صحيفة المثقف

الهوس بالتفرع الثنائي!

منى زيتونمن أوائل المبادئ التي تعلمناها في مادة الإحصاء النفسي والتربوي في الجامعة تصنيف المتغيرات؛ فهناك متغيرات منفصلة كالنوع إما ذكر أو أنثى، أو الالتحاق بنوعية من المدارس (أ)، مقابل نوعية (ب) أو (ج)، وهناك المتغيرات النفسية المتصلة، ولكل متغير منها قطبان، يمثلان نهايتيه العظمى والصغرى، ودرجاتنا تتوزع على تدريج بينهما.

وفي مقالي "لماذا يقولون إن الحب أعمى؟!" تحدثت عن أن المزايا والعيوب إن دققنا فيها سنجدها تعني أن لكل صفة ما يناقضها، أو لنقل إن العيوب ما هي إلا درجة متطرفة من إحدى الصفات التي تعد ميزة، وكل صفة إيجابية في البشر قد تتحول إلى سلبية فيهم إن تم الإفراط فيها.

ويمكن القول أيضًا إن أغلب صفات البشر هي صفات متصلة على تدريج، وليست صفات منفصلة، وهناك حدان للصفة ونقيضها؛ فالخير والشر ليسا صفتين منفصلتين بل هما حدا تدريج، لا يصل أي فرد منا إلى أي حد منهما، فلسنا خير مطلق ولا شر مطلق، ليس أي منا ملاكًا أو شيطانًا، ودرجة الخير في داخل كل منا تحدد موقعنا على التدريج المتصل بين القطبين. لكن، كثيرين من البشر نلمس من سلوكهم أنهم يكادون لا يدركون هذا الأمر على بساطته!

الانفصام الدفاعي "الكل/ اللا شيء"!

في مقال سابق عن التعصب تحدثت عما أسميته الهوس بالتفرع الثنائي، فمما لاحظته من خلال دراستي للمتعصبين أن أهم سماتهم أنهم يصرون على التصنيف الحدي القطبي للبشر فإما أنك معنا فأنت ملاك ولا يصدر عنك شر أو خطأ، أو أنك ضدنا فأنت شيطان! بتعبير آخر ومن وجهة النظر الإحصائية فما يميزهم هو إصرارهم على تحويل بعض المتغيرات المتصلة إلى متغيرات منفصلة!

وهذه الطريقة الحدية في التفكير هي نوع من الدفاعات النفسية التي تنتشر بين المتعصبين وتُعرف عنهم، تُسمى بالانفصام. وهي من أكثر أساليب التفكير بدائية، ولا تنتشر بين المتعلمين تعليمًا راقيًا ومرتفعي القدرات العقلية، بل ينتشر الانفصام في أوساط العوام وسطحيي التفكير، فإن صدر عمن حظي بقدر رفيع من التعليم فهو على الأغلب منافق أو مُطبِّل كما هو اللفظ بالعامية، ولكن حديثنا الآن ليس عن فئة المطبلين المصفقين، بل عن مفصومي التفكير.

والمصاب بالفصام الفكري يستحيل على عقله أن يتقبل وجود صفات إيجابية وأخرى سلبية في الوقت ذاته، وأن يقف موقفًا متوسطًا في تقييمه للفرد بين المميزات والعيوب؛ فالتمثيل العقلي والنفسي للخطأ والصواب لديه حدي وغير قابل لدمج الصفات، فكل البشر وكل الأنظمة وكل ما في الحياة إما أبيض أو أسود، إما جيد أو سيء، بلا توسط.

النظرة التألهية المصاحبة للاستقطاب

والتفرع الثنائي والذي يمكن أن نسميه أيضًا بالاستقطاب الذي يستلزم الإصرار على إصدار حكم عام يكون في أحد الطرفين، هو شكل من أشكال التأله، بل هو أسوأ، فحتى الله سبحانه وتعالى عندما سيحاسبنا يوم القيامة لإصدار حكم عام على كل منا يفضي بنا إما إلى الجنة وإما إلى النار ستتم المحاسبة على كل صغيرة وكبيرة صدرت عن كل فرد منا، والله يعلم ما تخفي الأعين وما تُكن الصدور، ولا يغيب عن علمه فعل أو نية أو قصد، فهذا الحكم العام بالجنة أو النار عندما يصدره الله لا يعني أن من دخل الجنة لم تكن له ذنوب، أو أن من حُشر إلى النار لم يفعل حسنة في حياته.

لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة سوى الله! لو امتلكتها لصرت إلهًا! ارحموا أنفسكم، فكلنا مقاربون. والعاقل من البشر يضع في اعتباره محدودية علمه، فيُقيم كل موقف يصدر عن غيره من البشر على حدة –مع التحفظ أحيانًا لمحاولة إحسان الظن- دون الحرص على تكوين موقف شامل عام.

بينما هذا التأليه لطائفة والتنزيه المطلق لها عن الخطأ، في مقابل الشيطنة لطائفة أو طوائف أخرى، ورفض كل ما يصدر عنهم وإن كان خيرًا، ليس من الإسلام في شيء، فالحكمة ضالة المؤمن، وجميع هؤلاء المتعصبون يتحفظون حديث أبي هريرة مع إبليس، وكيف علّمه كلمات صالحات، أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي هريرة: صدقك وهو كذوب! فلم يقل له: إنه إبليس ولا نقبل منه صرفًا ولا عدلًا!

والمتعصب في زماننا لا يختلف عن متعصبي الجاهلية ولا عن أتباع مسيلمة الكذاب حين قالوا: والله إنا لنعلم أن محمدًا صادق وأن مسيلمة لكذاب، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر! فتعصبوا له حتى كبّهم معه على وجوههم في النار.

وأين هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مدح حلف الفضول حتى بعد أن صار خاتم النبيين، فلم يقلل منه أو يقارنه –مقارنة لا محل لها- برسالته الخاتمة مثلما فعل أحد سفهاء عصرنا في نقاش قرأته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

عنزة وإن طارت!

يُحكى أن رجلين كانا يقفان بجوار جبل، ومن بعيد شاهدا حيوانًا، أحدهما قال: إنه عنزة، والآخر قال: بل هو غراب! وأخذ كل من الرجلين يدلل على صحة رأيه في نقاش طويل عريض، فهذا يدلل بحجم الحيوان، والآخر يقول: بل لا أرى له ظلًا سوى لقدمين، وبينما هما يتجادلان إذا بالحيوان يطير معلنًا أنه غراب، فأحس من دافع عن نظرية الغراب بالزهو منتظرًا من الآخر أن يُقر له بأنه كان مصيبًا، ولكن الآخر فاجأه بإصراره على رأيه، فقال: عنزة وإن طارت! فصارت مثلًا لمن لا يخضع لحكم المنطق، ويستمر في السفسطة والنقاش العقيم حتى بعد حضور الدليل المادي الذي لا مجال للجدال فيه!

وأسوأ ما في الاستقطاب والإصرار على الحكم العام أنه يجبر المتعصب على الدفاع عن آراء وأفكار خاطئة لأنها تصدر عن أفراد في حزبه، أو دينه، أو قبيلته، ومن ينتمي إليهم، لدرجة قد تحمله على الدخول في مغالطات منطقية وتحويل مجرى الحديث وعدم الاعتراف بضعف الحُجة، بمنطق "عنزة وإن طارت" ليكون لسان حال من يناقشه "نقول ثور يقولوا: احلبوه"!

وفي الشأن السياسي –ولنأخذ مصر مثالًا- سنجد جماعات الناصريين، والساداتيين، وأبناء مبارك، وأنصار السيسي، والإخوان، والسلفيين، أو من يسمون أنفسهم ألتراس كذا أو كذا، وكل جماعة منهم يتعصب أفرادها لمن ينسبون أنفسهم له، فينسبون إليه كل مزية وينفون عنه كل عيب! وغالبًا فإن لأنصار كل جماعة جماعة مقابلة يرمونها بالنقائص ويكيلون لها الاتهامات، مهما بدا أن اتهاماتهم أحيانًا لا علاقة لها بالمنطق! يتجلى هذا في أوضح حالاته لدى أنصار السيسي، فكل من ينقده هو بالضرورة منتمٍ لجماعة الإخوان!

وليس هذا وليد التراجع الحضاري الذي شهدته مصر بعد ثورة 1952 كما يحلو لمتعصبي الفترة الملكية أن يلوكوا، فحتى في الفترة الملكية عندما كانت شعبية حزب الوفد جارفة شاعت مقولة على ألسنة العامة بأن لو رشح الوفد حمارًا لانتخبناه! فكأنه رد على كل من يشكك في أهلية المرشح، فهو حمار ونعلم أنه حمار، لكننا سننتخبه لأنه مرشح حزبنا!

دائمًا أقول: عندما تقرأ في اتجاه واحد: فأنت تُحَدِّدُ لعقلك وِجْهَتَه ابتداءً، ثم تَدَّعِي أنه هو مَن قادك إليها! وربما ليست القراءة وحدها سبب المحنة -وقد قل القرّاء في عصرنا على كل حال- فحتى فيما يخص الاستماع والمشاهدة سنجد أن سبب البلاء هو متابعة اتجاه واحد فقط؛ فالإخوان يشاهدون قنوات الإخوان والسيساوية يشاهدون قنوات التطبيل، وكل يعتني بأن يثبت لنفسه أنه على الحق، وقل من يبحث عنه.

التعصب الديني وضياع الإنصاف!

أما بالنسبة للشأن الديني فمع الأسف الشديد فإن نسبة كبيرة ممن يعتنقون الإسلام هم أبعد ما يكونون عن فهم روح وجوهر الإسلام، وأدمغتهم معبأة بحثالات فكرية عما ينبغي أن يكون عليه المسلم.

وكثير من هؤلاء مصابون بشيزوفرينيا فكرية، نلمسها عندما تتعاكس الأفكار بشكل صارخ مع الأفعال، كما قد نراها عند الفشل في بناء هيكل فكري متوازن لبناته غير متعارضة، وأشهر الأمثلة على ذلك تلك المتعلقة بقصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص، الذي شكاه للخليفة عمر بن الخطاب، فأحضره عمر أمامه طالبًا منه أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، قائلًا: اضرب ابن الأكرمين، فهذه القصة وأمثالها تبقى مجرد قصص يتداولونها عن العدل مع أهل الذمة، ثم نراهم يظلمون أهل الذمة! لأن لديهم أفكارًا أخرى تصور لهم أن الجور عليهم والتشدد معهم علامة التدين!

والأمر يعدو كثيرًا ضياع الإنصاف مع أهل الديانات الأخرى، فالعصبية تأكل كثيرين ممن يسمون أنفسهم مسلمين وتقطعوا أمرهم بينهم، والحمد لله أن لسنا منهم في شيء. كن متعصبًا رافعًا للواء المذهبية تكن في نظر طائفتك مسلمًا حقًا! حاول التقريب ترفضك طائفتك ولن ترضى عنك الطائفة الأخرى! فلا مكان للمعتدلين بيننا!

في كل مرة أدخل في جدال مع أحدهم عن أن أغلب طوائف الشيعة معتدلين، والفروق بيننا وبينهم ﻻ تعدو الاختلاف الذي يمكن أن يوجد بين مذهبين سنيين، قد يؤدي هذا إلى إلغاء الصداقة مع من كنت أحاوره، ﻷفاجأ بعدها مباشرة -وأحيانًا قبل إنهاء حواري مع المتطرف السني- بمتطرف آخر شيعي يسب السُنة من عند آخرهم!

لقد أصبحت على يقين أن الطائفية تقتل نسبة لا بأس بها من المسلمين لدرجة أن سيدنا محمد لو بُعث وانحاز صراحة إلى طائفة ما في شأن وقرر أنهم هم الذين على الحق سيبقى أكثر أفراد الطوائف الأخرى على ما قرره علماؤهم وفقهاؤهم. لم يعد أغلبهم يبحثون عن الحق، بل يظنون أنهم يمتلكون الحق المطلق، وأمسى انتسابهم إلى دين محمد اسميًا، ليسوا منه في شيء وليس منهم في شيء، دينهم دين فقهائهم.

وهذا الشكل من التنطع الديني وافتراض تعارض ما لا تعارض فيه أو ما لا قيمة له قديم؛ حتى أنه عندما بدأت النهضة الإسلامية وشاعت حركة الترجمة تضرر متنطعون منغلقو الفكر واعتبروا أن حربًا قد قامت على الدين، رغم أن هذه كانت أذخر فترات تأصيل الدين والفقه وجمع الحديث!

وأثق أن نجاة هذه الأمة في محاربة فكر الكراهية بينهم أولًا، ثم بينهم وبين الديانات والثقافات الأخرى؛ فالله لم يخلقكم لتتناحروا.

ونصيحتي لكل عاقل ألا تناقش أو تجادل أحدًا من المتعصبين، فكلهم يفتقدون الحكمة عند النقاش، يفتقدون الاستعداد لقول كلمة الحق وإصدار الحكم العادل بسبب موقفهم العام ممن يناقشون قوله أو فعله؛ فهم إما معه أو عليه! والفرق بين قطيعين متناقرين من هؤلاء هو فقط في الاتجاه، والنقاشات بين المنتمين لهم تظهر أن كلا الصنفين أمخاخهم كالفرق بين قالبي الحذاء، فهذا اليمين وذاك اليسار!

تفهم وجهة نظر الآخر لا تعني تبني وجهة نظره

ختامًا ينبغي التنبيه على نقطة هامة، وهي أنه ربما يسهم التفهم في إيجاد أعذار للآخر، لكن كل منا يحيا وفقًا لقناعاته وليس وفقًا لهوى الآخرين، وتقبل الخلاف تحديدًا هو ما استشعرت من كثير من النقاشات أن العرب يفهمونه خطأ؛ فعندما يبدي أحدهم وجهة نظر معينة في مسألة فتتفهمها يعتقد بعضهم أنك قد حولت رأيك واقتنعت بالرأي الذي عرضه الطرف الآخر!

والشيء نفسه يُقال في الخلافات الشخصية؛ قد يُخطئ أحدهم في حقك، ويمكن أن تفهم كيف رأى الموقف من جانبه فتعذره ولو قليلًا، لكن هذا لا يكفي لتغيير قناعاتي والاعتقاد أني على خطأ!

تفهم الآخر لا يساوي تبني وجهة نظره، هذا ما أردت قوله، وهذا ما ينبغي للمتطرفين تفهمه لينفك عنهم تطرفهم.

نقطة أخرى ينبغي لفت النظر إليها؛ وهي أن الحكماء يحاكمون الإنسان باعتبار ما هو كائن، والسفهاء يصرون على محاكمته باعتبار ما قد كان، إن كان ما قد كان مسيئًا أو يجعله أقل قدرًا ومنزلة! متناسين أنه بقدر قدرتك على صنع التغيير تكون عظمتك.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم