الرئيسية

التاريخ ماكان وليس ما يكون

ali mohamadalyousifعديدون الذين مرّوا باستخفاف امام مقولة هيجل (ميزة التاريخ اننا لا نتعلم منه شيئا).

غالبية النظريات وفلسفات التاريخ والمفاهيم الوضعية الحديثة وتفاسيرها في دراسة التاريخ البشري، تذهب الى ان مسار التاريخ التطوري تحكمه (غائية) او غائيات مراحلية مصاحبة رافقته وقادته الى حتميات معدّة  ومرسومة له سلفا سعى التاريخ الوصول لها.واكثر من ذلك عمد المؤرخون الى زرع محفزّات تطورية في ثنايا المراحل التاريخية، تشكّل ارادة ذاتية شغّالة تلهم التاريخ التقدم الى امام على وفق حتميات متنوعة مرجوّة وغايات مطلوبة لاحقا. بمعنى اوضح انه صار بمكنة المؤرخ كتابة تاريخ آخر مغاير للوقائع التاريخية امامه حسب اجتهاده.او استنباطه قوانين شغّالة تحكم سيرورة وتطور التاريخ البشري في تطويع حقائق التاريخ لمنهجه.

الحتميات والغائيات التطورية المراحلية القريبة منها والبعيدة جدا، التي تم اقحامها  كمصاحبات رافقت المسار التاريخي، انما هي مغالطات واستنباطات لا تمتلك مقومات التصديق العقلاني ولا مشروعية التسليم بها في دراستها حركة التاريخ غير المنتظمة والعشوائيات والمصادفات غير المحسوبة النتائج التي لعبت دورا محوريا مركزيا في وقائع ومجريات التاريخ،  هذه المصادفات الجوهرية كان بعضها سببا في سلسلة من التراجعات والكبوات،  وبعضها الآخر جاء عوامل مساعدة في تحقيق طفرات نوعية في المسار التاريخي.وتلك القفزات الكنغرية التاريخية حققت حلقات من التطور والتقدم الى امام، نتيجة عاملي الصدفة العمياء،  والعشوائية مضافا لها ردود الافعال الانسانية في تصحيح مسار انحرافات ومحركات النوازع السلطوية الحمقاء للملك او الحاكم اوالبطل او الدكتاتور او اية زمرة خارجة  متطرفة وحشية، بعيدة عن منطق ونوازع الخير المتأصلة بالانسان.

ما كتبته واورثته لنا عشوائيات الوقائع والاحداث التي تحكمها الصدفة العفوية المتوالية، كانت اكثر اهمية بكثير من محاولات تفسير وتحليل تلك الحوادث على ضوء حشر المحفزّات الذاتية التي حسب اجتهاد المؤرخين قادت  وتقود التاريخ في مسار تصاعدي تطوري منتظم الى امام وتحقيق الافضل في الحياة، بنوع من الفعالية الذاتية(روح التاريخ) التي يستبطنها التاريخ باحشائه ذاتيا،  كغائية تحفيزية مطلوبة متوخاة اوحتمية يبلغها التاريخ مرحليا ويتجاوزها الى مراحل متقدمة.

اقطاب التفسيرالتطوري للتاريخ جاء في اهم جنبة منه على وفق النظرية الماركسية في المادية الديالكتيكية للتاريخ، باعتماد مركزية العامل الاقتصادي كبؤرة تحكم جدلية التاريخ ومراحله التطورية.واصبحت هذه النظرية الماركسية اليوم رغم ما حملته من رؤى علمية منهجية وقراءة معمّقة لواقع البشرية على امتداد تاريخ العصور الطويلة، وما حملته من تفسير انثروبولوجي متكامل،  ثبت انها غيركافية لتفسير الانتقالات النوعية في المسار التاريخي من مرحلة الى اخرى متقدمة عليها ومتجاوزة لها.بدءا من مرحلة الصيد والالتقاط وانتهاءا بالمرحلة الشيوعية.

ثبت ان التفسيرالمادي الماركسي للتاريخ شأنه شأن المناهج والدراسات التاريخية المضادة له والمثالية  المقاطعة الرافضة للجدل التاريخي، الرأسمالية واللبرالية وغيرها، ان الجميع يشترك في حقن تحفيزيات محركة ذاتية للوقائع والاحداث في تبرير انتقالات التاريخ النوعية او ما يسمى الطفرات، وفي وصول التاريخ الى غائيات وحتميات سعى التاريخ بلوغها في السيرورة التطورية بأرادته الذاتية ونزوعه لخير الانسانية،  مع عدم اهمال الماركسية لعامل الانضاج الموضوعي في الانتقالات والطفرات النوعية المراحلية.

كان هذا التفسير الجدلي الماركسي استقراءا واستنطاقا للتاريخ كماض اختط مساره،  قبل اكتشاف قوانين المادية التاريخية وصياغة  فلسفتها المعروفة، وتبلورها المتكامل في التطبيق الاشتراكي الشيوعي.على وفق ديناميكية تحفيزية ذاتية حملها التاريخ في مساره التطوري الطويل لآلاف السنين او يزيد، متجاوزة بذلك اية عشوائية او سلسلة مصادفات ان يكون لها سببا او تأ ثيرا سلبا او ايجابا في مسارتطور التاريخ عبر العصور.

بمعنى ان التاريخ البشري كان محكوما-حسب الماركسية- بالتطور الذاتي والموضوعي الطبيعي قبل اهتداء الماركسية اكتشاف القوانين المادية الجدلية.وان هذه المراحل التطورية اخذت نصيبها في التطبيق المراحلي الانتقالي من مرحلة الى اخرى اكثر تطورا وتقدما في حياة الانسان ووجوده كحتميات يجب ان تحصل في التاريخ البشري عموما.

الملفت للملاحظة ان التفسير الماركسي (قفل) التطور التاريخي بمرحلة افتراضية في حتمية ووجوب انحلال الراسمالية الامبريالية لتعقبها المرحلة الاشتراكية الشيوعية،  وهكذا تتوقف دورة التطور التاريخي وهو ما لم يحدث.. بالمقابل نجد ان الرأسمالية (المعولمة) هي الاخرى (قفلت) التطور التاريخي بنهاية التاريخ عولميا عندها ومن جانبهاعقب استفادتها التاريخية المجّانية من تمزّق الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي دراماتيكيا ونادت بعدها ان لا تاريخ بعد العولمة الرأسمالية وان العولمة نهاية التاريخ.

لم يكن واردا في الاستقراء التنبؤي الماركسي ان ينهار النظام الشيوعي قبل انهيار الرأسمالية الامبرالية، هكذا كان التفسير الاستقرائي الماركسي للتاريخ القائم على مركزية الفهم ان التطور البشري منذ العصور الاولى للبشرية،  كان محكوما بغائيات وحتميات وقوانين طبيعية تقود التاريخ قسرا وبمعزل عن ارادة الانسان،  قوانين ذاتية مصدرها الواقع المعيشي للبشر،  ونضجهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي موضوعيا.

نخلص بايجاز ان تطور التاريخ ماركسيا بنوع من الغائيات والحتميات، كان مرتكز التحفيز الذاتي الديناميكي الشغّال فيه باستمرارهو تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الثقافي ايضا، هذا التفسير تم دحضه تاريخيا في بروز وانبثاق عصر العولمة وعدم انحلال النظام الرأسمالي الامبريالي.وبذا تنتفي الحاجة لدحض ما سبق وتم دحضه واقعيا على الارض،  بالتنظير الايديولوجي او الفلسفي في الفكر.

من جانب آخر تلتقي العولمة مع الماركسية في اعتمادهما الغائية والحتميات في التفسير التاريخي من جهة وفي اقفالهما التاريخ المراحلي كلا حسب احتياجاته السياسية من جهة اخرى،

الماركسية اوقفت التاريخ على رأسه بدلا من قدميه حين اعتبرت الشيوعية آخر مراحل تطور التاريخ البشري .وكذا فعلت العولمة في اعتبار انها تمثّل مرحلة نهاية التاريخ ونهاية عصر الايديولوجيات وانه لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة لمرحلة تاريخية تلي العولمة.

ان العولمة لا تمثل صيرورة تاريخية في وصولها لحتمية تاريخية اوجدتها ومهدّت في انبثاقها،  كانت متوقعة ومحسوبة لا بد ان يصلها تطور التاريخ البشري، بل ولدت العولمة من صدفة عشوائية تطورية نوعية طارئة على الاستقراء التاريخي،  ساهم بوجودها انهيار الشيوعية السوفييتية بشكل دراماتيكي غير متوقع. ولم تنبثق العولمة بعوامل تحفيز ذاتية اعتملت مع فاعلية الجدل الموضوعي بايجادها تاريخيا.اذ  كان النظام الرأسمالي حينها يراوح بمشاكله،  ولم تدب به الحركة الا بعد انهيار النظام الشيوعي، لتأخذ العولمة دورها المتفرد في الهيمنة.

النظام العولمي الرأسمالي لن ينجو هو الآخر من التجاوز والمغادرة في تفسيره التاريخ على وفق المنطق السياسي قصير النظر،  ليلتقي بذلك مع الاخفاق الشيوعي في (اقفال) التاريخ مرحليا، حينما اعتبرت العولمة نفسها المحطة الاخيرة لوقوف قطار التاريخ البشري.وبذا فان النظام الرأسمالي العولمي ادرك جيدا،  بل اراد – خاصة الآن - ان لا يكون هناك غائيات وحتميات تطورية تعتمل داخل التاريخ تقوده الى مراحل متقدمة جديدة بعد العولمة.

كما اوضحنا ان كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي قفلا التاريخ سياسيا كلا من جانبه على اساس من حتمية تاريخية اصبحت الان (اكسباير) منتهية الصلاحية التداولية والاستعمال.

هذا الاقفال الافتعالي للتاريخ شيوعيا ورأسماليا في مرحلة تطورية من مراحله المستمرة، نجد فيه  النظرية تسبق الواقع ولا تأتي تفسيرا له، وتسبق المسار التاريخي ولا تهديه او يهتدي هو بها، والنظرية تجرّ التاريخ وراءها وتتقدمه،  لكن لم ولن تلبث هذه الدوغمائية الفجّة طويلا قبل الاصطدام بحقيقة ان التاريخ يصنع النظريات ويسحبها وراءه وليس العكس.وليس بمقدور النظريات والمناهج كتابة تاريخ يمشي ويعيش على الارض.الحقيقة التي اثبتها التاريخ بمساره العشوائي اللاغائي وغير الحتمي في التطور انه لا التفسيرالماركسي ولا التفسير العولمي قادر على غلق مسار التاريخ وايقاف قطاره في محطة نهائية واخيرة لا تاريخ بشري تطوري بعدها.هذا منافي لحيوية الوجود الانساني على الارض.

كما ان التاريخ لم يستقم سابقا ولن يستقيم لاحقا في صناعة الملك للتاريخ وكتابته او الحاكم او اية سلطة دينية له، وسوف لن يستقيم وتلجم تطوره الى ما لانهاية المصالح السياسية ايضا كما حاولت سابقا وفشلت. لان التاريخ تحكمه العشوائية والصدف الطاردة للغائيات والحتميات،  كما ان التاريخ هو عسير ايضا في حركة تطوره المتلاحقة من السيطرة عليه ومصادرته من قبل الحكام والملوك والمتطرفين والابطال الخارقين.او من قبل اصحاب النظريات المسبّقة على حركة التاريخ ومحاولة سحبه وراءهم، ربما كان امكان حدوث ذلك في عصر او فترة زمنية.

ان التاريخ في مجمل اخفاقاته وتراجعاته وقطوعاته وتقدمه، هو سلسلة من المصادفات العشوائية التي يتخللها ويعتريها التقدم الى امام بارادة انسانية وليس بقوى ذاتية غير منظورة، الى جانب القطوعات والتراجعات غير المنتظمة التي اعاقت مسار التاريخ.

كما ان عشوائية التاريخ وتأثير المصادفات فيه جعلت من تطوره لا يحدّه انتظام ولا تحكمه غائيات غير منظورة يسعى بلوغها.ووصول مرحلة تطورية مجاوزة لسابقتها بعد انضاج عاملي الذاتية والموضوعية اللذين مصدرهما الفعل الانساني المتحقق على الارض وليس ديناميكية ذاتية شغّالة تلهم التاريخ وتقوده الى مراتب التقدم الى امام.مثال ذلك الثورات الشعبية والتمردات والكفاح المسلح والاصلاحات في مختلف مشاربها وغيرها هي التي كانت تصنع مراحل تاريخية متقدمة وتبديل حال سيء الى افضل منه.ومن هنا نجد الفروقات التاريخية بين شعب وآخر او أمة واخرى، وهذه الانجازات المتناثرة كجزر ليس بمقدورها ومكنتها ان تحكم مسار التاريخ البشري بنوع من الغائيات المرحلية البعيدة المستقبلية.وصناعة تاريخ مرحلي في بلد او عدة بلدان لا يعني ذلك تخليص التاريخ البشري من مساره العشوائي والاعتباطي. وعشوائية المسار التاريخي وتأثير المصادفات ونتائجها غير المحسوبة التي لا وصاية ولادخل مباشر لارادة الانسان بها باقية ولا تنتهي، صحيح جدا ان الوجود الانساني سابق على التاريخ،  وهذا الوجود وحده كفيل بأعطاء التاريخ معنى وهدف،  لكن في  المحصلة الانسان وحده يعمل على تصحيح المسار العفوي الشاذ غير المنتظم للتاريخ،  ولا ينهي بذلك تلك العشوائية في التاريخ التي تنتظمه على الدوام. كما انه لا معنى لتاريخ اوأي معطى انثروبولوجي او معرفي او وجودي من غير اسبقية فعالية الانسان له وتأثيره عليه و في تعليل سبب وجوده ايضا.

ان التاريخ البشرية الماضي والحاضر والمستقبل هو ما كان فقط وليس ما سيكون،  واي مسعى لاعطاء معنى قيمي تنبؤي للتاريخ في مساره العشوائي،  هو نوع من دوغمائية الافكار والنظريات المؤرّخة للمسار التاريخي،  وهذا لا ينفي أبدا قدرة ورغبة وامكانيات الانسان من الوصول بالمسار المستقبلي للتاريخ الى(بعض) الاهداف المرسومة والمعدّة سلفا.وهذا يختلف عن دوغمائية الافكار التي تأتي لاحقا في دراسة التاريخ وتضع له اهدافا نظرية ومنهجيات، .دوغمائية الافكار في دراسة التاريخ هي محاولة الامساك بحركة التطور التاريخي وتجييره لحساب التنظير الذي تسنده وترعاه اجندة سياسية مسألة لا جدوى من الاعتداد والاخذ بها. وهذه الدوغمائية النظرية في تفسير التاريخ محكومة بالتضاد مع وقائع الاحداث الحية والسيرورة المتطورة للتاريخ ومع مساره العشوائي ايضا الذي تحكمه المصادفات التي تدخل على مساره باستمرار.

ان في الاستقراء السببي لوقائع التاريخ المدوّنة ومراحل سيرورتها التطورية،  ومحاولة تطويع العشوائية والصدف المتتالية الى منهجية ايديولوجية تخدم السياسي،   هي محولات تؤرخ لوضع نظريات واستنتاجات توفيقية – براجماتية قد تفيد توجهات سياسية - سلطوية او تفيد البشرية في مباحث الانثروبولوجيا او غيرها من المجالات البحثية.دراسات انتقائية لعيّنات واهتمامات معينة تربط التاريخ بالفلسفة، او التاريخ بالاجتماع او التاريخ بعلم النفس، او التاريخ بحرب او حروب،  او التاريخ ببطولة فردية،  او التاريخ بقائد ونخبة ثورية وهكذا، وتوظيف ذلك مع  ما تحمله العشوائيات والمصادفات في الوصول الى ايجاد تبريرات اقناعية لعوامل ومسببات حدوث تلك الوقائع. واهم انجاز لها انها تخلص الى نتيجة لماذا حصل هذا ولم يحصل ذاك؟

ميزة العشوائية في المسار التاريخي التطوري عبر العصور،  هو تقاطعها مع النظريات والفلسفات والمناهج التي تريد دراسة العشوائيات والمصادفات بيقين الغائيات و منهجيات الحتميات التي يقحمونها في دراسة السيرورة التاريخية في قطع المراحل.ان حرية المسار التاريخي المتطور على الدوام هي حرية (فوضوية) غير مشروطة ابدا.

كما ان التنوع الهوياتي في عصر العولمة مثلا يسعى الى الاسهام بصنع تاريخ حضاري جامع وموحد لحاضر ومستقبل البشرية،  على وفق مبدأ رغبة توظيف هذا التنوع الهوياتي العالمي الايجابي،  وارادة الشعوب الخالصة في نشدان استحضار مشتركات وتكامل يساهم به الجميع لخلق حضارة مشتركة جامعة.لكن يبقى هذا المحرك الذاتي يعمل الى جانب اشتمالات العشوائية وتوالي المصادفات الصادمة غير المحسوبة ولا المتوقعة تاريخيا، التي تعمل بالتوازي مع هذا المسار وتتقاطع معه احيانا. وكذلك تتقاطع مع جبروت الطغاة ونوازع شن الحروب لاشباع رغبة التسلط والهيمنة وقهر الضعيف وحرف المسار التاريخي عن كل قيمة اخلاقية وتغليب نوازع الشرعلى الخير، وهذه الوقائع التاريخية بمجملها تحركها الظروف الاجتماعية والدينية المتطرفة والثقافية وغيرها التي تنعدم معها حركة التاريخ الانسانية الواعية والمدركة المراد حضورها كغايات مرسومة سلفا. وعموما يأتي الاصلاح لهذه الانحرافات الشاذة تاريخيا بتقديم الكثير من التضحيات بغية الاصلاح وارساء قيم الخير والحرية والانسانية والمساواة من قبل الشعوب لا من قبل الايديولوجيا ولا من قبل المنهجيات النظرية او السلطات السياسية الحاكمة.

ان التاريخ  من غير الجهد الانساني لا يمتلك ارادة ذاتية حيّة تقوده الى امام،  مالم يتوفر الوجود الانساني الفاعل الذي يحاول سحب التاريخ الى مواقع متقدمة، وما يصنع التاريخ المستقبلي هو ما يقوم الانسان بانجازه وما يستطيع تحقيقه او الفشل به، فالتاريخ المتحقق وغير المتحقق هو اولا واخيرا يبقى كيان معنوي يتحقق او لا يتحقق يحضر او لايحضر،  على وفق قدرات الانسان وطموحاته. انه لمن الصعوبة ايجاد تعميمات واحكام عامة مطلقة تصلح ان تكون قوانين يعمل بمقتضاها التطور التاريخي وملزمة له.ومن هنا تعددت الرؤى والافكار في ربط التاريخ بالفلسفة اوبالدين اوبالانثروبولوجيا او بالاقتصاد او بالبيئة والجغرافيا او بعلم النفس او بالاجتماع او بالبطل وهكذا.

هذا التنوع التناولي في دراسة التاريخ يجعلنا امام حقيقة ان حوادث التاريخ البشري لا ينتظمها مسار ذاتي منتظم متطور واحد،  كما لا توجد حتمية تاريخية يسعى التاريخ بلوغها بامكانات واستلهامات ذاتية محركة له بمعزل عن ارادة الانسان في تغيير وقائع التاريخ نحو الافضل.

يوجد مسارات تاريخية متعددة شابها الكثير جدا من الكبوات والاخفاقات والفجائع الكارثية،  ربما كانت خاصة بمجموعة بشرية او عدة مجموعات في زمن معين ومكان، في قطر او عدة اقطارربما كان يجمعها نوع او اكثر من التجانس الاجتماعي والثقافي او الديني، وكل مسار من هذه المسارات التطورية له دوافعه واسبابه ومبرراته التطورية المعزولة كجزر متفرقة لا يجمعها رابط او جامع ذاتي غائي تطوري يقرر حاضر ومستقبل التاريخ البشري.

ولما كان التاريخ وقائع الماضي، اي بنية ماضوية بمعنى مقاربة التراث، تصبح حينها قيمته محدودة متراجعة في محاولة تسييرها الحاضر ورسم المستقبل. واستنباط العبر والدروس من التاريخ،  ووقائعه واخفاقاته وانتصاراته لا تلغي عشوائية التاريخ ولا تقلل من اهمية المصادفات غير المتوقعة ولا المحسوبة في نتائجها وتأثيراتها.وفي اختطاط التاريخ مسارات بعيدة له عن الاماني الغيبية او غائيات مسبقة او حتميات مفترضة مرجوة ومطلوبة لكنها لم تتحقق في اعتمادها ذاتية التاريخ الشغّالة بمعزل عن ارادة وعمل الانسان.

كما ان  توظيف تعالق التاريخ بالدين او تعالقه بالسياسة والايديولوجيات الخادمة له بمحاولات دوغمائية تضع الماضي في صورة المستقبل الجديد والزاهر المستمد من روحية الماضي محكومة بالفشل وسوء تقدير حركة التاريخ ومحاولة حصرها قسرا تحت هيمنة السياسي ورغائبه (كتابة التاريخ باجندة الحاكم).

بدأ التاريخ بالاساطير وانتقل الى ثيولوجيا الدين ومرّ بسّير الملوك والحكام والابطال ليصل مرحلة  الايديولوجيات ويصطدم اخيرا بالعلم التجريبي- العقلاني الذي وضع خطوطا حمراء امام كل توجهات السرديات الماضوية الكبرى ان يكون لها دور حقيقي تستطيع ان تلعبه في ترسيم الحاضر او المستقبل.وان النظرة الاحيائية للتاريخ كماض لم تعد تعني المستقبل بشيء الذي يحكمه العلم والتكنولوجيا المتطورة باستمرار. التي جعلت من العلم والتاريخ مساران متوازيان لا يلتقيان.(ليس المقصود العلوم الانسانية والتاريخ جزء منها).

ان تاريخ الدول والملوك والحكام وابطال الحروب الكارثية والتطرف والفتوحات والهيمنة الغاشمة التي سادت ثم بادت كانت عوامل اشتغالها وديناميكية محركها هي النزوات الفردية المنحرفة والانانية والوحشية والحماقات والرعونة في اختلاق المنازعات وسفك الدماء لا غير.وبهذا النوع من التاريخ ورثت البشرية الاوراق الساقطة التافهة،  لما تم حجبه عن معاناة ملايين البشر في الحياة التي لا تواسيها ولا تعطيها حقها كل هالات التعظيم والخلود.

ان تحقيق المؤرخ للمدونات واعادة تفسيرها ودراستها واختراع النظريات التحليلية ووضع المناهج لها، وما يكتشفه من الخفي غير المعلن والمستور في حوادث التاريخ،  لا يمنح التاريخ اية مصداقية على ان مساره ذاتي استلهامي تطوري في تغليب نوازع الخير والقيم والانسانية على الدوام،  وانما كانت جدوى التصحيحات تأتي من فاعلية اناس صححوا المسار المنحرف لمرحلة او مراحل من التاريخ، وقدموا تضحيات كبيرة لهذا الهدف، ولم يكن للتاريخ اي قدرة ذاتية او امكانية ان يصحح مساره الخاطيء بقواه غير المنظورة وحده.

غالبية المورث من التاريخ هو انحرافات الحاكم وحب الهيمنة والسيطرة والتوسع الامبراطوري،  او بروز حركات وحشية همجية تتلذذ بسفك الدماء باسم امتلاكها الحقيقة الدينية او الحقيقة التاريخية، كل هذا وعلى شاكلته ورثت البشرية عامة تاريخا بائسا، تداخلت حوادثه مع المسار الاعتباطي والمصادفاتي للتاريخ. ويؤكد هذا ان التاريخ في جميع مراحله الماضية لم تكن تحكم مساره الغائيات والحتميات المرسومة الاهداف سلفا،  للارتقاء بالانسانية في معارج التقدم والازدهار. والعلامات المضيئة المشرقة التي جاءت على طفرات نوعية مرحلية محدودة في منطقة دون اخرى بالعالم.كانت ردود  افعال الانسان التصحيحية ورفع ظلم وجور وقائع تمت ازالتها بارادة وتضحيات قوى انسانية مغيبّة عن صناعة التاريخ الحقيقي على حساب تلميع صورة الحاكم المتنفذ.وما حصل في هذا التطور ليس من حكمة الحاكم ولا من حكمة التاريخ في ان غائية انسانية مثلى تعيش باحشاء التاريخ و تأخذ بمساره الانساني المتقدم.فالتاريخ بداية ومنتهى هو من صنع الانسان فقط في علاقاته وتطور وسائل عيشه اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا،  وحبه لقيم الحرية والعدل والمساواة.

اقصى افادة لنا من التاريخ وحوادثه ووقائعه هو استذكار ومراجعة تفيدنا بالعظة والتحسّب في اجتناب تكرار الخطأ والاخطاء مرات عديدة.وما نظريات وفلسفات ومنهجيات التاريخ سوى فذلكات عابرة لاكاذيب سابقة لها في التجّني على التاريخ دينيا ولاهوتيا وايديولوجيا،  سادت قرونا من عمر البشرية التي ابهضت التاريخ بما لا يحتمل.

ان فلسفة الوجود الانساني هي فلسفة تاريخه (تاريخ الانسان) لا غير، وهي أسبق في توليدها علامات استفهام وتساؤلات بلا نهاية تحفيزية تغييرية تكون اجاباتها في التطبيق الواقعي في الحياة هو خلق تاريخية متطورة على الدوام.ولا يحق ولا بمقدور تجربة امة من الامم او شعب من الشعوب ان تسحب تجربتها على امم وشعوب اخرى تمتلك تمايزات جمّة واختلافات عديدة عنها، ومنهج دراسة تاريخ شعب له خصوصية ومرحلة تاريخية مميزة،  تؤكد استحالة تعميم تلك التجربة على الآخر المختلف عنها.

والتاريخ من غير المفيد اخضاعه لقوانين طبيعية تعمل بمعزل عن ارادة الانسان وفاعليته في مصنع الحيوية البشرية،  قوانين التاريخ الحقيقية هي القوانين الوضعية المستمدة من التحقيب الزماني والمكاني التي تنطلق من الوجود الانساني وتنتهي به. وان التاريخ خلال مساره الطويل لم يكن يتقدم بحوافز غائية تخلع عليه من قبل المؤرخ او الدارس، كما ان التاريخ لا يهتدي بنظريات منظورة او غير منظورة تسحبه خلفها.ولا يوجد حتميات يصلها التاريخ من دون وعي وادراك،  فالحتميات نتيجة عاملي الارادة الذاتية وملائمة الظروف الموضوعية وهذا ما لا يتوفر عليه التاريخ ذاتيا فقط.فحركة التاريخ حركة عشوائية ومصادفات غير محسوبة، تتداخل بها ومعها ردود الافعال الانسانية ونفسيات الحاكم او القائد المتنفذ والدين والايديولوجيات والنزوات المريضة ونوزع الخير ويقظة الضمير وحب الانسانية وغير ذلك كثير.

 

علي محمد اليوسف/الموصل