الرئيسية

الاغتراب في الوجودية الحديثة.. ادب ومسرح اللامعقول (5)

ali mohamadalyousifاكدت الفلسفة الوجودية الحديثة على مبدأ الانسان (لذاته) وليس الانسان (في ذاته) الفاعلة... فأكدتْ تكريس سلبية الاغتراب.

تناول بروتولد بريخت(1) ، في مسرحه الملحمي (نظرية تكنيك الاغتراب)(2)، الاغتراب المزدوج او الاغتراب المركب وفي ثلاث مستويات تناولتها الباحثة القديرة د. منى سعد ابو سنة في بحثها القيم عن الاغتراب في مسرح بريخت الملحمي نشير لها في هذا المجال ولنا العودة لها اذ ما يهمنا المستوى الاول من موضوعه الاغتراب المسرحي والروائي ايضاً : نظرية (تكنيك الاغتراب) لدى بريخت:

1- اغتراب الكاتب (المؤلف) تجاه البطل تحديدا والنص المسرحي .

2- اغتراب البطل تجاه المتلقي او النظارة (المشاهدين).

3- اغتراب المتلقي او النظارة تجاه البطل والنص المسرحي.

معرفة علاقة اغتراب المبدع - هنا المؤلف او الكاتب - تجاه البطل في روايات ومسرحيات فلسفة الوجودية الحديثة يمكن تحديدها سريعا بالامثلة التالية: اغتراب (كامو) المبدع عن البطل في روايته (الغريب) او بين اغتراب (سارتر) عن البطل في روايته (الغثيان) واغتراب كافكا عن ابطاله في (المحاكمة او القلعة) الذي اوصى قبل وفاته ان تحرق الروايتان. يعبر الناقد الدكتور مهند يونس عن هذا النوع من الاغترابية حيث اطلق عليها صفة (الفصام) ويقول : (بعض الروائيين لا يثقون كثيراً بانفصامهم مع الوجود ولا يفكرون بردم الهوة بينهم وبينه بل يحاولون على النقيض من ذلك ان يوسعوا من الهوة فيتقمصون شخصية الرائي بدلا من ان يكونوه ذلك ما يصف المشهد المأساوي في رواياتهم, اذ يحول عملهم الادبي الى صنعه تنتهي مع الصفحة الاخيرة من الرواية. وما نعنيه بالتقمص هو عدم تطابق شخصية الروائي مع روايته وذلك مايفضي الى فصام اكبر ولايعود الروائي ممتلكا رؤيته الذاتية)(3) مثل هذه الاغترابية في اعمال سارتر بيكيت كافكا اونيسكو وغيرهم تمكنوا بها من ابداع هذه الروائع الخالدة في ايجابياتهم الاغتراية كمؤلفين مبدعيين... ولكن اغترابيتهم تجاه من!؟ كذوات انسانية وجودية؟

حاولوا وفق منطلقاتهم الفلسفية التي احتوتها ابداعاتهم تكريس السلبية الاغترابية لدى القارئ المتلقي باطباقهم المميت على خناق ابطالهم الروائية والقصصية والمسرحية وتصويرهم بمصيرهم الفاجع ومآسيهم المقرفة ومعاناتهم المستلبة فقط ليظهروا للقارئ او المشاهد سلبية اغترابيتهم التي لا يملكون شيئا تجاهها وتجسيدهم لاحاسيسهم القلقة المجنونة المرعبة اللامعقولة.

يقول (سارتر) في كتابه مالادب !؟ الذي نشر عام 1948 مندهشا باكتشافه تغمره السعادة ويملؤه الحبور من سلبية اغتراب شخوصه وساديته تجاههم وتشييئه لهم وتجريدهم من ادميتهم ودمهم ولحمهم: (اننا لا نريد ان نبهج جمهورنا ...اننا نريد ان نمسكه من خناقه ولندعه يتنقل من وعي الى آخر مثله كما ينتقل من كون مطلق عضال الى كون مطلق اخر ويكنسون بادراكاتهم الحسية ومشاعرهم)(4).

وفي كتابه (الكينونة والعدم) يقول: (لا يوجد مفر من موقفين اساسيين تجاه الآخر الموقف المتجه نجو المازوكية والموقف المتجه نحو السادية)(5).

ان السلبية الاغترابية التي تشيء البطل تفضي ببعضهم الى حافات الجنون او الانتحار العقلي او الجسدي وانسحاب ذلك بالتاكيد على المتلقي القارئ او المشاهد. ماذا يمكن ان يجني القارئ من تصوير المؤلف لبطل او مجموعة من الابطال والشخوص المسخ متروكين تحت حزمة انسحاق نفسي مطبق لا فكاك ولا خلاص منه!؟ اما اغترابية المبدع المؤلف الكاتب المفصوم العلاقة باغتراب بطله المأزوم بسلبية اغترابية اجترارية وتشييئه لهم بهذه السادية المروعة وتركهم يبحثون عن خلاصهم الوهمي بلا جدوى فهو شيء آخر...

اشار (سارتر) في كتابه (الكلمات) الذي نشر عام 1964 وردت الاشارة عنه في كتاب موريك كرانستون المشار له (سارتر بين الفلسفة والادب) انه – أي سارتر – كان يعشق لفت الانظار اليه كما فعل (جرين) في محاولة مسرحية من (سارتر) التطابق مع ابطال اعماله الابداعية والفلسفية ... اذ تذكر زميلته سيمون دي بوفوار، ان سارتر وصل مرحلة الهذيان وتشوهت مقدرته البصرية وتغيرت الاشياء امام ناظريه بشكل مرعب حاد فقد تحولت المظلات الى طيور جارحة ، والاحذية انقلبت امام عينيه لتكون هياكل عظمية، وكست الوجوه ملامح بدائية وحشية وابعد من زاوية عينيه فقط ووراءه ماجت السراطين وحيوانات متعددة الارجل كالحة... اصبحت كل الاشياء مرعبة... كنت اضع – والكلام لسيمون دي بوفوار – في قدمي حذاء من جلد التمساح ينتهي شريطه باشياء كثمرات البلوط كان يتوقع انقلابها الى خنافس عملاقة في اية لحظة (6).

الوجودية الحديثة باعلامها المبدعيين ومفكريها وفنانيها عمدت تصوير ابطالها مأزومين بسلبية اغترابية حولتهم الى احسن الفروض التسليم المطلق بحقيقة وعقلانية وهم الحياة ولا معناها كأختيار وحيد ، كائنات متشيئة تتلبسها بجنون رغبة الخلاص الارادي بالانتحار – والموت، الحقيقة الازلية الوحيدة في الاصطدام المباشر بالوجود اللامعقول ، كي يتأكد لاولئك (الابطال) الشخوص قدرهم الانساني التعس انهم بشر يعقلون اغترابهم السلبي عن العالم وفقدانهم التوازن ماديا وروحيا مع ذلك الوجود ، انها السادية التي اشار لها سارتر وجسدتها شخوصه بابتذال فاضح .

لا (جودو) بيكيت في انتظاره الموهوم اليائس ولا بطل كافكا بعلاقاته الهلامية وضياعه الوجودي غير المحدود واغترابيته المنمّطة التي تحكمها قوى غير مرئية بل رؤية نتائج مطاردتها وملاحقتها وادانتها التي لا يعرفون اساساً بماذا هم مذنبون وعلى ماذا هم مدانون في متاهة بحثهم المتسربل فيه الزمان والمكان باللامحدودية واللاهوية.

كل هذا المصير الانساني المؤلم المحطم لم يخلق من مبدعي هذه الاعمال ومؤلفيها اناسا يتطابقون مع انفسهم ومع اغترابية شخوصهم الفاجعة المؤسية.

ان التصوفي في سلبيته الاغترابية التي عرضناها اكثر صدقا مع ضميره من الوجودي في اغترابيته التشييئية لشخوص آدمية يتقاذفها مصيرها كيف ما يشاء ويطالبها بالخلاص كل بوسيلته الخاصة..!!

ربما حاول صدفة (البير كامو) وهو احتمال فقط, التطابق في اغترابه مع الوجود الانساني للاخر في اقتسامه فاجعة الانتحار الارادي مع ابطاله وشخوصه المأزومين بسلبية اغترابهم حين اقدم على الانتحار هو نفسهٍ.

وقل مثل هذا التطابق في جنون (نيتشه) و(جنون) فان كوخ وهولدرين ...اما مفهوم (الانتحار) لدى (هيدجر) فهو مفهوم غائم مرادف للموت مرة عندما يعتبر الانتحار هروبا من الموت والوجود الزائف للانسان ، والوجود الحقيقي للانسان هو مواجهته للموت بصورة مستمرة... ومن جهة اخرى يعتبر (هيدجر) الموت اعلى درجات الحرية وان الانسان حر ان يميت نفسه ساعة يشاء(7).

نرى في اشارة سريعة الى الجدل المحتدم دينيا وقانونيا وانسانيا وطبيا في مؤسسات (القتل الرحيم) من وجهة نظر طبية- انسانية، التي انتشرت في هولندا وكندا وبعض الدول الاسكندنافية وغيرها من دول العالم في سعيها سن تشريع قانوني ينظّم هذه المعضلة التي اصطلح على تسميتها (القتل الرحيم).

وتعتبر دعوة (هيدجر) النواة الاولى للصورة المحسنة لما قامت عليه هذه المؤسسات.

***

خلاصة موجزة سريعة ان اغتراب الوجودية الحديثة لكي يقف على قدميه ويكون بالتالي اغترابا وجوديا حضاريا هو في اعتبار ظاهرة الاغتراب لازمة وحتمية للوجود الانساني- لها دورة حياة- تنتهي بشكل معين من حياة البشر مؤقتا وتستحدث نفسها وتعود ثانية بحكم قانون التحدي والاستجابة للمحيط والطبيعة باشكال اغترابية مختلفة حسب الظروف البيئية ودرجة حضارية ونضج وعي المجتمع وحساسيته المحكومة تجاه استفزازات المحيط والحياة الدائمتين .

والاغتراب لازمة الوجود الانساني ليس بميكانيكية الثبات بل بجدل العلاقة مع المجتمع والمحيط... ولتوضيح ميكانيكية الثبات التي نقصدها نجد هناك ثنائيات علمية ، في علاقة جدل ارتباط احد طرفي النقيضين بالآخر يحمل بالضرورة والحكم نفي وافناء لوجود الاخر، فالوجودية تسعى لاثبات اغتراب الانسان في دوامة (لا غائية الوجود) ولا فاعلية الجهد اصلا لتحتفظ به انساناً مجوفا فارغا في وجوده الاغترابي السلبي . وهكذا فالثبات التي ترومه الوجودية بافتراض امكانية استخراج قيمة للجسد بدون فاعلية الدماغ، وقيمة للعقل من دون قابليته الضرورية الفسلجية على توليد الافكار الجديدة باستمرار وقابلية التجريد الحسي خارج اطار الاجترار التكراري الموهوم الذي تمجده الوجودية.

ان فهم وضع الانسان السوي في علاقته باغترابه...هو في ان لايكون اغترابيا سلبيا سكونيا ثابتا ولا ذاتيا فرديا ايضا. Solipsism.

اغتراب الوجودية هو آلية اغترابية في صفة تعبيرية اجترارية واحدة منمّطة ومعلبّة لنوع واحد من التفكير بالرغم من منطلقها في الحرية المطلقة الذي ترفعه كقيمة اولى في تحسس الوجود الانساني الاصيل. وهذه الالية الاغترابية السكونية ازلية مسكون بها الانسان الفرد المجرد من الارادة والقوة ومبعث ذلك عجز الانسان عن عقلنة وجوده، بتفاؤل وتخليصه من التسليم التافه للوجود... فكل واحد مسؤول عن اغترابه لوحده وله حرية الاختيار في اسلوب التعبير عن اغترابه داخل زنزانة سلبية الاغتراب الظلامية.

ايجابية الاغتراب هي تعبيرات عديدة ومنوعة من الفعاليات الضرورية للوجود الانساني في تحفزّه على صنع حياته واغتراب من هذا النوع الايجابي يدخل في علاقة عضوية مع المجتمع والمحيط والوجود يحتوي المجموع وليس اغترابا ذاتيا مسؤولاً عن اناه فقط.

 

علي محمد اليوسف / الموصل

..................

(1) المبحث القادم يكون مع تغريب بريخت في المسرح.

(2) عالم الفكر مج1 ع6 ، الاغتراب في المسرح المعاصر – المسرح الملحمي ، د.منى سعد ابو سنة ، ص72.

(3) مجلة الموقف الثقافي العراقية، ع3/1996، فصام الناقد فصام الكاتب د. مهند يونس ص31.

(4) سارتر بين الفلسفة والادب مصدر سابق ص26.

(5) نفس المصدر السابق، ص33.

(6) ما بعد اللامنتمي ، كولن ولسون ص129.

(7) الوجود والفناء ، صراع في الوجود مصدر سابق ، بولص سلامة ص286-289.