صحيفة المثقف

الحرب في التاريخ عند ابن خلدون وهيجل

khadat jleedلا شك أن الحرب ظاهرة تاريخية ملازمة لوجود الإنسان منذ فجر التاريخ، حتى يمكن أن نقول أنّ تاريخ الإنسان هو تاريخ الحرب حيث لا يخلو مجتمع أو حضارة من هذه الظاهرة المرعبة التي تحصد الأرواح وتفسد العمران، ونظرا لأهمية هذه الظاهرة في التاريخ فقد تطرق إليها كل من إبن خلدون  وهيجل، كل من زاويته الخاصة وفي إطار ظروف العصر التي تحدد المرجعية الفكرية والموقف السياسي والإيديولوجي لكل واحد منهما، ولكنّ قبل أن نتطرق إلى هذا الموضوع عند هذين الفيلسوفين، فلا بأس أن نتطرق إلى الأسس النظرية والفكرية لظاهرة الحرب فنتساءل: هل للحرب بعد فكري؟ وهل لها مبررات نظرية وفلسفية؟ وهل يمكننا أن نتساءل عن وظائف إيجابية للحرب؟.

إذا كانت الحرب ظاهرة عدوانية وفعل عنيف فهل يمكننا أن نربط هذه الظاهرة بالطبيعة البشرية ( LA NATURE HUMAINE  )؟ وبمعنى آخر « هل العدوانية غريزة فطر عليها الإنسان أم هي ردّ فعل مكتسب؟ يمكننا أيضا طرح هذا السؤال على الشكل التالي: هل الإنسان عدواني بطبيعته؟ من الصعب جدا معرفة ذلك فليس ثمّة من شخصية تعيش في حالة الطبيعة الصرفة، أي بمنأى عن تأثير العوامل الثقافية » .

ولا شك أنّ الإنسان تتنازعه طبيعتان طبيعة الخير وطبيعة الشر كما يقول الحكماء وأنّ طبيعة الشر أقرب إلى الإنسان من طبيعة الخير، لذلك نجد أنّ الكثير من الفلاسفة أقاموا فلسفتهم السياسية على الطبيعة البشرية خاصة طبيعة الشر وهذا مما جعل الفيلسوف الإيطالي مكيافيلي يقول: « لا يفعل الناس الخير إلاّ مكرهين، ولكن ما إن يحصلوا على حرية الإختيار في ارتكاب الشر من دون عقاب حتى يزرعوا الشغب والفوضى في كل مكان وهذا ما دفع إلى القول أنّ الفقر والحاجة يجعلان الناس حاذقين وأنّ القوانين تخلق أناسا صالحين » .

كما نجد أيضا من الفلاسفة الذين ربطوا ظاهرة الحرب والنزعة العدوانية بالطبيعة البشرية الفيلسوف الإنجليزي هوبز (1588 – 1679 ) الذي كان يدعو إلى ضرورة الخروج من مأساة حالة الطبيعة والبحث عن السلم، لأنّ حالة الطبيعةعنده تعني شيئا واحدا وهو أنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ( L’homme est un loup pour l’homme  ) وبعبارة أخرى « إنّ سياسة هوبز تتأسس على أنّ الإنسان محدد برغبتين أساسيتين: الرغبة في السلطة والخوف من الموت العنيف الذي يتعرض له من طرف الآخر، فمنذ زمن بعيد والناس يعيشون بدون سلطة مشتركة تحكمهم في إطار الإحترام، إنّهم يعيشون في هذه الظروف التي نسميها الحرب، وهذه الحرب هي حرب كل واحد ضد الآخر » .

وإذا كان الخروج من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة يعني الخروج من حالة الحرب إلى حالة السلم والإنتقال من النزعات الطبيعية إلى القيّم الإجتماعية والسياسية المشتركة، فإنّه لا يمكننا ربط الحرب بالطبيعة البشرية وحدها لأنّ الإنسان أيضا كائن ثقافي واجتماعي وتاريخي ولأنه وعلى مسرح التاريخ وجدت ثقافات وحضارات تمجد الحروب وتقدس الأبطال الذين يخوضون هذه الحروب بكل فخر واعتزاز، وسواء كانت الحرب من أصل طبيعي أو ثقافي أو كليهما معا فإنّه     « تبقى أكثر عنفا وعشوائية وتقلبا بين جميع القوانين الإجتماعية، تبقى رفيق الدرب العظيم للتاريخ وهي بنفس الوقت رحمة القوي تسير مع الموت الفردي الطبيعي والطارئ الذي يعتبر أعلى مشكلة مطروحة في ساعتها بالنسبة لكل كائن بشري وترافق الكوارث الطبيعية التي تدفن مناطق بكاملها فهي الموت الجماعي الأعظم، بل هي المذبحة الكبرى للإنسان على يد الإنسان التي تعرض للخطر الدول والمجتمعات والحضارات بالإضافة لتهديدها للأشخاص والأسرة من جميع الأنواع »

وبالرغم من الطابع التدميري والعنيف للحرب، إلاّ أنّ هناك من يرى أنّها ضرورية وأنّها تؤدي وظيفة إيجابية وأنّها حالة إنسيابية لا يمكن توقيفها وإنّما هي موجودة على الدوام مثل الوجود الإنساني، وإنّما يمكن فقط التقليل من آثارها من خلال عقد الإتفاقيات والمعاهدات وتشجيع السلم وتمجيده بين الدول والشعوب « ومن هنا يأتي السؤال التالي: ألا يعني دوام وكلية وجود هذه الظاهرة المرعبة رغم كل الجهود والنوايا الحسنة التي بذلت لمحاربتها ألا تعني بأنّ الحرب تقوم في المجتمعات والحضارات بوظائف لا تزال ضرورية حتى الآن ولا يمكن الإستعاضة عنها؟ ولهذا أليس من الواجب أن تكرس جهود جميع المسؤولين في المجتمع الإنساني لتوجيه عدوانية الإنسان نحو مخارج أقل دموية وأقل تدميرا؟» .

وإذا ثبت تاريخيا أن الإنسان لم يستطع أن يمنع الحرب حتى ولو أراد ذلك لأنه مدفوع إليها دفعا فإننا نجد أيضا عبر التاريخ من يدافع عن الحرب من باب أنّ مصائب قوم عند قوم فوائد فالحرب عبر التاريخ تبرز المنتصر والمنهزم كما تبرز الحضارة المتقهقرة والمنتهية والحضارة الصاعدة والمتألقة لأنّ الحرب تقوم عادة في التاريخ « عند احتضار وموت الحضارات وهنا لابد من التفكير أيضا بأولئك الذين يستفيدون من هذه الخاتمة المدمرة ففي مثل هذه المناسبات يبرز على المسرح المناصرون للحرب والمدافعين عنها فهي بالنسبة إليهم امتحان للشعوب ومن وظائف الحرب كما يدعي هؤلاء إزالة الأشكال الإجتماعية والدول والأعراق والحكومات المنهكة المنحلة لتخلي المكان للقوى الغضة والأشكال من التفكير والتنظيمات الجديدة وهذا يعني في النهاية إعطاء الحرب دورا خارقا يتعدى حدود البشر حكم التاريخ أو حكم الإله حسب العبارة الهيجيلية التي اشتهرت في القرون الوسطى » .

وإذا كانت الحرب عبارة عن فوضى اجتماعية فإنّ ذلك في نظر بعض الفلاسفة مرحلة مؤقتة لأنه طبقا للمنطق الجدلي الهيجلي كل أطروحة تؤدي إلى نقيضها وكل فكرة تحمل في ذاتها بذور فنائها فالنظام وليد الفوضى والفوضى وليدة النظام، وفي هذا الإطار يقول أحد الفلاسفة « إنّ أكبر تأثير مألوف للثورات التي تعصف بالأمبراطوريات هو ذلك الذي يجعلها تمر من النظام إلى الفوضى ليعود بها فيما بعد إلى النظام ولم يكتب أبدا لما هو بشري أن يتوقف في نقطة ثابتة عندما يبلغ أقصى كمال ممكن، وعندما يعجز عن الإرتقاء أكثر فإنّه يسقط ولنفس السبب، فهو عندما يسقط في منتهى الفوضى ولا يتأتى له السقوط أكثر من ذلك فإنه يرتقي، وهكذا فإن كل ما هو بشري ينتقل بالتعاقب من الخير إلى الشر ومن الشر إلى الخير، الفضيلة تولد الراحة والراحة تولد الفراغ والعطالة  والعطالة تولد الفوضى والفوضى تؤدي إلى خراب الدول، ثمّ بعد قليل يولد من رحم خرابها النظام من جديد والنظام يولد الفضيلة ومن الفضيلة يولد المجد والرخاء، ومهما كان بالإمكان خلق أفضل أشكال الحكم التي يراد تكوينها فلن يمنعها ذلك من الزوال ذات يوم إذ أنّ كل شكل يحمل في أعشائه بذرة فنائه »

ومن هنا نستنتج أنّ هناك اختلاف بين المفكرين والفلاسفة في تقييم ظاهرة الحرب وتحديد وظيفتها الإجتماعية والتاريخية وهذا لا شك مرتبط بالظرف التاريخي والحضاري الذي كان يعيشه كل مفكر وفيلسوف في عصره، أي حسب منطق العصر وحسب الأطر الإجتماعية للمعرفة التي تكون شعوريا أو لا شعوريا المنهج العام الذي يرى من خلاله الفيلسوف العالم ويحدد علاقته به سواء على المستوى الإبستمولوجي أو الإيديولوجي وإذا كانت الحرب كظاهرة إنسانية شغلت الفلسفة والفلاسفة منذ القديم إلى اليوم فإنّ التساؤل المطروح هو: كيف ينظر كل من ابن خلدون وهيجل إلى هذه الظاهرة؟ وهل يمكننا أن نجد تقاطعات معرفية لتحديد هذه الظاهرة عند كليهما؟ وإذا كان إبن خلدون  متقدم على هيجل في الزمان والمكان فكيف ينظر إلى هذه الظاهرة؟ وهل رؤيته إلى هذه الظاهرة رؤية واقعية أم مثالية؟ وهل الحرب عنده تحمل في ذاتها قيمة سلبية أم إيجابية؟.

ينطلق إبن خلدون  من فكرة الطبيعة البشرية لتفسير ظاهرة العدوان والحرب، وهو بذلك سابق لكل من هوبز ولوك ومكيافيلي.

ويرى إبن خلدون  أنّ العدوان غريزة متأصلة في الإنسان وأنّها هي أصل الشرور وبالتالي الحروب، ولكبح هذه الغريزة العدوانية فلا بد من وجود وازع سياسي تكون له الغلبة والسلطان والقهر لردّ الظلم عن الناس فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا في إطار جماعة وهذا ما معناه أنّ الإنسان حيوان إجتماعي، فلا بدّ من وجود سلطة فوقية لتحديد وتنظيم العلاقة بين أفراد الجماعة وإلاّ أصبحت الحياة الجماعية متعذرة، يقول إبن خلدون  « ثمّ إنّ هذا الإجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتمّ عمران العالم بهم فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنّها موجودة لجميعهم فلا بدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتّى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معناه الملك، وقد تبين لك بهذا أنّه خاصة للأنسان طبيعية ولا بد منها، وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد لما استقرئ فيها من الحكم والإنقياد والإتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه، إلاّ أنّ ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكر والسياسة».

ويمكننا أن نستنتج من هذا النص الخلدوني أنّ غياب الملك واحتكام الإنسان إلى طبيعته العدوانية هو السبب الرئيسي للمنازعات والحروب، وإذا كانت الحروب قديما تحدث أكثر بين القبائل فلأنّ هذه القبائل لم تخضع لإطار سياسي مشترك ولسلطان غالب قاهر، ولأنّ هذه الحروب أيضا كانت تخضع للعصبية القبلية والعصبية فكرة طبيعية تقوم على الرابطة والدموية وليس على مبدأ أخلاقي واجتماعي وسياسي، أما فكرة الوازع السياسي فنجدها عندما تنتقل القبيلة من البداوة إلى الحضارة أي بعد تأسيس الدولة وإخضاع العصبيات إلى عصبية واحدة قاهرة تحمل مشروعا سياسيا وبالتالي كما يقول إبن خلدون  الإنتقال من الشظف إلى الترف ومن حالة الطبيعة إلى حالة الحضارة.

وإذا كان إبن خلدون  يربط العدوان بالطبيعة الإنسانية التي لم تخضع بعد لفكرة الوازع فكيف ينظر إبن خلدون  إلى ظاهرة الحرب في التاريخ؟.

يرى إبن خلدون  ومن منظور واقعي أنّ الحرب ظاهرة إنسانية تاريخية ملازمة للبشرية منذ فجر التاريخ وأنّها تقوم لغرض انتقام البعض من بعض الآخر، يقول إبن خلدون : « إعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته فإذا تذامروا  لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل » .

وإذا تأملنا هذه العبارة الأخيرة  لإبن خلدون ندرك حقيقة الحرب بالنسبة إليه وهو الذي حنكته التجارب بحيث يعتبر فكره خلاصة تجاربه، فهو يرى إذن أنّ الحرب أمر طبيعي وكل ما هو طبيعي واقع لا محالة ولا يمكننا أن نمنع وقوعه فلم يوجد ولن يوجد هناك أمة في التاريخ لم تعش الحروب أو تواجه أمما وأجيالا أخرى بها .

وإذا كانت الحرب أساسها الإنتقام عند إبن خلدون  فإنّه وبلغة الفيلسوف الذي يبحث عن الأسباب والعلل يقوم بعملية تفسير لهذه الظاهرة وهذا من خلال وقوفه على دوافعها ومنطلقاتها  يقول إبن خلدون : « وسبب هذا الإنتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة وإمّا عدوان وإمّا غضب لله ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما أيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك رتبة ولا ملك وإنّما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها » .

ونستنتج من هذا النص أنّ أسباب الحروب أربعة عند إبن خلدون  أولها الغيرة والمنافسة وهذا يحدث بين القبائل وأساسه التنافس في المال والسلطان والجاه بحيث تريد كل قبيلة أن تظهر بمظهر القوي أمام القبائل الأخرى المجاورة وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ البعيد منه أو القريب سواء عند العرب أو غيرهم من الشعوب الأخرى لأنّ نظام القبيلة هو نظام اجتماعي إنساني عرفته البشرية منذ مراحلها المتعاقبة عبر التاريخ ولا تزال شعوب إلى اليوم  تخضع إلى هذا النظام البدائي والشكل الإجتماعي، وثانيها العدوان وهو الذي يكون في الأمم الوحشية البعيدة عن الحضارة والمدنية والتي هدفها توفير أقواتها وأرزاقها ولا يكون ذلك إلاّ بالغزو والحروب واستعمال السلاح، وحرب العدوان هذه ليس لها هدف سياسي أو إجتماعي وإنّما هدفها طبيعي محض أي الصراع من أجل البقاء والحياة وهي حرب أشبه بصراع الحيوانات مع بعضها البعض لا يحركها شيء سوى إرادة الحياة، وثالثها حرب الجهاد وهي حرب دينية مقدسة الهدف منها نصرة دين الله والدفاع عن الأمّة الإسلامية وهذه الحرب تجسدت من الفتوح الإسلامية سواء في عصر الخلفاء الراشدين أو في عصر الدولة الأموية والعباسية، ورابعها حرب الملك، أي الحرب ضد أولئك الذين لا يعترفون بالسلطة المركزية والمناوئين لها ولا يسلمون بشرعيتها السياسية وهذه الحرب كانت معروفة في التاريخ الإسلامي سواء مع الدولة الأموية ضد مناوئيها أو مع الدولة العباسية ضد خصومها وحتّى في عصر إبن خلدون  في القرن الرابع والخامس عشر بحيث كانت تعيش تلك الدويلات في المغرب العربي إشكالية الشرعية السياسية، بحيث كانت دائما في حالة حرب ضد القبائل التي لم تدخل في طاعتها بعد.

وبعد أن يبرز ويحلل إبن خلدون  أسباب الحروب فإنّه يقوم بعد ذلك بتصنيفها حسب طبيعة كل واحدة منها مع تحديد أيضا أنواع القتال حسب الثقافة الحربية لكل أمّة في التاريخ، يقول إبن خلدون: « فهذه أربعة أصناف من الحروب: الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة والصنفان الآخيران حروب جهاد وعدل، وصفة الحروب الواقع بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفا ونوع بالكر والفر أمّا الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم وأمّا الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب » .

وما يمكننا إستنتاجه من هذا النص هو تصنيفه للحروب فالصنف الأول والثاني هي حروب بغي وعدوان في نظره ورغم أنّها تحمل في ذاتها قيمة أخلاقية سلبية إلاّ أنّها مسألة طبيعية في نظر إبن خلدون  لأنها تقع في إطار شروط إجتماعية وتاريخية معينة، أمّا الصنف الثالث والرابع فهي حروب جهاد وعدل وهنا يعطي إبن خلدون  المشروعية الأخلاقية لهذه الحرب مادامت مرتبطة بهدف أخلاقي وسياسي وهو العدل أو هدف ديني الذي يتمثل في نصرة دين الله، ومن هنا نستنتج الوظائف الإيجابية للحرب عند إبن خلدون  .

وإذا كان هذا بصورة مختصرة يعكس التصور الخلدوني للحرب في إطار نظرته التاريخية والإجتماعية والفكرية، فكيف يتصور هيجل الحرب؟ وما هي المنطلقات والمرتكزات النظرية والتاريخية التي ينطلق منها لمقاربة هذه الظاهرة الإنسانية والتاريخية؟ وهل ينطلق هيجل من نفس منطلقات إبن خلدون؟ وما هو الجديد الذي تحمله فلسفة هيجل في تفسير ظاهرة الحرب؟ وهل الحرب عنده ضرورية؟ وأخيرا وليس آخرا هل تؤدي وظيفة إيجابية وحضارية؟.

ينطلق هيجل من مبدأ سياسي جوهري في مقاربة علاقة الدولة بالحرب وهذا المبدأ الأساسي عنده هو السيادة، لأنّ الحرب من شأن الدول وليس الأفراد، فالدولة قد تضطر للحرب للمحافظة على سيادتها التي تحقق لها التمايز والإختلاف عن بقية الدول الأخرى وبالتالي التحقق الفعلي لماهية الدولة، يقول هيجل: « السيادة الداخلية هي هذه المثالية بمعنى أنّ لحظات الروح وتحققها الفعلي الذي هو الدولة، قد تطورت في ضرورتها وأصبحت لا توجد إلاّ بوصفها أعضاء في الدولة، غير أنّ الروح في حريتها هي علاقة سلبية بذاتها على نحو لا متناه ومن ثمّ فإنّ طابعها الجوهري من جهة نظرها الخاصة هو فردانيتها وهي فردانية تجمع في داخلها هذه الإختلافات وهي بالتالي وحدة لكنها وحدة مبعدة للوحدات الأخرى والدولة حين تتسم بهذه السمات إنّما تكون لها فردية والفردية من حيث ماهيتها عبارة عن فرد ومن حيث السيادة فرد مباشر متحقق بالفعل، الفردية هي إدراك المرء لوجوده كوحدة تتميز تمايزا حادا عن الأخرى وهي تتجلى هنا في حالة الدولة بوصفها علاقة الدولة بغيرها من الدول التي لكل منها استقلال ذاتي في مواجهة غيرها من الدول وهذا الإستقلال الذاتي يجسد الإدراك الفعلي للروح لذاتها بوصفها وحدة ومن ثمّ فهي الحرية الأساسية التي يمتلكها شعب ما كما أنّها أيضا أعلى كرامة يصل إليها» .

يرى هيجل إذن أنّ ما يربط أي دولة بأخرى هو السيادة والسيادة تتضمن الحرية، وعندما تلجأ الدولة للحرب قد تكون مدفوعة بهذا المبدأ السامي، كما يرى هيجل أيضا أنّه لا يجب أن ننظر إلى الحرب كشر مطلق أو مظهر خارجي عرضي، بل قد يعبر في نظره عن قوة الضرورة والطبيعة، يقول هيجل: « إنّ اللحظة الأخلاقية في الحرب متضمنة فيما سبق أن قلناه في هذه الفقرة إذ ينبغي ألاّ ينظر إلى الحرب على أنّها شر مطلق، على أنّها مجرد حادث خارجي عارض لها هي نفسها، ، أو باختصار هذا السبب أو ذاك من الأمور التي ما كان ينبغي لها أن توجد، فالأحداث العرضية إنّما تقع لما هو بطبيعته عرضي، وهكذا يكون القدر الذي تحدث به عبارة عن ضرورة وهنا، كما هي الحال في أي مكان آخر، تزول وجهة النظر التي تبدو منها الأمور أحداثا عارضة، تماما إذا ما نظرنا لهذه الأمور في ضوء الفلسفة والفكرة الشاملة، لأنّ الفلسفة تعرف أنّ العرضي هو مظهر وترى الضرورة في قلب ماهيته، فمن الضروري أن يوضع أن يوضع المتناهي، الملكية والحياة على نحو قاطع بوصفهما أمرين عارضين لأنّ العرضية هي فكرة المتناهي وتبدو هذه الضرورة من زاوية معينة في صورة قوة الطبيعة وأنّ كل شيء فان وعابر غير أنّ الدولة والطبيعة في الجوهر الأخلاقي تسلب هذه القوة وتمجد الضرورة على أنّها عمل الحرية وعلى أنّها شيء أخلاقي وسرعة زوال المتناهي يصبح زوالا مرادا وتصبح القابعة في أعماق المتناهي الفردية الجوهرية المناسبة للجوهر الأخلاقي » .

والفكرة التي يمكننا أن نستنتجها من هذا النص الهيجلي بصفة عامة هو أنّ الحرب مسألة طبيعية وأنّها قضية جوهرية ذات ماهية وليست بالشيء العرضي، بل إنّ هيجل يذهب إلى أكثر من ذلك وهذا عندما يؤكد أنّ الحرب ضرورية في حياة الدول والشعوب لأنّ الدول تستيقظ وعيها في حالة الحرب وبالتالي تصبح حالة نفسية باعثة على التجديد وحث الهمم على الفكر والفعل، يقول هيجل: « فللحرب ذلك المغزى الرفيع إذ بفاعليتها كما قلت في مكان آخر تحافظ الشعوب على صحتها الأخلاقية حيث تقف موقف لا مبالاة من المؤسسة المتناهية، تماما مثلما أنّ هبوب الرياح يحفظ البحر من التلوث الذي يوجد نتيجة لفترة طويلة من السكون، كذلك فإنّ فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السكون، كذلك فإنّ فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السلام دع عنك السلام الدائم، ولقد قيل أنّ تلك ليست سوى فكرة فلسفية أو إذا شئنا استخدام تعبير آخر شائع، هي تبرير للعناية الإلهية كما قيل أنّ الحروب التي حدثت بالفعل لازالت بحاجة إلى مبرر» .

ولا شك أن الحرب عند هيجل مرتبطة بالحركة والنشاط وأنّ السلم الدائم قد يخنق الإرادة ويمنع الفعل من التحقق، فالتراخي والتكاسل لا يمكنه أن يدفع الأمم إلى الأمام بل إلى القهقري والتراجع وفقدان السيادة والتبعية للآخر، ولا شك أنّ هذا النص الهيجلي الذي يعبر عن هذه الحقيقة يقابله نص خلدوني يقول تقريبا نفس الشيء، يقول إبن خلدون  في الفصل الرابع والعشرون من المقدمة والذي عنوانه: في أنّ الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء « والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالإستبعاد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التناسل والإعتمار إنّما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من نشاط في القوة الحيوانية، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أو لم يحصلوا » .

ولا شك أنّ هذا التقابل بين النصوص يشير إلى الإتفاق الفكري بين إبن خلدون  وهيجل فكلاهما يؤكد أنّ الدولة إذا جنحت للتكاسل والتراخي وهما نتيجتان للسلم، قد يؤدي هذا إلى فقدان السيادة والدخول في حكم الآخرين وبالتالي ينطبق عليها الفناء التاريخي بتعبير إبن خلدون ، وإذا اعتبر هيجل أنّ الحرب ضرورية في حياة الشعوب كما أسلفنا سابقا فإنّه يؤكد من جهة أخرى على وظائفها الإيجابية فالحرب في نظر هيجل من شأنها أن تقضي على الإضطرابات الداخلية وتحل الأزمات التي تمر بها الدولة، يقول هيجل « إنّ المثالية التي تبدو واضحة في الحرب، أعني تبدو بوصفها علاقة عرضية من الدولة لدولة أخرى، هي نفسها المثالية التي بناء عليها تكون القوى الداخلية في الدولة لحظات عضوية في كل واحد وتظهر هذه الحقيقة طول التاريخ في صور مختلفة فمثلا الحروب الناجحة تحول دون الإضطرابات الداخلية وتعزز السلطة المحلية للدولة وهناك ظواهر أخرى توضح نفس هذه النقطة فمثلا الشعوب التي تنفر من تحمل أعباء السيادة الداخلية أو تخشى أن تخضعها وتستعبدها شعوب أخرى خارجية وتكافح من أجل استقلالها بجد أقل ويقل نجاحها فيما كانت تفعله فيما سبق من تنظيم قوى الدولة في الشؤون الداخلية، لقد ماتت حريتهم بسبب خوفهم من الموت، أمّا الدول التي كان استقلالها مضمونا لا بواسطة قواتها المسلحة وإنّما بوسائل أخرى مثلا عن طريق كونها صغيرة جدا على نحو غير متكافئ بالنسبة لجيرانها فقد أمكنها الإستمرار في الوجود رغم تكوينها الذي لم يكن يضمن لها السلام في الشؤون الداخلية والخارجية » .

ومن هنا نستنتج تلك الوظائف الإيجابية للحرب في نظر هيجل ففي نظره أنّ الدولة المستعدة دائما للحرب هي التي تستطيع أن تضمن السلم لشعوبها لأنّ الصراع هو منطق التاريخ في نظر هيجل  ولكل فكرة لها ما يسلبها حسب فلسفته العامة وفي إطار تمجيد هيجل للحرب فإنّه يدعو الأفراد أو الموجودات الجزئية للتضحية من أجل الدولة وأنّ ذلك يعتبر قمّة الشجاعة والتعبير عن الحرية، يقول هيجل « تمثل التضحية في سبيل فردية الدولة الرابطة الأساسية بين الدولة وأعضائها وهي لهذا السبب واجب عام وما دامت هذه الرابطة جانب واحد من المثالية في مقابل واقعية الموجودات الجزئية فقد أصبحت في الوقت نفسه رابطة جزئية وأولئك الموجودين فيها يشكلون طبقة خاصة بهم تتسم بالشجاعة » .

وإذا كان هيجل يمجد الحرب من أجل سيادة الدولة وحريتها واستقلالها عن الدول الأخرى فإنّه من ناحية أخرى وهذا هو الأخطر في نظرته للحرب أنّه يدعو الدولة ذات القوة العسكرية والتي تعتدّ بشجعانها أن تنتقل من الدفاع الداخلي عن الدولة إلى غزو دول أخرى، يقول هيجل: « الأمر الذي يكون موضع نزاع بين الدول قد لا يكون إلاّ وجها جزئيا واحدا من علاقتها بعضها ببعض وسبب وجود أمثال هذه المنازعات فقد خصصت أساسا الطبقة الجزئية المكرسة للدفاع عن الدولة لكن إذا ما كانت الدولة بما هي كذلك، وإذا ما كان استقلالها الذاتي يحيط به الخطر وإذا كانت الدولة بكاملها في مثل هذه الظروف تحت السلاح وانتزعت نفسها من حياتها الداخلية للقتال في الخارج فإنّ حرب الدفاع في هذه الحالة تتحول إلى حرب من أجل الغزو والفتح » .

وما يمكننا أن نقوله في الآخير وبعد عرضنا للنصوص سواء نصوص إبن خلدون  أو هيجل في الحرب فإنّنا نؤكد أنهما يتفقان في مسألة أنّ الحرب ظاهرة طبيعية أي أنّها ملازمة للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض كما أنّ كليهما يشرع للحرب ونجد هذا على سبيل المثال حروب الجهاد والملك عند إبن خلدون  وكذلك هيجل عندما يقول بضرورة الحرب كما أسلفنا سابقا فكل منهما يعتبر أنّ الحرب طبيعية وضرورية ومشروعة، غير أنّ إبن خلدون  ينفرد عن هيجل وهذا عندما يربط الحرب بالتحضر، فغزو المتحضر يختلف عن غزو المتخلف وبتعبير إبن خلدون  ومفاهيمه فإنّ حرب الحضري تختلف عن حرب البدوي ونجد هذا واضحا وجليا في الفصل السادس والعشرون من مقدمة إبن خلدون  هذا الفصل الذي عنوانه: في أنّ العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، يقول إبن خلدون : « والسبب في ذلك أنهم أمّة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلق وجبلة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الإنقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له، فغاية الأحوال العادية كلّها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له ».

غير أنّ ما يفهم من العرب هنا ليس بالمعنى العنصري، فلا يقصد إبن خلدون  العرب ولكن يقصد طريقة معينة في التفكير والعيش تنطبق على العربي وغيره، فهو يقصد ذلك النموذج من البشر الذي يعيش في البادية ويقتات من الضروري وهو في ترحال دائم للبحث عن معاشه وعادة ما لا يخضع لأي سلطة سياسية .

وبعد توضيح ذلك فإنّه لا يسعنا إلاّ أن نذكر بالتقارب الفكري الكبير بين إبن خلدون وهيجل في مقاربة ظاهرة الحرب، ومع ذلك فإنّه لا يسعنا إلاّ أن نتساءل: هل يمكننا أن نعتبر إبن خلدون  وهيجل فيلسوفان من فلاسفة الحرب

 

الدكتور قادة جليد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم