الرئيسية

يا فراس الغضبان الحمداني: نريد أن نعرف من اين لك القصة الملفقة عن قطع الرؤوس؟ / صائب خليل

 ليحطم العلاقة بين طائفتين في شعب واحد. وإذن، فالعمل الإرهابي بطبيعته لا يكتمل إبداً إلا بما يلي العمل الإرهابي من نشر للرعب الذي أحدثه وتكبيره وقيادة تداعياته والعواطف الحادة التي ينتجها بشكل يؤدي إلى هدف العمل الإرهابي. أن مرحلة "ما بعد الجريمة" تلعب في حجم وتأثير العمل الإرهابي، الدور الأساسي، وليس الجريمة نفسها. وكثيراً ما يعمد الإرهابي، على عكس المعتاد في الجرائم العادية، حتى إلى نشر فضاعاته بنفسه وربما تكبيرها. ويعرف الناس أن الإسرائيليين هم من نشر فضائع مجزرة دير ياسين في القرى الفلسطينية، ويقال أنهم أضافوا إليها ما لم يكن فيها من تفاصيل، فهجر الفلسطينيون قراهم خوفا من مذبحة مماثلة، فسار الإحتلال بعدها "كما تسير السكين في الزبدة"، حسب وصف أحد قادة الجريمة.

 

لقد بينت في مقالتي السابقة (*) أن مجزرة كنيسة سيدة النجاة الدموية عمل القصد منه إرهابي بحت وليس انتقاماً أو من أجل إطلاق سراح أشخاص في الخارج أو حتى بسبب أحقاد دينية، والآن تتأكد الأهداف الإرهابية من العملية التي أثارت الكثير من الشكوك والأسئلة. لقد كان واضحاً بأن القتلة أرادوا من مسرحيتهم الدموية "مسرحاً إرهابياً" قدر الإمكان وليس "مسرحاً دموياً" قدر الإمكان. فقد حرصوا على مصاحبة القتل بالمؤثرات الصوتية والكلامية التي تزيد الرعب وتوجه العواطف لتسهيل العمل لما بعد الجريمة فعمدوا إلى إدامة مسرحية إرهابية لخمسة ساعات، وكانوا قادرين على إنهاء ضحاياهم بدقائق إن لم يكن دقيقة واحدة، وكانوا مسيطرين تماماً على مسرح الجريمة ولم يكونوا تحت هجوم من قوات الأمن. فالقوا القنابل الصوتية الكثيرة (كما يبدو) في غرفة صغيرة (فلم تقتل تلك القنابل اليدوية إلا بعضاً ممن كان في تلك الغرفة)، كما جاء في شهادة من نجا من المجزرة.

 

وهناك نقطة أخرى لم أشر إليها في مقالتي السابقة، حيث يبدو من شهادة السيدة "شهد" أن المجرمين تعمدوا قتل جميع الشباب الذكور، دون أن يمتنعوا عن قتل بعض النساء. ولو أنهم امتنعوا عن قتل أية إمرأة لأمكن تفسير الأمر باحتمال أنه يعود إلى وازع ديني، لكنهم قتلوا بعض النساء، ما ينفي هذا التفسير، فهل أراد الخاطفون أن ينقل إرهابهم إلى العالم على لسان النساء ليكون تأثيره أكبر، حيث لا تتحرج المرأة من التعبير عن رعبها بكل قوته؟ هل كان هناك انتقاء للنساء لقتل من أبدت صلابة أكثر من غيرها أمامهم؟ أترك هذا كاحتمال فقط.

 

كل هذا يبدو تحضيراً مدروساً للمرحلة الأكثر أهمية، مرحلة ما بعد العمل الإرهابي.

وبالفعل فقد انطلقت اصوات مشبوهة مثل شخص يسمي نفسه "سامر زيبر"، وتحت حجة التأثر بالمجزرة، بهجوم مباشر على الإسلام والمسلمين بلا تمييز، وبوحشيته لفظية غير المسبوقة بين أبناء الديانتين في العراق، وبأسلوب يذكر بطريقة الجمعية القبطية الأمريكية التي يديرها الموساد وتتميز بالدونية المتناهية للعبارات والتي تسعى إلى استفزاز المقابل للرد.

ليست تلك المقالة البائسة جديدة تماماً في المناوشات العنيفة بين الأديان، لكن المقلق أن تكتسب هذه وأمثالها مصداقية أخرى بعد الجريمة.  ولا أستبعد أن فكرة المذبحة نفسها جاءت لشعور المخططين بأن إثارة الطرفين في العراق ضد بعضهما ليست سهلة لما لهم من تاريخ تعايش متلاصق، بدون تهيئة النفوس لقبول مثل تلك الكتابات.

 

لكن إن كان لسامر وأمثاله أن يتحجج بالألم، ويختبئ بين المتأثرين بهول الجريمة بالفعل، فبعض الأعمال الأخرى لا تستطيع أن تختبئ خلف شيء، فيسهل كشفها لحسن الحظ. فقد انتشرت في وسائل الإعلام قصة مختلقة تماماً، تكمل رتوش الصورةالإرهابية لتشوه الحقائق وتضيف أحداثاً لم تحدث. كتب  فراس الغضبان الحمداني:

"لقد جرت تفاصيل رهيبة داخل الكنيسة وفظائع مرعبة لترويع هذه الشريحة المسالمة من الشعب العراقي فقد تم قطع رأس القس ثائر عبدال والقس رائد عبدال والشماس نبيل وفصل رؤوس عائلة جان وزوجته وطفلهم الرضيع وكذلك فصل رأس طفلة تبلغ من العمر عشرة سنوات وجميع حالات الذبح وفصل الرؤوس جرت أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة". (1)

 

وانتشرت هذه العبارة في الإعلام بسرعة فائقة، البعض أشار إلى أن مقالة فراس الغضبان كان مصدرها (2) والبعض الآخر لم يشر إلى مصدر، وأحياناً نشرت لوحدها دون إضافة (3)، وفي أحيان أخرى كانت ضمن مقالات.

 

ليس لتلك القصة علاقة بالحقيقة، فشهادات الشاهدتين لا تشيران إلى أية عمليات قطع أو فصل رؤوس التي ادعى فراس الغضبان الحمداني أنها حدثت أمام المحتجزين، بل أكد كل من الشاهدتان أن الضحايا الذين تحدث الكاتب عنهم قد قتلوا بالرصاص أمامهما ودون أي إشارة لقطع أو فصل رؤوس.

قالت أحدى الشاهدتين: "الشماس نبيل رموه ووكع من طوله، وابونا وسيم رموه ووكع من طوله، وأبونا ثائر انقتل..انضرب!"

وقالت الثانية: "طلع القس يسد الباب ضربوه طلقة براسه....أبونا ثائر ضربوه براسه وأبونا مخلص..أبونا وسيم ضربوه ... قتلوا كل الشباب".

إذاً لم يكن هناك ذبح ولا فصل رؤوس أمام المحاصرين، فمن أين جاءت تلك القصة المفتعلة ومن أي مصدر تم نقلها؟

 

بحثت فوجدت أن مقالة الحمداني كانت الأقدم بين المصادر التي وجدتها، فكتبت أسأله معلقاً على مقالته بما يلي:

 

"الأستاذ فراس الغضبان الحمداني المحترم،

أود الكتابة عن المجزرة التي تناولتها مقالتكم القيمة، وودت لو تكرمتم علي بالإشارة إلى مصادركم عن عمليات قطع الرؤوس والذبح، حيث أن الشهود لم يشيروا إلى شيء من هذا القبيل، علماً أن إحدى الشاهدات قالت أن القساوسة "قتلوا" أمامها، ولم تتحدث عن ذبح أو فصل رؤوس، ولكم الشكر." (1)

 

لكن الغضبان لم يجب، فكررت تعليقي راجياً الإسراع بالإجابة فلم يفعل، وكتبت له إيميلاً بنفس المعنى دون جدوى، وعدت أكتب له على مقالة ثانية له في موقع آخر، منبهاً إلى خطورة القضية، فكتبت له:

 

"الأستاذ فراس الغضبان المحترم،

لقد كتبت تعليقين حول مقالتك السابقة، في "المثقف" والتي ذكرت فيها أن عملية ذبح للضحايا وفصل رؤوس تمت في مجزرة كنيسة سيدة النجاة، ولم تشر إلى أية مصادر عن تلك الحادثة. بعد ذلك كتبت لك إيميلاً اسألك فيه نفس السؤال ولم أحصل على جواب منك بعد. ولأني لم اجد في أقوال الشهود أية إشارة إلى ذلك فقد رجوتك إرشادي إلى مصادرك عن الخبر، لأنني أعكف على كتابة مقالة حول حقائق ما جرى في الكنيسة، والحادثة التي أشرتم إليها قد تكون مهمة للغاية في التحقيق والوصول إلى من يقف وراء الحادث الإجرامي، لأن حادثة قطع الرؤوس تبدو ملفقة ودخلت إلى الإعلام بشكل غير معروف وتناقلتها الأخبار والمقالات دون الإشارة إلى مصدر.

معذرة لأني أعيد سؤالي في مقالتك هذه فلا اعرف طريقاً آخر للإتصال بك بعد أن لم يصلني منك رد على تعليقاتي السابقة ولا الإيميل." (4)

 

ولم يجب الغضبان فنشرت مقالتي التي كنت أجلتها يوماً ونصف دون أن احصل على المعلومة الهامة التي لدى الغضبان. تصورت أن فراس الغضبان ربما يكون من نوع الكتاب الذين يأنفون الرد على تعليقات قرائهم، ربما حتى مع أهمية الموضوع لكني وجدته يرد على قرائه في مقالات أخرى مما زاد حيرتي في سبب امتناعه عن الرد.

 

إن القصة الملفقة في مقالة فراس الغضبان الحمداني، لا يمكن أن تكون خطأً أو سهواً، وهي مؤشر خطير قد يقود إلى رأس الخيط الموصل إلى الجريمة، وأني أستغرب أن قوات الأمن العراقية التي هاجمت وأغلقت قناة البغدادية واعتقلت موظفين منها للتحقيق، رغم أنهم لم يفعلوا ما يمكن إثبات تهمة عليهم بواسطته، ولم تفعل شيئاً بالنسبة لقضية القصة المزيفة التي هي دليل قاطع، فإما من نشرها كان كاتبها أو عليه أن يقول من أين نقلها ويمكن التأكد من التواريخ.

 

الجريمة طبعاً مروعة وفضيعة حتى بدون ما أضافته قصة الحمداني إليها، والتنبيه إلى زيف القصة لا يهدف بأي شكل للتخفيف من فضاعة الجريمة. لقد كان الإرهابيون بشعين إلى درجة مخيفة، ولا أستبعد أن عمليات قطع وفصل الرؤوس كانت ضمن خطتهم الأصلية زيادة في الإرهاب وتأثيره، لكن يحتمل أنهم عجزوا عن تنفيذها في تلك اللحظة، فهي تحتاج إلى وحوش من مستوى متميز نادر.

إلا أن ما يهمني هو من يمكن أن يتعمد فبركة قصة إضافية موجهة بشكل واضح لزيادة فعالية صدى العمل الإرهابي، وإكمال مرحلته الثانية بنجاح؟ هل يا ترى كان مصدر تلك القصة الإرهابي قد جهزها قبل العملية وأنزلها في الإعلام قبل أن يعلم أن القتلة فشلوا في تنفيذها، لتتلاقفها وسائل الإعلام والصحفيون، المتعمدون منهم والأبرياء الذين أجتاحتهم العاصفة العاطفية فلم يقوموا بالتمحيص.

 

في مقالته الثانية التي كانت تحت عنوان "البغدادية قناة فضائية أم منظمة إرهابية" كتب فراس الغضبان الحمداني:

"ليس هناك أدنى شك بخطورة ما تتناقله وسائل الإعلام من أخبار ومعلومات وما تقدمه من آراء وأفكار لها قوة كبيرة في تحفيز العقول وتحرك العواطف واستفزاز المشاعر مما يؤدي إلى بلورة عقل جمعي يذوب في شخصه الفرد ويجد نفسه منساقا ومندفعا للقيام بفعل جنوني مثل القتل الطائفي والإبادة الجماعية التي تشعل فتيلها كلمة أو مقالة أو داعية للشر عبر إحدى الفضائيات  ، حيث يمثل دور المواطن وشر أحقاده وكراهيته وهذا ما يبدوا في الظاهر لكن المخيف هو أجندات سياسية ومخططات مدروسة تنفذها بعض القنوات وبعض الشخصيات التي تعرض نفسها في مزاد الدفاع عن الحريات وحقوق المواطنين ."

 

أليس من العجيب أن من يكتب هذا، يعود فيكتب أو ينقل قصة مخيفة دون تمحيص، ثم حين ينبه إلى ذلك، يهمل الموضوع تماماً، فلا يجيب على الأسئلة ولا حتى يصحح الخطأ؟

 

لو أن الأمر حدث معي، لقفزت فوراً ، وقبل أن أجيب أو أشكر من نبهني إلى الخطأ، لأكتب إلى كل من نشر مقالتي، مصححاً ما جاء فيها وراجياً إياهم نشر التصحيح بالسرعة الممكنة مبيناً سبب ومصدر الخطأ، ولأعتذرت لقرائي وللضحايا أشد الإعتذار..فقد أنزلت بهم ألماً إضافياً فوق ألمهم.

لقد كتب الغضبان مقالته التي جاءت بالقصة الملفقة، بعد ساعات فقط من المجزرة. فالمجزرة انتهت في منتصف ليل 31 تشرين الأول، ونشرت مقالة فراس الغضبان يوم 1 تشرين الثاني أي إنها على الأرجح قد نقلت القصة مباشرة من المصدر المرتبط بالإرهابين، إن لم تكن هي المصدر الأول لتلك القصة، وفي كلتا الحالتين فسؤال الغضبان عن مصدر القصة أمر شديد الأهمية، ويعد بكشف الكثير من الحقائق.

أن الشعوب التي نجت من الكوارث ووصلت إلى بر التقدم والأمان إنما فعلت ذلك من خلال الحرص على الإنتباه إلى أية إشارات على ما يتهددها من أخطار تكشفها مؤسساتها أو أفرادها، فلماذا إذاً لا تعامل هذه المعلومة بما تستحق من أهمية للعراق ومستقبله؟ ولماذا لا تحرص المواقع ووسائل الإعلام، ليس فقط الإسلامية والعلمانية، وإنما أيضاً التابعة  للجمعيات المسيحية نفسها ليس فقط على نشر الحقيقة، وإنما بالمطالبة بالتحقيق فيما قد يكشف لهم المجرمين الذين كانوا وراء فجيعتهم وفقدانهم لأحبتهم، بدلاً من نشر المقالات التي تكمل العملية الإرهابية مثل مقالة سامر زيبر التي سنشهد الكثير منها في القادم من الأيام بلا شك؟

 

قلما أدعو قرائي إلى نشر مقالاتي، لكني اليوم أدعوهم إلى نشر هذه المقالة والمقالة السابقة التي تطالب بالتحقيق في كل النقاط الغريبة  التي رافقت تلك المجزرة، وخاصة قصة قطع وفصل الرؤوس المفبركة، فالمؤامرة خطيرة وتهدف على ما يبدو إما إلى تهجير المسيحيين من العراق أو جعل علاقتهم بالمسلمين أشبه بعلاقة أقباط مصر بمسلميها، وليس من غرابة، فهناك يرتع الموساد أيضاً. أدعوكم جميعاً لإنقاذ العراق مما يخطط له من من المؤامرات والفضائع. الحقائق يجب أن تكشف مهما كلفت، وإلا فنحن مسؤولون عن النتائج القادمة حتماً، ولكل شخص أن يقرر ماهو دوره بما تمليه عليه قيمه في هذه اللحظة الخطيرة من تاريخ الشعب العراقي.

 

(*)http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785 

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20381

(2) أشار الكاتب نزار ملاخا إلى مقالة فراس

http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=4856

(3) هذه المدونة نشرت نفس نص فراس، لكن تاريخ النشر يبين أن فراس نشر مقالته في 1 تشرين الثاني وتاريخ نشر الخبر في المدونة هو 6 تشرين الثاني :

http://rudem.elaphblog.com/posts.aspx?U=349&A=67910

(4) http://qanon302.net/news.php?action=view&id=3078

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1576 الاحد 14 /11 /2010)