الرئيسية

اشكالية الجنس في حياتنا المعاصرة

ali mohamadalyousifتوطئة: من المتعذّر الاحاطة الشاملة بالكتابات والدراسات التي تناولت موضوعة الجنس، كلازمة انسانية بيولوجية غريزية فطرية رافقت وحفظت الوجود البشري من الاندثار بالصميم مذ وجد الانسان في عصور موغلة بالقدم، وتعاقب دور الجنس في تحولات متنوعة مؤثرة وكبيرة، كعامل محرّك للتاريخ والاديان. وتعددت الدراسات الفلسفية والعلمية والتاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية التي تناولت موضوعة الجنس وتأثيرها في الحياة القديمة والمعاصرة.

نحاول هنا طرح مقاربة في دراسة الجنس من منظورين بعيدا عن تلك التناولات، الاول منظور الاخلاق الجنسية المتعالقة مع منظومة القيم الاخلاقية السلوكية والاعراف السائدة مجتمعيا، والثاني منظور التعالق الجنسي كسلوك مجتمعي بالحداثة والمعاصرة في الحياة سلبا اوايجابا،  وما يهمنا المجتمعات العربية الاسلامية قصدية مدى امكانيتنا كشف ان يلعب الجنس دورا مؤثرا في ردم تخلفنا عن الحداثة او تحفيز تقدمنا منها وتحقيقها في حياتنا.بعدما اصبحت لدينا اشكالية تجديد الفكر الديني بؤرة مركزية في التجاذبات الفلسفية - الثقافية في كيفية توظيف تلك المراجعة النقدية لموروثنا الفكري الديني في مسعى تحقيق نهضة حداثية تجديدية عندنا تأخرنا كثيرا عن ادراكها في حياتنا ومجاراة العصر بها.

نعيش منذ منصف القرن العشرين اشكالية المسألة الجنسية التي لا تقل خطورتها واهميتها، من نفس منطلق محاولة استحضارنا (اصلاح الفكر الديني) في اعتماده عامل تنشيط الحداثة لدينا في ممارستنا النقد الديني في جنبة، ومسعى ان يكون (الجنس) ومنظومته الاخلاقية وتنظيمه في حياتنا عامل يقظة تنويرية تقدمية في حياتنا، لا مصدر انحلال وتدهور واعاقة لتقدمنا من جنبة اخرى، ونسعى لأعطاء مراجعة وتجديد الفكر الديني مثل هذا الدورفي حياتنا في تلمسنا تحقيق نهضة حضارية، مؤملين ان يضطلع تنظيم الاخلاقية الجنسية والعامة بمثل هذا الدورأيضا.

وربما في هذا المجال الضيّق نستطيع حصر الدراسات الجنسية التي سنرفضها لا حقا فهي لا تناسبنا، ممثلة في منحيين لا نأخذ بهما ولا يشكلان عندنا اضافة يمكننا الافادة منها، كما يتعذّرعلينا حتى محاولتنا ادماجهما تلفيقيا معا، لأننا غير معنيين بذلك فهو من خصائص افرازات الحضارة الغربية فقط، معزولة عن سعينا ومحاولتنا ايجاد منفذ خاص بنا ان كان ذلك متاحا متيسرا لنا وامامنا في معالجة اهمية ودور الجنس في تقدم حياتنا.

1. منهاجان لدراسة الجنس:

المنحى او المنهج الاول: الذي يشمل دراسة الجنس(فلسفيا، تاريخيا، علميا، ثقافيا، نفسيا)في المجتمعات الغربية، نجده في سحبنا تلك الدراسات والباسنا نتائجها البحثية، واقعنا الاخلاقي العربي الاسلامي فيه الكثير من التعسّف والمحاذيرالتي تصطدم مباشرة مع امانة المنهج العلمي، قبل وجوب الاخلاص لواقع حال مجتمعاتنا،

من حيث ان تلك المباحث اخرجت التقائنا بها من منطلقات دراسة الجنس، كمعطى بايولوجي غريزي انساني وتكوين فسلجي متمايز في توزيعه بين فروقات المذكر والمؤنث، الذي طبع تاريخ الجنسانية البشرية، والتي تنعدم فيه التمايزات والفروقات الجوهرية في اهمية ان يكون (الجنس) مؤثرا سلوكيا واخلاقيا ومبعث تجديد حداثوي للحياة لدينا، المنتفية الحاجة لها عند غيرنا، فالعلم والمعرفة في (اوربا وامريكا) حققتا لهم الهدف في تجاوزهم كلا من ثنائية (الدين والجنس) ان يسهما في تحقيق القفزات الحداثية والحضارية التي حصلت عندهم، بداية كان تجاوزهم الدين في فصل تدخل الكنيسة في شؤون العلم والحياة للناس، والثانية ان الجنس واهميته جاء نتاجا للحضارة وليس خالقا ومساهما تكوينيا لها. اهمية ثنائية (الدين – الجنس) كعاملي نهضة عندنا معدومة اصلا، ويرافقها انعدام انتاج مؤثرات العلوم ومؤثرات التطور المعارفي الكبير في جميع المنظومات التكوينية لانتاج حضارة خاصة بنا كطموح نريد استحضاره وبلوغه في مستقبل حياتنا لا وجود له الا بحضور حضارة الاستهلاك التي نحيا العصر بها ومن خلالها فقط.

وفي محاولة تلخيصنا لهذه الدراسات المتشّعبة نجدها لا تخرج عند كثير من الفلاسفة الغربيين العظام مثل سيجموند فرويد وكانط في نزعتهم التشاؤمية، فهم يعتبرون الجنس انحطاطا للطبيعة البشرية، وان الرغبة الجنسية منافية للاخلاق حتى لو كانت ضمن نطاق الزواج، وهدف الانجاب، وان الجنس اذا لم يتقيّد بصرامة الاعراف الاجتماعية السائدة فانه سيؤدي الى انحدار البشرية والحضارة. (الى هذا الحد كلام فرويد يخدمنا) لكن نجد فرويد ينحى بتطرف يناقض اهمية تنظيم الجنس في الحياة قائلا: وكل قيد ديني اخلاقي مجتمعي او تقاليد واعراف، هو قيد باطل للجنس ومدمّر لطاقة الانسان وهو كبت غير مشروع (1)، وبهذا يكون فرويد اول فيلسوف وعالم نفس طبّي شرعن ممارسة الاباحية الجنسية التي اجتاحت العالم بجنون غير مسبوق .

على العكس من هذه التشاؤمية السوداوية، نجد الفلاسفة المتفائلين يتقدمهم افلاطون وبراتراند رسل،  يذهبون ان النشاط الجنسي يمثل اضافة (بعد) آخر يكمل وجودنا كبشر، وان الدافع الجنسي ينقلنا الى شكل اعلى من السعادة والرضا، وهو آلية طبيعية تربط البشر وتوّحدهم، لان العلاقة الجنسية اشباع الذات وارضاء الاخر معا.(2) قد لا نقع بمفارقة القول ان هذا التفاؤل المنظّم للجنس يخدمنا اكثر من اطلاق فرويد عنان الاباحية.

المنهج او المنحى الثاني :من دراسة الجنس هو مانجده عندنا، المنطلق من نزعة المجاراة فيما تتركه فينا فلسفات ودراسات الجنس الغربية من ابهار، ورغبة في التقليد ولكن بالاعتماد على مرجعية الجنس في (حكايات الف ليلة وليلة واخواتها ) في غرائبيتها وما تحمله من ادهاش يعزّز هوس القراءة الترفيهية الاستهلاكية في تقليب صفحات المتعة الايروسية النظرية للجنس، كمثل قراءة الشعر الماجن او الروايات الجنسية الخليعة كجواز مرور حصد الاقبال القرائي منقطع النظيرلها .

اي ان تلك الدراسات العربية الاسلامية القديمة والحديثة الغربية (نوعا ما ) أهملت تناول الجنس كواقعة تمثّل اشكالية وجودية اخلاقية، ترتبط من حيث التوظيف المطلوب والمراد منها(بهدف تحديثي)، وبوثيق الارتباط والصلة باشكالية مظلة أشمل منها هي(التراث والمعاصرة) التي كثر الجدل حولها منذ ما يقرب القرن كاملا ولم تحسم نتائجها في التوظيف لنهضة عربية حضارية وبقيت حبيسة التنظير في المراجعات النقدية..التي تراوح بمكانها.

وافضل تعبير عن هذا المنحى في تناول الجنس كمادة تسلية قرائية نجده في كتاب مالك شبل (الجنس والحريم/ روح السراري) فهو من جهة يحاول مجاراة وتقليد تناول الجنس كموضوع فلسفي تناوله باهتمام فلاسفة فرنسيين واوربيين، ومن جهة ثانية فهو يتوفر على متعة القراءة الترفيهية (لا علميتها)، حين اختار المؤلف المجتمع العربي الجزائري المعروف بنزعته الاسلامية عيّنة لموضوع دراسته، بما يعزز مرجعية الجنس في العادات والتقاليد والعرف الاحتشامي الاخلاقي المشبوب والمشبوه باختراقات جنسية كبيرة مستترة، كما في جميع المجتمعات العربية / ازدواجية الممارسة الجنسية في السر والعلن.والأحالة الى القديم في الكتابات والمؤلفات العربية والاسلامية الجنسية كمادة ترفيهية بعيدة عن مقتضيات البحث العلمي وآثاره الفكرية والثقافية، وتلبيس سيسيولوجيا البحث عباءة القديم بما يحتويه من امتاع قرائي استهلاكي لا اكثر.(الجنس لذّة غريزية فقط).

لم يطرح مالك بن نبي في مؤلفه المذكور(الجنس) اشكالية حضارية يتطلبها الواقع العربي، في موازاة اشكالية الدين في حياتنا المعاصرة.بل طرح سيسيولوجيا الجنس في العادات والتقاليد الاجتماعية والاخلاقية في الجزائركسرد امتاعي لممارسات وعادات جنسية فولكلورية شعبية.

2. بين فوكو وبورديو

بضوء التمهيد الذي سقناه سابقا يمكننا الآن الاشارة الى كتابات ميشيل فوكو 1926 – 1984 في اشهر مؤلف فلسفي له حول تاريخ الجنسانية ثلاثة اجزاء، ذهب في الجزء الاول (ارادة العرفان ) 1976 الى ربط الجنسانية باركيولوجيا التاريخ وحفريات المعرفة مرورا بعصر الفلسفة اليونانية القديمة والرومان، وفي المسيحية وما قبلها في العهد القديم، محاولا الاجابة عن تساؤل يهمنا نحن اليوم بالصميم هو(لماذا يشكّل السلوك الجنسي والانشطة والمتع المتعالقة به موضوع انشغال اخلاقي؟).

لا نغالي اذا قلنا ان الاجابة عن هذا التساؤل هو صميم ما نحتاجه ونبحث عنه لمجتمعاتنا العربية الاسلامية، في اجابتنا الذاتية الخاصة بنا نحن وليس بما يجيب فوكو عوضا عنا عنه ان جاز التعبير، فهو يجيب بما يرضي نزوعه الفلسفي الخاص بالمجتمعات والحضارة الاوربية لا بما نحتاجه نحن كمجتمعات شرقية لم تعرف من الحضارة غير الاستهلاكية منها بعد في حاضرها و في مستقبلها المنظور.

اجابتنا نراها في تسليط الضوء على التساؤل المشروع الجوهري، هل ان الجنس اصبح اليوم كما هو الحال مع الفكر الديني، اشكالية وجودية في اعاقة او تسريع تقدمنا نحو حضارة معاصرة، في حال امكاننا وضع الجنس ضمن منظومة اخلاقية مجتمعية نظيفة، تمتلك كل مقوماتها في قيم شغّالة مصدرها الدين المعتدل من جهة، ووصاية القوانين الوضعية الرقابية العادلة في حمايتها ورعايتها (الجنس-الزواج) كعرف اخلاقي تقليدي يحمي الممارسة الجنسية من السقوط في الابتذال والاباحية من جهة ثانية؟!

بهذا التفريق في ان يكون الجنس عامل تحديث نحو معاصرة ننشدها في حياتنا، ام ان يكون عامل انحطاط يحملنا الى انفلات جنسي كما في الغرب، يغذّي ويلتقي عندنا عوامل التردي والانحلال في مجمل اشتمالات حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، هو ما نسعى حضوره ويمكننا من العثور على ماهو خاص ومفيد لنا.

وبالعودة الى فوكو نجده في تقصّيه وتشعّب الاجابات بما يمتلكه من ثراء فلسفي معرفي عمد ربط الممارسة الجنسية المرتذلة اساسا بتاريخ السلطة وقوانين الحظر الوضعية غير الانسانية التي سادت ردحا طويلا من عمر التاريخ الاوربي، بما تحمله تلك الممارسات الجنسية الطبيعية والشاذة، من خرق بعضها النظام الاسري والمجتمعي التي تجاوزها فوكو متعمّدا قاصدا من منطلقات ادانته لها في متراكمها التاريخي الذي يتقاطع مع نزوعه البحثي ولا يماشيه او يخدمه.وعمد في دوغمائية فلسفية وقبلية معرفية الباس التاريخ الجنسي رؤاه المنحرفة جنسياحين سعى بمثابرة وجهد كبير ايجاد تدعيمات تاريخية في تمرير انحرافات وشذوذات الجنس، تحت مسوغات عاطفية وانسانوية مرجعيتها(البيولوجيا، الفسلجة وعلم التشريح، علم النفس الطبي، الاجتماع، السلطة).

في هذا المتراكم البحثي المعرفي والثقافي استطاع فوكو تطويع حقائق الجنس في اعتبارها اشكالية بيولوجية غريزية انسانوية قبل اي اعتبار آخر لا يهمه ولا يعنيه، في عدم ادانة شذوذاتها، او محاولة تهذيب تلك الممارسات الشاذة في منظومة اخلاقية شاملة، وسعى ما وسعه الجهد انقاذ الاباحية الجنسية بدءا من مراحلها التاريخية القمعية، ومراحلها التسفيلية، الاستلابية المجتمعية وسحبها الى مراتب ومصاف حرية التعاطي الجنسي الفردية، وضرورة اشباع الغرائز الانسانوية للجنس، المفتقدة للمشروعية خلال وطيلة احقاب زمنية، وانه حان الوقت اعادة الاعتبار المفقود لها.وتجويزه تلك الخروقات الجنسية الشاذة على انها من مسلمات الطبيعة الغريزية الانسانية، لا يتوجب التقاطع المجتمعي معها، ولا تحشيد المؤسسات الدينية اوالسلطة المدنية وجوب رفضها ومحاربتها، وليس من حق السلطة والقانون الوضعي محاسبتها او الجامها وايقافها عند حدودها المقبولة اجتماعيا.ويشير تاريخ حياة فوكو انه في ايامه الاخيرة اراد وضع آرائه الفلسفية الجنسية موضع التطبيق، حيث انخرط في ممارسات جنسية مثلية اعتبرها على حد تعبيره، (الخلق الحقيقي لا مكانية الرغبة التي لم يكن يحظى الناس بها في الماضي) وأدت الى اصابته بالايدز ووفاته.

النموذج الثاني هو عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو (1930- 2002) في مؤلفه(الهيمنة الذكورية) فقد ذهب الى دراسة الجنس (بيولوجيا)، في مقارنته تضاريس الجسد الذكري والانثوي فسلجيا وتشريحيا طبيا، وتوظيف التمايزات والفروقات الجسدية الجنسية بدءا من اختلاف الاعضاء التناسلية، وهيمنة الذكورة في الحياة الزوجية الاسرية، والبيت، والعمل، والعلاقة مع الآخرين، والاختلافات النوعية في السلوك والممارسات الاجتماعية، بما يمنح الرجل ويكسبه شرعنة الافضلية على المرأة، بحكم تمايز البيولوجيا وما تجرّه وراءها من تبعات التمايزوالاختلاف، .والانفراد والهيمنة الذكورية، ليس على صعيد علاقة(فوق- اسفل) جنسيا وحسب، ولكن في انسحاب النتيجة التنافسية في اعلاء شأن الذكر على الانثى وعجز المجاراة في جميع مفاصل الحياة تقريبا. العلاقة التي يشوبها الكثير من الاجحاف بحقوق المرأة .

ان في اختلاف بيولوجيا الجنس الذكوري والانثوي الذي يكرس هيمنة الرجل (هذا خارج الدعوة الحضارية بالحقوق المتساوية للجنسين وتحقيقها ضمن ميادين ومستويات عديدة في اوربا وامريكا وبلدان العالم الكثيرة) تكون مساحة استقبالها عندنا مجتمعيا وسلطويا اكثر من مقبول ومرحب به، في جميع المجتمعات العربية الاسلامية تقريبا، وما ينفرز عنها من ممارسات الافضلية الذكورية على صعيد فروقات بايولوجيا الجسد والجنس، واستخدام هذا التمايز في مجالات المعيشة والعمل ومرافق التعامل مع الحياة.

ويغذّي ويعمّق هذه الواقعة المكتسبة نزعة الافضلية، المتراكم التاريخي التقاليدي والاعراف المستمدة من الموروث الطويل تاريخيا في المتجذّر الوجداني والسلوكي وفي مصدرية ومرجعية الاسناد (الديني وقوانين واوامر السلطة والحكم الانفرادي الوراثي المستبد)والهيمنة الأطلاقية الذكورية الاحادية غير المتنافسة على مفاصل الحياة والسلوك على مدى قرون طويلة.

لذا يأتي مؤلف بورديو (الهيمنة الذكورية) مطابقا تماما لمسرح اشتغاله لواقع الجنس في المغرب العربي، الذي يصح تعميمه على اقطار الوطن العربي الاسلامية بلا ادنى تحفّظ عليه.

لم نجد في هذا المؤلف، رغم ان كاتبه فيلسوف وعالم اجتماع متمّيز، اية انتباهة في اهمية نقل دراسة الواقعة الجنسية من ميدان سيسيولوجيا الممارسة الجنسية الى سيسيولوجيا الاخلاق والسلوك الجمعي الذي يعزز الالتزام العام باخلاق الجنس الطبيعية المحتشمة على الاقل مايهم مجتمعاتنا الشرقية العربية.

في غياب هذا الربط المفقود الذي اشرنا له، الذي لا يقلل من اهمية ثيمة الكتاب في وصوله نتيجة هي تحصيل حاصل موجود في مجتمعاتنا / الهيمنة الذكورية وما يترتب عليها من ممارسات اخلاقية متمايزة ليس على صعيد الجنس وحده بل في مجمل الحياة كما ذكرنا سابقا.

3. كيف نفهم اشكاليتنا في الجنس؟

بأي فهم ومعنى والى اي مدى يمكننا الحكم على اخلاقيات الجنس، ان تكون مرتكزا في تعميمنا لها على اخلاقيات السلوك المجتمعي العام المعلن، في حال توفرنا على الضبط

المطلوب ان لا تصبح العلاقات الجنسية عوامل تردي وانحلال مجتمعي؟

وما الفرق الذي يمكننا الافادة منه في مقارنتنا اشكالية الجنس عندنا واشكاليتها في المجتمعات الاوربية والامريكية على وفق منظور(السيسيولوجيا) الذي ذكرناه في اعلاه؟

قد يبدو للوهلة الاولى ان هذا الطرح يحوي افتعالية /مقارنة الاشكالية الجنسية بيننا وبين الغرب الاوربي ليست في محلها، وانها تسطيح في انعدام اوجه المقارنة المحسومة مسبّقا لصالحهم، وليس في صالحنا نحن.وهو خطأ... كيف؟ الاشكالية الجنسية في الغرب انتهت الى نتيجة انها استنفدت نفسها جنسيا، ولم يعد لديها ما تدّخره وتنافس به غيرها.فهي وصلت مراحل متدنية جدا في الاباحية الجنسية التي لا ينفع معها المعالجة في تصحيح السقوط النهائي. وان زوايا الرصد والمعاينة من قبلنا لاشكاليتهم الجنسية وفروقاتها الكبيرة بيننا وبينهم، لا تتكافأ (نوعيا وقيميا)مع اشكاليتنا التي هي في مراحلها الاولى بعد، وامكانية وقدرات التصحيح عندنا موجودة وليست ميؤوس منها كما هي عندهم.ان الاباحية الجنسية في امريكا واوربا خرجت ان تكون مخرجا لتنظيم المجتمع.

ان الانحدار الجنسي في اوربا وامريكا انحدار مفزع ومؤرق برأيهم هم وليس برأينا نحن الى حد ان وصف ذلك احد المهتمين بهذا الشأن بقوله:ان تفاقم الاشكالية الجنسية التدميرية في امريكا والغرب تمثل قنبلة نووية، يهدد انفجارها المستقبلي افناء البشرية.

ورغم كل ماذكرناه قد يبدو انه مصادرة من قبلنا في حسم مقارنة تحتاج الى توضيح اكثر، يدخلنا ببعض التفاصيل، اننا نجد وبشكل عام معلن ان الجنس في المجتمعات الغربية انحدر وينحدر اليوم بمتواليات رياضية نازلة في الاباحية والاخلال السلوكي والخرق العام للنظام الاخلاقي والقيمي السوي، ما رتّب انحلال الاسرة، وتراجع الزيجات، انفلات التربية الاسرية وفقدان السيطرة بحكم القانون، في البيت والمدرسة، ممارسة الشذوذات الجنسية المثلية الذكورية والسحاقية الانثوية وحمايتها قانونا، زنا المحارم، الديوثية، تعاطي المخدرات وهكذا.

يقابل هذا الانحدار البشع في الجنس، تصعيدا (قيميا ) في السلوك الاخلاقي العام، بمتوالية تصاعدية مناقضة لمتوالية الانحدار الجنسي الاباحي، تعبيراتها تفشّي سلوكيات وقيم العلم والتحضر والحداثة، اعلاء قيم المساواة والعدالة والديمقراطية في الحقوق والواجبات، النزاهة والصدق والاخلاص، حقوق الانسان والمرأة، الى غيرها من قائمة طويلة عريضة تقاطع جميعها التسفيل الامتهاني للجنس لديهم. ولا ننفي ان يكون هناك خروقات غير مقننّة، انه ليس كل من يمارس التسفيل والانحطاط الجنسي، يكن حريصا على ممارسة التصعيد الاعلائي الاخلاقي القيمي في السلوك والحياة. فقد يمارس العديدون التسفيل والانحطاط الجنسي بالتماهي مع ممارسة الخروقات في السلوكيات والقيم العامة التي ادرجنا بعضها.

لكن لو نحن جربنا سحب هذه المعادلة السبق لنا ذكرها على مجتمعاتنا العربية – الاسلامية، ومحاولتنا تطبيقها، لوجدنا ان مرتكز اخلاقنا الجنسية وغير الجنسية مستمدة من ثنائية (الدين – السلطة الحاكمة) وفي تنظيم الحياة برمتها، وفي مجال الجنس تمارس تلك الثنائية دورها التحريمي الانضباطي الاخلاقي الذي يحول دون السقوط في الانحدار التسفيلي الانحطاطي – هذا على الاقل في المعلن المتداول والمتواضع قبوله – في تطويق انتشار الاباحية الجنسية وتفكك النظام الاسري الاخلاقي المتين.والمحافظة على الشرف الشخصي والتقاليد الاخلاقية السلوكية المجتمعية.

في مقابل هذا التعالي الاخلاقي المكابر في العلن ماذا نجد من خروقات واختراقات عميقة غائرة في السر والكتمان على صعيد الممارسة الجنسية.وماذا نجد بخلاف الغرب عندنا من تفريط مذهل بكل قيمة اخلاقية على صعيد سيسيولوجيا الحياة والسلوك الجمعي العام.في عجز ايقاف التردي الاخلاقي في السياسة والاقتصاد والثقافة وميادين الحياة، فلا وجود لقيم الصدق والنزاهة والامانة ومصلحة المجتمع في جميع مفردات التردي البشع في حياتنا، وفي تقاطعها المعيب مع كل مقومات التقدم ومجالات التحضر من حولنا التي تحاصرنا.

اننا هنا لا نتخطى ازدواجية المعلن في تقاطعه الاختراقي مع المستور، بان فواحش الجنس غير المعلنة عندنا هي نفسها فضائح الاباحية الجنسية في اوربا وامريكا المعلنة التي ندينها، لا فرق بين اباحية معلنة ليس فيها محظور او ادانة اسرية او مجتمعية او سلطوية، واباحية تمارس في السر داخل الغرف المقفلة واسرار وخفايا السرير.

الفارق ان الاباحية الجنسية غير المعلنة عندنا يقترن فيها التسفيل الانحطاطي الجنسي مع الانحطاط السلوكي المجتمعي الاخلاقي العام.(يوجد استثناءات لذلك).على صعيد العمل والوظيفة والمؤسسة وتقديم الخدمات وغيرها، وهو ما لا نجد مشابهاته في المجتمعات الغربية، فالجنس خارج معادلة الشرف المهني عندهم.

وحيثما وضعنا نحن الجنس ضمن وصاية ومدركات(الدين – العقل) نجد يلازم ذلك انحدار كبير في اخلاقيات المجتمع وتدني قيم البناء المجتمعية.ان ما يشكل في المجتمعات الغربية، عيبا او خللا في منظومة البناء الحضاري، نجده لدينا لا يوازي الخلل الذي نتعمده في تعطيل بنانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

قضية تردي اخلاق الجنس لدينا، مع تردي مجمل احوالنا الاخلاقية والسلوكية العامة، اصبحت قضية مركبة في ان يكون الاختراق في احدهما يكمله ويعاضده مفردات التردي والاختراقات في الجانب المتتم الآخر وهكذا، حتى تكتمل حلقات التردي والانحلال التدريجي في هياكل المجتمع البعيد عن ادنى معيار اخلاقي متحضّر يحكم الحياة وينظّم شروط وواجبات وحقوق الفرد وحقوق المجتمع.

خاتمة:

نخلص من هذا بمجمله ان التسفيل الجنسي الاباحي في اوربا والعالم تقريبا، منعزل تأثيره في سيسيولوجيا القيم والسلوكيات الاخلاقية والمهنية التي تنظم شؤون الحياة المتحضّرة، وهذه الممارسات غير مستمّدة لا من وصايا وتحريمات الدين، ولا من رفض قيم العلم والاعراف الاخلاقية لها، اذ كلما انحدرت تلك المجتمعات جنسيا، ارتفعت وتسامقت في تحضّرها في توفير ضرورات ومتطلبات معيشتهم في الرفاهية والسعادة والعيش الكريم.بعيدا ان تكون هذه المعادلة اشكالية تقرر مصير وموقع الفرد في المجتمع. طبعا من غير المعقول انه لا توجد خروقات في تلك المعادلة، لكنها عديمة التأثير بالمنحى الاخلاقي العام. نريد العكس عندنا في اهمية ووجوب ان يكون للتربية الجنسية والاخلاقية دورها المؤثر الكبير في بناء مجتمعات متقدمة، تتكافل مع كل قيم بناء الشخصية الفاعلة المنتجة التي تمتلك المعاني الكبيرة في تعاملها مع الحياة.

بقينا عصور طويلة من تاريخنا نفهم الاخلاق انها (جنس فقط) يتحدد موقعه ومجال اشتغاله ما تحت حزام بنطلون الرجل وسرّة بطن المرأة، وكل ماعداها من خروقات جائز حلال، وفهمه غيرنا انه مافوق حزام البنطلون وسرّة بطن المرأة تكون ممارسة الاخلاق خارج الابتذال الجنسي الذي ندينه في العلن ونمارسه في السر.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

...................

الهامش : 1 و2، موقع "الباحثون السوريون" الالكتروني