صحيفة المثقف

أرواح قلقة في (طريق البلقان)

ثامر الحاج امينيعد أدب الرحلات واحداً من أقدم الآداب التي عرفها الانسان وخاض تجربة الكتابة فيه، فالمعروف عن الرحالة العربي ابن بطوطة انه أول من فتح باب الكتابة الأدبية عندما دوّن رحلاته وأسفاره المتعددة في كتاب (تحفة النظارفي غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) الذي يعتبر من اشهر كتب الرحلات في التاريخ .

 وفي عصرنا الحديث كاد هذا النوع من الكتابة ان يغيب بشكل ملحوظ عن الساحة الأدبية العربية  لولا بعض الكتاب العرب الذين بادروا الى احيائه عبر تدوين رحلاتهم في كتب ممتعة يقف في مقدمتها كتاب (حول العالم في 200 يوم ) للكاتب المصري انيس منصور الذي رصد فيه الاحوال السياسية والثقافية والاجتماعية لعدد من مدن العالم خصوصا مدن شرق اسيا .

وبالرغم من القيمة العلمية والابداعية لهذا الجنس الأدبي لما يقدمه من معلومات وحقائق جغرافية وتاريخية وانثربولوجية من خلال الاستكشاف والتعريف بتاريخ الشعوب واحوالها الاجتماعية وايضا لما ينطوي عليه من سمات فنية تظهر فيه معظم خصائص النص السردي، الا ان أدبنا العراقي ظل يفقتقر كثيرا لمثل هذه الكتابات الممتعة والمفيدة، وكانت خطوة موفقة من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق عندما اختار واحدا من مطبوعاته يتعلق بأدب الرحلات هو كتاب الشاعر العراقي حسن عبد راضي (طريق البلقان) فهو يسرد وقائع تجربة خاضها الكاتب في رحلة لجوئه الى دول البلقان عن طريق الهجرة غيرالشرعية عبر التهريب وبمغامرة  رافقتها الكثير من الاخطار والصعوبات والمواقف القاسية .

يتخذ الكاتب في هذا النص من ضميرالمتكلم (الأنا) اداة لسرد وقائع تجربته الشخصية حيث يدرك بحكم باعه الطويل في الكتابة الابداعية ان هذا الضمير يتيح له مخاطبة القاريء مباشرة ويوصل له مشاعره بشكل  صادق ودقيق، كما جاءت بنية النص تحمل في داخلها الدلالات النفسية والوجدانية وكذلك الامساك المحكم بعنصري الزمان والمكان الى درجة جعلت من تسلسل الحوادث وتناميها مريحة للقاريء، فعبر لغة شاعرية صافية أجادت تجسيد المشاعر يتنقل بنا "عبد راضي" بين محطات سفره الطويل صوب المجهول مجسدا لنا مأساة الانسان في رحلة بحثه عن الأستقرار والأمان حيث تشعر بحيرته وقلقه منذ (وداع بغداد) الفصل الذي استهل به نقطة انطلاقه صوب العذابات حتى نجاحه في الوصول الى ألمانيا آخر محطات مغامرته، فخلال فصول الرحلة التي قاربت العشرين فصلا نعيش ساعات ثقيلة من الخوف والترقب يكشف فيها الكاتب فداحة الثمن الذي تدفعه الأرواح الهاربة من جحيم اوطانها الى فضاءات الحرية، حيث القلق ومواجهة المخاطر والمساومات من قبل المهربين  وكذلك اتخاذ الدول من قضية المهاجرين وسيلة ابتزاز للحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية وسقوط كذبة التعاطف مع مجاميع اللاجئين الوافدين اليها (كان الاعلام يتحدث عن التعاطف الشعبي والحكومي والأممي، لكن على الأرض كان الواقع يقول أشياء اخرى ص 91 ) حيث قتل الكثير منهم باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ومنها ماحصل في مذبحة الورد، وبهدف الأمتاع وطرد الملل عند القاريء جراء متابعته تفاصيل الرحلة فان الكاتب يلجأ الى تبسيط النص و تطريزه بشذرات معرفية تمثل واحات في طريق تلك الرحلة الشاقة وذلك من خلال  الهوامش التعريفية بالشخصيات والاماكن الوارد ذكرها في ثناياه مستعينا  بالمصادرالمختلفة  وحتى الاجنبية منها  وكذلك في تضمينه الكثير من اشعار المتنبي  ومظفر النواب وعريان السيد خلف لموائمة الحدث مع الاشعار، كاشفا بذلك عن خزينه الثقافي الغني بالمعرفة  اضافة الى استخدامه تقنية الفلاش باك لتعزيز مصداقية حكاياته الآنية من خلال ربطها بحادث آخر، وفي خضم سوداوية الحوادث الموشحة بصنوف الخوف والمعاناة والقلق من المصير المجهول تبرز مواقف انسانية مشرقة لخلق حالة توازن تهدف الى اعادة الثقة بوجود قيم الخيرعند البعض ممثلة بوقفة الكاتب مع العائلة السورية المكونة من ام وابنتها التي قضت معه اسبوعين وهي المدة التي استغرقتها الرحلة حيث سهر على رعايتها وحمايتها من الاستغلال مجسدا بمواقفه الشهامة والغيرة اللتان يتحلى بهما الانسان العراقي الأصيل .

(طريق البلقان) نص مكتنز بالمعلومات، مضيء بالمعاني الانسانية، يحكي رحلة حيوات بريئة تنشد الاستقرار والأمان عبر مغامرة رافقتها الكثير من المعاناة التي رغم قسوتها فانك تشعر بالمتعة وانت تتابع معها طريقها الشاق والطويل .

 

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم