تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

الرئيسية

جدل سياسي: الكاتب السياسي والأديب (1-3) / صائب خليل

لماذا يتفق الناس أن الأديب والشاعر الجيد، مبدعٌ، ولا يحظى الكاتب السياسي الجيد بمثل ذلك الإجماع؟

يبدو لي أن بعض الأسباب مفهوم، فالشاعر "يبتدع" قصيدة و "يخلق" منها صورة، بينما الكاتب السياسي "يجمع" حقائق وأرقام و"يقدمها" مرتبة في أحسن الأحوال ليستنتج منها فكرته التي يحاول أن يقنعنا بها.

صديق لي عبر عن الأمر بالشكل التالي:

"أتخيل المقال السياسي مثل أداة نستخدمها لعمل شيء وقد لا نعتني كثيرا بها اثناء الاستخدام (مقص، مطرقة ..) بينما الأدب يشبه قطعة توضع للزينة مثل مزهرية ... وقد يكون هذا سر النفور من الحديث في السياسه – وليس الترفع عنه – يعني مثلا هل تعرف كم تكره معظم النساء الأحاديث السياسية ؟"

 

لنحاول تحدي هذه المفاهيم قليلاً: لاشك أن معظم الأدباء سيرفضون فكرة أن يعتبر نتائجهم "مزهرية للزينة"، فالأدب الجيد شيء يتفاعل معك بقوة ويفترض أن يتمكن من مراكمة تغيير فلسفي بعيد المدى، ومع ذلك الفكرة لها بعض الحق.

تحدي آخر يمكن توجيهه لفكرة أن الأدب أمر يعتنى به، وليس المقالة السياسية، بالسؤال هل هذا صحيح دائماً؟ أقصد أن كاتباً سياسياً جيداً قد يعتني بمقالته كثيراً. يراجع مفاهيمها وصحتها، يحاول تخيل رد فعل القارئ عليها، أي العبارات غير مفهوم أو غير سلس، وأيها يصبح أوضح وأفضل تعبيراً عن الفكرة إن تغير. ماهي المحاججات المضادة التي قد تخطر ببال القارئ وما هو الرد عليها؟ هذا عدا أن الإهتمام بإقناع القارئ يعني الكثير من البحث عن المصادر وترتيبها بشكل يسلط الضوء قدر الإمكان على الفكرة الأساسية من المقالة، دون أن تضيع تلك الفكرة الأساسية في غابة التفاصيل، وأن يبقى "الخيط الأحمر" واضحاً خلال مجرى المقالة كلها.

صحيح أن الأديب سيدقق كلماته بشكل أكثف، ويلزم نفسه بالحبكة والشكل والموسيقى الخ، مما لا يحتاجه الكاتب السياسي، لكن الكاتب السياسي الجيد بدوره، يلزم نفسه إلزامات إضافية عن تلك التي يلزم الأديب نفسه بها، مثل الحيادية والصدق والموضوعية في نقل الواقع بلا مبالغة أو انتقائية قد تخدم الفكرة لكنها لا تكون صادقة. الأول يحلق حراً من الواقع والتزاماته، لكنه يفقد إسناده، فعليه أن يخلق واقعه بنفسه، والثاني يلتصق بالأرض فتحمل ثقله، لكن يتوجب عليه بالمقابل أن يحترم شروط الجاذبية والعوائق، ليتمكن من الحركة برشاقة بينها.

 

حتى الآن يبدو أن المخلوقين يستحقان من قراءهما معاملة متقاربة على وجه العموم، فمن أين أتى الفرق؟

مقابل الرأي بأن "الأدب شيء جميل"، هناك رأي شائع بأن "السياسة شيء وسخ" وبالتالي فكل ما يتعلق بالسياسة،- كالكتابة عنها- سيصيبه بعض هذا الوسخ.

عندما نراقب التعليقات على الأدب، نجدها إيجابية دائماً (تورط كاتب هذه السطور مرة بكسر هذه القاعدة لما تعوده في نقد المقالات السياسية، فقرر أن لا يكررها J ) وتنم عن احترام القارئ للكاتب والشعور بالإمتنان له، ولا يحصل الكاتب السياسي على هذا الرفاه. ويتوقع من الكاتب السياسي أن يبقى هادئاً مؤدباً مع قراءه حتى من يهاجمه بغير أدب، وكأن الكاتب السياسي عاهرة في ملهى يحق لأي زائر أن يمد يده إلى أي مكان فيها دون أن يحق لها أن تحتج. ويبدو الأمر وكأن القارئ يحمّل الكاتب منّةً لأنه يقرأ له.

 

وبعيداً عن المقالات، نجد أنه عندما تحدث شخصاً عن الأدب قد يقول لك بخجل وشعور بالتقصير، أنه "لا يفهم في الشعر" أو أنه "لم يجد وقتاً لقراءة الروايات للأسف"، لكن إن سألته عن رأيه بقضية سياسية لم يتابعها، فسوف يجيبك بحيادية، أو ربما بلهجة أقرب إلى الفخر والترفع بأنه "لا يتدخل بالسياسة" أو "لا يحب السياسة" أو "لا يؤمن بالسياسة".

المواطن المثقف عموماً يشعر أنه أخفض من الأدباء، وأرفع من السياسيين، وإذ يصبغ السياسيين بالسوء، فإنه يستطيع أن يعفي نفسه من متابعة ما يجري في البلد دون شعور بالتقصير، لكنه يشعر به بالنسبة للأدب.

 

لعل قائل يقول: الأديب أوالفنان إنسان مبدع، إنسان من نوع خاص، لذا فمن الطبيعي أن يقدر عمله أكثر من عمل الكاتب السياسي، حتى لو بذل الأخير جهدا ً أطول وتضحية أكبر. لكن هذا ليس حكماً دقيقاً، إلا ربما فيما يخص القمم الإبداعية الأعلى فقط.

دعونا ننقل دفاعنا عن الكاتب السياسي، إلى الهجوم، فنقول أن الكتابة السياسية، وفق مبادئ ومقاييس معينة، يفترض أن تكون محترمة، لا بقدر الأدب فقط، بل أكثر منه.

لنتخلص أولاً من الإفتراض بأن كاتب السياسة لا يلجأ للأدب والفن، لنقص في قدرته الإبداعية. إسمحوا لي أن آخذ نفسي وتجربتي كمثال هنا، لأني أعرفها أكثر من غيرها، وليس لسبب آخر. فأنا الكتابة (السياسية) ليست عملي ولا هي تعليمي ولا هوايتي الوحيدة، بل لم تكن في مقدمة هواياتي قبل بضعة سنين، حين كانت الأولوية للرسم والموسيقى والشطرنج، والتكنولوجيا، وتمكنت من تحقيق بعض الأمور المبدعة في كل منها، ورغم ذلك فقد تركتها جميعاً لحساب الكتابة السياسية التي تأخذ كل وقتي اليوم تقريباً، فلماذا فضلتها على إتجاهات يفضلها المجتمع ويقدرها أكثر؟ هل هو حب الكتابة السياسية؟

 

سأبدأ الحلقة القادمة بالإجابة عن هذا السؤال، على ان تنتهي هذه المناقشة في ثلاث حلقات.

 13 - 6 - 2012

 

   خاص بالمثقف

   جدل سياسي

 [email protected]



تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2152الجمعة 15/ 06 / 2012)