الرئيسية

إشكالية الحداثة في الشعر السياسي .. يحيى السماوي أنموذجا (2)

هامة علامة الاستفهام، وضآلة الفارزة ... ولكن في العمق تلوب المحمولات المضمونية . فليس عجبا أن جذر التعجب (عجب) يعني قاموسيا المرأة العجباء والإستكبار والزهو والكبر، كما أنه يعني مؤخر كلّ شيء وأصل الذنب عند رأس العصعص، كما يعني الغليظة من النياق . وكأن رسم علامة التعجب قد اكتمل الآن مبنى ومعنى . وهذا سيحيلنا إلى جانب من فرضية حول نشوء اللغة والمتمثل في أن التسميات لم تأت من الخارج وفق مواصفات " الشيء " المسمى حسب، بل – وفي جانب كبير منها – مسقطة من خصائص الجسد البشري على مكونات الطبيعة . وليس عبثا أيضا أن جذر السؤال (سأل) يعني طلب واستعطى واستدعى، ويعني الحاجة والمطلب .. وأن تستعطي أو تطلب حاجة يعني أن عليك أن تحني هامتك قليلا أو كثيرا . كما أن من النتائج الحتمية لهذه الفرضية أن يكون من معاني جذر الفرز هو القطع والعزل والطريق في الأكمة (الوحشة والإنفراد !!) والشق في الأرض الغليظة، والرغيف يسقط في التنور، وفتات الخبز، وقِطَع العجين .. إلخ، وأن يكون من معاني النقط التلاشي شيئا بعد شيء والتفكك والمرض .... والناقط والنقيط هو عبد العبد !! . وحين تلاحظ الصورة الأخيرة:

(خشية

أن أنتهي مجرد نقطة

في كتاب مقبرة

ممسوح السطور!) فسنجد سمة أسلوبية مركزية تميّز الفعل الشعري للسماوي، وهو إحكام ارتباط استهلالات وبدايات الصور والقطع والقصائد بخواتيمها، معزّزا وحدتها العضوية . وهذا ما أشرت إليه مرارا كخلل خطير في فهم الشباب الذين يكتبون قصيدة النثر من الذين وقعوا في المصيدة ذاتها التي يعيبون على القصيدة العمودية الوقوع فيها سابقا وهي أنها – أي قصيدة العمود هي قصيدة بيت، وهي نص منضد بيتا فوق بيت بحيث أن رفع أي بيت أو تقديمه على أي بيت آخر لن يخل بوحدتها العضوية – فصارت قصيدة النثر قصيدة صورة، صورة منضدة فوق صورة أخرى بحيث أن إزالة أي صورة من النص أو تقديمها على سابقتها لن يطيح ببنيتها . لقد بدأ يحيى قصيدته بالنظرة المشيعة الختامية إلى جسد بلاده وهو يُدفن في " المقبرة " الطائفية، وانتهى إلى إعلان من أن ينتهي مجرد نقطة ضئيلة في كتاب " مقبرة " ممسوح السطور . ثم انظر إلى الكيفية التي تتنقل فيها روح " المقبرة " وإيحاءاتها السوداء الخانقة عبر القصيدة كلّها لتصبح أولا " زنزانة "، أليست الزنزانة مقبرة صغيرة ذات قضبان؟ .. ألا يتآكل فيها وجود الإنسان و"ينقبر "؟ . الشاعر القدير " لا ينسى " كل مفردة ولكل صورة وأي نأمة معنى . والوصف الذي قاله " أندريه بريتون " عن الضوء المشتعل في غرفة الشاعر بعد منتصف الليل والقطعة الصغيرة المحذّرة " الشاعر يعمل" المعلقة على الباب هي ما تعكسه دقّة السماوي، الشعر سهر وعمل وعرق وعلم، ولكنه العلم الذي يتعالى على كل العلوم . يحول يحيى المقبرة إلى زنزانة يتمنى أن " يغفو " فيها لأنها أفضل من وطن لا أمان فيه:

(إن زنزانة أغفو فيها آمنا

لأوسع عندي

من وطن

لا أمان فيه ... – شاهدة، ص 46) .

وحين تتأمل استخدام الفعل " أغفو " بدلا من " أُسجن " وهو المناسب لحالة السجن في الزنزانة، فسنستقي من الغفوة عدوى تحيلنا إلى النوم الأبدي في القبر . لكن لم هذه الأمنية المميتة؟ خياران أحلاهما الموت !! والإجابة التي يقدّمها السماوي تحيلنا إلى ظاهرة أوسع شديدة الخطورة وتتعلق بسمة " التضاد الوجداني - ambivalence" – وليس الإزدواجية - الفظيعة التي تسم الشخصية العراقية . فمنذ فجر تاريخ هذه الأرض وإنسانها المبتلى يواجه حالة التضاد التي تقض مضجع روحه حالة الاختيار الممزق .. ثمار فردوسه دامية وجحيمه في جنته وشرّه في . والمحنة التي يحيلنا إليها السماوي لا تتمثل في تصارع الأطراف السلبية والإيجابية حسب، بل في عدم القدرة على " التمييز " بينها:

(كيف لي أن أميّز:

بين سيف " عروة بن الورد " وسيف " هولاكو"

بين " عمامة الحسن البصري " و" قلنسوة تيمورلنك " ..

بين " الحرّ الرياحي " و " زياد بن أبيه "

بين لحية مخضبة بالديناميت

وأخرى محناة بدموع النسك

بين البرتقالة والقنبلة

بين " العربي " و " العبري "

بين " سيجار جيفارا " و " مسواك السياف "

بين الخيط الأبيض والأسود – شاهدة، ص 46و47) .

إن الشاعر يضعنا هنا – وهذه من سماته الأسلوبية التي تحدثنا عنها في دراستنا عن مجموعته " مسبحة من خرز الكلمات " – أمام سلسلة من الطباقات .. طباقات معنوية تاريخية وحياتية يومية، تاريخية يقابل فيها بين نماذج إيجابية وسلبية، وحياتية راهنة يقابل فيها بين متغيرات وأدوات جاء بها وحش الاحتلال فخلطت أوراق الموقف بصورة عنيفة . ونتيجة كل هذا الإيغال هو تعزيز سمة التضاد الوجداني السلبية التي تُربك المواطن العراقي عبر تاريخه . وحتى عندما يفصح الشاعر بدرجة أكبر عن أطراف عملية التناقض القائمة في شكلها الراهن محدّدا طرفا سلبيا واحدا استبدل بطرف إيجابي آخر، فإن الضباب الذي يغلف عملية الاستبدال هو الذي يشوّش الرؤية وتحديد شواخصها المستقلة:

(كيف لي أن أميّز

...................

إذا كان الدخان

يمتدّ من نافذة الصباح

حتى ستارة الليل

والقائمون على أمره

قد استبدلوا " صورة الكرسي "

بـ " آية الكرسي "

و" الحجر الأبيض " بـ " الحجر الأسود "؟ - شاهدة، ص 47) .

هكذا هي محنة إنسان هذه البلاد .. هو دائما في حالة اختبار تمزّق الإرادة .. وليس من التعدّي ذكر ما كتبه أرسطو ودانتي والفيلسوف (بوريدان) عن الحمار الذي ترك في الإسطبل مع كيسين ممتلئين بالعلف واحد على اليمين والثاني على اليسار، فمات جوعا لأنه لم يستطع أن يقرّر بأي الكيسين يبدأ . ولكن الكيسين الآن فارغان . وقد يقول قائل أنك تغالي حين تقول ذلك، كما أن السماوي ذاته يغالي أيضا حين يشير إلى أنه لا يستطيع التمييز بين اللص والناطور بقوله:

(كيف أميِّز

بين اللص والناطور

إذا كنت مفقوء العينين

في وطن

أضحى مرعى للملثمين؟ – شاهدة، ص 47) .

لكن العامل المربك الذي يشل إرادة التمييز (فقء العينين) هو سبب في ضبابية الحالة التي يعيشها الإنسان هنا، فقد جاء الإحتلال ختاما لسلسلة من العقود التي شرخت الشعور بالمواطنة الناضجة والناجزة لدى المواطن العراقي، ومحاطة بستار دخاني كثيف من المبرّرات والوعود والترهيبات والمغويات والاختراقات . ومن جديد فإن الشاعر لا ينسى، في المناخ الكلي الذي سيطر على أجواء القصيدة، ولا في التعبير اللغوي التفصيلي حالة الموت، موت وطنه، ولا نظرة الوداع الأخيرة . ففقء العينين الذي يعاني منه، والذي جعله لا يميز بين اللص والناطور، هو نوع من الموت، من الإنقبار حيا إذا ساغ الوصف، هو انخصاء نفسي منهي . إن العينين المفقوءتين بما تمثلانه من فقدان للقدرة على التمييز هما مقلوب حالة نظرة الوداع التي استهل بها الشاعر قصيدته مشيعا بها جثمان وطنه وهو يُلقى وبلا رحمة في مقبرة الصراع الطائفي الطاحن . ولكن مقبرة العيون هذه تقابلها مقبرة من نمط مغاير شكلها لا يشي بالعمى الفعلي، ولكن بعمى رهيب في البصيرة ويتمثل في الملثمين المتوحشين الذين يشكلون مقبرة للروح الإنساني ومدفنا للمحبة والتسامح .

 

- وقفة أوسع مع الموقف التنبؤي:

وللموقف النبوئي أو الاستشراف النبوئي للمقبل من الوقائع بوجهيها: الخلاصي الإنقاذي أو الإرتكاسي المميت، جوانبها المربكة في شعر السماوي . في الإبداع لا محل للتقارير الإستشرافية الدقيقة التي تأتي كتقارير دوائر الأنواء الجوّية – وحتى هذه عرضة للزلل – ولكنها تأتي كتوقّع .. كاستشراف .. كحدس .. كتململ موجع في أحشاء الروح . لقد " تنبأ " جورج أورويل في روايته الشهيرة " حقل الحيوان" التي كتبها عام 1945 ووصفها بعض النقاد بأنها " الرائعة الخبيثة " بانهيار الاتحاد السوفيتي وما ستبعه من انفلات لا أخلاقي مدمّر على مسرح السياسة العالمية إلى حدّ التفاصيل الدقيقة . كما كتب الشاعر الكبير " أدونيس " قصيدته الشهيرة التي تحدث فيها عن انهيار أبراج نيويورك قبل وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول / ديسمبر بأكثر من ربع قرن !! ولكن في كل نبوءة أو استشراف يقدمها المبدع هناك " نقص " ما . فهو ليس فلكيا وغير معنى بتأثيرات قوى الإدراك الحسي الخارقة - extrasensory perception، إن لاشعوره يعمل كمشغل تشتبك فيه التساؤلات عن معنى وجود الإنسان والنهايات الممكنة ضمن إطار وضع اجتماعي مأزقي محدّد . ولهذا نجد توقعات السماوي كانت تتراوح بين الأمل والرجاء من ناحية واليأس والتشاؤم الخانق من ناحية أخرى . والسبب هو حالة التضاد الوجداني التي أشرنا إليها والتي هي من سمات شخصية الفرد العراقي . وأمام يحيى – والأهم انعكاسات هذا " الأمام " على لوح نفسه فائق الحساسية – كانت تضطرم المتناقضات المدوّخة حدّ غثيان الإدراك . فنجده يعلن في مجموعة شعرية واحدة هي الأفق " نافذتي " – الصادرة في استراليا في كانون الأول من عام 2003 أي قبل احتلال بغداد بشهرين – عن توقعات نبوئية متصارعة . فهو تارة يطلق تفاؤلها صادحا وقويا يقفز فوق كل مظاهر الخراب، ليعلن بملء فمه أنه قد ملأ يد روحه من أمل التغيير والخلاص كحتمية تاريخية لن يعطلها أي ظرف، سوف يزول الطغيان وسوف تعود حبيبته بغداد بهية ودارا للسلام كما كانت رغم المشانق والحرائق والقهر والسل والطاعون:

(متفائل

رغم المشانق والحرائق

واجتياح السُّلّ والطاعون

والقهر المبرمج

رغم هذا الليل والكابوس

والعيش الزؤام

متفائل أن الغد الآتي سيشهد

من يعيد الماء للناعور

والناعور للبستان

والبستان للكفّ التي حرثت

وأن حبيبتي بغداد

سوف تعود ثانية كما كانت تُسمّى

في قواميس المدائن والهوى

" دار السلام " – مجموعة: الأفق نافذتي، قصيدة سأنام مغتبطا " – ص 180و181) .

ولكنه في تارة أخرى يفصح وبجلاء عن التوقّعات المناقضة . هنا وخلاف ما يصله من إشارات متفائلة زائفة من بغداد الأم عن واقعها المعيش، عن الربيع الآتي الذي سينعش الآمال، نجده يؤكد أن خريف الخراب القائم – وليس ربيع النماء المرجو – هو الذي سيدوم على أرض الرافدين لألف عام !! وآية ذلك أن الموت في كل مكان ولكأن العالم الأسفل قد لفظ أحشاءه وقاء محتوياته فأصبح الشاعر محاصرا بجثة من الخلف ومقبرة من الأمام:

(لي ما يبرّر وحشتي

بغداد تُطنب في الحديث عن الربيع

ونشرة الأخبار تنبيء عن خريف

قد يدوم بأرض دجلةً ألف عام

وأنا ورائي جثة تمشي

ومقبرة أمامي – مجموعة: الأفق نافذتي، قصيدة: لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح، ص 111) .

وقد يقول قائل أنك قد بالغت وأربكت وجهات نظرنا التي نحملها عن معنى النبوءة، وهذا صحيح حين نأخذ هذا المعنى المؤصل كإخبار عن الغيب بإلهام من الله، ولكنه غير دقيق عندما نضع أمام مداركنا أن إلهام الشاعر يأتي من " إلهه " – والأصح شيطانه – الرابض في مجاهل لاشعوره أولا، وأن هذا اللاشعور لا يعمل كسطح راداري فائق الحساسية بحيث يحدّد أنواع الأجسام التي تدخل مجاله الجوي بدقة مفرطة، ولكن على طريقة جهاز ترتجف مؤشراته منذرة ومحذّرة من أن كارثة ستحصل، ثم تحصل ويترك لنا العمل الواعي لتحديد مكان وزمان الرؤيا . وما سيحسم هذا الإلتباس هو ختام قصيدة السماوي: " حلمتُ يوما " وفي المجموعة نفسها:

(حلمتُ يوما أنني العراق

وحينما فركت أحداقي

تخثّرت على أجفانها الأهداب

وكان ما بيني

وبين الله في المحراب

" أبرهةُ " الجديد في " الكرخ "

وفي " الرصافة " الذئاب – ص 58و59)

فما الذي سيقوله المعترضون؟ ما الذي حصل للعراق بعد شهرين فقط من " رؤيا " السماوي هذه؟ وأبرهة كما هو معروف للجميع رمز للغازي الذي جاء ليحتل بيت الله .. وقد جاء واستقر في " الكرخ " في المنطقة الخضراء " .. وأعطى الإشارة لذئاب الموت تنهش لحم العراقيين في " الرصافة " !! ..

 

- لعبة الطباقات والجناسات الجديدة:

أود الآن أن أقف وقفة تفصيلية على سمة أسلوبية محورية لدى الشاعر و ترتبط بالتمظهر الآسر للعبة الطباقات والجناسات الجديدة البليغة التي أشرت إليها والتي هي من السمات الأسلوبية الحاكمة في المنجز الشعري ليحيى السماوي، تهمني العودة إلى أنموذج نصّي أقدم في مسيرة يحيى الشعرية المديدة والغزيرة، ولكن بمعاني المنجز المقاوم القريب الذي أعقب الاحتلال ويتمثل في قصيدة من شعر التفعيلة هي " نقوش على جذع نخلة " الطويلة (25 صفحة من القطع الكبير) والتي تضمنتها مجموعته الشعرية: " قليلك لا كثيرهن – جدّة – الطبعة الثانية – 2007 " . في هذه القصيدة – وسأتناول ما له صلة باللعبة الطباقية حسب لكي لا نشتت مسار بحثنا - بناء باهر ولا يُضاهى لعملية الطباقات – بأنواعها المختلفة – التي تتوسع من المفردة اللغوية لتشمل الظواهر الكونية مرورا بالواقعات الجسيمات التي تعصف بوطنه وصعودا إلى المعضلات الوجودية المؤرقة . وبدءا من العنوان: " نقوش على جذع نخلة " والذي أعود إلى القول أنني لا أؤيد – بشكل كبير – الأطروحة البنيوية الشائعة التي ترى أن العنوان ثريا النص على طريقة أن " المكتوب يُفهم من عنوانه "، فلا يوجد عنوان يكشف مكنونات النص بصورة جامعة مانعة إلا إذا أكملنا الصورة الكلّية – GESTALT " التحليلية للنص، حيث نضع العنوان بعدها في موقعه الطبيعي وعندها سنندهش في كثير من الأحيان لأن هذه الصورة الكلية هي التي ستضيء العنوان وليس العكس . وإذا كان المكتوب يفهم من عنوانه وكان العنوان ثريا تتكفل بإنارة زوايا النص المعتمة، فقل لي ما الذي يوحي به إليك عنوان رواية الروائي الكبير " فؤاد التكرلي " " خاتم الرمل "؟ إن خاتما من رمل يوحي فورا – من الناحية الرمزية - بانفساخ العلاقات وتبدّدها وعدم الولاء وانحلاله و .. و .. إلخ من المعاني الفنائية، لكن ما سنراه هو في الموقع المناقض لكل هذه المعاني، سنجد خاتما محارميا يربط الإبن " هاشم " بأمه المتوفاة حدّ استقباله بهدوء وجلد رصاصة في قلبه رغم تحذيره بصورة متكررة – راجع كتابنا عن التكرلي - . الهام هنا هو أن لا ننقاد مستسلمين للأطروحات الغربية المغوية وأن نمحص ونراجع وندقق . فما هي النقوش التي نرسمها على جذع النخلة؟ .. إن النقش الأول الذي يحفره السماوي – ينقشه أكثر مما يرسمه لأن فعل الرسم ملطّف وظاهري – هو طباقات مبهمة رغم أنها شديدة التحكم في حياتنا ووجودنا، وهي مما لا يُنقش عادة على جذع نخلة في أي مكان من العالم، فكيف الحال في العراق .. وجنوبه تحديدا الذي يؤمن أهاليه البسطاء بأن أي شظية تصيب جذع النخلة تميتها !! - هل ظهرت هذه الخرافة بفعل الحروب، خرافة تؤسطر النخلة كأم وخلاصة لوجود هش تمحقه شظية .. هل هي تعبير عن صرخة جزع هي: كفى لأن غولة الحرب توشك أن تبتلع الوجود الأمومي كاملا؟ - . ينقش السماوي المقطع الأول على جذع نخلته:

(الكون مرآةْ

كل النهايات بداياتٌ

إذن؟

كل البدايات نهاياتُ

وتلك آياتْ – مجموعة: قليلك لا كثيرهن،قصيدة: نقوش على جذع نخلة، ص 171)

نحن هنا قبالة موقف وجودي ذي طبيعة صوفية .. موقف دائري .. بمعنى كمال معضلة وجودنا التي تبدأ وتنتهي عند ذاتها أو عند نقطة انطلاقها .. هذا الكمال الدائري هو الذي جعل الشكل الدائري هو أرقى أشكال الجمال – وهكذا استرجع الآن صيحة بائع الرقي البسيط وهو يمر أمام بيتنا الخرب في الديوانية: " من حلاوته مدعبل " !!، وهذا هو الذي جعل أعظم مدن العالم مدوّرة: بغداد المحروسة وروما وباريس .. إلخ - .. لكن ترتيب النتيجة / المقدمة الصغرى في الظاهر والكبرى بالمعنى النفسي والوجودي على هذه المقدّمة الكبرى وفق التعبير الأرسطي – نسبة إلى المنطق الصوري لأرسطوطاليس - هو الذي يقودنا إلى نقش ثان أكثر عمقا ولا يمكن أن يحفر على جذع النخلة العادية – وأرجو الانتباه إلى مواضع علامات التنقيط -:

(أتستحق هذه الحياة أن يعيشها الإنسان؟

مِسخاً .. ذليلا .. خائفا .. مُهان؟

 ...

 ...

في حفرة ضيّقة يأنفها الحيوان

مختبئا كان ... وكان الموت والنيران

يحتطبان الناس والبستان

 ...

 ...

ليس شجاعا ليقرّ أنّه جبان – قليلك لا كثيرهن، ص 172) .

إن تشكّلات دائرية الطابع ومضافة يستمدها الشاعر من البناء المركزي الهيكلي الاستهلالي .. ولكنها تشكّلات خرابية المضمون مزّقت محيط الدوائر المبهمة الافتتاحية . لكن مادامت كل النهايات كانت – أو " تكون " بدايات – وكل البدايات – كنتيجة – تكون – أو " كانت " نهايات - فإن خواتيم حالنا المتردّي هو دائرة مهانة، نهاياتها المنخذلة تكمن في بداياتها المنحطة .. ملتفة على ذاتها . بل أنها ليست بحاجة لنهاية ولا لبداية .. هي نقطة هائلة إذا عدنا إلى جذرها اللغوي – وانظر أيها القاريء الكريم إلى عبقرية اللغة العربية، هذه اللغة المحتقرة والمضيّعة خلف أستار الهجمة الحداثوية التي تشهّر بجمودها وانحصار معانيها ورتابتها ولعب مترادفاتها و... إلخ – فسنجد أن من دلالات النقطة دوّامة التآكل .. تقول العامة: نقط الإناء أي قطر .. وتنقطتُ الخبز: أكلته نقطة نقطة .. أي شيئا فشيئا .. والنقطة نفسها كرة صغيرة توضع فوق أو أسفل الحرف فتثقله بالمعاني .. والأهم أن التقطير يستخلص روح الشيء أو الظاهرة، يستنزفها مثلما يستنزف استمراء الذل والانسحاق والخوف - كما يقول يحيى - حياة الإنسان المستخذي ليحوّلها من دائرة هائلة - أو يمكن أن تكون كذلك بالمداومة العزوم - مفعمة بالرفعة والعز والكرامة، إلى نقطة .. شرخ .. أو ثقب يرشح منه مصل اعتباره الذاتي .. وإذا لاحظت الفواصل المنقّطة بدقة فستكتشف وظيفتها الدلالية المهمة .. فهي ليست نقاطا مجردة .. بل مفردات .. بل أبياتا مُعادة الإيحاءات .. كلام شعري مضاف وشارح .. فبعد أول بيتين يأتي سطرا التنقيط ليضاعفا من انفتاح حركة التساؤلات عن معنى أحقية هذه الحياة في أن يعيش الإنسان فيها مذلا مهانا - حسب التوصيف الرائع لدستويفسكي في روايته " مذلون مهانون " -، أما سطرا التنقيط اللذان يعقبان الأبيات الثلاثة التالية فإنها توسّع رؤية الشاعر حول الحفرة – وهذه عودة، لنسمّها استباقية، لموضوعة " المقبرة " – المذلة والموحلة التي تسقط الإنسان فيها استمراؤه لـ " نعم " الضعف والمهانة . نصل بعد ذلك إلى انكشاف " التركيب " الشعري والمبدئي الذي يرتئيه الشاعر، وينقشه على جذع نخلة قصيدته:

(ما قيمة التحرير

إن كان الذي هبّ إلى نجدتنا

حرّرنا

واعتقل الوطن؟

 ...

 ...

ما شرفُ اليد التي تُبعد عن أعناقنا القيد

وعن عيوننا الوثن

حين يكون الوطن الثمن؟؟ - قليلك لا كثيرهن، ص 172و173) .

وهنا يأتي سطرا التنقيط ليراكما طبقات التساؤلات عن معنى أن يأتي من " يحرّر " وطننا، ليلقي الوطن نفسه في زنزانة الاحتلال؟؟ .. نقاط تفتح دائرة التساؤلات لتطلق منها سهام التساؤلات المفزعة عن معنى أن نعود بعد عقود إلى الوقوع في جب مظلم شديد التعاسة خرجت منه الشعوب وخلصت من " الحلقة المفرغة – viscious circle " التي دمّرت ثرواتها وضيّعت أرواح أبنائها ومحقت مستقبلهم وداست آمالهم . وهذه الحلقة المفرغة يعود الشاعر إلى تجسيدها الآن شعريا بصورة تزاوج بين تعبيرات القلق الوجودي التي بدأ بها القصيدة، وبين شحنات الخوف على وطنه الأم الذي أصبح مسيحا يُمثّل به، ولماذا مسيحا وليس حُسينا يُقتل عطشا وتُقطع رأسه وتُدار بها أمثولة في الأمصار بطريقة لم يشهدها التاريخ؟:

(لا ماء في النهر .. ولا أمان

في الدار

والبستان

مكبّل الظلال والأفنان

 ...

 ...

جريمة المُثلة بالأوطان

ليست أقل في كتاب الله

من جريمة المثلة بالإنسان – قليلك لا كثيرهن، ص 173) .

وتبدو الحياة البشرية بأكملها خطيئة حين تعيد تفاصيل - أو حتى الملامح العامة - واقعة المهانة التاريخية التي عاشتها الرموز المخلّصة . لقد زرعت هذه الرموز في نفوسنا الشعور بالمهانة .. فقد عُذّبت في الوقت الذي استرخينا فيه على أفرشة الاستكانة .. وقُطّعت في الحال الذي احتفظنا فيه بسلامة أجسادنا غير شاعرين بتشظّي كرامتنا وقيمنا .. راحت ضحية كسر " الطباقات " الوجودية والحياتية المهادنة، صارت ضحية تناشز البدايات عن النهايات . لكن الشاعر ينهج نهجا جديدا مضافا في طباقاته فهي ليست طباقات إيجاب (لا يختلف فيها الضدان بالنفي) صفات أو أحوال متضادة كقول الله تعالى " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " (سورة الكهف / الآية 18)، أو أفعال متناقضة كما في قول الشاعر:

لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى

ولا طباقات سلب (حيث يكون التضاد بين المعنيين بالنفي والإثبات) ولكنها طباقات معنوية إذا جاز الوصف من ناحية، وصوري (في الصورة الشعرية) من الناحية الثانية . ففي قصيدته (أنا مثلك يا أنطوان ..) التي أهداها إلى صديقه الشاعر أنطوان القزي، يصرح الشاعر بأنه مثل صديقه يدين كل الحروب مهما كانت أنواعها ومبرراتها، ولكنه يؤيدها إذا كانت حرب:

(النور على العتمة

الصعاليك على الأباطرة

البطون الخاوية على المتخمين

الربيع على الخريف

المطر على الجفاف

والمحبة على الضغينة – شاهدة، ص 88) .

ثم ينتقل إلى " مطابقة " الصور الباهرة والأفكار والمعاني التي تتضمنها، كما يحصل – على سبيل المثال لا الحصر لأن الأمثلة كثيرة – في قصيدة " المدجّج بالعشب والأقحوان):

(متى نشيد مدينتنا الفاضلة

إذا كان الأباطرة

يهدمون حيّا كاملا

كلّما أقام الصعلوك

كوخا طينيا؟

يحرقون حديقة على سعة العالم

كلما استنبت العاشق

وردة في مزهرية؟ - شاهدة، ص 59) .

أو في قصيدة (إعتذار متأخر):

(أعتذر:

لتفاحة الرغبة قطفتها قبل الأوان

لصراط جنحت عنه بعربة نزقي

لليقين قيدته بحبال الظنون – شاهدة، ص 69) .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1313 الاربعاء 10/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم