صحيفة المثقف

الشعر المرسل تجديد أم تقليد؟

nooradin samoodكتب عميد الأدب العربي طه حسين نصا موزونا خاليا من الروي والقافية ضمن نص نثري يخلو من الوزن، وقد رأينا أن نطلق منه لنسأل: هل الروي والقافية من مستلزمات الشعر؟

1) الشعر المرسل وتنويه العقاد ثم تنديده به.

2) رأي حازم القرطاجني من القدماء في القافية.

3) هل أن جهلُ بعض القدماء ينقلب إلى مدرسة تجديدية.؟ 

1) الشعر المرسل تجديد أم تقليد؟

إن محاولات الشعراء للهروب من قيد القافية أو الرّوي قديمة قِدَمَ الشعر نفسه، وإذا كانت بعض اللغات يجوز أن يُكتب شعرها بدون قافية، لعدم وجود كلمات كثيرة فيها تنتهي بنفس الحرف، فإنّ اللغة العربية غنية بالكلمات التي تنتهي بحرف موحّد، وهذا ما تتطلبه القافية، فأمكن لشعرائها أن يُقَفُّوا قصائدهم العمودية في العهود القديمة والحديثة أيضا مهما طالت، بل كتب بعضهم، ومن أشهرهم المعري، "لزوم ما لا يلزم" لالتزامه أكثر من حرف واحد في قوافي لزومياته.

2) هل الروي والقافية من مستلزمات الشعر؟

وإزاء هذا التشبث بالقافية عند القدماء وُجِدَتْ بعضُ المحاولات التحرريّة منها منذ عهد امرئ القيس مرورا بالموشحات الأندلسيّة والمسمّطات القديمة والحديثة إلى الثنائيات والثلاثيات والرباعيات والمقاطع التي كتبها حتى كبار الشعراء المحافظين.

وقد رأينا بعض المحافظين المعاصرين مثل عباس محمود العقاد، ينوّه، أيامَ شبابه، بمحاولات صديقه الشاعر عبد الرحمن شكري التي كتبها تحت عنوان (الشعر المرسل) وهي قصائد كتبها، في صدر حياته الأدبية، على بعض البحور الشعريّة الخليلية المعروفة ذات الصدور والأعجاز لكنه تحرر فيها من والقافية، فجاءت كما اتفق ليس بينها أيّ نوع من أنواع التوافق إلا ما جاء اتفاقا، فكانت كالبيت اليتيم الذي يرسله الشاعر مفردا وحيدا، لا تلحقه عيوب القافية، فهو كما قال أبو العلاء في لزوميته التي شبه فيها نفسه عند بعده عن الناس، بالبيت المفرد:

بُعْدي عن الناس بُرْءٌ مِنْ سقامهمُ

وقُـربُهمْ، للحِجَى والدين أدواءُ

كالبيت أُفْـرِد لا إيطاء يدركه

ولا سنادٌ ولا في البيت إقواءُ(1)

3) الشعر المرسل وتنويه العقاد ثم تنديده به.

لقد كان موقف العقاد في أوائل حياته الأدبية مؤيدا للشعر المرسل المتحرر من القافية والروي، ولكن عندما تقدمت به السن قليلا وناصب صديقه القديم عبد الرحمن شكري العداء وعرف بأنه شاعر ناقد محافظ متحمس للشعر القديم ومناوئ لكل حركة تجديديّة في الشعر العربي على الصعيد الشكلي، انقلب ضد هذا التجديد الذي سلكه شكري وقال بأن الشعر العربي لا يمكن أن يكتب بغير قافيه وتراجع فيما قاله عن "الشعر المرسل".

وقد قال أصحاب العروض:" إذا كان الحرف الذي انتقل إليه الشاعر قريبَ المخرج من الحرف الأصلي للقافية، سمَّوْا ذلك "إكفاءً" أما إذا كان مخرج ذلك الحرف بعيدا عن مخرج الحرف الأصلي لقافية القصيدة، فإنهم يرون ذلك عيبا أشدَّ ، وسمَّوه"إجازة". وأنكره العروضيون والشعراء الفحول.

4) رأي حازم القرطاجني من القدماء في القافية.

قال حازم القرطاجني: "والذي يجب اعتماده في مقاطع القوافي أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفا واحدا بعينه غير متسامَحٍ في إيراد ما يقاربه معه. وقد وقع ذلك لبعض من لا يُحْفَلُ به من العرب، الذين تكون بضاعتهم في الشعر مُزْجاةً، ومما يوجبه الاختيار أيضا أن تكون حركات حروف الروي من نوع واحد لا يُجمع بين رفع وخفض ولا غير ذلك. وقد وقع الجمع بين ذلك للفصحاء على قبح(2).

ورغم إنكار العروضيين وتجنب الشعراء لهذا العيب فقد وُجدت في الشعر العربي القديم نماذج من الشعر الذي تخلّى فيها أصحابها عن الروي والقافية ومن أشهرها أربعة أبيات لشاعر بدوي يجهل الكتابة لذلك لم يميز بين بعض الحروف المتشابهة في النطق وخدعه السمع فلم يميز بين: اللام والميم والراء والباء فقفّى بها أبياته التالية التي رواها أبو الحسن الأخفش الأوسط"215هـ" (عن رجل لا يحتشم من إنشادها):(طويل)

ألا هل ترى - إن لم تكن أمُّ مالكٍ    

                   بملك يدي - أنّ الكَفـاءَ قليلُ؟

      

رأى مِن رفيقيْه جفاءً وغِلظةً     

                  إذا قـام يبتاعُ القَـلوصَ ذميمُ

       

فقال: أقِلاَّ واترُكا الرحْلَ إنّــنا      

                 بِـمَـهـلِكةٍ، والعاقباتُ تدورُ

فبيناه يشْـري رحله، قال قائلٌ:

          لمن جملٌ رَخْوُ المِلاطِ نجيبُ)(3)

فقد ظن هذا الشاعر أنه وحّد رويَّ أبياته بدليل أنه وحّد حركة حروفها الأخيرة، فالضمة في جميع تلك الأبيات هيّأت له أن القافية متوفرة فيها، أمّا الشعراء الذين كتبوا الشعر المرسل من القافية في العصر الحديث مثل: عبد الرحمن شكري وجميل صدقي الزهاوي وأحمد زكي أبو شادي وغيرهم... فقد أرسلوا شعرهم من الروي والقافية ومن وحدة "الضرب" ومن وحدة حركة الروي ومن كل قواعد القافية ومستلزماتها وهي كثيرة عامدين متعمدين من باب التجديد والثورة على القيود.

ونعود إلى النص المنثور الذي كتبه عميد الأديب العربي الدكتور طه حسين واعتبرناه من الشعر المرسل رغم أنه لم يكتبه على شكل الشعر: صدرا وعجزا. بل كتبه كما يكتب النثر ولا يمكن أن ينتبه أحد  إلى أنّه موزون على بحر من البحور الخليليّة إلا إذا كانت له أذن موسيقيّة عروضيّة تميز الموزون من المنثور.

 5) طه حسين يكتب "الشعر المرسل"في نص نثري.

كتب طه حسين فصلا من فصول كتابه "على هامش السيرة" الجزء الثالث ص125 تحت عنوان "ذو الجناحين" جاء فيه هذا المقطع الذي يقدمه بأسلوب سردي هكذا: (أقبلتْ تسعَى رويدا رويدا، مثلما يسعى النسيم العليل، لا يمسّ الأرضَ وقعُ خطاها، فهي كالروح سَرَى في الفضاءِ، نشر المسكُ عليها جناحًا، فهي سرٌّ في ضمير الظلام، وَهَبَتْ للروض بعضَ شذاها، فجزاها بثناءٍ جميل، ومضى ينشر منه عبيرا، مستثيرا كامِناتِ الشجون، فإذا الجدول نشوان يُبْدي، من هواه ما طواه الزمان ، ردّت الذكرى عليه أساه، ودعا الشوقُ إليه الحنين، فهو طورا شاحِبٌ قد براه، من قديم الوجد مثلُ الهُزال، صَحِبَ الأيّامَ يشكو إليها، بَثَّهُ لو أسعدته الشَّكاة، وهو طورا صاخبٌ قد عراه، من طريف الحبّ مثل الجنون، جاش حتّى أضحك الأرضَ منه، عن رياضٍ بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كُراتٌ، يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها، ظلمة الليل وضوء النهار).(4)

إن معظم الذين يقرؤون هذا المقطع في كتاب "على هامش السيرة" لطه حسين يعتقدون أنه نثر مثل سائر نصوص ذلك الكتاب، والحقيقة أنّ هذا المقطع مكتوب بطريقة "الشّعر المرسل" الذي يتحرّر فيه صاحبه من القافية والروّي إلا ما جاء اتفاقا دون تعمُّد، وهذا المقطع مكتوب على تفعيلات بحر المديد التّام وهي:

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن*فاعلاتن فاعلن فاعلاتن

ويجوز في تفعيلات المديد من الزحافات حذف ثاني السبب الخفيف الأول أي الألف الموالية "للفاء" من جميع التفعيلات، ويجوز في تفعيلتي العروض والضرب حذف سبب خفيف من آخره.

 ذلك هو النص الذي كتبه طه حسين منثورا بالشكل السابق وأقدّمه فيما يلي بالشّكل الذي يجب أن يُكتب به ليتبين لنا أنه "شعرٌ مرسل" ذو صدر وعجز متحرر من القافية والروي، والملاحظ أنه لم يرتكب فيه أي جواز من الجوازات الشعرية مما لا يجوز في النثر، كما نلاحظ أن أواخر الفقرات، أو الأبيات يمكن أن تقف عليها القارئ ساكنة أو متحركة، وهذا لا يغير إلا نوع الضرب، وكلاهما جائز في النظم أو الشعر[على المديد]:

أقبـلـتْ تسعَى رويْـدًا رويدًا     

         مِـثْـلـما يسعى النّسيمُ العليلُ

لا يَمَسّ الأرضَ وقْـعُ خطاها

             فهي كالرّوح سرى في الفضاءِ

نَـشَر المِسْـك عليـها جناحًا

              فهْـي سِـرّ في ضمير الظلامِ

وَهَـبَتْ للرّوض بعض شذاها    

                  فَـجـزاهـا بِـثَـناءٍ جـميلِ

ومضَى يَـنْـثُـرُ مـنه عبيرا     

             مُـسْـتَـثيرا كامنات الشجونِ

فإذا الجدْوَلُ نَـشوانُ يُـبْـدي   

                مـن هـواه ما طـواه الزمانُ

ردّتِ الذّكْـرى علـيـه أساه    

                 ودعـا الشَّـوْقُ إليه الحنـينْ!

فهْـو طَوْرًا شـاحـبٌ قد بَراهُ    

             مِـن قـديم الوجد مثل الهُـزالِ

صَحِـبَ الأيّـام يـشـكو إليه     

                    بَـثَّـه لـو أسْـعَـدَتْه الشّكاةُ

وهْو طَوْرًا صاخب قد عَراهُ    

            مِنْ طريفِ الحُب مثلُ الجنونِ

جـاش حتّى أضحك الأرض منه    

             عَـن رياضٍ بـهْـجة للعـيونِ

ونُفوسُ العاشقـين مِثْل كُراتٍ    

              يَـعْـبثُ اليأس بها والرّجـاءُ

كحياةِ الـدّهر تـأتي علـيها     

            ظُـلْـمَةُ الليلِ و ضوءُ النهارِ.

ذلك هو النص أو القصيدة المرسلة أو المقطع المنظوم الذّي أملاه طه حسين فكتبه كاتبه مثلما يكتب النثر. إمّا لأنّ عميد الأدب لم ينبّهه إلى الصدر والعجز ولم ينتبه الكاتب إلى ذلك لانعدام القافية فيه، وإمّا لأنّ طه حسين أراد أن يكتب هذا الكلام الموزون كما يُكتب النثر امتحانا للقرّاء، أو تنصلا من الشعر الذي تخلى عنه وعن كتابته منذ أوائل القرن العشرين بعد أن كتب بعض القصائد في بداية حياته الأدبيّة، والغالب على الظن أنه تعمد هذا الإغماض.

والملاحظ أنّ موسيقى المديد ضعيفة تطغى عليه نغمة بحر الرمل الذي تميل إليه الأذن أكثر من ميلانها إلى المديد، وليس بينهما فرق إلاّ أن المديد لا ينقص عن الرمل إلا بسبب خفيف أي متحرّك وساكن وأحيانا متحرك فقط، إذ أن وزن الرمل التام دون زحافات هو:

فاعلاتن فاعلا[تن] فاعلاتن*فاعلاتن فاعلا[تن] فاعلاتن

وتفعيلات المديد المستعمل، دون زحافات، هي نفسها بحذف سبب خفيف وهو ما وضعناه بين معقفيْـن، مثل قولنا على الرمل الخفيف على السمع:

تشرَبُ الأحداق [مِنْ] فتنتها*إنها ماءٌ لمن[ قد] شرِبوا

لأننا إذا حذفنا من البيت ما وضعناه بين معقـَّفَيْن صار البيت على البحر المديد وهو ثقيل على السمع إزاء الرمل.

وإذا تأملنا المقطع السابق لطه حسين أدركنا أن الروي فيه لم يُلتزم تماما ولم نجد أي توافق بين الروي فيها إلاّ في (البيت الخامس) في كلمة (الشجون) والبيت السابع في كلمة (الحنين) والعاشر في كلمة(الجنون) والحادي عشر في كلمة (العيون). إذا قرئت جميعا بالسكون، ولكنّ بُعْد هذه الأبيات عن بعضها لا يشعرنا بوحدة القافية فيها. أمّا بقية الأبيات فقد اختلفت اختلافا كليّا، ويمكن تحريك روي بعضها بالضم، وبالفتح في البيت السابع، أو قراءتها جميعا بالسكون، كل ذلك بدون نظام مضبوط.

وقد رأينا في بداية المقال كيف أنّ عباس محمود العقاد قد تحمّس لهذا اللون من الشعر، ولكنه بعد ذلك تنكر له ورأى أنّه ضرب من الشعر لا تقبله الأذن العربيّة. وقال إنّ قبوله لنماذج شكري في بداية ظهورها يعود إلى أنّه كان يظنّ أنّ الأذن العربيّة ستتعوّد على هذا النوع من الشعر بكثرة الاستعمال والاستماع، ولكن تبيّن له أنّ هذا الشعر المرسل من القوافي لا يستحسن في الشعر العربي ولا يمكن أن تقبله الأذن العربيّة المتعوّدة على وحدة القافية والرويّ ولا يمكن أن تميل إلى الفقر بعد الغنى. وهذا تبرير قد كا لأسباب أخرى غير ماذكره العقاد وأهمها التنافر الذي وقع بين عبد الرحمن شكري من ناحية وبين العقاد إبراهيم عبد القادر المازني من ناحية ثانية، يطول الحديث عنها هنا

ومهما يكن موقف النقاد من الشعر المرسل فإننا نرى الوزن فيه صحيح وموسيقاه الشعر متوفرة في كل بيت على حدة، فهو مثل الأبيات المفردة الشائعة على ألْسنة حُفّاظ الشعر، أو مثل شعر الثنائيات أو الأراجيز، ونحن مع الحطيئة في قوله [على الرجز]:

الشعر صعبٌ وطويل سُلَّمُهْ

            إذا ارتقَى فيه الذي لا يعلمهْ

زلتْ به إلى الحضيض قدمهْ

             يُريد أن يُعـربَهُ فيعجمُهْ(4)

ومهما يكن من أمر فإننا نترك للشاعر الحريةَ في التزام القافية والروي أو التحرر منهما، فليكتب من يشاء من "المحافظين" أصحاب الثروة اللغوية مثل المعري بطريقة "لزوم ما لا يلزم" وليكتب من يشاء من "المجددين" أو دعاة الحداثة أو أصحاب الزاد اللغوي المحدود، بطريقة "الشعر المرسل"، لأن العبرة في الإبداع بالروح، لا بالمسائل الشكلية.

 

أ. د: نورالدين صمود

.................................

(1) أبو العلاء المعري ـ لزوم ما لا يلزم ج 1 ص 48 دار صادر بيروت: البيتان الأخيران من أربعة أبيات قافيتها "الهمزة المضمومة مع الواو". ولو قدم كلمة "الإقواء" وجعل كلمة"الإيطاء" في القافية لانعدم لزوم ما لا يلزم.

(2) منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني ص 272 تقديم وتحقيق د. محمد الحبيب ابن الخوجة ـ الطبعة الأولى دار الكتب الشرقية تونس 1966. الطبعة الثانية دار الغرب الإسلامي /  1981 مصورة عن  ط 1 الطبعة الثالثة بالدار العربية للكتاب ص 244 سنة 2008.طبعت بإشراف كاتب هذا المقال في سلسلة الذاكرة الحية

(3) على هامش السيرة لطه حسين ج2 فصل "ذو الجناحين"

(4) الأغاني لأبي الفرَج الأصفهاني ج 2 ص 165 الدار التونسية للنشر مصورة عن طبعة دار الثقافة بيروت1983.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم