صحيفة المثقف

بوشكين والنقد الادبي

ضياء نافعالنقد – حسب تحديد بوشكين – هو (... علم يكتشف الجمال والنواقص في نتاجات الفن والادب ..)، ولكن بوشكين يضيف، ان هذا العلم يتطلب (.. الحب تجاه هذا الفن ... وعندما تحب الفنان، ابحث عن الجمال في ابداعاته...) . بوشكين لم يكن ناقدا ادبيا، ولكن مجموعة الآراء التي كتبها هنا وهناك من مقالات و ملاحظات ورسائل الى الآخرين  تمنحنا الحق ان نتكلم عن بوشكين باعتباره يمتلك نظرة نقدية واضحة المعالم، اذ يكفي ان بوشكين حدّد النقد الادبي بانه (علم)، وحدّد مهمة هذا العلم  بانه - (يكتشف الجمال والنواقص)، واستخدم بالذات فعل (يكتشف)، اي ان النقد هو (اكتشاف)، وعملية الاكتشاف هذه لا يقدر ان يمارسها اي شخص، وانما يقوم بها المكتشفون فقط، ووضع بوشكين (شرطا مهمّا) لهذا المكتشف، وهو (الحب !) نحو الفن والفنان، وذلك لأن (من يحب!) لا يمكن (ان يطعن!)، فما أجمل هذا الكلام الدقيق والواضح والحازم، الكلام الذي (يقلّ ويدلّ) حول النقد  . وهذا ما تناوله الباحثون الروس حول بوشكين و منذ زمن بعيد، وهذا ما نحاول ان نتحدث عنه بايجاز في مقالتنا هذه .

توجد العديد جدا من المصادر الروسية حول علاقة بوشكين بالنقد الادبي، وتتفق هذه المصادر(الواسعة والمتباينة جدا) بالاساس على بعض النقاط العامة والمشتركة، واول تلك النقاط  المتفق عليها، ان بوشكين لم يساهم في حركة النقد الادبي الروسية بشكل واسع في بداية مسيرته الابداعية، ولكنه في العشر سنوات الاخيرة من عمره تقريبا (منذ نهاية العشرينات في القرن التاسع عشر الى تاريخ نهايته التراجيدية ومقتله في المبارزة عام 1837) ساهم بالكتابة في المجلات الادبية الروسية، بما فيها طبعا المجلة التي اصدرها هو، وهي مجلة (سوفريمنك) (انظر مقالتنا بعنوان – بوشكين صحافيا) . النقطة الثانية، التي اتفقت عليها ايضا هذه المصادر، هي ان مجموع كل ما كتبه بوشكين في هذا المجال يبلغ (160) فقرة، مابين مقالات وملاحظات ورسائل واحاديث سجّلها ونشرها الادباء الذين كانوا يحيطون ببوشكين في تلك الفترة، وهذا الرقم الدقيق (والطريف ايضا) جاء نتيجة عمل هائل قام به العديد من الباحثين في تراث بوشكين الادبي، بما فيه دراسة ومتابعة ما كتبه حوله الادباء والاصدقاء الذين عاصروه، وتبيّن هذه النقطة بوضوح تام، ان هذا التراث البوشكيني حول مفاهيم النقد الادبي قد تم جمعه وترتيبه على مدى سنين طويلة من البحث العلمي، وباشراف متخصصين كبار  في ادب بوشكين . ونتيجة لكل هذه الجهود وصل الباحثون الى انه يمكن القول بشكل عام، ان بوشكين كان ايضا ناقدا ادبيا، وقد صدرت فعلا عدة كتب بهذا العنوان بالذات، ومنها كتاب صدر في الاتحاد السوفيتي عام 1933 وكان بمقدمة لوناتشارسكي نفسه (انظر مقالتنا بعنوان – لوناتشارسكي الفيلسوف والاديب والوزير) . يرى البعض، ان النظرة العامة في روسيا الى بوشكين مبالغ فيها الى حد ما، وان تسمية بوشكين ناقدا ادبيا جاءت نتيجة لذلك . لقد قال الناقد الروسي في القرن التاسع عشر غريغوريف حول بوشكين، انه (كل شئ)، وأشاد كبار الادباء الروس ببوشكين من غوغول الى تورغينيف ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغيرهم ، واختصر غوركي هذا الكلام بخلاصة محددة ودقيقة وهي، ان بوشكين هو (بداية كل البدايات) . ان بوشكين يستحق فعلا هذا (التكريم والتبجيل) في مسيرة تاريخ روسيا وادبها، وليس عبثا، ان الكثير من الروس يعتبرونه  حتى (رمزا لروسيا) كما حدث مرّة في احدى الندوات التلفزيونية عندما أدلى المشاهدون باصواتهم وشغل بوشكين المكان الرابع بعد نيفسكي وستالين وستوليبين، ولكن البعض الآخر – مع ذلك -  يرى ان بوشكين (بداية كل البدايات) في الادب الروسي  وليس (كل شئ) في هذا الادب .

 نعم، بوشكين شاعر روسي عظيم و رائد في كتابة الرواية الشعرية وقاص متميّز وكاتب مسرحي كبير و مؤرّخ وصحافي، ولكنه ليس ناقدا ادبيا، رغم انه أبقى في تراثه الكثير من الآراء العميقة في النقد الادبي، ولهذا نرى، انه من الاصح ان يكون عنوان هذه الدراسات عنه في هذا المجال - (بوشكين والنقد الادبي)، اذ ان هذا العنوان أكثر موضوعية ودقّة من عنوان - (بوشكين ناقدا ادبيا)، وهذا هو عنوان مقالتنا ايضا...  

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم