صحيفة المثقف

المؤمن والمتعقل

علي المرهجيتبنى المؤمن مُعتقداً نشأ على الإيمان به لا يعرف مصدره وهو في الغالب الأعم إيمان متأت من مصدر لا شعوري، كأن يكون ديناً أو مذهباً أو أيديولوجية، يُدافع عنه المؤمن جماعته بحكم شيوعه أو توارثه جيلاً بعد جيل، لتجد أصحابه يتخذون من العقل أداة للدفاع عنه وعن صدقيته وحقانيته التي لا تحتاج لكثير تنظير عند المعتقدين إنما بقصد اقناع المخالفين الذين وضعوا من أمامهم سداً ومن خلفهم سداً كي لا يروا شمس الحقيقة التي تحدث عنها إفلاطون في (أسطورة الكهف) فمن لا يرى ما يراه المؤمن فهو أعمى أو على عينيه غشواة ينبغي العمل على رفعها!..

المُتعقل يُمكن أن يكون مؤمناً ولكن بعد اخضاعه لموروثه العقائدي للفحص أو ما أسماه (كارل بوبر) "الدحض" أو "التكذيب"، أي أن المُتعقل لا يُغلب الإيمان على الحكمة، ولا النقل على العقل، فهو يتعقل ثم يؤمن، ولا يقبل أن يؤمن كي يتعقل كما ذهب إلى القول بذلك علماء الكلام المسلمين واللاهوتيين المسيحيين.

المؤمن في الغالب الأعم لا يحتاج للعقل لزيادة إيمانه، إنما يحتاج للعقل للرد على خصومه المخالفين له في المُعتقد، أما المُتعقل فلا يحتاج للعقل للرد على خصومه، بل يحتاج له كي يطمئن قلبه ويزداد معرفة مستقاة من خارج مُعتقده.

العلم عند المؤمن مذموم إن لم يحمل بين جنباته ما يجعله أكثر التصاقاً بعقيدته أو حقيقته الخاصة، بينما العلم عند المُتعقل وسيلة لمعرفة علوم الغير بقصد الانفتاح في الرؤية والبحث عن سبل أخرى لمعرفة الحقيقة.

"البحث عن اليقين" بعبارة مستعارة من عنوان كتاب للفيلسوف (جون ديوي) عند المؤمن وسيلة وغاية، بينما عند المتعقل وسيلة لربما تُخالف بعد سير في طريق البحث عنه القصد والغاية عنده.

لا يبحث المؤمن في المعرفة من أجل المعرفة بل من أجل تبرير متبنياته العقائدية، فيما تجد المعرفة عند المتعقل تُبحث لذاتها او بقصد معرفة أسرار الوجود او الكون التي ربما لا ترسو معها سفينته عند يقينية المعتقد الذي يتبناه إن كان في الأصل مؤمناً.

يشعر المؤمن بأنه يمتلك قوة مُستمدة من الغيب تمنحه الثقة والقناعة التامة بأنه على حق، أما المُتعقل فإنه بحكم سعيه الدائم للبحث عن الحقيقة لا مسوغ مقبول إنسانياً إن إدعى أنه في مسعاه لمعرفة أسباب الوجود انه على يقين، لأنه إنسان كبقية بني البشر يُخطئ ويُصيب، ولا يدعي ولا يشعر أن هناك قوة (غيبية) او (ميتافيزيقية) أو قل أنها (سماوية) تعصمه من الوقوع في الزلل أو الخطأ.

لذا فالمؤمن واثق من إيمانه ولا يقبل التشكيك به، يُقابله المُتعقل الذي لا يرغب بتصدير رؤيته على أنها مُعتقد ينبغي ويجب الوثوق به من دون تأمل وتمحيص وبعد نظر، لأن رؤيته قول بعد تأمل ربما يكون قد أصاب فيه ولك ان تعتقد ببطلانه ببعد نقدك له بدليل، لذا فالشك منهج متبع يرتضيه على نفسه المُتعقل ويقبله من الآخرين المنتقدين لرؤيته.

الحقيقة عند المؤمن معروفة سلفاً، أي أنها كما الشمس أعمى من لا يراها من وارء غربال، بينما هي عند المُتعقل درب وعر ربما من يخوض غماره سيكون حاله حال (كلكامش) الباحث عن عشبة الخلود..

أما ما يتحكم بمسير الحياة الاعتيادية فهو خليط من هذا وذاك، فتمعن وأنعم النظر في طريقة حياتك اليومية ستجد نفسك فيها تارة حالك كحال الشخص المؤمن، وبعد لحظات أو برهة من الزمن ستجد نفسك متعقلاً لا يشبهك ذلك المؤمن الذي كُنت أنت هو قبل حين.

ولا تظن ان هذا الرأي ينطبق عليك أنت الإنسان الاعتيادي، ولكنك سترى من يفوقك علماً وتفوقاً وهو ذاته يجد نفسه في الحياة العادية يحكمه مساران: مسار المُتعقل ومسار المؤمن.

رؤيتنا هذه ستجد تعبيراً عنها في كتابات وسلوكيات كثير من المثقفين والشعراء، بل وحتى العلماء.

لا تظنن بأن منطق الإيمان يختص به الإنسان المُدين الذي يؤمن بدين أو معتقد سماوي كان أم وضعي، بل تجده جلياً في لعبة كرة قدم، أو ثورة شعبية، أو مناسبة جماعية كان تكون عرساً أو كرنفالاً أو تأبيناً. إنه (منطق الجموع) كما أسماه (غوستاف لوبون) في كتابه "الآراء والمعتقدات"، وهو ذات في تبنيه للعاطفة والابتهاج بعطياتها لا يختلف عن المؤمن المُتبني لل "المنطق الديني"، فكلاهما "منطق لا شعوري" بتعبير (غوستاف لوبون)، أو "منطق عاطفي"، وما يُسير المجتمع إنما هو المنطق اللاشعوري أو العاطفي..إنه منطق المؤمن، لأن تعقل الطبيعة - بحسب ما يرى لوبون، إنما هو "عمل الإنسان ضد الطبيعة"، لأن "الطبيعة لا تُبالي بمصير ال٥رد أبداً، وإنما تعتني ببقاء النوع".

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم