صحيفة المثقف

فلسفة الدولة والنظام السياسي عند ابن خلدون

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (6)

لفد توصل ابن خلدون في احد استنتاجاته للقول بأن "البدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما، لأنه أول مطالب الإنساني الضروري. ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها"[1]. وليس هذه الاستنتاج سوى الصيغة العامة التي تحدد فكرة الترابط التاريخي والانتقال العضوي في المسار التاريخي.

وحدد هذا بدوره ما يمكن دعوته بفلسفة الدولة والنظام السياسي، أي تفسير الأسباب القائمة وراء ظهور الدولة أولا ثم نظامها السياسي ثانيا. ومن خلالهما وفي مجراهما تتبلور معالم الثقافة الخاصة ونمطها الحضاري. ذلك يعني إن الدولة بالنسبة لابن خلدون هي مقدمة التاريخ الفعلي، أو تاريخ العمران المدني، أي الحضاري. وأسس لهذه الفكرة من خلال دراسة أهمية وفاعلية الصراع الاجتماعي والسياسي بوصفه القوة الصانعة للدولة. فالدولة بالنسبة له تظهر بأثر الصراع، وإن الصراع هو أسلوب وقوة ظهور الدولة. وبالتالي، فإن ظهور الدولة مرتبط بالصراع الاجتماعي السياسي، بوصفه القوة القادرة على ضبط الجميع بالقوة والقانون. لقد أبعد ابن خلدون القوى الغيبية و"الطبيعة الإنسانية" من تفسير التاريخ ومساره، واستعاض عنهما بقوة العلاقات المادية (الاقتصادية والسياسية) ونشاط الناس، باعتبارها عملية طبيعية. وبهذا يكون قد سحب البساط من تحت الأرجل العرجاء للخرافات والأساطير، ومن ثم الرؤية الأسطورية والخرافية.

إن وضع هذه الفكرة، هو بحد ذاته انجاز هائل للفكر التاريخي وفكرة التاريخ وفلسفته. فإذا كانت الدولة بالنسبة للفكر التاريخي السابق له تندرج أو تتطابق مع جرد أحداثها وما وقع فيها، فإنها تتحول في فكر ابن خلدون ورؤيته التاريخية ومنهجه الفلسفي، إلى حالة أو صيرورة يفترض إدراكهما الصحيح تأمل ماهية الدولة نفسها وبداية نشوئها وكيفيتها وأسبابها. ليس ذلك فحسب، بل وتتبع أيضا الغاية من نشوئها. وبالخلاف عن كثير ممن قبله وبعده (مثل هيغل) لم يتناول هذه القضية بمعايير الفكرة الغائية ولا العقل الآلهي ولا الله، بل نظر إليها باعتبارها عملية طبيعية. انه نظر إلى ظهور الدولة وتطورها واندثارها على أنها عملية طبيعية (كما سيقول بها ماركس لاحقا). من هنا حديثه عن أولوية الدولة والعمران وضرورة معرفة علل وجودهما وأسبابه. ذلك يعني، إن مسار التاريخ بالنسبة له لم يكن (ولم يعد) مسرحا للصدفة أو الإرادة العابرة أو العناية الإلهية أو الفكرة المجردة.

ووضع الأسس النظرية لهذه الفكرة في آرائه القائلة، بأن الشيئ الطبيعي في صيرورة الدولة هي الغلبة بالعصبية. وبالتالي، فإن الدولة تشكل بداية نفي البداوة ومن ثم إرساء أسس الحضارة، كما في قوله "طور الدولة من أولها بداوة"[2]. فالدولة هي القوة الضرورية لتنظيم حياة البشر وإيقاف النزعة الحيوانية عند حدودها والاستعاضة عنها بقوة القانون. من هنا اعتباره للمك "منصب طبيعي للإنسان". وذلك لأن البشر لا يستطيعون العيش إلا باجتماعهم وتعاونهم على سبل تحصيل قوتهم وضرورات الحياة. من هنا ظهور أساليب المعاملة، ولاحقا السلطان من اجل تنظيم الحياة لما في "الطبيعة الحيوانية من الظلم والجور"[3]. وانطلق فيموقفه هذا من أن وجود البشر فوضى وحرب ودمار بدون الحكم والحاكم، الذي يزع بعضهم إلى بعض. فالحكم والحاكم هو الوازع الأكبر. والحاكم بمقتضى "الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم"[4].

من هنا تتضح معالم الفكرة التي أراد ابن خلدون التأسيس لها، ألا وهي إن الدولة تظهر قبل المدن. والمدن هي امتداد وتجسيد لما في الدولة من إمكانية على العمران الجديد. لكن العمران وتوسعه مرتبط بالدولة. فكلما توسعت الدولة كلما توسع العمران. وبالتالي، فإن كثرة الثروة مرتبطة بكثرة الأعمال. لاسيما وإن العمل، حسبما يقول ابن خلدون، هو مصدر الثروة. ومن ثم، فإن كثرة الأعمال هي مصدر الرقي والعمران الواسع من الرفاهية والترف والغنى كما في قوله "إذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة ودعتهم أحوال الرفاه والغنى إلى الترف وحاجاته"[5].

وشكلت هذه المقدمة النظرية العامة منطلق رؤية لكل ما يحدث في مجرى صيرورة الدولة ونظمها السياسي، بما في ذلك الكوامن الدفينة فيها والتي تؤدي مع مرور الزمن إلى ضعف وانحلال الدولة نفسها، لكي تظهر من جديد بعصبية جديدة. وذلك لأن تاريخ الدولة هو حركة دائمة ومتنوعة من الصيرورة والفناء، أي كل ما يشكل مضمون التاريخ السياسي والاجتماعي والحضاري للوجود الإنساني. من هنا نقده العميق لما يمكن دعوته بذهنية الطلاسم والخزعبلات في موقفها من الأسباب الكامنة وراء ظهور الدولة وانحلالها، أي أمام الحالة الفعلية للتاريخ السياسي ومستقبله. وانطلق في موقفه هذا من أن التشوف إلى المستقبل ومحاولة معرفة ما سيحدث صفة ملازمة للبشر. وتناول مختلف نماذج هذه الذهنية التي ظهرت وتبلورت في تاريخ الإسلام والدول الإسلامية. واعتبرها اقرب ما تكون إلى ألغاز ورموز في النظر إلى الواقع والمستقبل. وعثر على نماذج عديدة لها مما يسمى بكتاب الجفر وقصائد شعرية منسوبة إلى ابن سينا وابن عربي وغيرهم. واعتبرها جميعا لا أساس علمي لها وفيها بما في ذلك من حيث نسبتها. كما أنها غير مفهومة. بل وجد في هذا النوع من الألغاز والطلاسم أساليب للحيلة والدهاء السياسي، وكذلك أحد المؤشرات على انحلال الدولة. وبالأخص حالما تتحول الحيلة والخزعبلات إلى قوة سياسية فاعلة في تعيين أو عزل الوزراء وما شابه ذلك[6].

وقد يكون نقد الاستبداد السياسي وما يرافقه من الظلم والجور وضعف العدالة وانعدام المساواة، بوصفها مقدمات انحلال الدولة وسقوطها إحدى أهم الأفكار النقدية والمستقبلية أو ما يمكن دعوته بفكرة الدمار الكامن في الظلم بالنسبة للدولة والمجتمع. ولم تكن هذه الفكرة مجهولة بالنسبة للفكر السياسي الإسلامي، غير أنها كانت في الأغلب تندرج ضمن سياق الرؤية الأخلاقية والموقف الأخلاقي. وفي حالات معينة كانت ترتقي إلى مصاف الفكرة الشرعية، أي النظر إليها بمعايير القانون. لكنهما كلاهما كانا أقرب إلى النصيحة والاعتبار. ومن ثم لم يرتقيا من حيث الجوهر إلى مصاف الفكرة السياسية المستقلة، التي تسحب وراءها الموقف الأخلاقي لا أن تختبئ خلفه. والجديد الذي قدمه ابن خلدون لهذا الصدد هو ابراز الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لماهية وأثر الظلم والاستبداد. من هنا قوله، بأن "العدوان على الناس في اموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت ايديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب"[7]. وتوصل بأثر تأمل الواقع وتجارب الدول والأمم على ممر التاريخ إلى استنتاج يقول، بأن "الظلم مخرب للعمران، وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب. واعلم إن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا واحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرا، لأن النقص إنما يقع بالتدرج. فإذا خفي بكثرة الأحوال وإتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين. وقد تذب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر"[8]. بمعنى إن الخراب المترتب على الظلم والفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي يؤدي بالضرورة إلى خراب الدولة والحضارة بغض عما يبدو على سطح الوجود من هدوء نسبي. وذلك لأن كمية الخراب أو التدرج فيه يؤدي مع مرور الزمن الى تحول نوعي تندثر فيه الدولة قبل أن تخرب البلاد. وبالتالي، فإن العبرة العميقة تقوم هنا ليس في النظر إلى مظاهر الموجودات، بل إلى حقيقة الوجود الفعلي للدولة والحضارة. من هنا موقفه النقدي العميق الذي شدد فيه على نوعية الظلم الاجتماعي والاقتصادي، باعتباره أس الظلم السياسي والخراب العمراني، كما في قوله:"من أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق"، وإن "تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة. فأدى ذلك إلى انتقاض العمران"[9]. وأعظم من كل ما سبق هو "التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع. إن نتيجة هذا السلوك تؤدي إلى خسارة رأس المال عند الجميع ومن ثم كساد الأسواق"[10].

لقد بحث ابن خلدون في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، باعتبارها كلا واحد قائما وفاعلا بالنسبة لإرتقاء الدولة وسقوطها. فإذا كان صعود الدولة مرتبط بصعود العصبية واستحكامها وقدرتها الفعلية على الاستيلاء على الملك (السلطة) ومن ثم الدولة، فإن سقوطها هو النتيجة المترتبة على ضعف وإنهاك العصبية بوصفها العلمية التي تلازم تطور الدولة والحضارة وما يرافقه في الأغلب من نخر لمكوناتها ومقوماتها بأثر الظلم الاجتماعي الاقتصادي والجور السياسي أو الاستبداد. وكشف ابن خلدون عن مختلف مظاهر انحلالها وسقوطها قبل انهيارها التام. وقد اشار من بين أغلب مظاهر الانحلال وسقوط الدولة والحضارة إلى ظاهرة الحجاب. وتوصل في مجرى ملاحظاته التاريخية إلى أن ظاهرة احتجاب الملوك عن الرعية هو "دليل على هرم الدولة ونفاد قوتها والخشية على أنفسهم"[11]. لكن الشيء الأهم والأعمق في أفكار ابن خلدون بهذا الصدد تقوم في تحليله لكيفية حدوث الخلل في الدولة. واعتبر أن خللها الجوهري يقوم في خلل الأسس التي تبنى عليها الدولة نفسها، وأفرز من بينها سببان أساسيان هما كل من الجيش والمال. فالملك، كما يقول ابن خلدون مبني على أساسين إذا تطرق الخلل إليهما تخلخلت الدولة وهما كل من شوكة العصبية والمال. والمقصود بالشوكة والعصبية كما يقول ابن خلدون هو الجند. وحالما تأخذ العصبية بالتحلل بأثر تطور الدولة والحضارة، فإنها تفقد أحد أسسها الضرورية. وليس مصادفة أن يتوسع بهذا الصدد على مثال الفكرة والحالة السياسية المقلقة آنذاك، ألا وهي قضية وفكرة المهدي السياسية. وتوصل بأثر دراستها وتحليلها ونقدها إلى استنتاج عام كرره في مواقع عديدة من مقدمته ألا وهو تقرير ما يرتقي عنده إلى مصاف البديهة السياسية وهي انه "لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية، تظهره وتدافع عنه... فعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي في الحجاز"[12]. أما السبب الثاني فهو قوام الجند وما تحتاج إليه الدولة[13]. وبالتالي، فإن كثرة الإسراف فيه عدوى للمجتمع، بحيث يؤدي إلى أن يصبح التبذير من أخلاق الجميع. وتضافر هذين السببين يؤدي بالضرورة إلى الاستبداد والظلم، من ثم تفكك الدولة إلى دويلات حتى تظهر قوة أقوى وأشد تقضي عليهم[14]. وتوصل بأثر ذلك إلى استنتاح عام يقر بأن نزول الانحلال في الدولة والانحطاط في الحضارة يؤدي إلى حالة لا يمكن إيقافها. واعتبر ذلك أمرا طبيعيا بل وضروريا، أي ملازما للوجود نفسه. فالعوارض المؤدية إلى هرم الدولة عديدة، كما يقول ابن خلدون، و"إنها كلها أمور طبيعية لها. وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني والهرم من الأمراض. وما يحدث للدولة نفس الشيء وتلافيه أمر مستحيل"[15]. ويمكن ايقافه مؤقتا أو جزئيا فقط، أما الزوال فلا!

إن هذه النتيجة القاسية، التي تقفل إمكانية الإصلاح، ومن ثم الاستناد عليه في التطور المستديم، تستمد مقوماتها من التاريخ الفعلي السابق والمعاصر لابن خلدون. وقد يكون هذا الاستنتاج يحمل في أعماقه نوعا من التشاؤم المغري عن أن النهاية واحدة لابد منها، وهي حتمية الموت والزوال. ومن ثم يضع الفكرة السياسية والتأمل النظري تجاه الحاضر والمستقبل أمام تأمل العبرة الضرورية ومواجهتها كما هي. بينما يمكنها أن تجبر السلطة والنظام السياسي على النظر الى المستقبل بمعايير هذه الحتمية القاتلة. مع إن تجارب التاريخ القديم والمعاصر تكشف عن أن العبرة لا يمكنها صناعة رؤية سياسية عقلانية دائمة على الأقل ما زال الوجود الإنساني لم يتجاوز حالة وجوده الطبيعي إلى مراحل التاريخ الماوراطبيعي.

وقد اقلقت هذه الحالة الحرجة للوجود التاريخي السياسي ذهنية ابن خلدون وتأمله المستقبلي. لكنه بقي حيا وفاعلا ضمنها بوصفها الحالة الطبيعية كالهرم والموت بالنسبة للإنسان. وبالتالي، فإن الإقرار بيقين الموت لا ينفي العمل من اجل الحياة، بل على العكس انه يدفع به صوب المعنى و"حقائق الأبد"، والذي وجد تعبيره عند ابن خلدون بما يمكن دعوته بفلسفة العبرة التاريخية والسياسية.

ينطلق اين خلدون من أن حقيقة الدولة هي العمران، وأن كل منها هو ظاهر وباطن الآخر. من هنا تشديده على الترابط الجوهري بينهما. فهو ينطلق من أن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره. ذلك يعني إن العمران المتطور والحفاظ عليه وديمومته وتطوره يفترض وجود مؤسسة سياسية هي الدولة ونظام حكمها، أي نظامها السياسي. وهذا بدوره وثيق الارتباط بالأسس الطبيعية الضرورية القائمة في اجتماع البشر. ووضع ابن خلدون هذه في عبارة تقول، بأن "الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران". وانه "لابد لهم في الاجتماع من وازع حازم يرجعون إليه وحكمه"[16]. وإن هذا الرجوع للحكم تارة يكون مستندا إلى شرع، وتارة إلى سياسة عقلية وتارة إلى سياسة مدنية. وهي الأشكال التي عثر عليها في مجرى تأمله للتاريخ السياسي للأمم السابقة والمعاصرة له، أي للتاريخ الإنساني العام. فالمشترك بينها هو السياسة، بينما أساليبها تختلف بما يستجيب للمقدمات النظرية أو العقائدية لكل منها.

فما يميز السياسة الشرعية: هو ربطها للدين والدنيا بالشكل الذي يجعل من سلوك الإنسان والجماعة والأمة محكوما بفكرة ايمانية حول جوهرية الثواب والعقاب. بمعنى جمعها بين الرؤية الإيمانية والعقلية. إنها تأخذ من السياسة العقلية ما يتعلق بالسلطان، لكنها تضيف لهما وتحتكم أيضا إلى قوانين الشرع وقيم الإسلام الأخلاقية وآدابه. وقدم وصية طاهر بن الحسين (ت- 207 للهجرة) لابنه عبد الله عندما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما عام 206 للهجرة، نموذجا لهذه الرؤية وليس استنفاذا تاما لها. اما السياسة العقلية، فإنها ترفع فكرة الثواب إلى رؤية الحاكم، أي إلى السلطة السياسية. فهي التي تحدد معنى وحقيقة الثواب انطلاقا من إدراكها لحقيقة المصلحة العامة. وهي سياسة، كما يقول اين خلدون، محكومة بالمنفعة الدنيوية. بمعنى إن نفعها في الدنيا فقط. الأمر الذي حدد طبيعة عملها وأساليبها لبلوغ الغاية. فهي تعمل على وجهين كما يقول ابن خلدون. الأول ويراعي فيها المصالح العامة ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص، كما كان الحال عند الفرس وهي سياسة الحكمة، والثاني يراعى فيها اساسا مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة. بمعنى إنها تتمثل أما تقاليد الحكمة العقلية أو تقاليد القهر والاستبداد. أما الثالثة فهي السياسة المدنية، التي تتطابق في فكر وموقف ابن خلدون مع فكرة المدينة الفاضلة التي يقول بها الفلاسفة. الأمر الذي يجعلها تختلف اختلافا هائلا عما هو سائد في الوعي العادي عنها. وذلك لأن مقصودهم بالسياسة هنا ليس ما هو موافق للسياسة الشرعية والعقلية، كما يقول ابن خلدون، بل لمراد آخر وهو "إن هذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الغرض والتقدير".

بهذا يكون ابن خلدون قد اقر بتنوع النماذج السياسية في الحكم دون أن يفصح عن أفضلية أي منها بصورة مطلقة، رغم انه يميل نسبيا إلى أفضلية السياسة الشرعية التي تتطابق في نظره ومواقفه مع فكرة الشرعية الإسلامية. والسبب يقوم في أنها تحافظ على وحدة الروح والجسد، والحياة وما بعدها، ومن ثم تضمن للإنسان حقوقه بمعايير الفكرة المتسامية، وليس حسب الاجتهاد السياسي العقلي الذي لا يخلو من نفسية وذهنية المصلحة والنزوات وما شابه ذلك. أما الفكرة الفلسفية عن المدينة الفاضلة، فإنها تتخذ في رؤية ابن خلدون منحى الصيغة المثلى والنموذجية ولحد ما الخيالية، لكنها تحتوي على جميع الفضائل التي يمكنها استثارة الوعي السياسي لبلوغ الكمال. مع إن كل ما في فكر ابن خلدون أقرب إلى الواقعية الصارمة التي لا يتخللها أي مزاج خيالي من أي نوع كان.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص97.

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص136.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص148.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص148.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص286-287.

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص271. هنا ملاحظة واقعية ودقيقة. إذ إننا نعثر على مختلف مظاهر هذه الحالة زمن انحطاط الدول والمجتمعات بما في ذلك الحديثة. ففي مجرى انحلال الدولة السوفيتية نهاية القرن العشرين اخذت الطلسمات والسحر (تحت غطاء علم النفس وما شابه ذلك) وغرائب الوعي البدائي بالانتشار السريع بحيث احتلت الشخصيات "السحرية" موقعا مهما في الوعي الاجتماعي والسياسي وشاشات التلفزيون والجرائد. وهذه بدورها لم تكن معزولة عن "السحر السياسي" أي التلاعب بعقول البشر والوعي الجمعي. وهي ملاحظة اكتشفها ابن خلدون قبل قرون عديدة من الزمن.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص227.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص228.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص229.

[10] ابن خلدون: المقدمة، ص229.

[11] ابن خلدون: المقدمة، ص231.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص259.

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص233.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص236.

[15] ابن خلدون: المقدمة، ص232-233.

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص240.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم