صحيفة المثقف

مفهوم الخيانة في البيئة الذكورية

منتهى البدرانفي ظل دخول تقنية التواصل الألكتروني التي يطلق عليها ب Social media انفتحت المجتمعات المغلقة (العربية) تحديدا على ثقافات أخرى وحضارات متنوعة في عمومها كانت صادمة للأفراد في المجتمع الشرقي مما شق الكفن عن جثامين علاقات أسرية بنيت على الزيف، أو كشفت اللثام عن أمراض وعقد نفسية كانت مخفية، إذ أذكتْ هذه الوسائل العلاقات الألكترونية العاطفية بين كثير من الرجال والنساء في الخفاء. وهذا أمر طبعي وردة فعل متوقعة للكبت الذي بنيت به تلك المجتمعات حيث لا حرية متاحة للمرأة بقدر ما هي للرجل بل أن حرية هذا الأخير مقيدة بقيود دينية تارة وقبلية تارة أخرى ولكن الكفة راجحة للذكر أكثر منها للأنثى كما هو متعارف في البيئة العربية.

ارتفعت نسب الطلاق في السنوات الأخيرة في المجتمعات العربية وكان لتهمة (الخيانة الزوجية) نصيب كبير منها، ولكن أيّ خيانة نعني؟ هل خيانة الزوج لزوجته أدى إلى أنها تطالب بالطلاق؟ أو العكس؟ وإن كانت الزوجة هي المبادرة في قضية الطلاق لمجرد كشفها خيانة زوجها لها – وهذا في حالات قليلة - هل لتقترن بزوج آخر أفضل من هذا الخائن أو مجرد استرداد لكرامتها المهدورة؟.

قبل البدء ببيان بعض ملابسات هذه الظاهرة المجتمعية بما يسمح به المقام فلنتعرف على معنى الخيانة لغة واصطلاحا ومن ثم نتطرق لفهم المجتمع لها .

الخيانة لغة كما وردت في المعجمات العربية "خان الشيء خونا وخيانة ومخانة : نقصه، يقال خان الحق، وخان العهد وفيه، والأمانة : لم يؤدّها أو بعضها.. وفلانا غدر به، وخانته عينه: نظر نظرة مريبة أو مُختَلَسة فهو خائن" .

عرّف الكفوي في كليّاته في باب الخاء مصطلح الخيانة على أنها " تقال اعتبارا بالعهد والأمانة"، ولقد حصر الكفوي المصطلح في مفهومي العهد والأمانة . ولو رجعنا إلى هذين المفهومين سنجد أن الأمانة عند أبي البقاء تطلق على "كل ما يؤتمن عليه كأموال وحرم وأسرار"، أما العهد فهو كل " ما من شأنه أن يراعى ويُتَعهد كالقول والقرار واليمين والوصية والضمان والحفظ والزمان والأمر... والإلزام " والفرق بينه وبين العقد أن الثاني "إلزام على سبيل الإحكام" . والأمانة عند ابن فارس " التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب ... يقال أمنت الرجل أمنا وأمَنَةً وأمانا، ... والعرب تقول: رجل أمَّان: إذا كان أمينا" وقال اللحياني وغيره: "رجل أُمَنَة إذا كان يأمنه الناس ولا يخافون غائلته". فلو تناولنا الخيانة الزوجية مما تقدم سنفهم أن هذه التعريفات تدل على أن الخيانة لا تنحصر في التماس الجسدي أو الزنى فحسب، وثانيا نفهم أنها لا تقتصر على جنس دون آخر فهي تخص الرجل والمرأة فقد قال تعالى: (إن الله لا يحب الخائنين ) [الأنفال : 58 ] فهو لم يقل إن الله لا يحب الخائنات وإنما جمع الجنسين في (الخائنين). والشيء اللافت هو أن الأمانة أنيطت بالرجل كما يشير إليه ابن فارس في مقاييسه، أوَليس المرأة حينما يسلمها أهلها بيد الزوج يوصونه أنها أمانة فليصنها؟ وهذا متعارف عليه عرفيا !.

ولكننا لو تفحصنا كتب الفقه الإسلامي فإننا سنجد أكثر من 99% منها تحث الزوجة على عدم الخيانة وعلى الوفاء للزوج، ولكن ماذا عن الزوج ؟ .

كما قيل بالمثال يضَحُ المقال فلنتطرق إلى مثال واحد من البحوث الدينية المعاصرة حيث ورد في كتاب (بحوث في الفقه المعاصر الجزء السادس للشيخ حسن الجواهري) : " ويجب عليها (الزوجة) العفّة وعدم خيانة الزوج في نفسها وماله، فتحافظ على زوجها وماله، كما يحافظ عليها كذلك ." هذه النبرة تجدها في مئات المؤلفات الفقهية حيث وصية المرأة وتذكيرها المتكرر بواجبها، ولا نلمح إلا نزرا يسيرا من حث الرجل على الوفاء، نلاحظ في النص التفصيل في واجب الزوجة و اختصار وإجمال في واجب الرجل وهذا النص لو حلل بلاغيا سينتج دلالات كثيرة تدور في المضمار عينه .

أراد الشيخ حسن أن يضفي على بحوثه مسحة حداثوية تواكب روح العصر ولكنه في رأيي أخفق؛ لأنه ظل يدور في حلقة عَقَدية مفرغة ونظرة دونية للآخر، نظرة المسلم لغيره من الديانات الأخرى وكذلك لم يتمكن من التحرر من ذكوريته في بيئة عربية قَبَلية وسقط في فخ النقد اللاموضوعي للمجتمعات المتمردة على عادات مجتمعه وهذا ما يؤيد كلام محمد أركون "أن الحضارة العربية ما زالت تعيش على فكر الفقه، ولم تسهم في بناء فقه الفكر اعتقادا من وعي هذه الحضارة أنها مركز الكون الإنساني"، حيث ذكر الشيخ حسن في مورد آخر من الكتاب " إنّ وضع المرأة الإنساني والحقوقي في الدول غير الإسلامية كان وضعاً شاذاً وظالماً لعدّة دهور من الناحية الاجتماعية والميدانية ومن الناحية القانونية أيضاً، ولكن عند ظهور النهضة الأُوروبية حصلت مراجعة نقدية شاملة لذلك الوضع الشاذّ وغير العادل، فتغيّرت المواقف الفكرية والأخلاقية في شأن المرأة، ومن جملتها وضع المرأة في الأُسرة والمجتمع. وتفعّلت هذه المواقف بسبب تحوّل المجتمع من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، فتسبّب في الهجرة الواسعة من الأرياف إلى المدن، فدخلت المرأة سوق العمل، فتولّدت شعارات تنادي بتحرير المرأة وحقوقها، وانتشرت بصورة واسعة نتيجة غلبة المجال العسكري للدول الأُوروبية على غيرها .وكان من الواجب العمل على إلغاء كلّ ما يرتبط بنقص المرأة عن الرجل ودونيتها في الإنسانية والكرامة، وإعطاء حقوقها في تقرير مصيرها وتصرّفاتها وأعمالها، مع الاحتفاظ بدورها في الأُسرة، والمحافظة على عفّتها وطهارتها . إلاّ أن الأمر اتجه لتحريرها من دور الأُسرة وسلب العفّة عنها، فانتقدوا عملها في البيت كزوجة وأمّ، واعتبروا أنّ مسؤوليتها في الأُسرة هو مظهر عبوديتها، ونادوا بضرورة رفع القيود الأخلاقية والقانونية التي تحكم وتنظّم علاقات الرجال والنساء . وساعدهم على ذلك نموّ الصناعة الذي جذب المزيد من اليد العاملة الرخيصة، فاجتذبت النساء إلى المعامل، وعزلت المرأة عن بيتها وأُسرتها، فلا وقت عندها لتوفير الحدّ الأدنى من السكن للزوج وللأولاد ولها أيضاً، مع اختلاط بلا حدّ بالرجال الأجانب، مع دعوة إلى تحرير الجسد من القيود الأخلاقية والدينية في المجال الجنسي .فأدّت هذه الحركات التحريرية في الغرب إلى خلط الغث بالسمين والفاسد بالصالح، فجعلت المرأة دمية للرجل يستغلها في المعمل ويستمتع بها جنسيّاً باسم التحرّر وإن حصلت على بعض حقوقها في الحياة المعاصرة من عمل وعلم ومشاركة، إلاّ أنّها فقدت قيمتها وشرفها وطهارتها وأُسرتها وسكنها، فهي زوجة ولكن لا تهتم بأُمور الأُسرة والأولاد، ولا تهتم بالسكن الذي جعله الله لها نتيجة الحياة الزوجية . كما أجازوا لها أن ترافق خليلاً معها تنجب منه الأطفال من غير زواج شرعي، وما إلى ذلك من أُمور باسم التحرّر .وعلى هذا فيمكن لنا أن نقول : لقد حوّلوا المرأة من ظلم كانت تعاني منه إلى ظلم آخر أشدّ من الأول باسم تحريرها وإعطاء حقوقها " .إذا كانت البحوث المعاصرة للمؤسسة الدينية على هذه الشاكلة فكيف بالعقل القَبَلي الذي عزّز طاووسية الذكر في المجتمع ؟ البتة لا أريد التطرق إلى قضايا أخرى تصب في ترسيخ عصر الجواري فالحديث هنا بصدد مفهوم الخيانة بين النظرية والتطبيق. وتعقيب بسيط على كلام الشيخ الجواهري أقول : كان حريا بباحثينا أن ينشغلوا في بحث الظواهر المهمة في مجتمعاتهم بدلا من الانشغال بنقد لا موضوعي لمجتمعات استقرارها الإجتماعي لم تزلزله عاصفة التقنية الحديثة كما حصل في واقعنا الاجتماعي المزري مما أدى إلى كشف عورات فكرية وأخلاقية هزيلة لم يردعها الدين بكل ترهيبه ووعيده على مرور الأعصار.

لا يخفى على الجميع حين تُمْسَك الزوجة متلبسة بالجرم العظيم وهي ترسل رسائل ألكترونية مع رجل آخر قد تحمل غراميات ما فستلاقي عقابا تتمنى لو أنها زهقت روحها وغيّبت عشرين مترا تحت الأرض أهون عليها من العار الذي سيلحقها وستكون تهتمها وتهمة الزانية التي شهد عليها شهود عيان واحدة، ناهيك عن مراسم بعض القبائل من جلسات المطالبة باسترداد الشرف المهدور من جرح كرامة الزوج وأخذ الأطفال من الأم وتشويه صورتها في عيونهم وبعد ذلك يتم الطلاق إن لم يتم تصفية الجانية جسديا. هذه حقائق نابعة من عمق الواقع الحياتي وأعيشه بكل تفاصيله وليست فانتازيا وسجلات المحاكم حبلى بمثل تلك القضايا في عالمنا العربي . ولكن هل جلس أحد مع تلك الزوجة واستفهم منها الأسباب التي جعلتها تلجأ إلى هذه الوسيلة التي عرّضت حياتها الإجتماعية للخطر؟ هل هناك من اعترف بقصوره في سد حاجات تلك الزوجة في شتى المجالات الحسية والمعنوية والتمس لها العذر فسامحها ؟ هل قامت عشيرة الزوجة او الزوج بعرض هذه الضحية على طبيب نفسي لمعرفة الأسباب ومن ثم تقديم الحلول؟ الجواب في كل ذلك كلا .

فلنأتِ إلى الزوج فهو مباح له شرعا الزواج المؤقت من عشرات النسوة غير زوجته وهنا على الزوجة أن تخرس لأنه (شرع الله) كما ساقوه لسحق هذا الكائن وكيانه، ومباح له الزواج الدائم من ثلاثة غير زوجته الأولى التي عليها أن تخرس أيضا ولا يحق لها أن تعترض على نسف مشاعرها أو التفوّه بحق من حقوقها المعنوية . علاوة على ما تقدم لو أمسكته الزوجة بعلاقة غرامية مع أخرى وحديث وصور ولقاءات فليس عليها أن تسمي ذلك خيانة، إن اعترضت فإن الجميع وهو أولهم سيجيبها (أنا رجل) والرجل لا يعيبه شيء.

يا ترى هل خلق الله الرجل مختلفا في المشاعر عن المرأة ؟

ذكر رئيس مختبر تطور الجهاز العصبي الروسي سيرغي سافيلييف في أحد مؤلفاته : "مجموعة كبيرة من الاختصاصيين في الفسيولوجيا العصبية من اسرائيل وألمانيا وسويسرا وأميركا درست بوساطة التصوير بالرنين المغناطيسي الهيكلي أدمغة (1400) رجل وامرأة وبناء على معطيات هذه الدراسة استنتج هؤلاء العلماء أن لا وجود لأي خصائص تميز الجملة العصبية المركزية عند الرجل عن مثيلتها عند المرأة وأن دماغ الفرد أيا كان هو فسيفساء من صفات مميِّزة للرجل وللمرأة".

هذه النتائج تنفي التصورات النمطية بأن الله خلق الرجل بقدرات تفوق المرأة، وهذا ينفي إباحة اللعب للرجل بمشاعر المرأة سواء أكانت زوجته أو غيرها، بمعنى أن المرأة كالرجل خلق الله فيها الوجدان والعاطفة وغرائز نفسية تحتاج إلى إشباعها وهي كنظيرها تبحث عن السعادة عبر الاهتمام والحب، فلمَ نعذر الرجل الذي يخون ونحكم على المرأة بالموت إن حاولت؟ .

النقطة الجوهرية في هذا المقال أن سلوك الرجل في الحكم على هذه المسألة يكاد يكون واحدا مهما ادعى الثقافة والوعي والتحرر، وبغض النظر إن كان اسلامويا أو علمانيا أو حتى ملحدا يكفي أن يكون عربيا لو أنك طلبت رأيه في خيانة الرجل أو المرأة فإنه سيعذر الرجل وسيطلب من الزوجة أن تسامح زوجها مهما نفرت مشاعرها منه وتلتمس له الأعذار وأن تصبر عليه لأنه رجل، ولكن لو كان الخائن هو المرأة أيا كانت أخته أو زوجته أو ابنته سترى منه وجها آخر . يقول محمد أركون "إننا ندعي أننا نطبق حدود الشرع في حين يكشف التحليل أن الأمر يتعلق بروابط خارجية تتصل بالهوية، وبشكل من أشكال التضامن الإجتماعي ".، وعليه فإن التبشير بالتعنصر للذكر هو محض جهل يفضي بالبيئة العربية إلى الابتعاد عن المنطق والعقلانية.

نافلة القول: أن الخيانة الزوجية المتمثلة بالخيانة العاطفية بشتى أنواعها (بصرية، سمعية، قولية، كتابية)، أو جسدية خارج إطار الزواج هي ذلك السلوك الذي يسحق شخصية الشريك وينسف كيانه كإنسان ويجرح كرامته ويهدر الثقة بينهما التي هي كالماء إن أهدر يصعب جمعه، مهما كانت وسيلة تلك الخيانة، صدرت من الرجل أو من المرأة على المتضرر أن يعاقِب ويحاسب الآخر بطريقة إنسانية يكتنفها الستر وتبتعد عن التشهير والتحقير مما ينسف سمعته في المجتمع فهو بذلك يبتعد عن زيف المحافظة على بيوت ظاهرها جميل لكنها من الداخل عروش خاوية تخلو من الحب وتفتقر إلى الألفة والمودة . البتة يتم ذلك بعد معرفة الأسباب التي ألجأت المرء إلى مثل هذا السلوك وإن أمكن معالجتها، وللشريك الخيار في أن يسامح أو ينسحب. أما أن يُطلب من المرأة دون الرجل مسامحة زوجها لأنه رجل في الوقت نفسه تقوم قيامة العشيرة لخيانة الزوجة لمجرد رسائل بثتها برعونة فهذا سلوك منافٍ للإنسانية وللأخلاق ولا يليق إلا بوحوش الغاب الضارية .

 

منتهى البدران - العراق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم