صحيفة المثقف

آراء سجين سياسي (2)

(هل كل سجين سياسي يجب أن يكون معارضاً لنظام صدام؟)

قد يكون من غرائب الأمور أن العناوين العامة تخفي تحتها الكثير من التفاصيل، ولا يمكن التكهّن بما تخفيه تلك العناوين حتى تصبح جزءاً من تلك المنظومة أو ضحية من ضحاياها.

وعندما يحكم الطغيان في بلد – مثل العراق- فإنّ الأكثرية الساحقة من أبناء البلد تصبح في خطر أكيد؛ لان العديد من الأفكار قد تسيطر على صاحب القرار، وبالتالي تتحول الى قوانين وقيم يجب الالتزام بها من قبل الجميع رغبة أو رهبة.

وعنوان السجين السياسي الذي ظهر في القوانين العراقية ودستورها كان من تلك القوانين العامة التي تخفي العديد من الأمور التي لا يعرف بها أحد حتى هذه اللحظة.

وربما يمكن أن نقول إن العديد من الناس الذين عاشوا في هذا البلد يعتقدون أن النظام السابق كان يبحث عن أعدائه فقط ولا يعاقب سواهم، لكن الحقيقة إن حكم الطاغية ما كان يبحث عن الاعداء بل كان يبحث عن كل شخص يفكر بينه وبين نفسه بانتقاد حكم الطغيان.

ومن هذا المنطلق ظهرت العديد من النكات عن حكم الطاغية، وكيفية ادارة البلد، وكانت تلك النكت تزداد يوماً بعد آخر نتيجة التذمر الحاصل من طول فترة الحكم، والرغبة في التنفيس عن النفس في بعض الأوقات.

ونتيجة الجهد الاستخباري الذي كان يحكم البلد كان رجال السلطة يقومون بنقل ما يدور في المجالس الخاصة للقيادة من أجل اتخاذ القرار المناسب، وكانت توجد عندنا تهمتان غريبتان وهما التهجم على الرئيس والثرثرة.

والتهجم هو ذكر الطاغية بالسب والشتم والانتقاص، والثرثرة هو كل كلام يقوله الانسان على خلاف رغبة الحزب والثورة كالتذمر أو ذكر ارتفاع الاسعار أو قول كلام لا ينبغي قوله وهكذا....

وبالمناسبة كان معي عام ١٩٨٩ ضابط بحري معتقل بتهمة الثرثرة ولما سألناه عن السبب ، قال إنه كان في ايطاليا وسمع خبرا يقول إن الرئيس العراقي تعرض لمحاولة اغتيال،  فخطر في بالي أن أتأكد من الخبر ولم تكن الاخبار من هذا النوع تصل الينا ، فاتصلت من البدالة الخاصة بالباخرة على بدالة البحرية في العراق وسالت الموظف على البدالة عن القضية فقال: هذه اشاعة ليس لها أصل، وبعد ذلك سألت احد اصدقائي هل ما قمت به كان خطأ ؟

فقال لي: ليس خطا فكنا في حرب ايران نسال عن اخطر من هذه الامور ولا احد يهتم.

لكن لما رجعت جاءني استدعاء من دائرة الامن وجاءوا بي للدائرة؛ لان الموظف في البدالة تبين أنه من رجال الاستخبارات وسجّل المكالمة واعطاها للأمن، فارسلوا لي استدعاء وانا الان موقوف لأني سالت عن حياة الرئيس عن طريق بدالة رسمية.

وهذا نموذج صارخ من مصائب نظام الطاغية فهذا الرجل ليس معارضاً ولا ضد الحزب والثورة وليس من المتديّنين حتى يفكر في اضعاف النظام، ومع ذلك أصبح سجيناً سياسياً.

وقضايا الثرثرة عادة يكون فيها الناس في حالة صحو الا ان القضية الاخطر ان قضية التهجم تكاد تصل نسبة المتهمين فيها وهم في حالة سكر الى ٩٩ بالمائة، وبحسب خبرتي في المعتقلات منذ الثمانينات حتى نهاية  عام ٢٠٠١ ما رأيت شخصاً متهماً بهذه القضية وكان يسب الرئيس وهو في حالة صحو.

وكان اكثرهم ليس لديهم مشكلة مع الحكومة، ولا ينظرون لها على أنها حكومة ظالمة، ومع ذلك أصبح هؤلاء سجناء سياسيّين، وكانت أحكامهم تصل الى أقصى العقوبات، وهي الاعدام، ومن الغريب أن هذه التهمة جمعت كل اطياف الشعب العراقي، بل والعربي، فقد رأيت متهمين بهذه التهمة من المناطق الغربية، وكان منهم شخص اخبرت عنه زوجة سفير اجنبي عندما كان سكراناً، وقال وهو في حالة السكر: استطيع أن اشتري بأموالي مائة واحد مثل صدام.

وجاء الى المعتقل وكان واضحاً عليه التعجب وتم الحكم عليه، ورأيته في قسم الأحكام السياسية  في سجن ابي غريب، بالرغم أنه كان رجلا ينتمي لعشيرة كبيس الأنبارية، وكان تاجراً عنده مصالح في البصرة.

بل كان معنا بعض العرب من المصريين وتعرضوا الى نفس المشكلة طبعا هذا المصري كان تهجمه بالمصري ومع ذلك تم اعتقاله مع أنه تهجمه على كثرة صور صدام في الشوارع ومع ذلك حكم بتهمة التهجم.

والاكثر غرابة أن أحد المصريين حكم عليه في العراق على أنه سجين سياسي لأنه تهجم على حسني مبارك الرئيس المصري، فان صدام جعل التهجم على حسني مبارك، والملك حسين بن طلال، وعلي عبد الله صالح بنفس جرم التهجم عليه، ومع أن صدام اختلف مع حسني مبارك قبل أن يتمّ الحكم على المتّهم المصري، فتم الحكم على المصري بالسجن المؤبد وفق المادة 225 من قانون العقوبات.

فكل هؤلاء الذين جاءت بهم الأقدار أصبحوا من السجناء السياسيين مع وضوح عدم وجود أي موقف سلبي عندهم من النظام البعثي سوى ما يقولونه خلال سكرهم أو حديثهم العام عن الاوضاع مثل السؤال والاطمئنان عن حياة الرئيس.

وفي السنوات العشر الاخيرة  كانت هذه التهم هي التهم الاكثر  رواجاً في الدوائر الامنية؛ بسبب الحصار الاقتصادي، وكثرة الكلام عن الاوضاع الاقتصادية، ونشاط المخبرين المتزايد بسبب الازمة المالية، حيث كان يحرص البعض منهم على زيادة نسبة الاخباريات الكيدية من اجل الحصول على المال؛  لسوء الرواتب التي كان يتعاطاها موظفو الدولة في الدوائر الامنية حتى وصل الأمر في السنوات الاخيرة ان تجد منتسبي الدوائر الامنية في المعتقلات مع السجناء السياسيين؛ بسبب الهروب من الوظيفة، وكان عدد من الموظفين في المعتقل معي عام ٢٠٠١ بسبب أوضاعهم الاقتصادية، وكان واحد منهم يكلم السجان ويقول له: حتى لو عدت للوظيفة سوف اهرب من جديد؛ لأني مضطر بسبب متطلبات البيت وقلّة الراتب.

من هنا نقول إن بعض القضايا التي استحدثها النظام البعثي الظالم جعلت المعتقلات تمتليء بالمتهمين غير المعارضين للنظام البعثي، وانما هم مجموعة من المواطنين قالوا بعض الكلمات في أوضاع خاصة، أو بسبب الضغط الاقتصادي فأصبحوا بقدرة قادر الى معارضين .

فالقول إن السجين السياسي (المحكوم بقانون الطاغية صدام) هو شخص معارض للنظام كلام غير دقيق؛ ولا بد من التمييز بين السجين بسبب الموقف السياسي المعارض وبين الشخص الذي يقوده قدره ليصبح سجيناً؛ بسبب طول لسانه، أو ثرثرته -كما يقول قانون الطاغية صدام- بأمور غير مناسبة.

فهناك سجناء سياسيّون صنعهم القانون الغاشم للطاغية وهم ليسوا على خلاف حقيقي مع النظام، نعم البعض منهم -بسبب سوء المعاملة- تغيّر موقفه من الحكومة؛ لكنّه في الحقيقة ليس معارضاً للنظام البعثي.

 

جميل مانع البزوني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم