صحيفة المثقف

دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة (1)

محمود محمد عليمما تختص به تعاليم الدين الإسلامي صفة الشمول والاستقصاء، سواء فيما تدلي به من الحقائق عن الكون نشأة مصيرا وتدبيرا، أو فيما تتناول فيه حياة الإنسان اعتقادا وسلوكا.

وقد كان لهذه الصفة أثرها العلمي العميق علي الفكر الإسلامي عامة؛ والفكر الكلامي خاصة، حيث قد تطبع بوحي من التعاليم الشاملة علي سعة في مناحي النظر وشمول في مواضيعه الطبيعية والميتافيزيقية، فأصبح له هذا الشمول خاصية ثقافية مميزة، صارت معها كل موضوعات الفكر مادة له، كما تشهد بذلك مؤلفات أبي الحسن الأشعري (ت:324هـ - 935م)، وأبي بكر الباقلاني (ت: 403هـ - 1013م)، والإمام أبي المعالي الجويني (ت: 478هـ) والإمام أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ)، و" فخر الدين الرازي (ت: 606هـ)، و" سيف الدين الآمدي (ت: 631هـ) و، والبيضاوي (ت: 685هـ) وعضد الدين الأيجي (ت: 756هـ) وغيرهم من أعلام الأشاعرة.

إلا أنه محافظة علي صفاء الحقائق الدينية، كما جاءت بها تعاليم الوحي خدمة للغرض الديني الآسمي الذي هو صلاح العباد بتلك الحقائق، فقد تطبع الفكر الأشعري إلي جانب ذلك الشمول في التوجه علي صفة من الاحتراز والنقد لإسقاط ما عسي أن يسيئ إلي حقائق الدين مما أنتجه العقل .

فجاء التراث الإسلامي تسير فيه جنبا إلي جنب النزعة النقدية المتأنية بالاحتراز والنزعة التقريرية الواسعة المتأنية بالمشول . بهذه العقلية الشاملة الناقدة اتجه الأشاعرة منذ مطلع القرن الرابع الهجري إلي علوم الأوائل متخذين منها ما يساعد علي تحقيق الغرض الديني ويرد منها ما يؤدي إلي الحيلولة دونه .

ولما كان فلاسفة المسلمين في ذلك العهد، تغلب عليهم الثقافة اليونانية، فقد امتد الفكر الأشعري إلي هذا العلم بالدراسة بعد ترجمته إلي اللسان العربي في حركة الترجمة الشهيرة في العهد الأول من الحكم العباسي هذا من ناحية، وإلي مؤلفات ابن سينا المنطقية من ناحية أخري.

ولئن كانت جولة النقد والتقدير بعد الاطلاع والدراسة، قد شملت جميع أجزاء هذا العلم من منطق وطبيعيات وإلهيات، فإنها لم تبلغ من الأهمية، ولم يقع فيها من اللجاجة في أي جزء منها منه كما كان في الجزء المنطقي .

ولعل السبب في ذلك هو أن المنطق كان ينظر إليه من جانب البعض باعتباره منهجا في التفكير أدي إلي القول بآراء تعارض الدين وتتناقض مع بعض أصوله.

لذلك فقد أسفر التوجه الفكري الناقد للمتكلمين إلي هذا العلم عن تردد في موقفهم العام بين قبوله ورده، مقالا في مؤلفات خاصة، حالا في سائر مؤلفاتهم، فنشأت من ذلك حركة شارك فيها معظم متكلمي وفقهاء الأشاعرة وتقابل فيها التهجين والنقد مع القبول والتأكيد علي نحو ما نري في كتب أبي حامد الغزالي، وخاصة في " معيار العلم" و " محك النظر" و" القسطاس المستقيم"، وكتب " جلال الدين السيوطي " (ت: 911هـ)، وخاصة " صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" .

وربما كان اختلاف علماء الكلام في موقفهم من هذا العلم راجعاً إلي التطور الذي طرا علي المذهب الأشعري، وكان هذا التطور قد اتخذ مساراً من شأنه أن يقرب بين وجهات النظر المنطقية التي أخذ بها فلاسفة المسلمين؛ وبخاصة ابن سينا، وبين وجهات النظر الدينية والعقائدية التي كانت تمثل أساساً للمذهب الأشعري .

وعلي أية حال فإن معظم علماء الكلام أصبحوا ينظرون إلي المنطق نظرة مخالفة عن سابقيهم من أصحابهم، ومن ثم أولوا اهتماما للمنطق، حقق لديهم اقتناعا بصلاحيته وقدرته علي التبليغ إلي الحق وتأثروا به فيما أنتجوه من آراء كلامية وفقهية، إذ أن المنطق كما يقول الغزالي " القانون الذي يميز صحيح الحدود والقياس، عن فاسدهما، فيميز العلم اليقيني كما ليس كذلك، وكأنه الميزان والمعيار للعلوم كلها ".

ولذلك قد لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن المدرسة الأشعرية تعتبر من أهم وأشهر المدارس والفرق الكلامية في الإسلام . ويمثل رصيدها العلمي والثقافي الذي خلفه مفكروها وعلماؤها، وأودعوه بطون مؤلفاتهم منذ نشأتها وخلال مراحل تطورها علي مر العصور، قدراً من التراث الفكري الإسلامي بوجه عام، ومن الجانبين الديني والفلسفي لهذا التراث علي وجه الخصوص، ولا تنحصر عظمة هذا القدر في كمه فقط، بل تتجاوزه إلي حيث الكيف والمحتوي . ذلك أن المذهب الأشعري بمضامينه الفكري كان يحظي في كل عصر من عصور التاريخ الإسلامي بدرجة أو بدرجات من النمو والتطور والازدهار بفضل ما توافر له من ظروف وعوامل عديدة ومتنوعة ضمنت لهذا المذهب استمراريته حتي عصورنا هذا رغم أفول كثير من المذاهب استمراريته حتي عصورنا، هذا رغم أفول كثير من المذاهب والفرق الإسلامية التي ظهرت قبل الأشاعرة كالخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم .

ويمكن القول، بأن ظهور المذهب الأشعري، كان في وقت انتشر فيه المذهب الإعتزالي، ذلك المذهب الذي انبثق من حلقة " الحسن البصري (ت:110هـ)" السلفية مؤكدا منذ البداية دور العقل في مقابلة النص، من حيث المنهج، ومؤثرا التنزيه الإلهي والوحدانية، ولو علي حساب صفات الكمال الأخرى من الجانب الإلهي ومتشبثاً بفكرة الحرية والاستقلال بالنسبة للجانب الإنساني، تطبيقاً للعدل الإلهي، وقد طغي لديه الاتجاه العقلي المسرف نحو التنزيه والتجريد، بالنسبة للمعتزلة، هو وقوعهم في شئ من التغالي في الاعتداد بالعقل (وذلك في نظر الأشاعرة)، والزهادة في النص الديني؛ وعلي الأخص الحديث النبوي الذي سلطوا عليه مقياسا نقديا يناسب الآراء التي ذهبوا إليها .

وفي القرن الثالث الهجري بدأ نجم المعتزلة الأوائل في الأفول، فقد كان أهل السنة ينظرون إليهم بعين الكراهية، ولقد حملوهم مسئولية الفتن والاختلاف، فضلا عن أن المجتمع الإسلامي قد ضاق ذرعا بتصورهم العقلي الجاف للموضوعات الإلهية، ولم يكن في نظريات المعتزلة ما يشبع العاطفة الدينية للرجل العادي، ولم يكونوا يأبهون بأن يجيبوا العامة في آرائهم، فقد عاشوا كأي فرقة تستند إلي العقل كأنهم فئة فكرية أو أقلية مثقفة يسودها الاستعلاء الفكري علي تصورات العامة ووجدانهم، بل إن في آراء المعتزلة ما يصدم عواطف الجماهير، ولم يترددوا في إعلان هذه الآراء في المواقف التي تقتضي العاطفة والمشاركة الوجدانية ، من حيث الآراء إنكار الشفاعة في الكبائر أو عدم نفع الدعاء أو الاستغفار للميت.

هذا وقد كانت تسود العصر حاجة فكرية ملحة إلي الحلول الوسطي والآراء المعتدلة، وليس أدل علي ذلك من ظهور الإمام " أبي الحسن الأشعري (ت: 324هـ)"، وكان ظهوره علي مسرح الدراسات الكلامية تطوراً هائلاً في المنهج الذي كانت تستخدمه المعتزلة، وهو منهج الذي اعتمد في جانب كبير منه علي النظر العقلي، من حيث أنهم استخدموا بعض الأقيسة والإلزامات وعمدوا كثيراً إلي ضرب الأمثال واستخلاص الأحكام من المعاني المتضمنة في النصوص.

ونجد أن الأشعري قد جعل هذا المنهج أكثر إحكاما ودقة بتأثره الشعوري أو اللاشعوري بمنهج المعتزلة؛ وخاصة وأنه كان تلميذا نابهاً من تلاميذ " أبي علي الجبائي المعتزلي (ت: 303هـ)"، وأكثر من ذلك محاولة الأشعري الاستفادة مما ورد في أورجانون أرسطو؛ وخاصة في " التحليلات الأولي" و " الطوبيقا" و" السوفسطيقا"، وتطبيقه علي الكثير من المشكلات الكلامية.

ويشهد كتاب " الإبانة عن أصول الديانة " بمقدار تأثر الأشعري بالمنطق الأرسطي، فقد أصبح القياس الأرسطي، هو الشكل المقبول للتفكير، كما أن جزءً كبيرا من القواعد المنطقية المختلفة التي تضمنها كتاب " الطوبيقا"، قد طبق علي بعض المشكلات الكلامية .

فلقد تميز الأشعري بموهبة جدلية فائقة، مثل المعتزلة الأوائل، ثم أضاف إليها " طريقة فنية"، لم يعرفها هؤلاء . وقد تلقي فن الحوار والجدل من الفلاسفة المعاصرين له، ومما قرأه في الكتابات الأرسطية؛ وبخاصة " الاورجانون الأرسطي "، الذي كان قد ترجم بالفعل إلي اللغة العربية، هذا من جانب تأثره بأستاذه " أبي علي الجبائي" من قبل .

والواقع أن المنهج الأرسطي، يبدوا أنه قد أثر تأثيرا بالغاً في الأشعري الذي أصبح " القياس" لديه، هو الصيغة المألوفة في البرهنة.

والمتأمل لكتاب " الإبانة عن أصول الديانة" يجد أن الأشعري يناقش في هذا الكتاب آراء خصومه من المعتزلة بالكثير من النظام والوضوح، وهو يعرضها أولاً باختصار، ثم يعرج بعد ذلك إلي دحضها، ويستعرض كل وجوه المسألة الواحدة، مقدما حول كل نقطة البراهين المضادة، وينتهي بالاختيار بين الإيجاب والنفي، إما حسب النص أو تبعاً لتفرقة جديدة .

كما يحاول الأشعري عن طريق التقسيم والتصنيف أن يقيم شكلا من القياس، وقد أتاحت له الصيغة التالية: "فإن قال – قلت " أن يستقصي كل الفروض الممكنة حول المشكلة التي يتناولها . هذا إلي جانب براعته في تليل اللفظ مسايرا المنهج الذي طبقه أرسطو في دراساته عن المترادفات والجناس .... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم