وأردت الاستحمام والنوم.

- هل طرقت؟

قال:

- لا. لم أطرق الباب. لم أكن أرغب في إيقاظ أي شخص. كنت سأترك الأناناس على عتبة بابك، ولكن بعد ذلك جلست لأرتاح لمدة دقيقة، ثم ظهرت أنت.

عبس أبي عند رؤية عشب البامبا الذي ينمو بشكل بري على طول السياج المكسور، لكن هذا ليس ما يزعجه.

- يحتاج جيرانك إلى تدريب أسماك البحر الدموية تلك على التوقف عن النباح.

مددت يدي.

- هنا يا أبي. أمسك.

قال:

- أنا بخير. لا حاجة لذلك.

كان أمامي تسعة وعشرون عامًا للتعود على أستراليا: أيام الصيف الطويلة التي لا توجد فيها أجزاء مميزة — صباحًا حارًا، وظهرًا، وليلًا — وما زلت غير قادر على تحمل الحرارة، أو الوهج الذي كان ينبعث من كل ممر وكل ممر. سيارة متوقفة. لكن والدي أصبح أفضل بفضل الشمس؛ لقد جعله ذلك منتعشًا، وعلى الرغم من أنه كان في الخامسة والستين من عمره، إلا أنني في ذلك الصباح تعرضت للضرب أكثر بكثير مما تعرض له في أي وقت مضى.

قلت:

- هل تريد أن تأتي إلى الشقة لمدة دقيقة؟

- إذا كان هذا على ما يرام.

- لكن من الأفضل أن نكون هادئين، رغم ذلك. جانيس لن تغادر السرير بعد.

لم جانيس تكن في المنزل. كان باب غرفة النوم مفتوحًا ولم يكن السرير مكانًا للنوم. لقد تشاجرنا بشأن المال قبل أن أغادر إلى العمل وعندما خرجت من الباب قالت: "أنت ممل الآن يا بول". قالت ذلك بالطريقة الرائعة والخبيرة التي كانت والدتي تقولها عن الأزواج الذين يجلسون في المقاهي ويقرؤون الجريدة ولا يتحدثون مع بعضهم البعض. كانت تقول: "إنهم مملون لبعضهم البعض". "ربما يكونون على بعد أيام فقط من الطلاق."

نظر والدي إلى غرفة النوم، تمامًا كما فعلت. كان يشتبه في أن جانيس ضالة، تمامًا كما كان يشتبه في والدتي. قلت:

- جانيس يجب أن تكون بالخارج.

قمت بضبط كتفي، وحاولت إخفاء قلقي وتعبي. لقد كنت في نهاية فترة طويلة من نوبات العمل الليلية، ولم أكن في مزاج يسمح لي بالاستجواب الذي كان سيوجهه لي إذا علم بمشاكلي الزوجية.

- أين الزي الرسمي الخاص بك؟

قلت:

- في خزانتي. لا أحب العودة إلى المنزل وأنا أرتديه. أغير أولاً.

- إذن، هل لديك واحدة نظيفة لمناوبة الغد؟

- نعم يا أبي. لدي واحدة

نظر مرة أخرى إلى غرفة النوم.

- أين تعتقد أين تكون؟

- احتفظ بقبعتك. ربما نخرج للتو للتسوق.

أنا مدين لوالدي بالمال، وكان من الخطأ أن أذكر المحلات التجارية. لقد كان ثريًا ويتمتع بثروته، لكنه لم يكن حريصًا على التبرع بالمال، دون وجود بعض الترتيبات للحصول على "عائد عادل" عليه.

عندما كنت في الثامنة عشرة طلب مني أن أشرب معه. كانت هذه هي المرة الأولى التي يطلب فيها مقابلتي في إحدى الحانات، وقد اختار تاريخ ووقت اللقاء قبل شهر من موعده. وقال:

- لقد حان الوقت لإجراء محادثة مناسبة بين رجل ورجل

كان يومًا ربيعيًا مثاليًا، يومًا هادئًا، وجلسنا في زاوية حانة مظلمة تحت شاشة تلفزيون، في إحدى الضواحي على بعد أميال من الجراحة التي أجراها وحتى أبعد من سكني الجامعي. قال:

- لقد حان الوقت لأخبرك ببعض الحقائق العائلية.

قلت:

- حسنًا. ها أنت ذا.

- حسنًا، في البداية، كنت أعلم أن والدتك لم تكن تتمتع بسنوات جيدة قبل أن تتركنا.

بالنسبة لى، فهي لم تتركنا عندما كنت في العاشرة من عمري، بل تركته. لقد سئمت منه ووجدت شخصًا آخر. كنت في العاشرة من عمري فقط، لكنني لم أكن غبيًا. لقد سمعتها تقول: "لا ينبغي للرجال أن يتحدثوا كثيرًا مثلك يا ريتشارد."

ارتشف والدي البيرة ببطء ونظر إلى شاشة التلفزيون فوق رأسي. وقال:

- لقد كانت والدتك بارعة في الكذب.

كنت غاضبًا جدًا من التحدث. ما قاله أصابني في أحشائي، نوع غريب من البلل في معدتي. كنت سأسكر في ذلك اليوم لو كان لدي بعض المال الفائض، لكن كان علي أن أستمع إليه وهو يلعن أمي دون أن يكون أمامي سوى كوب دافئ من رغوة البيرة.

عندما عاد إلى الطاولة بعد أن طلب جولة أخرى، وضع المشروبات على طاولتنا فى الزاوية وجلس بالقرب منها، وبعد لحظة، كما لو كان شخصًا مختلفًا، وضع يده على ركبتي.

قال:

- سأخبرك بشيء الآن. حتى العيون الجميلة ترتكب جرائم. يجب أن تضع ذلك في الاعتبار عندما تبدأ في تكوين صداقات.

قلت:

- صحيح.

- أنت تفضل السيدات، أليس كذلك؟

قلت:

- بالطبع أفعل. يا المسيح عيسى!

لم يكن والدي يحب الجلوس بالقرب من الناس، ولا يحب اللمس، وقال إنه يمقت أي نوع من المودة، لكنه الآن كان يجلس قريبًا جدًا، وبقيت يده على ركبتي لفترة طويلة جدًا، ويضغط بلطف على ركبتي. تقلصت، وأصبحت ركبتي أكثر سخونة.

قال:

- حسنًا، لقد تم تحذيرك. لقد ظننت أن والدتك ملاك لأنها تشبه الملاك ، لكنك كنت مخطئًا في ذلك.

لم أرغب في سماع المزيد، لذا أخبرته أنني بحاجة لاستخدام المرحاض، وذهبت إلى الحانة واستخدمت آخر أموالي لدفع ثمن مشروباتنا. لم أكن أريد أن أقول وداعًا، لم أستطع تحمله، لكنه جاء بالقرب من الزاوية ورآني.

قال:

- ماذا تفعل؟

- أحتاج إلى العودة إلى الجامعة. لقد تذكرت للتو أنني يجب أن أقابل معلمي.

لقد عشنا أنا وأبي بمفردنا لمدة سبع سنوات، ولمدة سبع سنوات، عندما يعود إلى المنزل من العمل، كنت عالقا معه، عالقة معه نتحدث، في المطبخ أو غرفة الجلوس، وإذا أرادني عندما أذهب في غرفة نومي، كان يركض إلى الداخل وكان عليّ أن أتثاءب للتخلص منه. في نهاية كل أسبوع تقريبًا، أتظاهر بأنني ذاهب إلى المدينة لمشاهدة فيلم مع الأصدقاء، وبدلاً من ذلك أستقل الحافلة إلى مقهى إنترنت على بعد ثلاث ضواحي، حيث أشرب وألعب الألعاب عبر الإنترنت.

تبعني إلى الباب الأمامي للحانة:

- هل سمعت ما قلت؟ هل كنت تستمع؟

- نعم، ولكن يجب أن أذهب إلى محاضرة.

قال:

- أنت كاذب كريه الرائحة. سأبقى هنا، وسوف أنهي هذه البيرة. أنا لا أحب الأشخاص الذين يضيعون الوقت والمال. هل تتابعني؟

قلت:

- نعم.

فتح لي الباب ولوّح لي بالخروج إلى محطة الحافلات.

لم نر بعضنا البعض إلا قليلاً بعد ظهر ذلك اليوم الربيعي؛ مرة أو مرتين في السنة، عيد ميلادي وعيد الميلاد، لكن هذا تغير عندما تزوجت جانيس. في يوم زفافنا، في حفل صغير في الهواء الطلق على ضفاف البحيرة، أعطاني هدية زفافنا: قارورة نزهة من قماش الترتان، وستة أكواب بلاستيكية زرقاء، وسجادة من قماش الترتان أيضا.

قال:

- سيكون لديك عائلة خاصة بك قريبًا.أريد أن أساعدك على طول. يمكنني مساعدتك في المضي قدمًا في الأمور. يمكنني مساعدتك في ترتيب الأمور.

بعد الزفاف، اعتاد على المرور بالشقة، والتبرع بالأثاث، وإعطائي قروضًا، والاتصال بي في وقت متأخر من الليل، قائلًا أشياء مثل: "أنا قاب قوسين أو أدنى. هل لديك دقيقة؟ وها هو ذا مرة أخرى، بعد شهرين فقط من زيارته الأخيرة، يقف بجانب طاولة مطبخي ويحمل ثمرة أناناس في يديه.

أدرت ظهري له وفحصت السبورة البيضاء الموجودة على الثلاجة لأرى ما إذا كانت جانيس قد تركت لي رسالة. لم تفعل ذلك. تظاهرت بفحص الساعة فوق الحوض بينما كنت أنظر إلى الفناء الخلفي. كانت دراجتها مستندة على السقيفة، لكن خوذتها لم تكن في السلة. ربما تكون قد رحلت للأبد، وأبي سيرى ذلك.

استدرت لمواجهته، فأعطاني الأناناس، وقدمها لي وكأنها شيء ذو قيمة كبيرة.

قال:

- لقد سقطت من الشجرة عندما كنت عائداً إلى المنزل الليلة الماضية. يا لها من دولة مجيدة، إيه؟

- أنا لا أحب الأناناس حقًا يا أبي. لماذا لا تعطيها لشخص ما في العمل؟

- أعيدها لي إذن. لن يضيع الأمر.

أعطيتها له مرة أخرى. قال:

- عليك أن تأكل المزيد من الفاكهة.

قلت:

- أنت على حق.علي أفعل.

اعتقدت أنه سيغادر لكنه جلس على الطاولة ووضع الأناناس في حجره. لقد قرر أن يبقى، ولم يكن هناك ما يمكنني فعله حيال ذلك.

قلت:

- ماذا تريد أن تشرب؟ هل كوب من الشاي سيفي بالغرض؟

- سيكون ذلك لطيفًا.

فتحت الثلاجة ونظرت إلى الفناء الخلفي مرة أخرى. كانت قطة الجيران اليونانية المتدلية نائمة على الترامبولين.

- آسف يا أبى. لا يوجد حليب.

كان هناك دائما الحليب. اشترت جانيس لترين كل ليلة عندما ذهبت إلى متجر 7-Eleven لشراء سجائرها.

- إذن سأشرب الماء. هل لديك ثلج؟

- ألا تريد البيرة؟

قال:

- لا يا المسيح. إنه باكر جدا. أنا أعمل اليوم.

- في اي وقت تبدأ؟

- من المفترض أن أكون هناك بحلول الساعة التاسعة. ولكن ليس هناك عجلة. لقد رتبت للمكان للقيام بالصباح.

لم يكن هناك ثلج في صينية الثلج، لكنني بحثت في الثلاجة كما لو كان هناك أمل في العثور عليه. نسيم الصقيع أزال بعض الحرارة عن يدي ووجهي.

قلت:

- لا يوجد ثلج.

- انس الماء إذن. سوف أمتص واحدة من هذه.

أخذ علبة من Fisherman’s Friends من الجيب الخلفي لشورته الكاكي.

- هل تريد واحدة؟

- لا شكرا يا أبي. إنها تجعلني أسعل.

عندما جلست على الطاولة، وقف وذهب إلى الحوض ووضع الأناناس على لوح التصريف، وحاول وضعه في وضع مستقيم. وعندما سقط، أمسك بقاعه وحركه حتى تأكد من أنه لن يتزحزح.

قلت:

- إذا كنت تريد أن تترك الأناناس، فإن جانيس ستحبه.

- هل تخرج عادةً في وقت مبكر جدًا من الصباح؟

كذبت:

- في بعض الأحيان، إنها تحب الذهاب للتنزه.

- هل ما زالت تبيع الأزرار؟

- لا، لقد استقالت. ولم تكن أزرارًا، بل كانت معدات خياطة.

- وأنا أعلم ذلك

جلس مرة أخرى لكنه لم يسحب كرسيه تحت الطاولة.

قال:

- كيف كان حالك؟ كيف تحافظ على صحتك؟

- لقد كنت بصحة جيدة بما فيه الكفاية، شكرا يا أبي. الليالي صعبة، لكني أحب الساعات الهادئة التي يكون فيها المرضى نائمين. والمشي إلى المنزل جيد.

نظر إلى مروحة السقف.

- هل هذه مكسور؟

- نعم. سيأتي المالك لإصلاحها قريبًا. نظر إلى النافذة.

- ألم تترك لك رسالة أو أي شيء؟ ألم تخبرك إلى أين كانت ذاهبة؟

- لا يا أبي. أنا لست حارسها.

أرجعت كتفي إلى الخلف، لكي يبدو جسدي أكبر، وحاولت إخفاء ذعري. لكنه لم يحدث اي فارق. لقد كنت منهكًا في العمل ومتوترًا، وكان بإمكانه رؤية ذلك. لقد رحلت جانيس، وقد يكون الأمر للأبد هذه المرة.

- وماذا عنك انت يا أبى؟

قال:

- يمكنني استخدام المزيد من المساعدة. "البديل جيد جدًا، لكن سكرتيرتي دائمًا ما تكون في الخلف. الأمور أصبحت أكثر من اللازم بالنسبة لنا. "كنت أتساءل عما إذا كان ينبغي لي أن أتقاعد.

ثم صمتنا، الصوت الوحيد يأتي من حركة المرور على طريق أورموند، من شاحنات التسليم التي تصدر صوت صفير أثناء عودتها إلى الخلف من مستودع مورنفليك. لم يكن قلقًا بشأن الصمت أو عدم وجود شيء يفعله بيديه. كان منظمًا وطموحًا ويحب صحبته الخاصة. حتى الغريب كان يستطيع رؤيته، من الطريقة التي جلس بها ويداه على سرواله الكاكي، الطيات كما كانت عندما أخرجها من الصندوق لأول مرة.

قلت:

- ربما تحتاج إلى سكرتيرة جديدة

-لا تكن سخيفًا يا بني. لقد قضيت وقتا طويلا في تدريبها. على أية حال، المرضى يحبونها. إنها تحتفظ بالدمى الدببة خلف المكتب للأطفال.

قلت:

-هذا جيد إذن يا أبي."من المؤكد أن حقيقة أن المرضى يحبون سكرتيرتك أهم بكثير من الأعمال الورقية. قال:

- أنت على حق يا بني. بالطبع أنت على حق. بدأ الطفل في شقة اليوناني بالصراخ.

قلت:

- الجو حار جدًا هنا.

وقفت وفتحت الباب، وقفزت القطة الحمراء من على الترامبولين وركضت إلى المطبخ. استنشقت باب الخزانة الموجود أسفل المغسلة، ومشت إلى الباب ونظرت إلينا للحظة، ثم جلست.

قال:

-هل هذا لك؟

- لا. قلت وأنا جالس مرة أخرى:إنه ملك للجار في الطابق العلوي.

- لماذا يأتي إلى هنا؟

قلت:

- هذا ما تفعله القطط. إنه يريد الطعام، على ما أعتقد.

قال:

- إنه كريه الرائحة. هل هو مخصى؟ يجب أن تخبر جيرانك أن الخصي عملية رخيصة وبسيطة نسبيًا.

لم يكن هناك هواء يدخل عبر الباب، وكان أعلى ركبتي يتعرق.

وقفت.

- اسمع يا أبي. ربما سأحظى ببعض النوم الآن، إذا كان هذا جيدًا.

قال:

- ألن تستيقظ مجددًا قريبًا؟ متى تعود جانيس إلى المنزل؟

- ليس بالضرورة. أنا نومي ثقيل.

نظر إلى الأناناس الموجود على لوح التصريف.

- سأخرج من شعرك إذن، أليس كذلك؟

وقفنا وواجهنا بعضنا البعض عبر الطاولة، وكنا نتنفس في انسجام تام.

قلت:

- تمام.ابق قليلاً. أستطيع النوم لاحقًا. دعنا نذهب إلى الصالة.

توقفت في الردهة وأخبرته أنني سأعود حالا.

- أريد فقط أن أفتح نافذة غرفة النوم.

قامت جانيس باخذ معظم ملابسها. لم أتمكن من التحقق من الأدراج الجانبية دون أن يتساءل والدي عما كنت أفعله، لكنني كنت أعلم أنها ستكون فارغة أيضًا. لقد هددت بالمغادرة، لكنني لم أصدق أنها ستفعل، ليس بهذه الطريقة، ليس بهذه الطريقة فجأة، ليس بدون إنذار أخير، ليس بدون فرصة أخيرة. لم ينه الناس زيجاتهم بهذه الطريقة، دون سابق إنذار، دون فرصة أخرى.

حصلت على كأسين من عصير البرتقال وأحضرتهما إلى الصالة. كان والدي واقفاً بجانب النافذة وقد فتح فكه، وترك فمه مفتوحًا. رأيت كيف يمكن أن يبدو في حالة راحة، عندما لا يكون هناك أي شخص آخر حوله. لقد سمح لي برؤيته، ليس بنفس القوة وليس بالهدوء. كان يفكر في والدتي، وشعرت بذلك في فمه المتراخي، وفكرت فيها للحظة أيضًا، تلك الذكرى التي تأتي دائمًا في المقام الأول، على الرغم من أنني لم أرغب في ذلك..

لقد مرت بضعة أشهر قبل أن تغادر المنزل، في يوم شتوي، وكنا نحن الثلاثة نتناول الغداء في أحد المقاهي. أخبرت النادلة أنها تريد شيئًا غير موجود في القائمة. لقد طلبت "شطيرة بصل كبيرة". كانت النادلة لا تزال على طاولتنا عندما ضحك والدي على والدتي. و قال."ما هو حجم البصلة الكبيرة بالضبط؟

وقفت من مقعدها.

قالت:

- لقد عرفت النادلة ما أقصده.الجميع يعرف ما أعنيه

وحاول أبى أن يعتذر، كما كان يفعل في كثير من الأحيان، قائلاً:

- آه يا عزيزتي. لا تشعرى بذلك.

جاءت إلى جانبه من الطاولة. لقد علقت معطفها على ظهر كرسيه وأرادت منه أن يجلس إلى الأمام حتى تتمكن من الوصول إليه.

قالت:

- تحرك.

التفت إليها، ووضع يده على ذراعها، وحاول مواساتها قدر استطاعته، من خلال الإمساك بجزء منها.

- قلت تحرك، أيها الخنزير البطيء الأصم! أنا بحاجة إلى معطفي.

لم يتحرك والدي بالسرعة الكافية، فنزعت المعطف عن الكرسي. قالت:

- أنت تحرجني يا ريتشارد.انزل عن معطفي الملعون.

وقفت في مدخل الصالة وأمسكت بكأسى عصير البرتقال ونظرت إليه، وانتظرت أن يراني.

قال:

- أوه، مرحبًا. لقد قمت بتشغيل المروحة من أجلك.

- شكرا ابي. إليك بعض عصير البرتقال.

جلست على طرف الأريكة وجلس هو على الكرسي ذى الذراعين بالقرب من الباب. عندما جلسنا، وضعنا أرجلنا فوق الأخرى، من اليسار إلى اليمين، تشنج وراثي، وهو شيء كنا نفعله دائمًا عندما نجلس.

- إذن، أين تعتقد أن زوجتك الشابة يجب أن تذهب؟

- من المحتمل أنها تقابل صديقًا لتناول القهوة أو شيء من هذا القبيل.

نظر الى ساعته.

- الوقت مبكر جدًا لذلك.

لم أقل شيئًا،وجلس إلى الأمام، وحرك ساقيه بحيث كانت ركبتاه وقدماه موجهتين نحوي.

قلت:

- أفكر أن سأتصل بجانيس. سأطلب منها أن تحضر معها بعض الحليب والثلج.

قال:

- حسنًا. يجب أن أتوجه قريبًا على أية حال.

قلت وأنأ أشعر بالهاتف دافئاً في يدي: - حسناً. انتظرني للتحقق من الرسائل.

ولكن لم يكن هناك أي شيء. قد رحلت.

قلت:

- إنها في طريقها إلى المنزل. تقول أنها ستعود قريباً.

- أين هي؟

- لا أعرف حتى الآن. لكنني أعتقد أنني سأحاول الحصول على قسط من النوم الآن.

اعتقدت أنه سيغادر بعد ذلك، لكنه لم يفعل. كان سيتمسك بالأمر، وينتظر معي حتى تعود إلى المنزل، أو لم يفعل.

قال:

- لقد قصدت أن أسألك. هل فكرت أكثر في إجراء الاختبار؟

كان يتحدث عن امتحان كلية الطب للكبار. لقد ذكّرني بذلك في آخر مرة التقينا فيها، وفي المرة التي سبقت ذلك.

قلت:

- ليس بعد، لكنني سأفعل.

- هل تعتقد أنك ستعمل كممرض لبقية حياتك؟

- ربما أفعل ذلك يا أبي. أحبها.

- كيف كان ضغط دمك في الآونة الأخيرة؟

- عادي يا أبي. انه عادي.

- هل ما زلت تحصل على تلك التعويذات بالدوار؟ ربما أثناء وجودي هنا يمكنني التحقق من نبضك؟

- يمكنني التحقق من نبضي الدموي. ليس هناك حاجة.

- أنت تبدو محمرًا بعض الشيء. مقشر بعض الشيء حول الأنف.

-لا يوجد شيء خاطئ معي. أنا فقط مثار للغاية يا أبي. انها مجرد الخنقة هنا. أشعر وكأنني أرتدي بدلة الدب.

قال:

- أفهم ،لم تشعر بالدفء أبدًا بسبب الحرارة.

ضحك لنفسه مثل تلميذ.

كنا صامتين وخدش ذراعه ونظر من النافذة. كانت شاحنة المورنفليك( علامة تجارية لحبوب الإفطار تعتمد الشوفان ) ترجع للخلف خارج المستودع.

قال:

- قد تكون هناك براغيث هنا من تلك القطة. هل تعرضت للعض؟

- لا. لم أتعرض للعض. ربما كان موزي.

قال:

- هناك الكثير من الرمال. في السجادة.

كنا نعيش على بعد خمسة عشر دقيقة من شاطئ بوندي، وهذا جزء من السبب وراء دفعنا الكثير من الإيجار مقابل هذه الشقة الضيقة والقاتمة. كنت أرغب في الانتقال إلى الضواحي، لبضع سنوات فقط، وتوفير بعض المال لشراء مكيف هواء ورحلة إلى لندن،لكن جانيس لم تستطع تحمل قسوة الضواحي، لذلك بقينا واشترينا ثلاثة مراوح؛ لذلك كان هناك أربعة مراوح، بما في ذلك المراوح العلوية في المطبخ والتي كانت مكسورة.

نظرت إليه وهززت كأسي، ودوَّرت العصير كما لو كان به ثلج، ولم أقل شيئًا عن الرمال.

قال:

- يمكنك التحقق من هاتفك الخلوي مرة أخرى إذا أردت.

- لست قلقا. ستكون هنا خلال دقيقة.

نهضت. قال:

- يجب أن أذهب. سوف أراك في الخارج.

- حسنا يا ابي. شكرا لقدومك آسف لأنني لم أكن صديقا جيدا جدًا.

- أنت متعب، هذا كل شيء. أنت لم تحب الحرارة أبدًا.

بقينا في الردهة، بالقرب من الباب الأمامي. كان يضع يديه في جيوبه ولا يبدو أنه مستعد للمغادرة. في هذه الحالة الوسطية، هذا الانتظار، هذا اللاعودة أو الذهاب، عادة ما يكون هو من يتخذ الخطوة الأولى. لكن في ذلك الصباح وقف ساكنًا ونظر إلي. لم أرغب في التحدث ولا هو أيضًا، لذلك فتحت الباب الأمامي وخرجت وانتظرت حتى يتبعني. كنت في حالة سيئة، وأتعرق وأتوتر، وعلى الرغم من أنني لم أرغب في البقاء وحدي، إلا أنني لم أعرف كيف أكون معه وأجعله ينظر إلي.

قلت:

- وداعا.

- وداعا يا بني.

استدرت للعودة إلى الداخل عندما صعد إلى الشرفة وأمسك بي. عانقني لفترة كافية لأشعر بما يجري تحت صدره، وأغمضت عيني وهو يحتضنني، ولم يكن هناك عجلة من أي منا لتجاوز الأمر، واحتضنته بنفس القوة كما فعل معي.

لقد تركني أولاً، لكن لم يكن من أجل التخلص مني. أراد أن يقول شيئا. أمسك معصمي.

-       أتمنى أن تجد طريقة للخروج من هذا الوضع يا بني. آتمنى لك الحظ.

لذلك كان يعلم أن جانيس قد رحلت، وربما كان يعلم منذ فترة طويلة أنها ستتركني، وربما لم يأت ليفرك أنفي بها. ربما لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق.

قلت:

- حسنًا. حسنًا يا أبي.

"حسنًا" لم تفسر شيئًا ولم تكن تعني شيئًا، ولكن بينما كنت أحبس أنفاسي وأشاهده وهو يسير في الطريق، تمنيت أن يدرك أنني أريد أن أقول المزيد وأنني لا أعرف كيف أغتنم الفرصة. كان يعلم، أليس كذلك، أنني كنت مندهشًا للغاية لدرجة أنني لم أتمكن من التحدث؟ ربما رأى أنني كنت خائفًا جدًا من فعل أي شيء، وأنني كنت مشغولًا للغاية لدرجة أنني لم أستطع أن أقول أي شيء آخر، وتمنيت أن يعرف ذلك ويدرك أنني أحبه.

***

........................

الكاتبة: إم جي هايلاند/ M. J. Hyland ولدت إم جي هايلاند في لندن لأبوين إيرلنديين عام 1968 وأمضت طفولتها المبكرة في دبلن. درست اللغة الإنجليزية والقانون في جامعة ملبورن بأستراليا، وعملت محامية لعدة سنوات.وصلت روايتها الأولى، "كيف يدخل الضوء" (2004)، إلى القائمة المختصرة لجائزة كتاب الكومنولث لعام 2004 (منطقة أوراسيا، أفضل كتاب أول)، وجائزة كتاب العام لعام 2004 (أستراليا)، وحصلت على المركز الثالث في جائزة بارنز و جائزة نوبل للاكتشاف (الولايات المتحدة الأمريكية)، وكانj فائزًا مشتركًا بجائزة سيدني مورنينج هيرالد لأفضل روائي أسترالي شاب. فازت روايتها الثانية "حملني إلى الأسفل" (2006) بجائزتي إنكور وجائزة هوثورندن في عام 2007. كما تم إدراجها في القائمة المختصرة لجائزة مان بوكر للرواية لعام 2006 وجائزة كتاب الكومنولث لعام 2007 (أفضل كتاب في منطقة أوراسيا). تعيش إم جي هايلاند في مانشستر، حيث تقوم بالتدريس في مركز الكتابة الجديدة بجامعة مانشستر. أحدث رواياتها هي "هذه هي الطريقة" (2009)، التي تدور حول رجل يؤدي قلقه في العالم إلى تراجعه المأساوي، والتي وصفها ملحق التايمز الأدبي بأنها "صورة مدمرة لمريض نفسي معتدل الأخلاق".

بقلم: كارولين فورشيه

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

رسالة الى مدينة تحت الحصار

اقلب صفحات الكتاب الذي اعرتنيه عن مدينتك الجريحة،

اقرأ لغة بريل على جدرانها، امشي تحت شجراتها الكستناء الشبحية

مرورا بالحرائق التي تحيل  النوافذ التي هشمها الرصاص برونزا،

متوهجة لحظة دون ان تدفيء المنازل المنهارة

التي تنامون فيها دون ماء او ضوء، بينكم علبة بسكويت،

او فيما بعد في حطام المقهى تناقشون طوال الليل الأدب المحترق

الذي استعرتموه من مكتبة كل الكتب فيها التقت مع اليأس.

اردت ان اعيد اليك الملاحظات،

كي تطبع بلغة اخرى، ليست لغتك او لغتي ولكن بلسان يفهمه الأطفال

الذين يصنعون الصدريات المضادة للرصاص من الكرتون.

سوف نستلقي بعد ذلك في المقبرة التي نبتت فيها الزنابق في طفولتك

قبل ان يطلق القناصون النار على المدينة محتمين بشواهد القبور.

يا صديقي، ايها الصديق الغائب، استطيع ان اقول لك ان نفقك لا يزال هناك،

جدرانه من الطين، ترابه مقدس، محفور من اجل تهريب

البرتقال الى المدينة—البرتقال!—مشرقا مثل اقمار الشتاء جنب ركام من التراب.

لذا فدعنا نمشي ابعد في الشارع نحو التل الذي يمكن للمرء ان يرى منه

المدينة منسوجة في الضباب، سقوف تملأها السماء، جسور مجتثة،

ونافذة دكان تتدلى منها كسرة زجاج فوق العمود الفقري لكتاب.

تحترق المكتبة عند صفحة ستين، مثلما تحترق في جميع صحف العالم،

ووقع حوافر الخيول ليس صوت الخيول وهي تصدر  هذا الوقع اثناء جريها.

من هنا يجد كلب طريقه في الثلج بعظم بشري.

وماذا بعد؟ ماذا اكثر؟ حتى الساعات نفد وقتها.

ولكن يا صديقي، النفق ! لا يزال هناك نفق للبرتقال.

***

.....................

كارولين فورشيه: شاعرة ومحررة وناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان من مواليد ديترويت بولاية مشيغان الأميركية عام 1950، نالت شهادتها الجامعية في العلاقات الدولية والكتابة الإبداعية ثم عملت في التدريس الجامعي وظهرت مقالاتها في أبرز الصحف الأميركية. سافرت عام 1977 إلى اسبانيا لتترجم أعمال الشاعرة النيكاراغوية / السلفادورية كلاريبيل أليغريا في منفاها هناك، بعد ذلك سافرت إلى السلفادور لتعمل في الدفاع عن حقوق الإنسان خلال الحرب الأهلية هناك. نشرت أول مجموعاتها الشعرية بعنوان (تجميع القبائل) عام 1976 فنالت جائزة جامعة ييل للشعراء الشباب التي تمنحها مطبعة الجامعة. أصدرت مجموعة ثانية بعنوان (البلد الذي بيننا) عام 1981 كما حررت أنطولوجيا شهيرة بعنوان (ضد النسيان: شعر الشهادة في القرن العشرين) عام 1993 تتضمن قصائد اختيرت لأنها تشكل شهادات عن حالات اضطهاد وعنف وانتهاك سياسية وعقائدية مختلفة. من مجموعاتها الأخرى (ملاك التاريخ) 1994 و(ساعة زرقاء) 2003.

 

قصيدة للشاعر الانكليزي

وليم هنري دافيس

ترجمة: سالم الياس مدالو

Davies in 1913 (by Alvin Langdon Coburn)

***

ما هي هذه الحياة

اذا كانت ملاى بالهموم والرغبات

لا وقت لنا فيها

للوقوف وللتحديق

*

لا وقت لنا للوقوف بين

الغصون والتحديق

بالابقار والمواشي

*

ولا وقت لنا لرؤية الغابة

التي نمر بها حيث

السناجب تخبئ بندقاتها

بين الاعشاب

*

لا وقت لنا فيها لرؤية جداولا

في النهار الفسيح

ملاى بالنجوم

كتلك النجوم الليلية التي نراها

في قبة السماء

*

ولا وقت لدينا للتلفت والنظر

الى صبية حسناء

لا وقت لدينا لمراقبة

رجليها كيف ترقصان

*

ولا وقت لدينا للانتظار

حتى يخصب فمها ابتسامتها

التي بداتها عيناها

*

مجدبة وفقيرة وملاى بالهموم

هي هذه الحياة حيث

لا وقت لنا فيها للوقوف

او للتحديق

***

.........................

النص بالانكليزية

W. H. Davies

Leisure

WHAT is this life if, full of care,

We have no time to stand and stare?—

No time to stand beneath the boughs,

And stare as long as sheep and cows:

*

No time to see, when woods we pass,

Where squirrels hide their nuts in grass:

*

No time to see, in broad daylight,

Streams full of stars, like skies at night:

*

No time to turn at Beauty s glance,

And watch her feet, how they can dance:

*

No time to wait till her mouth can

Enrich that smile her eyes began?

*

A poor life this if, full of care,

We have no time to stand and stare

...................

* وليم هنري دافيس (1871- 1940):

عمل الشاعر كمتدرب لصانع اطارات الصور ثم اصبح بائعا متجولا ومغنيا في الشوارع في انكلترا وبعد عدة سنوات  نشر سيرته الذاتية بعنوان الصعلوك الخارق كان ذلك في عام 1907. وهي من اهم اعماله النثرية  بمقدمة  كتبها  الكاتب المسرحي الكبير جورج برنادشو ثم تلاها بقصائد الطبيعة عام 1908. وبعد ذلك نشر عدة اعمال عام 1930 ,1931 , وعام 1932 .

 

قصة : كلوديا هيرنانديز

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد خرجت لأنني دعيت للقيام بذلك. كنت قد استحممت للتو وكنت أنظر من نافذة غرفتي عندما رأيت نفسي فجأة أعبر بجانبي. لقد كان أنا. لكن ليس أنا التي رأيتها في  المرآة، بل كانت أنا الأخرى التي أعرفها ولكنني لم أرها منذ فترة طويلة:  أنا الفتاة. من المستحيل الخلط بين شكلي وطريقة مشيتي ، ظلي وفستاني الشاحب وحذائي السميك. لقد كنت أنا الذي أعبر أمام منزلي أركض بسرعة جعلتني أشك. ظننت أن هذا من مخيلتي، أنني لا بد وأنني كنت أركض في الشوارع التي تبدو قديمة جدًا، كوني في مثل هذه المدينة الشابة. لقد تركتني أبتسم كم كان جميلا أن أرى نفسي بعظام صغيرة وأسنان صغيرة مرة أخرى.

ألقيت نظرة أفضل من النافذة. كنت آمل أنه إذا بقيت هناك لفترة كافية، إذا انتظرت فقط، فسوف تطفو الفتاة الصغيرة مثل الفراشة. وبعد عشر دقائق (الوقت الذي استغرقته في الركض حول الحي والعودة عندما كنت صغيرًا) عادت الفتاة الصغيرة إلى الظهور. توقفت أمامي حيث كنت أقف بجانب النافذة. ابتسمت مرة أخرى لنفسي وركضت عبر الحي سبع مرات. ثم دعتني الفتاة الصغيرة للعب بإشارة مقنعة. لذلك أنا – التي أردت الخروج وإمساك يدي والجري والجري والجري والجري – نزلت بسرعة على الدرج.

وفي منتصف الطريق أدركت أنني كنت عارية، وتوقفت لأنني تذكرت أن الجيران أخرجوا أطفالهم في هذا الوقت من اليوم. من المؤكد أنهم سيشعرون بالقلق (ليس من الشائع هنا رؤية نساء عاريات يركضن في الشوارع جنبًا إلى جنب مع أنفسهن كفتيات صغيرات)، لذلك صعدت إلى الغرفة لأصرخ عليها أنني لا أستطيع مرافقتها لأنها كانت بدون ملابس وأنني آسف جدًا.

رأيت في وجهها أنها لم تصدقني. لذلك انحنيت من النافذة لأثبت لها ذلك.

لا يبدو أنها تهتم. ظلت تصرخ عليّ أن أخرج، أن أخرج الآن، وأن أسرع.  كانت تدوس بقدميها بإصرار، مما جعل الأسفلت يهتز. لقد كانت تجعلني متوترة للغاية. وبينما كنت يائسًة من عدم قدرتي على الخروج لألعب مع نفسي، سمعت صوتي - ليس صوتي كطفلة ولا صوتي الحالي،بل صوتي كامرأة عجوز الذي قال لي أن أخرج لألعب مع فتاتي الصغيرة.ولا يجعلني أنتظر. لقد تحدثت معي بصوت موثوق. أعطت الأمر، وبما أنني لم أبذل أي جهد لارتداء ملابسي، لفتني بملاءة وسحبتني من يدي نحو الباب . بمجرد نزولي إلى الطابق السفلي، علقت السيدة العجوز مفتاح المنزل حول رقبتي عندما عدت ودفعتني للخروج إلى الشارع للحاق بالفتاة الصغيرة التي عندما رأتني أخرج، شرعت في الركض. وضحكاتها معلقة في الهواء كالبالونات الضخمة.

طوال الصباح كنت أركض خلف نفسي دون أن أتمكن من اللحاق بي. حثتني الفتاة الصغيرة على الإسراع لأتمكن من اللحاق بنفسي، لكنها كانت أسرع بكثير منى ، أسرع من واحدة  في مثل عمري. ركضت ونظرت إلى نفسي بسخرية مع ضحكة الفتاة الصغيرة، بينما كانت السيدة العجوز تراقبنا من المدخل. بدا كلاهما راضيًا تمامًا. لقد بدوتا مثل الشخصيات في اللوحة. كنت الوحيدة التي انفصلت عن المشهد المتناغم. لم أكن أبتسم، وقدماي تؤلماني من الركض حافية على الأسفلت الساخن.

ركضنا في جميع أنحاء الحي. فجأة شقت الفتاة الصغيرة طريقها إلى المدينة. حاولت أن أتبعها، مسترشدًة فقط بضحكاتها. كنت مصممة على الإمساك بها، لكني كنت في وضع غير مؤات لأنني لم أكن أعرف مكانها. ولم أكن أعرف حتى أين كنت. يبدو أن المدينة تعيد ترتيب نفسها خلفي. لم أتمكن من العثور على أية أدلة حول مكان وجودها أو مكان وجودي. ولم يقدم الناس في الشارع أية مساعدة أيضًا. أخبرني البعض أنني قريبة من الحي الذي أعيش فيه؛ والبعض الآخر قال أنه لن بكون أبعد من هنا. ولهذا السبب فضلت المشي وحدي، واثقة من أنني سأخرج من هناك بطريقة ما. قلت لنفسي أن أكون صبورة. قلت لنفسي أن أكون قوية. قلت لنفسي على فقط أن أواصل المشي. كنت واثقًة من أنني سأتمكن من إيجاد طريقة للخروج من المتاهة. لكن كل ثقتي لم تستطع التغلب على قلقي الذي اتخذ شكل طيور داكنة تهبط عليّ؛ كان علي أن أدفعها بعيدًا بيدي وأنا أسير.

لقد مررت بنفس الأماكن عدة مرات حتى فقدت الأمل في العودة. وعندما استسلمت تمامًا، ولم أعد أرغب في العثور على منزلي بعد الآن، لمحت سقف منزلي الأزرق ونافذتي. مشيت نحوهما في الشفق. كان الليل يهرع خلفي.

بحثًا عن ملجأ من ليالي هذه المنطقة الباردة، أخذت المفتاح الذي ربطته المرأة العجوز حول رقبتي ووضعته في القفل. دخل دون مشاكل وحتى أنه استدار، لكنه لم يفتح. لقد فشل في جميع المحاولات الأربعة. لذلك، على الرغم من أنني أعيش وحدي، طرقت الباب على شخص ما ليفتح لي.

عندما لم يرد أحد على طرقاتى، بدأت أفكر في مكان العثور على صانع أقفال يساعدني ولا يسألني عن سبب تركي بالخارج ملفوفة بملاءة.

كنت أفكر بكل هذا عندما سقطت بطانية فوقي. "من أجل البرد"، قال صوت من نافذة غرفة نومي تعرفت عليه على الفور لأنه الصوت الذي كنت أتحدث إليه في طفولتي. - فتاة صغيرة - حدقت بسخرية خارج النافذة. ضحكت في وجهي.صرخت فيها لتفتح الباب، وتسمح لي بالدخول على الفور، لتفتح هذه اللحظة، لكنها لم تستجب لطلبي. لقد ابتسمت للتو ولوحت وداعًا حتى وصلت أنا،السيدة العجوز، وسحبتها إلى المنزل. نظرت إلي وكأنني مصدر إزعاج، وعندما طلبت منها السماح لي بالدخول أغلقت النافذة واختفت.

نظرت إلي كما ينظر الناس إلى الكائن المزعج عندما طلبت منها السماح لي بالدخول، أغلقت النافذة واختفت.

أدركت حينها أنه لن يسمح لي بالدخول أبدًا،، لذا استدرت وتوجهت إلى المدينة بحثًا عن عمل يسمح لي بدفع إيجار غرفة أستطيع العيش فيها. بحثت عن مكان في مبنى مرتفع جدًا، مكان لا يمكن فيه تمييز أصوات الأشخاص الذين يسيرون في الشارع، فإذا ما عادوا لا أستطيع سماعهم أو قبول دعواتهم أو الخروج إلى الشارع ، أو أخرج للعب، أو أفقد منزلي مرة أخرى.

(تمت)

***

............................

المؤلفة: كلوديا هيرنانديز جونزاليس/ Claudia Hernández Gonzáles كاتبة من السلفادور. ولدت في سان سلفادور عام 1975. حصلت على شهادة في الاتصالات والعلاقات العامة  من الجامعة التكنولوجية في السلفادور، كما درست القانون أيضًا. منذ أواخر التسعينيات، نشرت قصصًا في الصحف السلفادورية CoLatino وEl Diario de Hoy. وفي عام 1998، فازت بالجائزة الفخرية الأولى لجائزة خوان رولفو للقصة القصيرة من إذاعة فرنسا الدولية. نشرت هيرنانديز ست مجموعات من القصص القصيرة. وفي عام 2004، فازت بجائزة آنا سيجيرز المرموقة في ألمانيا عن عملها المنشور. نُشرت قصصها في عدة مختارات في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة. تعمل هيرنانديز حاليًا كأستاذ في جامعة خوسيه سيميون كانياس بأمريكا الوسطى. أحدث أعمالها، لقد طردوها مرة أخرى، والتي نُشرت في طبعة ثنائية اللغة في عام 2016، وهي أول رواية قصيرة للمؤلفة تُترجم إلى الإنجليزية. وقد كرست نفسها لكتابة القصص وتعليم الكتابة. يُنظر إلي كلوديا هيرنانديز على أنها من بين الكتاب السلفادوريين البارزين الأحياء. تتعلق العديد من قصصها بعناصر الحياة البشعة أثناء الحرب الأهلية وبعدها.

شعر:  أوسكار وايلد

ترجمة: قصي الشيخ عسكر

***

حافلة ما تعبر الجسر

تزحف مثل فراشة صفراء

وهنا

وهناك

يظهر العابرون مثل ذباب صغير مرتعش

المراكب الصغيرة مليئة بالقش الأصفر

تُنقل حيث الظلال التي تجثم على الميناء

و

مثل شال حريري أصفر

الضباب الكثيف يخيم على الرصيف

الأوراق الصفراء أخذت تتلاشى

وهي ترفرف من معبد الدردار1

وعند قدمي

يتهاوى نهر التايمزمثل حجر اليشم الممزق2.

**

إلى زوجتي

لا أستطيع أن أكتب شعرا فخما

كأيّ شاعر يكتب قصيدة كمقدمة تفصح عن شخصه

لذلك

إذا ماواحدة  من تلك البتلات المتساقطة

بدت جميلة بنظرك

فإن الحبّ سيطير بها

حتى تستقرّ بشعرك

وعندما الرياح والشتاء

يجعلان كلّ الأراضي الجميلة صلبة

سوف أهمس من الحديقة وأنت تفهمين

***

.......................

* أوسكار وايلد: كاتب إيرلندي شهير ولد عام 1854 وتوفي عام 190 وهو روائي ومؤلف مسرحيوشاعر كان من أكثر كتاب المسرحيات شهرة في العاصمة لندن.

1- شجر الدردار في العصر الوثني الإيرلندي تقام عنده المعابد وفي العصر المسيحي كان الكاثوليك يجتمعون عنده خلال الحروب الدينية بينهم والبروتستانت وفيواخذها بعدها يرمز للجب والسلام

2- اليشم من الأحجار الكريمة

الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس

ترجمة: جمعة عبد الله

***

جدار

بدون تفكير وآسف ووجهة نظر

بنوا جداراً عالياً وكبيراً حولي

وأنا جالس متقوقع في حضرة اليأس

لم اتصور، أو لم يدر في ذهني كيف بنوا جداراً ؟

هناك اشياء تحدث خارج الرغبة

لم انتبه الى بناء الجدار

لم اسمع صوت أو ضجة البناء

وبشكل غير محسوس أغلقوا العالم عني

**

شموع

المستقبل والأيام تقف أمامنا

صفاً من الشموع تتوهج بالنور

شموع ذهبية.. دافئة ... نابضة بالحياة

لنترك الأيام الماضية خلفنا

من المحزن أن تتجمع قربها الأدخنة كي تطفئها

وتجعلها ..

شموع باردة.. ذابلة.. منكسرة

لا أريد أن ارى شكل الشموع بهذا الحزن

وهذا ما يجعلني حزيناً

وأنا آسف لأول ضوء اتذكره

الى الامام الى شموعي التي انتظرها

لا أرغب أن أعود واجد الفزع يلتهم شكل الشموع

لماذا وبسرعة تتحرك خطوط الظلام من بعيد حولها

لماذا وبسرعة تتراكم الأشياء قرب الشموع كي تطفئها

**

نوافذ

هذه الغرف المظلمة ترهقني

أيامها ثقيلة تلعب وتدور حولي

تحت.. فوق.. وبجانبي

أحاول أن أعثر على النوافذ المفتوحة

أريد نافذة واحدة تسليني

لم أعثر عليها أو لم استطع ذلك

ربما رسمها أفضل إذا لم أجدها

ربما يكون النور الجديد طاغياً

منْ يعرف أشياء جديدة ، أن يرشدنا

***

....................

* الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس: (1863 - 1933 / ولد في مدينة الاسكندرية / مصر)

 

قصة: خورجي إيبارجوينجويتيا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يجب أن أكون حصيفا؛لا أريد أن أوقعها في مشكلة، سأتصل بها.. لدي صورة لها على مكتبي وبعض الصور الفوتوغرافية لأشخاص آخرين بالإضافة إلى منديل ملطخ بالمكياج قمت باستلابه من مكان ما. أعني أنني أعرف من هي، لكن لا أريد أن أقول، مع أنها تمثل إحدى لحظات ذروة حياتي العاطفية.الصورة جيدة للغاية نظرًا لأنها بحجم جواز السفر.إنها تنظر إلى الكاميرا بعينيها اللوزيتين الكبيرتين، وقد سحبت شعرها للخلف ليكشف عن هاتين الأذنين الكبيرتين اللتين تلتصقان بالقرب من جمجمتها، لدرجة أنها تجعلني أعتقد أنها عندما كانت طفلة،لا بد أنها ربطتها بقطعة قماش لاصقة خشية أن تصبحا مثل الطائرة الورقية؛ عظام الخد البارزة، والأنف الصغير ذو فتحتي الأنف المفتوحتين للغاية، ومن الأسفل... فمها الرائع، كبير وسمين. في وقت ما، أثار النظر إلى الصورة أفكارًا عن حنان خاص تطور إلى حرارة داخلية وانتهت بحركات الجسد المناسبة لمثل هذه المشاعر. سأسميها أورورا. لا، ليس أورورا. ولا إستيلا أيضًا. سأسميها "هي ".

لقد حدث هذا منذ فترة، عندما كنت أصغر سنا وأفضل مظهرا. كان ذلك في الفترة التي سبقت عيد الميلاد، وكنت أسير في شارع كالي دي ماديرو مرتديًا بنطال الجينز الذي غسلته مؤخرًا وفي جيبي ثلاثمائة بيزو. لقد كان يومًا مشرقًا جميلًا. خرجت من الحشد ووضعت يدها على ساعدي. قالت: "جورجي". أوه، الحياة والبيلا! كنا نعرف بعضنا البعض منذ أن اعتدنا أن نبلل السرير (كل على جانبه بالطبع)، لكننا لم نتمكن من رؤية بعضنا البعض أكثر من اثنتي عشرة مرة منذ ذلك الحين. وضعت يدي على عنقها وقبلتها. ثم رأيت أن والدتها كانت تراقبنا من على بعد بضعة أقدام. ألقيت التحية على والدتها، ووضعت يدي على حلقها وقبلتها أيضًا. بعد ذلك ذهبنا نحن الثلاثة بسعادة لتناول القهوة في سانبورنز. على الطاولة وضعت يدي على يدها وضغطتها حتى رأيتها تضغط ساقيها معًا. ذكرتني والدتها بأن ابنتها فتاة محترمة، متزوجة ولديها أطفال، وأنني حصلت على فرصتي منذ ثلاثة عشر عامًا وقد فوتها. عند سماع ذلك، خففت من اندفاعي الأولي وقررت عدم تجربة أي شيء آخر في الوقت الحالي. غادرنا سانبورنز وسرنا على طول لا ألاميدا، مرورًا بالتماثيل الإباحية، حتى سيارتها التي كانت متوقفة على مسافة طويلة. ثم أخذت بيدي وضربت كف يدي بإصبعها الأوسط حتى اضطررت إلى إدخال يدي الأخرى في جيبي في محاولة يائسة للحفاظ على شغفي تحت السيطرة. وصلنا أخيرًا إلى السيارة، وعندما ركبتها أدركت أنه قبل ثلاثة عشر عامًا لم أفقد ساقيها وفمها الرائع وأردافها الصحية فحسب، بل أيضًا ثلاثة أو أربعة ملايين بيزو صالحة للاستعمال. لقد أوصلنا والدتها لتناول الطعام في مكان ما، ليس من المهم أين. بقينا في السيارة أنا وهي وحدنا، وأخبرتها أنني مازلت أفكر بها، فقالت إنها لا تزال تفكر في . اقتربت منها قليلاً، وحذرتني من أنها تتعرق لأن وظيفتها تجعلها تتعرق. قلت وأنا أشم رائحتها: "لا أهتم، على الإطلاق". ولم أهتم. ثم قمت بسحب شعرها وقضم مؤخرة رقبتها وضغطت على بطنها... حتى اصطدمنا عند زاوية تاماوليباس وسونورا.

بعد الحادث ذهبنا إلى سبتمبر دي تاماوليباس لشرب الجن والمقويات والهمس لبعضنا البعض بالكلمات الحلوة.

كان الفراق قاسيًا ولكن لا مفر منه لأنها كانت ستتناول الغداء مع حماتها. "هل سأراك مجددا؟" "أبداً." "إذا مع السلامة." "مع السلامة." اختفت في سيارتها القوية في طريق إنسورجينتس، وذهبت أنا إلى كانتينا إل بيلون حيث شربت المسكر من سان لويس بوتوسي والبيرة وتجادلت حول ألوهية المسيح مع عدد قليل من الأصدقاء حتى الساعة السابعة والنصف، وحينها كنت مريضًا. ثم ذهبت إلى بيلاس أرتيس في سيارة أجرة معطلة.

كانت عيناي غائمتين عندما تعثرت في الردهة. أول شيء رأيته وسط بحر الأشخاص التافهين، مثل الزهرة التي تخرج من قوقعتها، كانت هي. فجاءت مبتسمة وقالت: «تعال وابحث عني غدًا»  وحددت الزمان والمكان ثم غادرت.

يا شهوة الجسد الحلوة! ملجأ الخطاة، عزاء المتألم، إغاثة المرضى العقليين، تسلية الفقراء، ترفيه المثقفين وترف المسنين. أشكرك يا رب لأنك منحتنا استخدام هذه الأجزاء التي تجعل هذا الوجود في وادي الدموع الذي وضعتنا فيه أكثر احتمالاً!

في اليوم التالي حضرت للموعد في الوقت المحدد. دخلت المبنى ووجدتها تعمل في المهنة التي جعلتها تتعرق بغزارة. نظرت إلي بارتياح، وفخورة بمهارتها، وقليلة التحدي أيضًا، كما لو كانت تقول: "هذا لك". لقد أذهلتني لمدة نصف ساعة، معجبًا بكل جزء من جسدها وفهمت لأول مرة جوهر الفن الذي كانت تمارسه. عندما انتهت استعدت للخروج ونظرت إلي في صمت. ثم أخذت ذراعي بطريقة رقيقة جداً. نزلنا الدرج، وعندما خرجنا إلى الشارع قابلتنا والدتها اللعينة.

ذهبنا للتسوق مع الشمطاء العجوز ثم، مرة أخرى، لتناول القهوة في سانبورنز. لمدة ساعتين كان عليّ أن أحتفظ بشيء ما - لن أعرف أبدًا ما إذا كان ذلك تنهدًا أم صرخة. أسوأ ما في الأمر هو أنه عندما أصبحت أنا وهي أخيرًا وحدنا مرة أخرى، بدأت تتلو على  سلسلة غبية عن مدى حظها وامتنانها لله لأنه أنقذها من ارتكاب خطيئة الزنا الفظيعة. لقد جربت كل الحيل اليائسة المتاحة لي - سلسلة من التحرشات والوخزات ومحاولات القتل التي تنطوي على الاختناق والتي يمكن أن تكون فعالة جدًا مع بعض النساء - ولكن دون جدوى. نزلت من السيارة في فيليكس كويفاس.

أعتقد أنها عندما رأتني أقف يائسًا على الرصيف، أشفقت علي لأنها فتحت حقيبة يدها وأعطتني الصورة الشهيرة وقالت إنها إذا قررت أن تفعل ذلك (ارتكاب الخطيئة)، فسوف ترسل لي برقية.

وبالفعل، بعد مرور شهر، لم أتلق برقية، ولكن رسالة بالبريد الإلكتروني تقول:: "عزيزي خورخي، قابلني في كونديتوري" في يوم ووقت كذا وكذا (مساءً)، موقعة بعبارة "خمن من؟" باللغة الإنجليزية. ركضت إلى المكتب، وأخرجت الصورة وحدقت فيها، متوقعًا اللحظة التي ستشبع فيها غرائزي البائسة.

وجدت من يقرضني شقة وبعض المال. ارتديت ملابس رثة بعض الشيء، ومع ذلك كانت تناسبني جيدًا، وسرت في شارع كالي دي جينوفا في فترة ما بعد الظهر، ووصلت إلى كونديتوري قبل ربع ساعة من الموعد المحدد. بحثت عن طاولة موضوعة بشكل خفي لأنني لم أرغب في أن يراني مئات الأشخاص هناك، وعندما وجدت واحدة جلست في مواجهة الشارع؛ طلبت القهوة وأشعلت سيجارة وانتظرت. طلبت القهوة وأشعلت سيجارة وانتظرت. بدأ الأشخاص الذين أعرفهم في الوصول، واستقبلتهم ببرود شديد لدرجة أنهم لم يجرؤوا على الاقتراب مني.

مر الوقت.

أثناء سيري في شارع كالي دي جينوفا مرت بجانبى ( نون)  فتاة صغيرة كانت في وقت آخر حب حياتي، واختفت. وشكرت الله على ذلك.

بدأت أتخيل كيف سترتدي ملابسها وخطر لي أنها ستكون عارية بين ذراعي خلال ساعتين.

مرت ( نون)  مرة أخرى في شارع جينوفا واختفت مرة أخرى. هذه المرة كان علي أن أغطي وجهي بيدي، لأن (نون) كانت تنظر نحو المقهى.

لقد حان الوقت. كنت متوترًا للغاية، لكنني كنت على استعداد للانتظار ثمانية أيام إذا لزم الأمر، فقط لقضاء بعض الوقت بمفردي مع هذه المرأة العنيدة.

ثم يفتح باب المقهى. تدخل (نون) الفتاة التي كانت حب حياتي، وتعبر الغرفة وتجلس أمامي مبتسمة وتسألني:

- هل تخمينك صحيح؟

انفجرت فى الضحك. ضحكت وضحكت حتى بدأت"نون" تشعر بعدم الارتياح؛ ثم عدت إلى صوابي، وتحدثنا بسرور قليلاً وأخيراً رافقتها إلى حيث كان أصدقاؤها ينتظرونها للذهاب إلى السينما.

لقد انتقلت إلى جزء آخر من البلاد مع زوجها وأطفالها.

ذات مرة اضطررت للذهاب إلى المدينة التي تعيش فيها للعمل. عندما انتهيت من عملى في اليوم الأول، بحثت عن رقمها في دليل الهاتف واتصلت بها؛ كانت سعيدة جدًا لسماع صوتي ودعتني لتناول العشاء.

كان الباب مزودًا بمطرقة ويتم فتحه عن طريق سحب الحبل. عندما دخلت القاعة رأيتها واقفة فى أعلى الدرج، ترتدي بنطالًا أخضر ضيقًا للغاية يعكس أفضل ما في جسدها. عندما صعدت الدرج نظرنا إلى بعضنا البعض، وابتسمنا، دون أن نقول كلمة واحدة. وعندما وصلت إليها، مدت ذراعيها، ولفتهما حول رقبتي وقبلتني. ثم أخذت بيدي، وبينما كنت أنظر إليها بغباء، قادتني عبر الفناء إلى غرفة المعيشة وهناك، على الأريكة، تبادلنا القبلات مائتين أو ثلاثمائة قبلة... حتى عاد أطفالها من الملعب. ثم ذهبنا لإطعام الأرانب.

أحد الأطفال، الذي كان مصابًا بعقدة أوديب، كان يبصق في وجهي في كل مرة أقترب منها ويصرخ "إنها لي!". ثم، وبدون أي خجل، فك أزرار قميصها وأدخل يديه إلى داخله ليلعب بصدرها ، بينما كانت تنظر إلي باستمتاع. استمر العذاب لبعض الوقت حتى ذهب الأطفال إلى الفراش وذهبنا إلى المطبخ لإعداد العشاء. وعندما فتحت الثلاجة جددت الهجوم وبدا الوضع مبشرا، ولكن بعد ذلك وصل زوجها. سكب لي شراب "باتي" وقادني إلى غرفة المعيشة، حيث تحدثنا عن كل أنواع الهراء. وأخيرا، كانت الوجبة جاهزة. جلسنا نحن الثلاثة على الطاولة، تناولنا الطعام، وعندما وصلنا إلى القهوة، بدأ الهاتف بالرنين. نهض الزوج للإجابة وفي هذه الأثناء بدأت هي بجمع الأطباق وأمسكت بذراعها وقبلت معصمها. بهذا الفعل البسيط حققت أكثر بكثير مما كنت أتوقع: توجهت نحو المطبخ ومعها كومة من الأطباق المتسخة. عاد الزوج، وارتدى سترته وأوضح لي أن شركة التوصيل اتصلت به لإخباره أنهم استلموا للتو بندقية عيار سميث آند ويسون 38 الذي أرسلها إليه شقيقه من مكسيكو سيتي مع شيء آخر لا أتذكره. على أية حال، عليه أن يذهب لإحضار البندقية على الفور؛ سأشعر بأنني في منزلي: هنا مشروب الروم، وهنا القرص الدوار، وهناك زوجتي. وسيعود خلال ربع ساعة. يخرج الزوج إلى الشارع، وأذهب أنا إلى المطبخ، وبينما كان يشغل السيارة كنت أطارد زوجته.عندما حاصرتها قالت لي "انتظر لحظة" وأخذتني إلى غرفة المعيشة. صبت كأسين من مشروب الروم ، وأسقطت مكعبًا من الثلج في كل منهما، وذهبت إلى مُشغل الأسطوانات، وقامت بتشغيله وضعت أسطوانة تسمى "Le sacre du Sauvage". بدأت الموسيقى ورفعنا نخبًا. لقد مرت أربع دقائق. ثم بدأت بالرقص بمفردها. قالت: "هذا لك". نظرت إليها بينما كنت أحسب المكان الذي سيكون فيه زوجها في رحلته حاملاً سلاحه القاتل .38 سميث آند ويسون. ورقصت ورقصت.رقصت على أنغام أعمال شيت بيكر الكاملة.  إذ مرت ثلاثة أرباع الساعة دون أن يعود زوجها، ولا هي تتعب، ولا أجرؤ على فعل أي شيء.

لقد مرت خمسة وأربعون دقيقة بالفعل، ولم يعد زوجها بعد، ولم تتعب بعد من الرقص، ولم أجرؤ بعد على فعل أي شيء. في تلك اللحظة قررت أن زوجها، بالمسدس أو بدونه، لا يخيفني كثيرًا. نهضت من مقعدي واقتربت منها. واصلت الرقصكما لو كانت ممسوسة، وبقوة غير عادية على الإطلاق، رفعتها وألقيتها على الأريكة. لقد أحبت ذلك. انقضتت عليها كالنمر وبينما كنا نتبادل القبل بشغف، بحثت عن سحاب بنطالها الأخضر وحاولت أن أسحبه إلى الأسفل ولكن... تبا، إنه لا يفتح! ولم يتم فتحه قط.لقد بذلنا قصارى جهدنا، في البداية أنا ثم هي، وفي النهاية كلينا معًا، وعاد الزوج قبل أن نتمكن من فتح السحاب. كنا نلهث ونتعرق، لكننا كنا نرتدي ملابسنا كاملة ، لذلك لم نضطر إلى تقديم أية تفسيرات.

ربما كان بإمكاني العودة في اليوم التالي لإنهاء ما بدأته، أو في اليوم التالي لليوم التالي، أو أي من الأيام الألف التي مرت منذ ذلك الحين. لكن لسبب أو لآخر لم أفعل ذلك قط. لم أرها مرة أخرى. الآن، كل ما تبقى لي هو الصورة التي أحتفظ بها في درج مكتبي، وفكرة أن النساء اللواتي لم أحظ بهن (كما يحدث مع كل المغويات العظيمات في التاريخ)، هن أكثر من حبات الرمل على وجه الأرض أو فى قاع البحر.

(تمت)

***

......................

المؤلف: خورجي إيبارجوينجويتيا/ Jorge Ibargüengoitia (1928-1983). كاتب  وصحفي  مكسيكي . يعد أحد أكثر وأهم الأصوات سخرية وذكاءً في أدب أمريكا اللاتينية في القرن العشرين وناقدًا لاذعًا للواقع الاجتماعي والسياسي لبلاده. درس الأدب والفلسفة في جامعة المكسيك الوطنية (UNAM) وحصل على منح دراسية من مركز الكتاب المكسيكيين ومن مؤسسات روكفلر وفيرفيلد وغوغنهايم. تشمل أعماله الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والتاريخ وأدب الأطفال، وله أكثر من عشرين كتاباً. في عام 1983 توفي إيبارجوينجويتيا في حادث تحطم طائرة.

 

بقلم: جانيت ونترسون

ترجمة صالح الرزوق

***

قابلت غابرييل أنجيل عام 1956. في سنة اقتران آرثر ميلر بمارلين مونرو. كنت في الطريق إلى البلاد، وغابرييل أنجيل تغادر بلدها، ووجهتنا نحن الاثنين واحدة، وهي لندن. وتصادف في حينه وجود آل ميلر هناك أيضا.

كانت كاودينبيث سفينة مبطنة بالماهوغوني وتعود لأيام ما قبل الحرب. وتبدو كأنها زورق في وقت الاستحمام، بمدخنتين سوداوين عريضتين، وتجهيزات مريحة تساعدها على الاستقرار في الماء. رشيقة وموهوبة من جيل نانسي أستور، وليس مقتصدة من جماعة الخمسينات. وقد أعيد ترميمها لتصبح سفينة يبحر بها الجنود في وقت الحرب، ولكن أفلت الآن أيام إبحارها. لقد تلفت، وكانت وقت وصولي إلى هناك مجرد عبارة تبحر مرة في الشهر من ساوثامبتون إلى سانت لوسيا، ثم كل شهر تبحر ثانية لتعود من حيث أتت. تمضي من طرف الحوض المائي إلى طرفه الآخر بغضون ثماني أيام. ومع أنها لم تعد براقة بقي لديها الكثير من القصص لتروى، ولطالما أحببت ذلك في النساء. وهذا ما أحببته في غابرييل أنجيل. سببت لي الرحلة القلق، ولذلك استيقظت في يوم المغادرة، في الفجر، فتحت وأغلقت الخزانة، وأزعجت الحارس بشدة الحرص على سلامة أشيائي. كان طريق العبور إلى كودينبيث مزدحما بأشخاص يركضون عشوائيا مثل جيش من النمل أمام طوابير من النمل. ورأيت هناك ناقلات تنتظر التحميل، وأطعمة يجب نقلها على متن السفينة، على أن ينتهي كل شيء قبل الانطلاق في الحادية عشرة. عالم مستتر، أو عالم يفترض أنه مستتر  ويسعب إدراكه. أردت أن أراقب الجهد الذي يبذله بعض الناس ليضمنوا رخاء الآخرين. لا تسيئوا فهمي. على الأغلب أنا بنفسي جزء من العالم الخفي. وبعد ساعتين أفسدت بطريقة غير عكوسة بذتي الرسمية الدائمة، وذلك بالجلوس منكفئا على نفسي في لفة من الحبال. شاهدت امرأة سوداء حسنة المظهر، ربما بالعشرين، وربما بالخامسة والعشرين، واقفة وقدماها ملتصقتان، وفي يدها حقيبة يد بنية صغيرة. وكانت تتأمل السفينة كأنها تفكر بشرائها. لو أن البحر ليس بضفة واحدة، لدارت حوله، ورأسها مرفوع مثل كلب سبانيال، وهي تشحذ عينيها بكثير من الرزانة.  بعد عدة دقائق انضمت إليها امرأة  أكبر بالعمر ومعتزة بنفسها. قالت لها الأصغر شيئا ما، ثم مدت ذراعيها نحو السفينة. ومهما كان ما قالته، ضحكت الاثنتان، ولم يؤثر ذلك على أعصابي. كنت أريد أن أثق بما يجري، وأن تكون السفينة واقفة أمامي،  وأن لا أنظر إليها كأنها بالة من القطن. ابتعدت عن حلقة الحبال، وحملت قبعتي، وتبخترت نحوهما. لم تنظرا لي، ولكن سمعت الأكبر بالعمر  تطلب علبة بسكويت معدنية تحمل على الغطاء صورة الملكة. كل شيء في الكومنولث متماثل. والجميع مغرم بالملكة الأخيرة. ولكنها شابة جدا بنظري.

***

قادني عامل الخدمة إلى مقصورتي. رأيت اسمي. السيد دانكان ستيوارت. رقم  D22. فتحت حقيبة اليد، ووضعت عدة أشياء على السرير السفلي، ثم عدت أدراجي إلى السطح لأراقب المنظر. كنت أحب مشاهدة لحظة وصول الناس، وتخيل حياة كل منهم. فهذا يعفيني من متاعب التفكير بظروف حياتي. لا يجب على الإنسان أن يكون ذاتيا جدا كي لا تضعف شخصيته. وهذه النقطة هي الفرق بين تينيسي وليامز وأرنست همنغواي. وأنا رجل من نمط همنغواي، ولكن لا أومن بمطاردة وصيد الأسود. انظروا الآن للشخصين الصاعدين على متن السفينة في هذه اللحظة. أراهن أنهما سحاقيتان. كلتاهما في الخامسة والستين، وقد تقلصتا داخل بذتين قطنيتين، وتعتمران قبعة بناما عتيقة. للممتلئة وجه بشكل ولون كرة الكريكيت، وتبدو الرفيعة كما لو أنها تعرضت للطي أكثر مما يجب. والصندل الذي ترتديه الممتلئة: ملمع مثل حبة الكستناء ومربوط برباط قوي. ربط الحذاء مسألة شخصية تكشف مزاج صاحبه. توجد أربطة متقاطعة، للرجال الأنيقين والأشداء الذين يتمسكون بالنظام سرا. وتوجد أربطة مستقيمة، تدل على التظاهر بقوة زائفة، ولكن إذا فكوها، يا إلهي، ترى أفعالهم. وتوجد أربطة متينة، وتعود على من يحتاج للشعور بالأمان، وتوجد أربطة مرتخية، وتدل على أشخاص يفضلون القليل من الحرية، وربما على أشخاص يفضلون الاستغناء عن لبس الأحذية. وقابلت كثيرين يفضلون عقدة مزدوجة. هؤلاء كذابون. وأنا أقول ذلك عن اطلاع ومعرفة.

ما إن غابت السحاقيتان، وذهبتا وراء رائحة عطر ثقيل، ومسحوق تجميل الوجه الذي يفوح من العجوز، حتى عدت أدراجي إلى الأسفل، وفي نيتي إغفاءة لمدة ساعة. فجأة لحق بي تعب ملحوظ. ورغبت أن أتخلص من سترتي، وأهوّي قدمي، ثم أستيقظ بعد ساعة لتناول الويسكي والصودا. وتخيلت بذهني الرقاد وطعم الشراب. فتحت باب مقصورتي.  وهناك رأيت الشابة  التي لمحتها من قبل على السطح. التفتت إلى صوت الباب وبدا عليها الدهشة.

قالت: "هل يمكنني تقديم خدمة؟".

قلت: "لا بد من وجود خطأ. فهذه مقصورتي".

عبست وحملت قائمة الغرف من فوق حقيبتها الصغيرة. وارتعش صوتها يقول: " ‘D22. غ. أنجيل ود. ستيوارت".

قلت: " صحيح. أنا دانكان ستيوارت".

قالت: "وأنا غابرييل أنجيل".

"ولكن هذا يعني أنه يجب أن تكوني رجلا".

بدا عليها الارتباك، ونظرت إلى نفسها بالمرآة. وحاولت أن أواصل كلامي من هذه النقطة. كان كل شيء واضحا بنظري.  فقلت: "لأن غابرييل اسم رجل".

اعترضت بقولها: " ولكن غابرييل اسم ملاك".

"والملائكة رجال. انظري لصور رافائيل وميكائيل".

"بل انظر لصورة غابرييل". 

نظرت إليها. لم أشاهد أجنحة وإنما ساقين مدهشتين. وكنت لا أزال مرهقا، ولم أحبذ الجدل بمسائل لاهوتية مع امرأة شابة لا أعرفها. وفكرت بالسرير والويسكي وبدأت أشعر بالأسف لنفسي. وقررت أن أذهب وأحل المشكلة مع المشرف. فقلت لها: "انتظري هنا حتى أعود". وأضفت: "سأسوي الأمر".

لكن لم أسو الأمر. كانت السفينة محملة مثل زورق للنجاة. فالمشرف، مثلي، ومثل أي إنسان يعرف أساسيات الإنجيل، وافترض أن غابرييل اسم رجل. ولذلك خلطنا معا. ولا يمكن لركاب الدرجة الثانية ان يختاروا. وتوجب علي أن أشرح لها كل ذلك، لكن لم يطرف لها عين. إما أنها بريئة كما يظهر عليها، أو أنها ماكرة محترفة. بعض البنات يغذين الرجال بالحليب منذ انتفاخ صدورهن. ولم أرغب بمشكلة.

سألتها وأنا أجهز نفسي لحمل متاعي: "الأسفل أم الأعلى؟".

قالت: "الأعلى. فانا أحب المرتفعات".

تسلقته واستلقت عليه. وأنا تمددت في الاسفل، دون أن أتخلص من حذائي، خشية من رائحة القدمين. وشعرت بخيبة الأمل. كنت أتوقع وجود شريك في الغرفة، ولكن أملت أنه شاب قوي يحب لعب الورق وتناول الويسكي في آخر الليل. إذا فضلت الحفر لترى ماذا هناك تحت السطح، وراء الضروريات، لا تستطيع أن تضع الرجال بجانب النساء.

دلت رأسها من حافة السرير. وقالت: "نعسان؟".

"نعم".

"وأنا أيضا".

مرت فترة صمت. ثم سألتني ماذا أعمل لكسب قوت يومي.

قلت: "رجل أعمال. تاجر".

نظرت لي بالمقلوب، كأنها وطواط بني كبير الحجم.  وجعلتني أشعر بدوار البحر.

أضفت دون اهتمام حقيقي: "وأنت؟".

قالت: "قبطان طائرة".

مرت ثماني أيام في البحر. كل يوم أطول مما يحتاج له القدير لخلق كل العالم،  مع فترة عطلته. يومان معا أطول مما احتاج له الرب ليخلق جدتها حواء وجدي آدم. في هذه المرة لم تغشني التفاحة. اليوم جلسنا على السطح، غابرييل أنجل وأنا. أخبرتني أنها من مواليد عام 1937، في اليوم الذي أتمت به إميليا إرنهارت عبور الأطلنطي، وأصبحت أول امرأة تفعل ذلك. طيران منفرد. أما جدها، تقول له ج ا دي، فقد أخبرها أن هذه إشارة، ولذلك أطلقوا عليها اسم غابرييل "حامل الأخبار السعيدة"، شيء مشع ويطير. وعلمها جدها أن تسافر بطيارة البريد التي كان يقودها بين الجزر. وأنبأها أنه عليها أن تكون أذكى من الحياة، وأن تجد طريقة تهزم بها الجاذبية الأرضية، وأن تؤمن بنفسها كالملائكة، فأجسامهم براقة مثل اليعاسيب، بأجنحة ذهبية تعبر منها الشمس. وأنا لست ضد أحد يطابق بين حياته وحدث مهم له معنى،  وبهذه الطريقة يعزو لنفسه أهمية. الله يعلم أننا بحاجة لأي مربع نقف عليه، ويمكن أن نجده فوق جبل وجودنا الزجاجي. لكن المشكلة أنك تصعد وتصعد، وقرابة منتصف عمرك، تكتشف أن كل الوقت مر وأنت في نفس النقطة. وتعتقد أنك أصبحت شخصية معروفة حتى تنزلق وترى أنك مجهول ونكرة. وأنا أخبرك بذلك لأنني جربته. وختمت كلامها بقولها: "أنا فقيرة، ولكن حتى أفقر البشر يرثون شيئا، نظر الوالد، شجاعة الأم. أنا ورثت الأحلام".

ملت إلى الخلف. استطعت أن أرى فيها مساحة من أمل ساطع كنت أمتلك مثله في داخلي، وهو ما دفعني للتوتر والسخط. وجعلني أشعر بالأسف لأجلها أيضا. ورغبت أن أحضن يديها بيدي، وأن أغرس نظراتي في عينيها، وأن أجعلها تلاحظ أن العالم غير مستعد للاهتمام بأحلام بنت صغيرة سوداء اللون.

قالت: "سيد ستيوارت، هل شعرت يوما بالحب؟".

كانت تستند على الحافة، وتتأمل المحيط. نظرت إلى قوس عمودها الفقري، وتابعت تكويرة وركيها من تحت ملابسها. رغبت أن ألمسها. ولا أعرف لماذا. فهي صغيرة جدا بالنسبة لعمري. وقبل أن أجد الفرصة للجواب، مع أنني لم أكن جاهزا لجواب، بدأت بالكلام عن رجل يضع نجوما في شعره، ويمد ذراعيه مثل جناحين، ويضمها بهما. ابتعدت بقدر ما أستطيع. ماذا يمكن لأحد أن يقول عن الحب؟. يمكن أن تجمع كل الكلمات المعروفة وتسكبها، لكن الحب لا يتأثر، لن تشعر بأي فرق، فالجرح في القلب،  والرغبة التي تسبب الصداع نادرا ما تتسع لها اللغة. ما لا يمكن ترويضه هو الذي نتكلم عنه. وأنا أتكلم كثيرا عن غابرييل أنجيل. ولو بمقدوري الإفصاح عن الحقيقة، لقلت إنه كانت لي خطيبة قبل الحرب، وعلينا الآن العودة بذاكرتنا إلى عام 1938. كان لها شعر غزير، وينسدل على ظهرها. ويمكنها أن تلف شعرها حولها كما لو أنه أفعى. ولكنني لست عازف ثعابين. وهي ابنة مزارع. وقلبها مثل جرار يمكنه أن يجر أي رجل ليخرج من جلده. وكان شعرها أحمر مثل الشمس حينما تشرق في أول الصباح. وكانت تنظر لكل شيء حولها بجدية، حتى لو أنه كومة حطب. ويوجد العديد من الرجال الذين يقدمون لها أبدانهم كأنهم لوح حطب، فقط ليصبحوا بين يديها لخمس دقائق. وأعلم أنني مثلهم. ولكننا لم نتلامس كثيرا. ولم يكن يبدو أنها تريد ذلك.

حينما تبادلنا تحية الوداع في نهاية طريقها، سمحت لي بتمرير السبابة فوق صدغها وحتى حلقها. لها شعر ناعم على وجهها، وغير ملحوظ، ولكن تحسسته بيدي. إذا عدت لشبابي، سأقفز نحو غابرييل أنجيل الموجودة على السطح وأطلب منها أن ترافقني بالرحلة القادمة. سنبحر في السفينة الإيطالية، وهي سفينة للإبحار الحقيقي. سفينة إس إس غاريبالدي وتمخر البحر المتوسط بهدوء. وتنسيك عبور الأطلنطي مباشرة مع العمال والمهاجرين الذاهبين إلى مكان بارد لم يروه من قبل. وهناك يمكن لي أن أمسك بيدها ونحن نمر بجزر المارتينيك ولاس بالماس وتينريفة. ويمكنني أن ألف خصرها بذراعي ونحن نعبر من مضيق جبل طارق. وفي برشلونة أستطيع أن أشتري لها جوهرة مادونا ولآلئ صغيرة. ثم نتابع بالبحر إلى جنوة ونستقل قطار الميناء إلى إنكلترا. فقد جرى مد الخطوط الحديدية التي تمر من إيطاليا وسويسرا وفرنسا عام 1850 وهي من أوائل الخطوط التي أنشئت. وسمعت أن روبرت براوننغ، الشاعر، والسيدة إليزابيث باريت براوننغ، شاعرة أيضا، سافرا كل هذه المسافة. وكم تسعدني هذه العلاقة الروحية معهما. وأحب أن أهرب مع غابرييل أنجيل. ولكن حاليا نحن على متن هذه العبارة متجهين إلى ساوثامبتون، وهو أقصر طريق ظعقد ومباشر، ولكن لم أضم فيه غابرييل أنجيل بين ذراعي. ثم تبين لي أن السحاقيتين مبشرتان. الآنسة بيد، ولها وجه يشبه رسالة غرامية كورها المستلم بقبضة يده، وأخبرتني أنهما كانتا في ترينيداد لثلاثين عاما. والآنسة كويم، كرة الكريكيت، وقد دربت فريق الهوكي على امتداد ثلاثة أجيال.  وهما في طريق العودة إلى البلاد لتشتركا بشراء بيت مزرعة في ويلز، واقتناء كلب ستسميانه روفر. وأدركت أنهما سعيدتان. لم أكن أنام جيدا. وتحت مقصورتي عنبر وهو أرخص أسلوب تتبعه في السفر.  هذا شيء جيد. ولكن كان الخطأ في فرقة باربادوس بانجو، وهم خمسة وعشرون فردا في طريقهم إلى قاعات الرقص في إنكلترا. ليس من السهل أن تنام بشكل جيد وأنت مكوم بالإضافة لخمسين قدما، وخمسمائة أصبع يد وأصبع قدم وست وأربعين عينا. كان فوقي انحناءات جسم غابرييل أنجيل التي تسبب الجنون. في ردهة السفينة، تجد خريطة الأطلنطي، معلقة باعتزاز، وتتخللها خطوط حمراء تدل على مسارنا. ويوميا يعمد أحد المشرفين على تحريك علم أخضر فوق الخط الأحمر، لنعلم أين وصلنا. واليوم بلغنا منتصف المسافة. نقطة اللاعودة. ومنذ اليوم أصبح المستقبل أقرب لنا من الماضي. لا يوجد لدي أحد أذهب إليه في إنكلترا. ولا أتوقع أن ينتظرني أحد في ساوثامبتون أو فكتوريا. ولكنني أمتلك في لندن بيتا بغرفتي نوم وشرفة. وكان مستأجرا طيلة اثني عشر عاما مضت، والآن يجب ان أعيش في نزل حتى يصبح بيتي شاغرا في الشهر المقبل. ولكن لن أتعرف فيه على أي شيء. فقد طلبت من الوسيط العقاري أن يهتم بتأثيثه ولكن بتكاليف رخيصة. ولاحقا ستصل الشحنة الخاصة بي، وسأباشر ببيع التحف والمصنوعات الكاريبية، وسأتابع بهذه المهنة كما أفترض حتى أجد شيئا أفضل، أو حتى أموت.  والنظر لمستقبلي مثل النظر إلى يوم ماطر، من وراء نافذة غير نظيفة.

قالت لي: "لا بد أنك مشتاق يا سيد ستيوارت".

"مشتاق لماذا يا آنسة أنجيل؟".

كانت تقرأ في نسختي من "مرتفعات ويذرنج" لأميلي برونتي. وأعربت لي أنها ترغب بأن تعيش في يوركشير. وحرصت أن لا أعرض عليها نسختي من "روب روي".

هل العاطفة الجارفة ممكنة بين رجل وامرأة؟. وإذا قلت (ولكن لم أفعل) 'أود لو أعتني بك' هل أنا أعني 'أود أن تعتني وتهتمي بي؟'. وأنا مرتاح ماديا، وأستطيع أن ألبي حاجاتك. ويمكنني توفير الحماية لك. ولدي الكثير لأقدمه لامرأة شابة في مكان غريب محرومة فيه من الأصدقاء والنقود. ثم أقول 'هل تقبلينني زوجا يا آنسة أنجيل؟'.

جاء الصباح. الوقت مبكر. ولم تبلغ الساعة السادسة. ارتديت ثيابي بعناية. جعلت ربطة العنق مستقيمة، ولمعت حذائي جيدا، وأحكمت شد الأربطة بعقدتين. يمكن لأي شخص أن يتأملني الآن. على السطح كان البحر يقطع الزورق، والأمواج رمادية وجليدية ومتشعبة. جلدت الرياح أكمام معطفي وترقرقت عيناي منها. اليوم سنصل إلى ساوثامبتون وسأستقل القطار إلى محطة فكتوريا، وأصافح المسافرين وسنتبادل الأمنيات الطيبة، ثم فورا ننسى بعضنا بعضا. وأعتقد أنني سأقضي الليلة في فندق جيد. في الليلة الماضية لم انم، وتسلقت سلم السرير وامعنت النظر بغابرييل انجيل، المستلقية بسلام تحت ضوء الامان الاصفر الباهت. لماذا لم ترغب بي؟. كانت الشمس تشرق. ولكن نحن على بعد 93000000 ميلا ولا اجد الدفء الكافي. وسرعان ما ستاتي غابرييل انجيل الى السطح ببلوزتها ذات الاكمام القصيرة وهي تحمل منظارها المستعار. لن تشعر بالبرد. فالشمس في داخلها. واتمنى ان تهدأ الرياح. فالرجل يبدو سخيفا اذا ترقرقت الدموع في عينيه.

***

.................

* جانيت ونترسون Jeanette Winterson قاصة وروائية بريطانية معاصرة. وهذه القصة مترجمة من كتابها "العالم وأماكن أخرى" الصادر عن دار فينتاج عام 1998.

 

قصيد للشاعر التّنويري الشّهيد الطاهر الحداد

ترجمة الشاعرة زهرة الحوّاشي.

***

يَقولونَ لِلإِسلامِ نَبغي سِيادَة

وَأَعمالهم ترمي هداه إِلى الوَرى

*

وَيدلون بِالإِصلاح قَولاً مزورا

وَلكنَّهُم بِالفِعل صدّوا التطورا

*

وَكَيفَ يسود المُسلِمون بِأَرضِهِم

وَهم يَجهَلونَ المُرتَقى وَالمَعابِرا

*

وَقَد أَدرَكَ الغَيرُ المرام بِسَعيه

فَجاءَ إِلى أَوطانِهِم مُتأزّرا

*

فَلَم يَبقَ إِلا أَن يَكدوا ككدّه

إِلى المَجدِ توّاقين أَو يَسكُنوا الثَّرى

*

وَلكِنَّني مَهما يَكن لَست يائِساً

فَلا بُد لِلأَفهام أَن تَتبلورا

*

وَإِذ كانَ حَتماً أَن يَطول اِنتِظارنا

فَلا بدّ حَتماً أَن نجدّ وَنَصبِرا

***

.............................

Ils prétendent œuvrer

pour l'islam et sa sauveraineté

***

Ils disent : nous voulons le sauver !

Mais leurs actes ne mènent qu'aux obscurités

*

Ils prétendent  oeuvrer pour l'évolution

Mais ce n'est que tromperie

et hypochrisie

*

Et comment être en sa patrie souverain

Si l'on ignore l'escalade du bon chemin

*

Pendant que l'ennemi acquiert le savoir

Et arrive de loin pour les coloniser

*

Aucun salut !

sans dévouement en âme et en corps

Pour la gloire

Ou bien tout sera perdu

*

Mais je garde encore espoir

Qu'un jour les idées seront mieux éclaircies

*

Même s'il faut patienter

Travaillons dur pour y arriver !

***

Poème de Taher El Hadded.

Traduction de Zohra Hawachi .

 

قصة: أليخاندرا زينة

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد جاء به ذات ليلة دون سابق إنذار. كانا قد التقيا صدفة في محطة كارلوس بيليجريني. وكما يحدث  في الأفلام، كان الاثنان يسيران في اتجاهين متعاكسين واصطدما وجهاً لوجه. أشياء مثل القدر: تعيش في أكبر مدينة في البلاد وتجد نفسك فجأة تحت الأرض مع شخص لم تره منذ قرون.

وقف الرجلان عند باب المطبخ، ينتظرانها لتغلق الصنبور وتأتي لتلقي التحية.

قال إسماعيل وهو يضع ذراعه حول رجل في مثل طوله ولكنه أكثر رشاقة، ذى بشرة زيتونية وعينين خضراوين، مثل العديد من الأشخاص من المقاطعة ذوي الدم الأوروبي.

- هل تتذكرين مورين؟ كنا معًا في بويرتو بيلجرانو.

جففت أنجيلا يديها في سروالها الجينز وسارت نحوهما. لا، لم تتذكره، لكنها أومأت برأسها بابتسامة عريضة. عندما ابتسمت، لمعت عيناها الرماديتان وأضاءت قزحية عينيها باللون الأصفر مثل قطة. ومع احمرار وجهها من حرارة الفرن، بدت عيناها أكثر إشراقا. شعرت باالفرق في درجة الحرارة عندما قبل خدها، وببرودة الشارع ثم بنوع من الراحة غير المتوقعة.

سأل إسماعيل:

- هل تحتاجين لشراء شيء ما من المتجر؟

هزت أنجيلا رأسها وذهبت لتتفقد الدجاجة. لحسن الحظ أنها طهت واحدة كاملة في ذلك اليوم. وعادة ما تطبخ قطعة واحدة فقط لكل واحد منهما، ساقين وفخذين مع الكثير من الليمون، وقطعة من الزبدة، وشرائح من البصل، وشرائح من الفلفل الأحمر الحلو.

في مرحلة ما، بدأ إسماعيل في سرد القصص عندما كانا في القاعدة، وهو الشيء الوحيد الذي يربطهما، والذي تم الكشف عنه الآن مثل شيء مفقود منذ زمن طويل.لكن ذلك كان بعد تناول الدجاج والبطاطس المشوية، وبعد شرب زجاجتي نورتون التي اشتراهما الرجلان قبل الصعود إلى الشقة، وبعد تقشير ثلاث تفاحات حمراء وتقطيعها على طبق كحلوى مرتجلة وبعد أن روى الضيف قصة زيارته إلى منزل والديه في بوساداس (حيث لم يكن أحد يتوقعه) بعد أن أدركت أنجيلا من هو مورين.

- هل تتذكرين يا حبيبتي؟

في بعض الأحيان كانت أسئلة إسماعيل تحمل طابع الاستجواب، كما لو كان يختبر ذاكرتها وتركيزها.

- ماذا؟

وضعت أنجيلا مجموعة أدوات المائدة المتسخة على كومة الأطباق ونهضت من فوق  الكرسي.

- المجند الذي قتل نفسه. ياللفظاعه! لكنني أخبرتك بذلك، ألا تتذكرين؟ كنا في مهمة مراقبة، وتلقى رسالة من صديقته تفيد بأنها ستتركه .

خفض مورين رأسه، متأملا.

- في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وصل البريد وبعد نصف ساعة أطلق النار على نفسه. أليس كذلك؟

لمس إسماعيل مرفق رفيقه. أومأ مورين برأسه وهو يخرج سيجارة من جيب قميصه، وأمسكها بيده لكنه لم يشعلها أبدًا.

- من يستطيع أن يعرف لماذا يقتل الناس أنفسهم؟ ...

وضعت أنجيلا كومة الأطباق التي كانت تحملها بين يديها.

ردد إسماعيل بوقار مبالغ فيه:

– ما يقوله جندى البحريةر صحيح؛ ما وعد به قد تحقق. إن ما  فعله أمرمشرف.

وأضاف وهو يربت على جبهته:

- موسوم بالنار.

يلاحظ مورين نفاد صبر أنجيلا: فهي تريد الاستماع إليهما، ولكن في الوقت نفسه،إنها تريد الانتهاء من مسح الطاولة. يدفع مورين كرسيه إلى الخلف على قدميه.

- لا، لا، لا، سأنتهى منها .

أجلسته أنجيلا مرة أخرى، ووضعت يدها على كتفه.

- حارسه يلعق الدم.

سألت أنجيلا وهي تلتقط الأطباق من جديد:

- أي حارس؟

- الكلب الذي كان لديه مهمة مراقبة معه. عندما وصلت إلى القاعدة، خصصوا لك كلبًا، وهو كلب ألماني. كان عليك تدريبه وإطعامه وأخذه إلى بيت الكلاب. لقد اعتنيت بالكلب واعتنى الكلب بك. هكذا كان الأمر، أليس كذلك؟

سأل إسماعيل وهو يلمس ذراع مورين.

أومأ مورين برأسه وقد ضاعت نظراته على مفرش المائدة، وفتحتا أنفه متسعتان، كما لو كان يكبح مشاعره.

صرخت أنجيلا:

-  شيء مسكين.

قال إسماعيل مستغربا:

- كلب؟

صرخت أنجيلا من المطبخ:

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يرفع صوته:

- كلب هنا ؟

أخرجت أنجيلا رأسها إلى الردهة:

- ولم لا. قهوة؟

أجاب إسماعيل دون أن يغير لهجته:

– مورين يريد وأنا أيضًا.

كان الرجلان صامتين، يستمعان إلى الأصوات القادمة من المطبخ: تدفق الماء يهتز في قاع الغلاية، صوت الغلاية على الموقد، واحتكاك عود الثقاب على حافة العلبة، هسهسة فتح الغاز.

قال إسماعيل وهو يلف منديل القماش في أنبوب صغير مطوي على نفسه، مثل عصا البلاستيسين البرتقالية:

- نحن نحاول إنجاب طفل .

كان مورين بعيدًا. مستغرقا فى شىء آخر.

- لقد كان لدينا بالفعل ما يكفي من الوقت لأنفسنا، ونفعل بالضبط ما أردنا القيام به. حسنا، بقدر ما نستطيع. لقد حان الوقت لبدء الحملة. وماذا عنك؟

- أوه ، لا شئ. لا احد.

نظرت من الردهة إلى صديق زوجها، الذي كان يتمتع ببنية شخص يعمل في الحقل. عندما لمس كتفها ليجعلها تجلس مرة أخرى، شعرت ببنيته، وشعرت أيضًا بأشياء أخرى. وكأنني لمست ثلجاً جافاً، وهو شيء يبرد ويحترق في نفس الوقت. للوهلة الأولى، بدا أصغر سناً بكثير من إسماعيل. لا شعر رمادي، لا خط شعري متراجع، لا أقدام الغراب. ولكن كان هناك شيء ما في مظهره، شيء قديم.

- أنجيلا، أنا أتحدث إليك.

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يحبس ضحكته:

- ماذا تفعلين ؟

وأوضح لمورين:

- إنها هكذا .

وقفت أنجيلا في الردهة التي تصل بين المطبخ وغرفة المعيشة، جامدة كالتمثال، وفمها مفتوح ونظرها نحو السقف. كما لو كانت منغمسة في حالة نشوة أو وحي. أخذ إسماعيل تلك اللحظات بروح الدعابة. لقد اعتقد أن المشكلة هي أنه كانت تفكر في أشياء كثيرة في وقت واحد، وقد اختلطت جميعها. كم عدد الرجال المتزوجين من امرأة تسليهم حقًا؟ عدد قليل. أقل مما نتصور. لقد كان محظوظا.علاوة على ذلك، كان متأكدًا من أنها ستكون أمًا جيدة، حتى لو اعتقدت الأسرة خلاف ذلك.

- عليك أن تنتبهى إلى أشياء معينة .

أجابت أنجيلا وهي تمشط شعرها بكلتا يديها عندما عادت إلى مقعدها.

- أوه، استمع لهذا، قرأت ذات يوم قصة مذهلة.كان هناك رجل يستخدم دائمًا الحوض لغسل وجهه لمدة أربعين عامًا.وفي أحد الأيام، أثناء مشاهدته لبرنامج تلفزيوني، أدرك أنه كان يفعل ذلك بشكل خاطئ لمدة أربعين عامًا ولم يوضح له أحد كيفية استخدامه.

ضحك إسماعيل وابتسم مورين:

- هذا مستحيل.

- قرر الرجل أنه إذا لم تقل له زوجته وأطفاله الخمسة أي شيء (لمعرفة كيف يستخدمه)، وإذا سمحوا له بإلصاق وجهه حيث سيضعون وجوههم، فيجب أن يكون وحيدًا تمامًا في المنزل وفى العالم.

سأل إسماعيل وهو يحاول استخلاص النكتة:

- وهل غادر المنزل؟

- نعم، انتقل إلى منزل بدون بيديه، ليتعافى، مثل حيوان جريح .

انفجر إسماعيل ضاحكًا وركض إلى الحمام قائلاً إنه يتبول.أمسك مورين بالكوب نصف المملوء وأنهى النبيذ في جرعة واحدة. نظرت أنجيلا نحو المكان الذي هرب فيه زوجها، وأسندت صدرها على الطاولة وتحدثت بهدوء وفيها لمحة من الحقد:

- إنه أيضًا بطيء بعض الشيء في اكتشاف الأشياء.

لعق مورين شاربه العنابي اللون وابتسم مثل صبي اكتشفه متكئًا في مخبئه.

– أظن أنك أتيت من أجل شيء ما.

نظر مورين إليها بفضول أثناء حديثها، قامت أنجيلا بوضع علامة صليب المقبرة     على مفرش المائدة.

– في الخزانة لدينا صندوق نحتفظ فيه بكل أسرارنا الأكثر أهمية. لقد كتبناها على قطع من الورق، وقرأناها بصوت عالٍ واحتفظنا بها. لقد كانت فكرة إسماعيل، قال أنه بهذه الطريقة سيكون حبنا أقوى. الأسرار معروفة ومحفوظة جيدا. أنا متأكدة من أن اسمك ليس موجودًا في هذا الصندوق. لكنك هنا ولا أعرف السبب. هل هو مدين لك بشيء؟

ألقى مورين السيجارة على الطاولة وأمسك بها قبل أن تسقط. ضغطت على الجزء الخلفي من يده.

- أخبرني.

بدأ مورين يهز رأسه، ولكن انتهى به الأمر بالنظر في اتجاه الحمام. كان إسماعيل يعدّل قميصه داخل بنطاله.

– في سبيل الله، كنت على وشك الموت.

اهتزت الغلاية على الموقد، وقفزت أنجيلا وركضت إلى المطبخ.  وبينما كانت تصفى القهوة، وضعت أنفها بالقرب منها واستنشقت ببطء رائحة التحميص. ومن الممكن أيضًا أن يكون لقاءً بين أصدقاء قدامى، وليس أكثر من مجرد نوبة حنين. قامت بوضع طقم القهوة على صينية ذات مقابض نحاسية صغيرة. أشياء كثيرة تصبح فاخرة مع مرور الوقت، وهذا ما حدث مع طقم الخزف البني الذي ورثه عن جدتها. بدا وكأنه بقايا.

وعادت أنجيلا وهي توازن الصينية.

أبعد إسماعيل كرسيه عن الطاولة، وجسده متصلب وعيناه مثبتتان على رفيقه السابق. كما لو أنه اكتشف للتو شيئًا يعرفه الجميع إلا هو.

وبينما كانت أنجيلا تقدم القهوة، سُمع طرق قوي على الجزء السفلي من باب الشقة، بدا وكأنه ركلة مصنوعة بإصبع حذاء صلب، ركلة قوية ومرتجفة. نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض. قام إسماعيل من الكرسي بحركة بطيئة. وفجأة أصبح الليل طويلا جدا؛ منذ متى كانوا يجلسون على الطاولة؟

- سوف أرى.

عندما فتح الباب، وجد المشهد اليومي: الضوء الأوتوماتيكي مضاء، والفسيفساء ذات اللون الزنجبيلي، والسجاد البالي للشقة المقابلة، وصوت توقف المصعد وتشغيله. أغلق إسماعيل الباب وظل ينتظر. وتكررت الضربة مرة أخرى. وضع عينه في ثقب الباب فرأى كل شيء أسود. وضع أذنه على مستوى القفل وسمع اللهث، والمسامير تخدش الأرض، ونباح يتردد صداه في الردهة.

فتح الباب وضغط على زر الضوء، وعلى بعد خطوات قليلة كان الكلب الألماني ينظر إليه وقد أخرج لسانه وبطنه ينتفخ وينكمش مثل المنفاخ. بدا وكأنه صعد خمسين درجة من السلالم وليس خمسًا. نظر إسماعيل نحو غرفة المعيشة. وقفت أنجيلا ووعاء القهوة في يدها، مذهولة، وكأنها لم تصدق مدى السرعة التي تحققت بها رغبتها في الحصول على حيوان أليف.

انزلق الكلب بين ساقي إسماعيل وتدحرج على الأرض. كان يتحرك كالعاصفة، يسقط وينهض، ينبح ويئن، بينما يتأرجح ذيله كالمجنون.لقد راوغ ساقي أنجيلا كما لو كان كرسيًا يقطع طريقه.

كان مورين واقفاً لاستقباله. لقد رأيت ذلك بالفعل، وشعرت به بالفعل. وبينما كان ينقض عليه، واضعاً كفيه على كتفيه ليلعق وجهه بإخلاص. نفس اللعقات اليائسة التي أعطاها إياه ظهر ذلك اليوم عند بوابة الحراسة. كان لتوديعه آنذاك، والآن للترحب به.

(تمت)

***

..........................

المؤلفة: أليخاندرا زينة/ Alejandra Zina. ولدت أليخاندرا زينة في بوينس آيرس. أصدرت مجموعتين قصصيتين ورواية. في عام 2000 شاركت مع غييرمو كورن في تحرير مختارات من الأدب الأرجنتيني المثير. تم نشر قصصها في مختارات في الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا. تقوم زينة بتدريس الكتابة الإبداعية في المدرسة الوطنية لتجريب الأفلام وتحقيقها في بوينس آيرس.

الصفحة 2 من 7

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم