صحيفة المثقف

مفهوم السياسة عند ريمون بولان

حيدر جواد السهلانييرى بولان أن السياسة ظهرت عندما اضطر أفراد إلى التعايش بعدد كبير بما يكفي ليحول دون قيام علاقاتهم على أساس فردي محض، حتى تظهر شروط الحياة السياسية وعندئذٍ ننتقل من الخاص إلى العام، من الفردي إلى النظام العام إلى المجال السياسي. أذ جميع الأنشطة الاجتماعية يمكن أن تتسم بنية سياسية أو بعامل سياسي، وقد تتسم بعض هذه العلاقات من جراء طبيعتها الخاصة، وبعضها الآخر قد يتحقق لأغراض سياسية أو تبطن بغايات سياسية، ومن الممكن دوماً تسييسها تسييساً متكلفاً إلى حد كبير أو صغير. وأن النظام السياسي مفروض على المجتمع بوصفه خيراً مشتركاً للجماعة، وبوصفه شرط وجودها وبقائها السلمي، وإن احترام هذا النظام مفروض على عدد كبير من الناس خلال حقبة طويلة، الأمر الذي يفترض إمكان، بل وحتى احتمال ظهور خلافات بين أعضاء الجماعة، ومن ثم احتمال وجود اشرار يعيشون في المجتمع ويرفضون الرضوخ لهذا النظام رفضاً كلياً أو جزئياً، ومن شأن كل نظام مفروض على كائنات قادرة على الحرية في الجماعة السياسية أن يقابل عصياناً معيناً محتملاً، ولذا فلا مناص للواقع السياسي من اختيار قوة عامة قادرة على تعريف هذا النظام أمام الجميع بقواعد عامة.  وبذلك أن السياسة هي من جوهر إنساني، أي أن الجماعة الإنسانية لاتستطيع أن تنمو بدون أن تغدو سياسية، وأن العلاقات السياسية علاقات ضرورية لوجود علاقات اجتماعية، وهذا يعني أن هوبز قد أخطأ وأصاب، لقد أخطأ على عكس ارسطو حين رفض قبول أن الإنسان حيوان مدني بالطبع، وأصاب على عكس جون لوك حين أكد أن من الممتنع بقاء العلاقات الاجتماعية مستمرة إذا لم توجد علاقات سياسية. فمادام وجود أشرار، فإن جماعة البشر، لاتستطيع الاستمرار في البقاء بدون توافر قوة جمعية تكفل بقاءها، وقد برع الباحثون في وضع شروط عقد يمكن به أن يخضع كل فرد خضوعاً حراً في لحظة تأسيس الجماعة وتشكيل القوة العامة. ويعارض بولان نظرية مكيافيلي الذي قلل من سطوة الأخلاق على السياسة بواسطة نظريته الشهيرة" الغاية تبرر الوسيلة" فيرى بولان السياسة ليست مجرد تقنية للعنف، وثمة أخلاق بدون سياسة وسياسة بدون أخلاق، أذ الأخلاق تشمل السياسة والسياسة تشمل الأخلاق، والسياسة مرتبطة بالأخلاق، أذ الأخلاق بلا سياسة وهم،(وهنا نتذكر قول مالك بن نبي الذي يقول" إذا كان العلم دون ضمير خراب الروح، فإن السياسة بلا أخلاق خراب الإنسانية") ومن الوهم أن يتصور البعض أن الأخلاق والقيم التي يتمثل بها أي إنسان في ضميره وجوهره تكونها الممارسة السياسية، لأن غاية السياسة هي الحفاظ على الإنسان، والإنسان كائن أخلاقي وحتى يتحقق مفهوم السياسة الحقيقية التي مرادها تحقيق المطالب وإتمام الحريات وإرساء القواعد والنظم الديمقراطية السلمية.  وبذلك أن السياسة بالدرجة الأولى، هي قوة عامة تكفل الوجود المشترك لطائفة كبيرة من الناس بحسب قيم وقواعد مشتركة، فالسياسة ليست  سوى غزو، أو استعمال ناجع  إلى حد كبير أو صغير للقدرة العامة ابتغاء إقامة نظام مشترك أو الحفاظ عليه. والسياسة بجوهرها هي السلام والنظام السلمي، أي النظام الذي يحظى في وضع معطى ولدى جماعة معطى، بقبول كلي للحريات العاقلة، وفي هذا الإطار تكون غاية السياسة، بلا ريب غاية ذرائعية، إنها تتضمن النجاح وتطالب به، وأن نجاحها هو ابقاء على نظام مشترك مزدهر تعيش فيه كثرة من الناس، أذ مفهوم السياسة ينضوي على علاقة أساسية هي علاقة عداء وينطبق بجوهره على ثنائية صديق وعدو، وأن استمرار قوام السياسة هي أن تزيل وضع الحرب  الذي لايمكن الاستمرار على مدى الأيام، وأن تطلب السلام وأن تنجح أحياناً في أن تكون سلاماً، ولأن كانت الوسائل السياسية في الغالب وسائل حرب، وتظل كذلك دوماً بالقوة، فإن قوام السياسة بوجه الدقة، هو السعي إلى إقامة نظام مشترك بوسائل سلمية وهي وسائل حرب عاقلة، وأن تجعلها على هذا النحو وسائل نظام سلمي. وتسعى السياسة إلى النهوض بدور يوازي دور الأخلاق، إنها تسعى إلى نوال الاعتراف بأنها عاقلة معقولة. وبذلك يعرف بولان السياسة بإنها نظرية حياة مشتركة يكفلها ويحققها، استعمال القوة، ويجب عليها أن تفرض قواعد مشتركة ومعايير يطيعها  الجميع، من أجل أن تستجيب لمطلبها الأساسي في النجاح، وعليها أن ترتقي إلى نظرية مشتركة، وأن تحظى باعتراف الجميع. ويرى بولان في فكرة الحكم التقني(التكنوقراط) تستند إلى مغالطة، أذ التقنيين هم أفضل من يستطيع حل المشكلات المتصلة بتقنياتهم، وهذا بديهي، فنحن مرغمون على الاستعانة بربان للسفينة، وبمهندس لبناء جسر، إذن ينبغي الرجوع إلى تقنيي السياسة للبت في شؤون السياسة، وهذا يعني أن السياسة كالأخلاق هي ممارسة وليست بتقنية، إنها تتصل باستعمال الحرية والحريات، وهي لا ترجع إلى علم ولا إلى تقنية تكفل تطبيقها. إن العلوم السياسية لا تتيح تكوين ساسة، في حدود وجودها وفي الحدود الأضعف التي لا تقتصر فيها على وصف أوضاع سياسية وتنجح فيا بإقامة قواعد تقنية للنجوع السياسي، العلوم السياسية تقدم منفذين سياسين، بل تقدم في أحسن الفرضيات إداريين، خداماً مدنيين، إن الربان لا يحدد إلى أي مرفأ ينبغي قيادة السفينة، والمهندس لا يقل  بضرورة بناء الجسر. وليس الإداري هو الذي يستطيع أن يقرر، ولا الذي يجب عليه أن يقرر السياسة، ولأن أسهم في السلطة فإنه يسهم بوصفه مواطناً، وليس بوصفه تقنياً.

الحرية:

الحرية هي القدرة الخاصة بالفرد الإنساني على ألا يكون استمراراً مباشراً للمعطى الخارجي، وقد كانت التقاليد الفلسفية تعتبر أن الحرية توجد حيثما يستطيع إنسان، بدون أن يعيقه عائق ولا قسر خارجي، أن ينجز ويحقق بحسب طبيعته. ويرى بولان أن الإنسان بوصفه كائناً وسطاً، ليس بالحر ولا بالعاقل على نحو مباشر، وإنما يترتب عليه أن يصبح حراً وعاقلاً بإبداع نظام معقول. إن عليه أن يصنع ذاته إما صالحاً أو طالحاً، وهذه المهمة وهي مهمة تكوين الذات وترتيبها بما تنطوي عليه من حالات الإخفاق والسقوط والعودة، ولا تنتهي إلا بنهاية الحياة. وأن قيمة حياتنا تمثل في أنها شرط ممارسة حريتنا، ولما كان في وسع البشر أن يكونوا بجوهرهم قادرون على أن يكونوا سيئين وخبثاء، وأن قوى الحرية ذاتها، هي قوى عمياء متجسدة في الأهواء وترتكس على صدف اللحظة الراهنة وتهدد دوماً بالتغلب على الإبداعات الهادفة التي تنهض بها الحرية بذاتها، والحرية الإنسانية ليست حرية للحرية، بل هي حرية لأجل نظام ولكي تظل بالرغم من ذلك حرية بالفعل، بالرغم من هذا النظام الذي تقيمه وتفرضه على ذاتها، لابد من ألا يحافظ على هذا النظام ولا يبقى له معنى إلا بالحرية، إلا إذا كان نظاماً بالحرية نظام حرية.

العدالة:

أن دخول العالم عصر التحرر، أدى إلى البحث في العلاقة بين السياسة والأخلاق إلى موضوع العدالة التي تعد من لوازم الأخلاق، ويرى بولان لا عدالة إلا بالإنسان وللإنسان، ذلك أن العدالة هي أولاً إبداع إنساني شأنها شأن سائر القيم، وهي ثانياً لايمكن أن تنطبق إلا على كائنات قادرة على أن ترغب في الحفاظ على وجودها الخاص. والعدالة لا تشتمل على جميع الفضائل وتصبح بهذا الاعتبار الفضيلة الشاملة التي تتوحد فيها جملة الخير، فالعدالة تدل من جهة أولى على النظام المبدئي والنظام الفعلي الناجع، وتدل من جهة أخرى على إرادة إقامة هذا النظام بين الناس والحفاظ عليه، وتعني كلمة العدالة جملة القيم المنظمة إلى حد كبير او صغير، وتعترف بكائنات اجتماعية قادرة على الحرية، فالعدالة نظام علاقات قيمية تعاش بالفعل، وهو نظام يسعى إلى أن يكون مدركاً إدراكاً عقلياً، ومراداً بإرادة ناجعة، إنه نظام معقد، لأنه يقود إلى تشابك طوائف كثيرة من العلاقات المتداخل بعضها ببعض، وبدون أن يقوم بينها اتساق بالضرورة، إن العدالة هي جملة منتظمة من العلاقات، إنها تتألف من علاقات تقويم متبادلة تنشأ بين عدد من مبدعي القيم، انطلاقاً من لحظة التقاء هؤلاء المبدعين بعضهم ببعض وعيشهم حياة مشتركة، فالعدالة هي القاعدة التي بدونها لاتقوم حياة مشتركة ممكنة ،وهي تعترف وتميز وتحمي داخل الجماعة حريات التربية والتعبير وممارسة الوظائف وامتلاك الخيرات، وهذا يعني أن العدالة هي على الدوام قيمة إنسانية وهي قيمة سياسية. العدالة لاتنهض بين الأفراد، بل إن الجماعة تسهم في إقامتها على أنحاء شتى، لأن العدالة لا تنمو إلا ضمن وضع جمعي من العوز والقدرة، وهي مرتبطة بالسياسة، فالعدالة تابعة لطبيعة السلطة العامة وللتناسب القائم بين القدرة التي تستطيع هذه السلطة ممارستها، وبين القدرات التي ينصرف بها الأفراد أو جماعات الأفراد في الدولة، وتتألف العدالة وتنمو في جدل الفرد مع المجتمع، والفرد لا يمكن أن يكون حراً بدون المجتمع وبدون حقه، ولكنه لا يبلغ الحرية الشخصية إلا بذاته، والعدالة تضل على الدوام قيمة نسبية وتاريخية، وليس لها معنى إلا داخل التاريخ، شأنها شأن الآثار الحرة التي تريد أن تكون مقياسها، وتحتل فكرة النظام في تعريف العدالة منزلة متقدمة، مما يجعلها تختلط في بعض الأحيان بفكرة العدالة، إن العدالة هي عدالة الكيان السياسي وهي مثله من صنع الناس الذين يعيشون مجتمعين في جملة سياسية، فالنظام العادل ليس نظاماً بحسب الطبيعة، بل هو نظام بحسب صنع الإنسان، إنه أثر مصنوع يخلقه البشر.

السلطة:

إن السلطة تدل على علاقة بالآخر، علاقة اجتماعية بجوهرها وهي تربط فردين أو أكثر، والسلطة هي طراز وجود الحرية ، وطراز وجود كائنات قادرة على الحرية بعضها بالنسبة لبعض، عبر أشارات يصنعونها لنفسهم، إن السلطة هي حرية تمارس وجودها وتتوصل إلى شكل محدد خاص من أشكال الوجود، إنها تضع ذاتها وتفرض نفسها حين تتحلى بمعنى، وتحاول السلطة فرض ذاتها على أنها قدرة شرعية، وإن السلطة تطالب لنفسها بقدرة الأمر والتنظيم والترتيب ولو بالقسر عند الاقتضاء، والسلطة حق معترف بشرعيته على كل فرد وعلى كل جماعة تسهم في الأثر على النظام، وهي مبدؤه وقوامه. ومن أجل أن تكون السلطة ذات أساس، أي أن تكون مدركة ومعترفاً به ومطاعة بالفعل، لابد من أن تكون مما يمكن فهمها على جميع مستويات الفهم الإنساني معاً، وأن السلطة من حيث هي قيمة تشكل موضوع عقيدة إن لم نقل إيمان، وأن السلطة قد تجد هنا ينبوعها الأصلي وأساسها الطبيعي في طبيعة الحرية، في هذا الطبيعة الإنسانية، طبيعة أن يصنع الإنسان طبيعته بحرية. ويرى البعض أن السلطة تستمد من الله(جل جلاله) وتنتقل إلى الملوك، ولعل قول بولس الشهير وهو يعلن أن لا سلطة إلا السلطة التي تصدر عن الله، وأن السلطات الموجودة ترجع إلى النظام الإلهي، هذا النص مهد السبيل أمام النظريات القائلة بالحق الإلهي، أما شرعية السلطة فيرى بولان أنه لاتوجد شرعية بالذات، شرعية مطلقة، مادام من المتعذر وجود قيمة موضوعية مطلقة قادرة على أن تفرض ذاتها بذاتها بإجماع كلي.

 

حيدر جواد السهلاني

........................

الهوامش:

ينظر ريمون بولان: الأخلاق والسياسة، ترجمة عادل العوا، دار طلاس، دمشق.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم