صحيفة المثقف

انحطاط الفكرة العراقية.. قانون مؤقت لقوى مؤقتة

ميثم الجنابيالعراق نقد الواقع وتأسيس البدائل (11)

لقد حاولت البرهنة في المقالات السابقة على أن تاريخ العراق السياسي الحديث كان وما يزال محكوما بهيمنة الراديكالية السياسية وطابعها المغامر، بوصفه احد المصادر الفعلية للاستبداد السياسي. ومن خلاله جرى تحطيم فكرة الإصلاح وتخريبه لقيمة ومعنى التراكم الضروري في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وليس مصادفة أن يتحول «المؤقت» إلى مظهر الثبات الوحيد في بنية السلطة والدولة، وبالتالي في كل مقومات الحياة ونظام الوجود. ولا يعني ذلك من الناحية العملية سوى تخريب كل نظام ووجود، باستثناء آلية الفوضى وإعادة تنشيطها من خلال العنف الأهوج. وهي الحالة التي وضع انقلاب الرابع عشر من تموز ثغرتها الأولى في أسس الدولة الفتية. بينما جرى لاحقا توسيعها بقوة أشد واعنف. من هنا اشتراك جميع دساتير الجمهوريات الثلاث (1958، 1964، 1968) في كونها دساتير مؤقتة.

وبغض النظر عن اختلاف المقدمات السياسية والنيات الفردية والحزبية وراء «المؤقت» في الدستور، إلا أنهم اشتركوا في النتيجة. وهو اشتراك كانت تحدده من حيث الجوهر طبيعة النفسية الراديكالية وذهنيتها المغامرة.

ففي دستور 1958 نقرأ ما يلي:"رغبة في تثبيت قواعد الحكم وتنظيم الحقوق والواجبات لجميع المواطنين نعلن الدستور المؤقت هذا للعمل بأحكامه في فترة الانتقال إلى أن يتم تشريع الدستور".

وفي دستور 1964 نقرأ ما يلي:"نعلن هذا الدستور المؤقت الذي ثبتت فيه قواعد الحكم ونظمت به علاقة الدولة بالفرد والمجتمع ليعمل به مدة فترة الانتقال، التي نرجو ألا يطول أمدها حيث يوضع دستور البلاد الدائم الذي تكون الكلمة الأخيرة فيه للشعب".

وفي دستور 1968 نقرأ ما يلي:"نعلن هذا الدستور المؤقت الذي ثبتت فيه قواعد الحكم ونظمت به علاقة الدولة بالفرد والمجتمع وليعمل به حتى يوضع دستور البلاد الدائم الذي ستكون فيه الكلمة الأخيرة للشعب". وتعكس هذه الصيغ نوعية وحجم الانغماس في مغامرة المؤقت من خلال تحويله إلى صيغة لا يمكن حدها. بحيث تحول المؤقت إلى دائم! فالمؤقت يفترض التحديد، لأنه مؤقت، بينما نلاحظ تمديده بالعبارة بطريقة ميعت حتى فكرة الزمن.

ففي دستور 1958 جرى وضع المؤقت بعبارة "في فترة الانتقال"، وفي دستور 1964 بعبارة "مدة فترة الانتقال"، وفي دستور 1968 بعبارة "حتى يوضع دستور دائم". إننا نرى هنا ازدياد كلمة "مدة" وهي من المديد والامتداد، بينما بلغت ذروتها في الصيغة الأخيرة "حتى". وحتى غير متناهية. وبغض النظر عن التلاعب الممكن في الكلمات، فإن التجربة اللاحقة تبرهن بصورة قاطعة على بقاء الدستور مؤقتا حتى سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

لقد كشفت هذه التجارب المريرة عن حقيقة واحدة بهذا الصدد وهي أن الدستور لم يكن بالنسبة للقوى السياسية ونفسيتها الراديكالية أكثر من ورقة مقامرة ومغامرة في لعبة مصالحها الضيقة. وهي لعبة فعلا، لأنها لم تكن تتمتع بأية رؤية واقعية وعقلانية وطنية حقيقية. أنها لم تكن أكثر من ممارسات حزبية هي خليط من مؤامرات وانقلابات ومغامرات معجونة بذهنية الهامشية والحثالة الاجتماعية. أما النتيجة فتقوم في تحول الدستور إلى وثيقة صنع المؤقت في كل شيء بما في ذلك في الهوية الوطنية. وليس غريبا أن تنهار الدولة أمام أول هجوم خارجي، كما انه لم يعد مستغربا أن تقف «القوى الوطنية» إلى جانب محتل كان للامس القريب هو «عدوها اللدود» الفكري والعقائدي والسياسي والروحي والعسكري!! بحيث يصبح عدوها المطلق حليفها المطلق!! وهي حالة لا يحسد عليها المرء أيا كان، لكنها كانت النتيجة المتراكمة من إفراغ فكرة الحق والحقوق، ومن ثم المواطنة والوطنية، التي جعلت من السلطة دولة، ومن الدولة وطنا، ومن الوطن مستعمرة صغيرة لطغمة اصغر! وهو انقلاب معكوس للفكر والواقع على السواء أدى إلى أن يكون الوطن دولة والدولة سلطة والسلطة حفنة صادرت الوطنية والهوية والعراق من خلال جعل نفسها، كما سجلته في دستورها الذي قدمتها على انه قانون العراق، وضعته «فئة بارة من أبناء هذا الشعب مؤمنة بربها»!! بينما كشفت الأحداث التاريخية عن أن هذا الرب لم يكن أكثر من شيطان مارد أثار في نهاية المطاف زوبعة المآسي الدموية وكللها بعروس «الحكم المؤقت» المحمولة على حراب القوى الأجنبية!

لقد كانت هذه النتيجة الثمرة المرة للخروج على فكرة الحق والحقوق وجوهرية الدستور بالنسبة للفكرة الوطنية وهوية الانتماء. وما زال مفعول هذه الثمرة الخبيثة ساريا في التجربة الدستورية الأخيرة. وسوف تبقى كذلك ما لم يتحرر العراق فعلا من تأثير الغزو الأجنبي ورذيلة الراديكالية السياسية وانحطاط النخبة والأحزاب السياسية. وهي عملية غاية في التعقيد بسبب ثقل الإرث الخرب للماضي وثقل الخراب الكامن في النخب السياسية الحالية في العراق ومستوى الحثالة الاجتماعية فيه.

فقد كان (مجلس الحكم المؤقت) وكيفية صعوده إلى السلطة ونسخ روحه في مؤسسات الدولة الناشئة فضيحة سياسية سوف يضعها التاريخ اللاحق في موقعها المناسب. لكننا حالما ننظر إليها بمعايير العلم السياسي وبالأخص من وجهة نظر دراسة أهمية وأثر الفكرة الحقوقية بالنسبة للهوية الوطنية، فإن الاشتراك الفعال للأحزاب والقوى السياسية في (مجلس الحكم الانتقالي) كان محكوما بنوازع الغنيمة والاستحواذ على الثروة والقرب من إدارة المحتل. من هنا قبولها الخنوع والذليل لكل القرارات والإجراءات والقوانين واللوائح مهما كان نوعها وحجمها. بمعنى افتقادها إلى الحد الأدنى من الاعتزاز بالنفس. وليس المقصود بذلك العزة الشخصية، بل العزة السياسية، أي تلك التي تستمد مقوماتها من الإدراك الواقعي للمصلحة الوطنية. حينذاك يمكن للانحناء والانكسار والتقهقر والإقرار بالهزيمة أن تكون بطولة أيضا. وذلك لأنها تهدف إلى تجميع القوى وتركيز الطاقة الاجتماعية بالشكل الذي يجعلها قادرة على تحدي نفسها أولا والمشاكل الفعلية الكبرى والصغرى ثانيا. ومن ثم تصبح مقدمة الانطلاق الوطني الديناميكي. بينما لم نر سوى ملامح الفرح المغرور بالنفس والابتسامات العريضة الباهتة والتزلف غير المتناهي للوقوف أمام عدسات التصوير والإسهاب والإطناب الفارغ في الكلام عن كل شيء. وهي صفات أو مظاهر أصبحت "العلامة الفارقة" للقوى السياسية "الجديدة"، التي كانت الوقائع والعينيات اليومية الصغيرة بما في ذلك في أتفه وأدق أشكالها ومظاهرها العادية، ترمز إلى شيء واحد فيها وهو أنها قوى مرهون فعلها ووجودها بقوة الاحتلال. بعبارة أخرى، أنها لم تتعامل مع قوى الاحتلال بمقاييس الواقعية العقلانية للمصلحة الوطنية، بل بغريزة حب الجاه والثروة. وهو أمر يشير إلى فقرها المادي والروحي والمعنوي. وهو فقر كان يصعب معه توقع شيء يحكم سلوكها غير نفسية الغنيمة والاستحواذ. لقد كان الهمّ الوطني آخر همومها. وفي حال افتراض وجوده فانه لا يتعدى «وطن الغنيمة» فقط! أي جغرافيا المصالح الأنانية. وكشفت هذه النتيجة عن نفسها بصورة نموذجية في كيفية مناقشة وقبول ما يسمى بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.

فقدا كان هذا "القانون" الصيغة الأولى في انتهاك معنى القانون بشكل عام ومضمون الفكرة الوطنية العراقية بشكل خاص. وهو انتهاك مركب للفكرة الحقوقية والفكرة الوطنية. من هنا دوره التخريبي الهائل في هذا المجال. أما التطور اللاحق، الذي يبدو في بعض مظاهره تحسينا للوضع الحقوقي وتثبيتا لأسس الدولة، فإنه ليس النتاج الطبيعي «لقانون إدارة الدولة»، بقدر ما هو النتاج النهائي لإرهاصات الصراع الاجتماعي والسياسي. وهي إرهاصات سوف تعيد النظر بكل محتوياته من اجل إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية بمضمونها التاريخي التلقائي.

فالفكرة الوطنية لا يمكنها أن تكون نتاجا لقانون أجنبي مهما كان متكاملا وجيدا في مواده وفقراته. و«قانون إدارة الدولة» يحتوي دون شك على قدر كبير من الفكرة الحقوقية، لكنه ليس قانونا بمحتواه التاريخي والأخلاقي، بقدر ما هو قواعد إدارة المؤسسات المفككة للدولة العراقية من اجل تمديد حالة الاحتلال وإحكام السيطرة البعيدة المدى على القوى والأحزاب المشتركة في «العملية السياسية». فالقانون القادر على صنع الهوية الوطنية هو منظومة تحدد بشكل ديناميكي أولويات المصالح الوطنية العليا وآلية تحقيقها الفعلي. ولم تدخل هذه المهمة في هواجس أو نيات «قانون إدارة الدولة»، كما انه لم يكن نتاجا، وهنا جوهر القضية، لمعاناة العراقيين أنفسهم في إرساء أسس الشرعية بوصفها قاعدة الفكرة الوطنية. وبهذا المعنى يمكننا القول بأن المضمون السياسي والتاريخي والأخلاقي لما يسمى «بقانون إدارة الدولة» كان يناهض ويخرب الفكرة الوطنية. فقد كان يمثل من حيث صيرورته وكينونته انتهاكا فظا لفكرة الحق والحقوق من حيث كونها تعبير عن معاناة الأمم في بلوغ ما يوافق ارتقاءها الذاتي. فالحق والحقوق هي الثمرة الأكثر رقيا للتفكير العقلاني والروح الأخلاقي. وعندما يجري صياغته من قوى أجنبية، مهما كانت نوازعها وغايتها، ومهما كان مستوى تأسيسها لفكرة الحق والعدالة، فإنه دليل أما على ضعف ذاتي للأمة أو تبعيتها الذليلة. وفي كلتا الحالتين يصعب تحقيق فكرة العدل والحقوق بوصفهما منظومة في بنية الدولة والمجتمع والفكر.

من هنا كانت تجارب العراق الدستورية، بما في ذلك أكثرها خرابا وتخريبا جزء من وعيه القانوني. وذلك لطابعها التأسيسي، بما في ذلك في محاولاتها الراديكالية الفجة. إضافة إلى ما فيها من نزوع تجريبي بوصفها تجارب أولية. وهو وعي لم يتكامل بعد في ما يتعلق بالفكرة الوطنية. في حين لم يكن «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» سوى تأسيس جديد بقوى أجنبية لفكرة المؤقت التي شكلت عصب الانحلال التدريجي للفكرة الوطنية والهوية العراقية. فقد أعاد هذا القانون نفسية وذهنية التجزئة الحزبية من خلال إدخال عنصر العرقية والقومية الضيقة للأقليات، والكردية منها بشكل خاص. بمعنى انه ادخل جرثومة التآمر السياسي لإحدى القوى القومية الأشد تخلفا في ميدان الفكرة الاجتماعية والحقوقية. فقد كانت الحركة القومية الكردية منذ نشوئها ولحد الآن تجسيدا نموذجيا لنفسية المؤامرة والمغامرة. أنها تشبه في نفسيتها وذهنيتها الحركة القومية العربية كما جسدها حزب البعث في العراق ولكن بفارق جوهري وهو أن البعث كان له شيئا من التاريخ والدولة بينما القوى الكردية لا تمتلك سوى الاستعداد للمراوغة والخيانة. لقد كان إدخال هذا العنصر السيئ في "العملية السياسية العراقية" يحتوي على قدر هائل من المغامرة السياسية للفكرة الوطنية بوصفها منظومة حقوقية. بعبارة أخرى، كان ينبغي الإبقاء على الحركة القومية الكردية خارج إطار «اللعبة السياسية» الجديدة بعد سقوط صدام لكي يتسنى ترتيب الوضع العراقي. وبعدها فقط يمكن إيجاد الصيغة الواقعية والنسبة المعقولة لكيفية إشراك الأكراد في الشئون العراقية من اجل اندماجهم التدريجي فيه أو إخراجهم منه.

غير أن الأحداث السياسية قد جرت هنا من خلال المعادلة السياسية الأمريكية المتحكمة بضعف القوى السياسية العراقية التي كانت بدورها نتاجا للانحراف الشامل عن الفكرة الحقوقية للهوية الوطنية كما جسدتها الدكتاتورية الصدامية. أما النتيجة فقد كانت سلسلة من التكتيكات العلنية والسرية التي تهدف في مراوغتها إلى «إشراك» الجميع بالشكل الذي يجعل منهم قوى تتحرك في صراعاتها الداخلية واتفاقاتها برؤية المحتل. وقد تتفق هذه الرؤية وقد تختلف مع المصالح الوطنية العراقية العامة، إلا أنها تبقى مغتربة في نهاية المطاف عن ضرورة الطابع التلقائي لتراكم الفكرة الوطنية. لاسيما وأنها الضرورة الملازمة لأسلوب تحقيقها الفعلي.

وفي هذا يكمن سر تحول فكرة الحقوق إلى جزء من الصراع السياسي الحزبي والمصالح الضيقة. وهو صراع لم يكن محكوما بالفكرة الوطنية لأنها لم تشغل من حيث الجوهري وعي أي من الأحزاب السياسية. وهو واقع يمكن العثور عليه من خلال تأمل برامج الأحزاب السياسية جميعا.

فقد كانت الفكرة الوطنية جزء من مشاريعها السياسية الحزبية. من هنا استعدادها للخيانة الوطنية والاجتماعية عبر التحالف مع أي كان من اجل بلوغ مآربها الخاصة. مما أدى إلى سحب البساط مسبقا من إمكانية تأسيس الفكرة الوطنية على أسس حقوقية. وهو ضعف ساهمت به جميع القوى "المؤتلفة" آنذاك في (مجلس الحكم الانتقالي). وسبب ذلك يقوم في أنها جميعا كانت محكومة بقوتين تكمل إحداهما الأخرى وهي كل من الوصاية الأجنبية ونفسية الاستحواذ والغنيمة. وكلاهما كان يعمل على إفراغ معنى وحقيقة الفكرة الوطنية والهوية العراقية من مضمونها الذاتي. وهو إفراغ كشف عن نفسه في تحول "الائتلاف" المتراكم في "الصراع ضد صدّام" إلى صدام دفين وعميق من اجل الحصول على غنيمة السلطة أو الأرض أو الثروة أو جميعهم. وهي الصفة التي كانت أكثر بروزا بين ممثلي الحركة القومية الكردية بسبب بنيتها التقليدية ونفستها المغلقة وضعف اندماجها الوطني العراقي. في حين كان الهمَّ الفاعل في سياسة القوى الأخرى محكوما في الأغلب بكيفية اغتنام السلطة أو تثبيت أزلامها فيها. وليس مصادفة أن تجتمع وتأتلف قوى لا يجمعها شيء غير الكراهية للسلطة السابقة. وهي صفة مشتركة لا تصنع اشتراكا، لأنها بحد ذاتها مصدر للشقاق. غير أن المصالح السياسية الآنية قد تجعل المحبة كراهية والكراهية محبة والنفاق فضيلة والإخلاص رذيلة. من هنا تحول الشيوعي إلى شيعي، والشيعي إلى حليف للأمريكيين، والقومي إلى نفعي يصعب تحديد ماهيته، والليبرالي إلى متاجر مغامر، والوطني إلى عدمي، والملكي إلى جمهوري، والجمهوري إلى ملكي، والجبلي الى مدني، والاقطاعي الى ديمقراطي! وهو خلاف ظاهري يعكس مستوى التمثيل البياني للانحطاط السياسي في الفكرة الوطنية. فقد كانت القوى «المؤتلفة» في مجلس الحكم الانتقالي مجرد مواد أو مكونات حصان طروادة «المدني». وهي هيئة قد لم تفكر بها أو لم تردها هذه القوى نفسها، إلا أن مجرد اندماجها التام في خطة الاحتلال عوضا عن الابتعاد عنها أو وضع أسس وطنية فعلية في التعامل معها، جعل منها بالضرورة قوى ضعيفة ومفككة. من هنا انحصار محاولاتها "الجريئة" في حمية الحصول على الجاه والثروة والسلطة. وهي عملية بدأ التنافس الشديد حولها مع أول سقوط للسلطة من خلال الاستيلاء على الأموال العامة والبنوك وسرقة كل ما يمكن سرقته.

وبغض النظر عما إذا كان ذلك مقصودا من جانب قوى الاحتلال لمعرفة معدن القوى السياسية الفعلي أو لإشراكها في جرائم يمكن ابتزازها بها في وقت لاحق، أو لكليهما، إلا أن جوهر القضية هنا يقوم في أن الانهماك في السرقة أو المشاركة المبطنة بها أو إظهار اللامبالاة الكئيبة في أفضل الأحوال بما في ذلك تجاه سرقة الكنوز التاريخية الأثرية للعراق وإحراق أو تلف كل ما يعترض أنظار المخربين والمتطفلين، كان يعكس الوجه الحقيقي لفقدان أو ضعف الفكرة الوطنية العراقية. من هنا لم يكن صراع هذه القوى اللاحق وتغير التحالفات والولاء من طرف إلى آخر، إضافة إلى التمسك «بشرعية» الاتفاقات المعقودة بينها بصدد العراق دون حصولها على أي تخويل شرعي أو شعبي أو طني، هو العبير الواقعي عن طبيعة وحجم الانحطاط الحقوقي في الموقف من الفكرة الوطنية.

وقد حدد ذلك بدوره طبيعة "الصراع" حول (قانون إدارة الدولة)، الذي كان في أعماقه انتكاسة عميقة، من حيث مضمونها التاريخي، في الفكرة الوطنية. فقد كانت كل نواقص «القانون» من نقص القوى المكونة لمجلس الحكم الانتقالي. وفي نهاية المطاف لم يكن القبول به أو "الرفض" أو الاعتراض اللاحق سوى جزء من مهاترات الابتذال السياسي. ويعكس هذا الابتذال ابتذال الفكرة الوطنية في الأفعال السياسية لتلك القوى. فقد كان همها الأساسي هو الحصول على "وفاق" يضمن مصالحها، أي أن الهمّ الوطني المرفوع إلى مصاف همّ الدولة كان معدوما. بينما هو الضمانة الوحيدة للرؤية الوطنية. في حين أن ما جرى قبل وإثناء وبعد ظهور (قانون إدارة الدولة) فهو تعبير نموذجي عن مستوى الانحطاط في الفكرة الوطنية بين القوى التي عملت على إخراجه. ومهما كانت صيغة إخراجه إلى حيز الوجود، فإنه كان يعني من الناحية التاريخية «مساومة سياسية» مع الضمير الوطني لا إخلاص فيها لغير التمتع بأوهام مؤقتة. ولعل اشد هذه الأوهام هو الاعتقاد بأن ما يمكن الاتفاق عليه وتسجيله في "قانون"، يمكنه أن يكون قانونا فعلا في حال خلوه من فكرة الشرعية. بينما لا إمكانية للشرعية في ظل الاحتلال والتحكم المباشر في كل شيء بما في ذلك في كتابة "القانون"!!(يتبع....).

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم