صحيفة المثقف

الثقافة بوصفها كائناً حياً

ماهر عبد المحسنيُثار التساؤل الأخلاقي دائماً عند التعرض لأعمال ذات قيمة فنية وأخلاقية عالية ساهم في إنتاجها أناس يفتقدون، على المستوى الشخصي، لبعض أو كل الأخلاقيات التي يروجون لها في أعمالهم. فهل يمنعنا، مثلاً، إدمان دوستويفسكي للعب القمار من التعاطي مع أعماله الروائية بالرغم من قيمتها الفنية والاخلاقية الكبيرة؟  هل تفقد الأعمال الفلسفية العظيمة التى قدمها ميشيل فوكو مصداقيتها، لأن صاحبها مثلي الجنسية؟ وهل نتوقف عن سماع مطرب صاحب حنجرة مميزة وأداء مبدع، لأنه اعتاد الشرب قبل أن يشرع فى الغناء؟ هل نعزف عن مشاهدة فيلم مهم، فنياً وجمالياً، لأن مخرجه بطلاً لسلسلة من الفضائح الجنسية؟

ترتبط الإجابة عن هذه التساؤلات بطبيعة الوسيط الفني والثقافي، وتتداخل مع قضايا أخلاقية أكبر تتعلق بالاقتصاد والسياسة والإيديولوجيا. فالمنتج الثقافي، كأي سلعة، يخضع لشروط (ظروف) إنتاج، ويحتوي على عناصر إنتاج. غير أن الثقافة تختلف عن السلعة الاستهلاكية فى كونها لا تُستنفد في عملية الاستهلاك، وإنما تمتلك القدرة على تجاوز ظروف إنتاجها.

والحقيقة أن عناصر الإنتاج هي التي تمكّن الثقافة، خاصة الفنية والأدبية، من أن تتجاوز لحظتها الإنتاجية، وأن تستمر في الوجود في أزمنة لاحقة لتخاطب أناس آخرين ينتمون إلى عصور مختلفة.

ويْلاحظ أن البعد الإنساني هو العامل المشترك بين السلع المادية والسلع الفنية على السواء. فعلى المستوى الاقتصادي، تدخل ظروف الإنتاج الاجتماعية والنفسية فى تحديد قيمة السلعة، وفقاً للتحليل الماركسي، بحيث يدخل تعب العامل وسهره ومرضه ومعاناته الأسرية والحياتية فى عملية التقييم.

وعلى المستوى الثقافي (الفني) يرتبط العمل، غالباً، بالأيديولوجيا، السياسية بخاصة، بحيث يهيمن التوجّه العام للدولة على عملية الإبداع. فالدول الاشتراكية، مثلاً، تدعم الأعمال التي تروج لأفكارها، بل وتتدخل، انتاجياً وفكرياً، فى صياغة هذه الأعمال، وينطبق نفس الشيء على الدول الرأسمالية.

وفى هذا السياق، لا يمكن أن ننسى أغنيات ام كلثوم وعبد الحليم حافظ خلال سنوات الحكم الناصري، الوطنية والعاطفية، فحتى هذه الأخيرة كان يُعاد قراءتها وتقديمها بما يتفق والسياسة العامة للدولة. وليس أدل على ذلك من المقدمات الإذاعية الحماسية التي كانت تسبق حفلات أم كلثوم، خاصة التي كان يحضرها الرئيس وكبار المسئولين فى الدولة في ذلك الوقت.

ومن المفارقات الغريبة أن تجد ربطاً بين أغنية عاطفية مثل "شمس الأصيل" وبين جهود الدولة في لم شمل العرب وتحقيق حلم الوحدة العربية. كما يمكنك أن تعثر على أعمال ناجحة، لها رصيد إيجابي فى نفوس المصريين، تمت بتكليف مباشر من القيادة السياسية مثل فيلم "بورسعيد". وفى المقابل نجد أفلاماً هزلية من قبيل "شنبو في المصيدة" تم إنتاجها بعد هزيمة ٦٧ لإلهاء  الجماهير، وأغنيات مثل "عدي النهار" التي تحيل الهزيمة العسكرية إلى نوع من الانتصار النفسي، لامتصاص الغضب الشعبي واستنهاض الهمم.

والحقيقة أن ظروف الإنتاج الثقافي، خاصة السياسية الدعائية، نجدها أيضاً على مستوى العالم. شاهدنا ذلك في الأفلام التي تناولت وقائع الحرب العالمية الثانية، وتلك التي أنتجت في فترة الحرب الباردة بين أمريكا  وروسيا. وتعد الأفلام الدعائية الصهيونية هي المثال الأبرز فى هذا السياق، خاصة تلك التي تروج لمحرقة الهولوكوست، والتي تعبّر عن فكرة الشتات اليهودي، ويعد "قائمة شندلر" لستيفن سبيلبيرج، بالرغم من صبغته الإنسانية، واحداً من الأفلام ذات الأهمية الخاصة في هذا السياق، نظراً لرسالته الإيديولوجية الواضحة من ناحية، وارتفاع مستواه الفني من ناحية أخرى.

ليس هذا فحسب، بل إن تاريخ العمل نفسه بعد إنتاجه له دور في إعادة قراءة العمل واستيعابه. كأن يعلم المتلقى المنتمي لزمن لاحق أن اغنية "بهية"، مثلاً، كانت مكتوبة لمحمد رشدى، بعد نجاح أغنية "عدوية"، إلا أنه لم يرد أن يكرر نفسه فرشح لها محمد العزبى، الذى غناها، ونجحت نجاحاً كبيراً، حتى صارت واحدة من أيقونات الغناء الشعبي الأصيل. ويمكن أن نقول الكلام نفسه عن الأعمال الناجحة، التى فشلت فشلاً ذريعاً فى تاريخ عرضها الأول مثل أغنية عبد الحليم حافظ  "صافيني مرة"، وفيلمي "باب الحديد" و"الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين.

وفى كل الأحوال، تكمن الإشكالية فى العلاقة التي بين ظروف الإنتاج وعناصر الإنتاج. ففى المجال الثقافي والفني تكون ظروف الإنتاج سابقة على العملية الإبداعية ومنفصلة عن العمل، بينما تكون عناصر الإنتاج جزءاً من بنية العمل. وبمرور الزمن تختفي ظروف الإنتاج، وتبقى عناصر العمل الفنية، وهى، لكونها فنية، تملك القدرة على البقاء والاستمرار فى الحياة عبر الزمن، منفصلة ومستقلة عن ظروف إنتاجها.

وبهذا المعنى، تطرب الأجيال الجديدة، التي لم تعاصر الحكم الناصري، بانتصاراته وانكساراته،  لأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم، وتضحك على (كاركترات) فؤاد المهندس، وتصفق لبطلها الشعبي فريد شوقى وهو يقاوم، بقبضة يده، وذكاء ابن البلد، قوات الاحتلال الانجليزي في مدينة بورسعيد.

ليس هذا فحسب، بل إن الأجيال اللاحقة تقيم علاقة جديدة مع عناصر العمل دون أن تطّلع علي ظروف إنتاجه، بحيث تتعاطي معه متجردة من أية أفكار مسبقة يمكن أن تؤثر على تلقيها بالسلب، ما يجعل العمل قادراً على تشكيل وجدان هذه الأجيال. وبهذا المعنى أحببنا الوطن والجيش والرئيس، وابنة الجيران المطلة على الشارع من نافذة الجيران، بفضل أغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ.

والسؤال الأخلاقي الذى يطرح نفسه في هذا السياق، هو: إلى أى مدى يجوز لنا التوقف عن التعاطي البرئ مع هذا اللون من الأعمال الإبداعية، والبحث فى ظروف إنتاجها التاريخية، التى من شأنها أن تفقدها جمالها ومصداقيتها؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات، وتلك التي تصدرت المقال، تحتاج إلى مجموعة من الأدوات النظرية التي يمكن أن تساعدنا في تحليل مثل هذه الظواهر الثقافية، وفى هذا الصدد لن نجد أنسب من مقولات بارت وفوكو وهيدجر.

فمقولة بارت "موت المؤلف" يمكن أن تساعد في حل إشكالية العلاقة التي بين المؤلف الذى يبدع بنحو أخلاقي، ويسلك فى حياته بنحو غير أخلاقي.

ومقولة فوكو "القطيعة المعرفية" يمكن أن تفيد كثيراً فى إهدار البعد التاريخي للأعمال، وبذلك يمكن التغاضي عن السياقات الإيديولوجية التى أُنتج العمل في ظلها.

ومقولة هيدجر "اللغة بيت الوجود"، يمكن أن تسهم فى أن يحقق العمل استقلاليته، بحيث يخاطب المتلقي مباشرة دون وساطة من مؤلف أو سياق تاريخي.

وفى كل الأحوال، ينبغي التمييز بين ظروف الإنتاج وعناصر الإنتاج، بحيث تتسق وأغراض التحليل. فالذي يرغب في قراءة نقدية، فعليه بالتركيز على ظروف إنتاج العمل، وهو بهذا المعنى إنما يدخل في دائرة النقد الثقافي. ومن يرغب في قراءة جمالية، فعليه بالتركيز على عناصر إنتاج العمل، ما يعنى أنه يدخل في دائرة النقد الفني.

وفى كلتا الحالتين ينبغي ألا يستغنى الناقد عن قراءة بريئة وساذجة (انطباعية) تسبق القراءة النقدية، الثقافية أو الجمالية، كما لا ينبغي على الناقد أن يحرم القارئ العادي من لذة التعاطي البريء مع العمل، بنحو ما تفاعل المراهقون مع أغنيات العندليب العاطفية، وتفاعلت الجماهير مع بطولات فريد شوقي الشعبية والوطنية.

إن الأمر برمته أشبه بموقفين: أحدهما يهتم أكثر بالمطبخ دون السفرة، وبكواليس العروض السحرية دون السحر، وبمشاهدة (الماكينج) السينمائي دون الفيلم، وموقف آخر يمضى عكس الاتجاه تماماً.. والأمر المهم في هذا السياق هو أن كلا الموقفين صحيح.

 

د. ماهر عبد المحسن

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم