صحيفة المثقف

الحجية المعرفية للوحي القرآني عند الشيخ شبستري

باسم الحسناويبحسب هرمنيوطيقا الدكتور شبستري لا يعتبر القرآن ذا مضمونٍ إخباري، بل إنَّ مضمونه تفسيريٌّ فحسب، بمعنى أنَّ المضامين التي يتحدَّث عنها القرآن سواءٌ كانت مما له علاقةٌ بقصص الأنبياء أو الفلك أو الطبّ أو حتى القضايا ذات العلاقة بالحساب واليوم الآخر، لا يشترط فيها أن تكون مطابقةً للواقع، بل ليس من وظيفة القرآن أن يتطابق مع الواقع أساساً، يقول الشبستري: "الموجود في هذا الكتاب –القرآن- محتوى تفسيري وليس إخبارياً، فإذا ورد فيه (الله الذي خلق السماوات والأرض) (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) (وأرسلنا الرياح لواقح) (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) (ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)، هذه الآيات وكثير غيرها، تمنح تفسيراً إلهياً لكل الحوادث الطبيعية والتأريخ، رغم غياب الرؤية الكونية فيها. هذه الأمور تفسر كأفعال إلهية، وليست مجرد جمل خبرية تحتمل الصدق والكذب تلقى إلى النبي ويقوم هو بتفسيرها، بل يعطى إليه التفسير ذاته)الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم قضايا إسلامية ص26-27 ثم يقول: "إن الاختلاف بين دعوة النبي والحالة الوثنية السابقة على الدعوة، تكمن في أن النبي يهتم لأمر واحد وهو إحالة جميع الأشياء والأفعال والظواهر الموجودة أو المعقولة من أرض وسماء وإنسان وجان وشيطان إلى الله. ولما كانت ثمة عملية تفسير، والتفسير لا بد أن يتلون بلون البيئة التي تحصل فيها عملية التفسير، فلا بد أن يأتي المحتوى التفسيري على ضوء ما هو موجود في حالة ثقافية سائدة في الجاهلية، لأن ما ينبئ عنه النبي ليس قضايا خبرية تحتمل الصدق والكذب على غرار ما هو معروف في المنطق، وليس وارداً في خلد النبي أن يبين ما هو موجود وما هو غير موجود حتى يطالب بدليل على صحة ادعائه، لأنه في الحقيقة لا يدعي شيئاً، وانما يقدم عرضاً انطباعياً عما رآه وعاشه من تجربة، وخلاصتها إرجاع كل شيء وإحالته إلى الله"المصدر السابق ص28،  فمثل هذا التوجه في النظر إلى المضامين القرآنية يعد استنساخاً طبق الأصل لتوجهات عدد من المستشرقين يحقق، كما يعيد إلى الأذهان ذلك الرأي الذي أثار ردود الأفعال القوية في الأوساط الدينية والثقافية للدكتور طه حسين في كتابه المعروف (في الشعر الجاهلي) إذ قال: "للقران ان يحدثنا عن إبراهيم الخ" يحقق، كما تسير في هذا الاتجاه أطروحة الدكتور احمد محمد خلف الله "في القصص القرآني" يحقق، ومثل هذا الرأي مبني على أساس النظر إلى القرآن بصفته نصاً رمزياً كما يصرح الدكتور شبستري علانية بذلك، بحيث يبدو كل ما ورد في القرآن عبارة عن رمز غير قابل للفهم والاكتناه، ويصبح وسيلة وأداة لفهم واكتناه شيء آخر:المصدر السابق، ص28.

ولنا على مثل هذا التوجه أن نثير في سياق النقد بعض النقاط:

النقطة الأولى: مثل هذا التوجه في النظر إلى المضمون القرآني، لا يمثل فتحاً من فتوح الهرمنيوطيقا، بل هو رأيٌ معروفٌ في مختلف المراحل التأريخية، فمن المعلوم أنَّ بعض الاتجاهات الصوفية نحت هذا المنحى في النظر إلى المضامين التي احتواها النصّ القرآنيّ، كما انَّ عدداً من المستشرقين أثاروا هذا الموضوع أيضاً، وتبعاً لهم أُثير الموضوع أيضاً في الوسط الإسلامي عند الدكتور طه حسين وآخرين يحقق

النقطة الثانية: الحقيقة أنَّ الدكتور الشبستري يخالف مبانيه التي اختارها في دراساته الهرمنيوطيقية الخاصة، فقد صرَّح الشبستري في أكثر من موضعٍ أنه يحترم الدلالة القرآنية، وأنه يدعو إلى تنقيح الأحكام المسبقة في أذهان المفسرين، وأنه يدعو إلى اكتشاف المعنى القرآني المراد لله عزَّ وجلّ، وزعم أنَّ هرمنيوطيقاه لا تتناقض مع هذه المبادئ والأصول التفسيرية العامة يحقق، بيد أنَّ الاعتقاد برمزية اللغة القرآنية، وبعدم وجود المضامين الخبرية للنصِّ القرآني، من شأنه أن يفضي بنا إلى نتائج تناقض ذلك الاعتقاد، يقول الشبستري: "القرآن يتناول مفردة الجنّ، دون أن يكون في وارد إثبات أنَّ الجنّ موجودون أم لا، سياق الكلام شيءٌ آخر، كأنه يريد أن يقول: الجنّ لو كان موجوداً فهو من الله، ولو كان يتصف بكذا، أو يفعل كذا، فإنَّ اتصافه وفعله منوطٌ بالإرادة الإلهية المحيطة بكلِّ الأشياء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى مسائل أخرى، كأن يقول القرآن بأننا خلقنا الإنسان من طين، أو مراحل نشأة الجنين، بينما حينما نلاحظ مراحل نشأة الجنين اليوم نراها مختلفةً، ويطرح سؤالٌ هل القرآن منسجمٌ مع العلم أم لا؟ بينما الفكرة الجوهرية التي يرمي إليها القرآن من ذكر مراحل الجنين هي أنَّ هذه المراحل كيفما كانت فإنَّ مردَّها إلى الله الذي لا إله إلا هو، وهذا يعني أنَّ ما جاء من تصويرٍ لمراحل تكوُّن الجنين في القرآن هو تقريرٌ للانطباع الراسخ في ذهن عرب الجاهلية عن هذه العملية، وهو يريد أن يبيِّن للعرب آنذاك أنَّ نشأة الجنين بالشكل الذي تعرفونه هي فعلٌ إلهيٌّ محض، وكذلك سائر الأمور": المصدر السابق، ص 28-29. 

 النقطة الثالثة: بناءً على النقطة السابقة، فإنَّ جميع الدلالات القرآنية ليس لها وجودٌ أصلاً، إلا دلالة واحدة لا غير، يمكن أن نطلق عليها بحسب تعبير الشيخ شبستري نفسه (بؤرة المعنى)، وهي ها هنا التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك من مسوِّغٍ أصلاً لكلِّ هذا العدد الهائل من الآيات القرآنية التي تدور دلالاتها المباشرة حول مختلف الموضوعات التي لا يشترط فيها أن تكون مطابقةً للواقع، فكان يكفي بالنسبة للنبيّ أن يخبر العرب الجاهليين بهذا المضمون، من دون أن يكلف نفسه عناء الخوض في تلك الموضوعات التي ربما اتضح عدم مطابقتها للواقع، فيكون ذلك سبباً في صدود الناس عن الإيمان بالقرآن، ثمة إشكالٌ آخر، وهو أنَّ اعتقاد الشبستري هذا يتضمَّن معنىً قد لا يكون مقصوداً له، إلا أنه من اللوازم التي لا يمكن التخلي عنها، فإذا كانت الموضوعات التي يطلق القرآن الأحكام بشأنها لا يشترط فيها أن تكون مطابقةً للواقع كما يقول، فإنَّ معنى ذلك أنَّ القرآن لم يوحِ به الله إلى النبيّ، لأنَّ القصور المعرفي إن صحَّت نسبته إلى النبي بصفته إنساناً في نهاية الأمر، فإنه لا يمكن أن يُعزى إلى الله عزَّ وجلَّ بطبيعة الحال، فلا يعقل أن يكون كلام الله مخالفاً للواقع في حالٍ من الأحوال، وتأسيساً على ذلك، فإنَّ القرآن إن كان بهذه الصفة التي يذكرها الشبستري لا بدَّ أن يُعزى إلى النبي نفسه، فتكون النتيجة هي أنَّ النبيّ افترى القرآن افتراءً ونسبه إلى الله زوراً وبهتاناً، فتنتفي نبوَّة النبي التي يتأسس عليها كلّ بناء الإسلام.

الحقيقة أنَّ الدكتور شبستري ينكر الأهمية الكبيرة التي تتمحور حول إثبات نبوة النبي في نظر المتكلمين المسلمين، فالمسألة المهمة التي ركَّز عليها الوحي القرآني تتمحور بالذات حول إثبات وجود الإله فقط، خلافاً لما عليه الحال في الديانة المسيحية، فبحسب وجهة نظر الدكتور شبستري تختلف طريقة تعاطي عيسى مع مفهوم الله بين بني إسرائيل عن طريق تعاطي النبيّ محمدٍ مع مفهوم الله بين مشركي مكة، لأنَّ بني إسرائيل "كانوا مؤمنين بالله، وحينما تكلَّم عيسى لهم عن الله وزعم أنه الحقّ، بدر إلى أذهانهم السؤال هل إنَّ الله حقيقةً يتكلم؟ ومن هنا يطرح التساؤل المشروع حول مدى حجية قول عيسى وصحة الاعتماد عليه، فهو لا يطرح أصل مسألة وجود الله، لأنَّ وجوده هناك مفروغٌ منه. هو يقول لهم بأنَّ الله الذي تؤمنون بوجوده هو أنا الذي أتكلم...أما على صعيد الدعوة الإسلامية فالأمر مختلف، فالنبي كان بصدد طرح أصل مسألة الله، في البيئة الوثنية كان الله غائباً، فما طرحه النبي في الحقيقة أصل قضية الله، لا كونه مبعوثاً منه، وهذا هو ما أعنيه بطريقة نبوَّة محمد، فالنبي لفت أنظار العرب إلى وجود الله، لا إلى كونه مرسلاً من الله، وبين القضيتين فرقٌ كبير":المصدر السابق، ص35-36، فما يشير إليه الشبستري من مركزية الاعتقاد بأصل وجود الله في الوحي القرآني صحيح طبعاً، ولا تبدو شخصية النبي محمد في القرآن كشخصية النبي عيسى في الإنجيل، من جهة أن عيسى هو الله نفسه هناك، وهو الاعتقاد الذي أبدى القرآن اعتراضه الصارخ عليه في مواضع عديدة منه، لكن ليس صحيحاً أبداً ما يريد الشبستري اثباته من عدم محورية فكرة النبوة في القرآن، يحقق من القران، لأننا لو فرضنا أن المجتمع الوثني اعلن إيمانه بوجود الله وكفر في الوقت نفسه بنبوة النبي، فإن هذا الايمان نفسه يعد مرفوضاً بصريح القرآن، وبناء على هذا فإنه لا يصح ما يقره الشبستري من أن هم المتكلمين في الصدر الأول للرسالة "كان مصروفاً لاثبات وجود الله نفسه، وفي مرحلة تالية ومن خلال التعاطي مع المسيحية ظهر المعتزلة وغيرهم وطرحت قضية إثبات النبوة"المصدر نفسه، ص37، ويقول الشبستري إنه بحث في القرآن ولم يجد شيئاً في هذا الخصوص، إذن ما بال العديد من الآيات القرآنية التي تتناول مسألة إثبات نبوة النبي بشكل واضح، ومنها: تذكر الايات يحقق

 من الواضح أنَّ الغاية الرئيسية التي يتوخاها شبستري من هذه الفكرة هي إنكار الأصل الإلهي للقرآن، وتحويله إلى مجرد تجربةٍ باطنيةٍ عاشها النبي ودعا الناس إليها، وهو ما يصرح به بالقول عن النبي: "إنه يعرض علينا تجربةً حصلت له، ورؤيةً حصل عليها من خلال هذه التجربة، وهذه التجربة مقدسة بالنسبة إليه، وبالتالي هو يقول: هذه تجربتي بين أيديكم، تفضلوا وانظروا للعالم من خلالها، هذه طريقتي لفهم الوجود، خذوها واستفيدوا منها، فهي ليست سوى طريقةٍ للوصول إلى كنه العالم وحقيقة الكون، وليس لها موضوعيةٌ بحدِّ ذاتها، طريقةٌ لفهم الكون، وأنا أرى الكون من خلالها مختزلاً في شيءٍ واحدٍ وهو الله. (لا إله إلا الله) أسلوبٌ لفهم عالم الوجود وليست قضيةً خبريةً تقبل الصدق والكذب" المصدر نفسه ص31-32.

يترتب على هذا القول ان التجربة النبوية للنبي محمد ما هي الا تجربة وجدانية شخصية ليست ملزمة لأحد ولا يتوجب على المجتمعات اللاحقة التصديق بمضامينها الخبرية ومن الواضح أن المضمون الخبري نفسه إذا ما تم رفضه لا يعود للمضمون التفسيري الذي يركز عليه الشبستري أهمية بالغة، لأنه تفسير خاص لا يعني إلا صاحبه في نهاية المآل، بل إن الشبستنري يتنزل في صياغة المضمون النهائي للتجربة النبوية إلى حد تشبيهها بالتجربة الشعرية، فيعتبر أن "نظم الشعر والشاعرية تشبه النبوة كثيراً، النبوة والوحي في أفق قريب من الشاعرية، على سبيل المثال حينما أصبحت السماء رمزاً وآية للشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، ينقل هذه التجربة ويقول (ماهذا السقف البسيط المرتفع الملون) لا يوجد عارف في العالم يعلم هذا اللغز، النبي لم يكن بصدد اثبات نبوته، والمنكرون أيضا لم يكن همهم من الانكار هو نكران نبوة محمد بعد التسليم بأصل الالوهية، بل انهم ينكرون الإله الذي يتكلم عنه محمد من الأساس، لست (نبيا) يعني لم تخض تجربة وتكذب في ادعائك" تذكر الصفحة يحقق، قضايا إسلامية معاصرة، فاذا سلمنا بما يذهب اليه الدكتور شبستري توجب علينا الاقتناع بأن النبوة ما هي الا تجربة شخصية يمكن لأي عارف أو شاعر أن يخوضها وأن يقطف ثمراتها ويقدمها للناس، شريطة أن تتمحور حول وجود الله، لأنه:

1- ليس مهماً ان يكون مرسلاً بالفعل من الله، فكل ما هو مطلوب منه هو أن يمتلك تجربة باطنية تتمحور حول وجود الله، ولا عبرة بعد ذلك بأن يكون الله بالفعل قد كلفه بأداء الرسالة.

2- ليست هناك دلائل حقيقية تشير إلى تميزه عن غيره من أدعياء النبوة، فلا هو مطالب بالمعجزات الدالة على نبوته، ولا هو مكلف بأن تكون المعلومات التي يقدمها للناس صادقة في مضامينها الخبرية، فلا ضير بأن يقدم معلومات خاطئة او أن يقر الناس على الاعتقادات الفاسدة شريطة أن يتمحور جميعها حول فكرة وجود الله، وهو ما يمكن ان يفعله جمهور من العرفاء والمبدعين كما هو واضح.

3- يوجد عدد هائل من المفكرين والفلاسفة والعرفاء والمتصوفة في التأريخ، قدموا أفكاراً ونظرات عميقة كان فحواها الإحالة على الله، فبناءً على رأي الدكتور سروش يمكن لنا أن نعتقد بأن هؤلاء انبياء، فاي فرق بينهم وبين النبي مادام هذا الأخير يمكن ان يقدم للناس معلومات سوف يثبت التاريخ خطأها في المستقبل، وما داموا غير مطالبين بأن يكون كلامهم مطابقا للواقع من الناحية الخبرية للحكم عليها اما بالصدق او الكذب، فاذا كان كلام الشاعر ابن الفارض او حافظ الشيرازي او مولوي متمحورا حول مسالة الإحالة على الله، فان هذا وحده كاف لاتصافهم بالنبوة على هذا القياس.

 

د. باسم الحسناوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم