شهادات ومذكرات

نسيم بلحاج صالح: نادي الترقي بالجزائر العاصمة

النشأة، النشاط، الدور في تأكيد الهوية الجزائرية 1927-1962

بقلم: نسيم بلحاج صالح العقبي

23/01/2016

ترجمه من الفرنسية: حمزة بلحاج صالح

***

في نادي الترقي، انعقد مؤتمر نداء للهدنة المدنية و ذلك في 22 يناير 1956.. إن إسم مكان انعقاد المؤتمر" نادي الترقي " يبدو لأول وهلة لمن لا يعلم بأنه غير مهم أو يكاد يكون مجهولا وهو في الواقع اسم جمعية تم إنشاؤها في إطار ما يسمى بقانون عام 1901 ويقع مقرها الرئيسي في "9، ساحة الحكومة" (ساحة الشهداء اليوم)، بالجزائر العاصمة.

بدأ نشاط النادي سنة 1927 وتوقف خلال حرب الاستقلال، وهي الفترة التي استولى فيها الجنرال "ماسي" بالقوة على المبنى أي مقر النادي وطرد جمعية النادي، من أجل استخدامه كمقر ل" عمله النفسي السيكولوجي" ضد الجزائريين و أيضا لمبادرة نسوية مع زوجته "سوزان ماسي" و"لوسيان " زوجة الجنرال "صالان".

كان الهدف الحقيقي هو الإستيلاء على هذا المكان المهم وتحييده عن دوره الأول و حرمان الجماعة المسلمة منه في ذلك الوقت تحديدا والتي كانت بأغلبية ملتزمًة مؤيدة بشكل أساسي للكفاح من أجل الاستقلال.

إن جمعية نادي الترقي، التي أنشأتها عائلات جزائرية في القصبة السفلى حيث أماكن اجتماعهم الرئيسية، حددت لنفسها "هدف المساعدة في التعليم الفكري والاقتصادي والاجتماعي للمسلمين الجزائريين".

علما بأنه وفي هذا التوقيت كان إنشاء جمعية للجماعة المسلمة لا يختلف عن انشاء جمعية يهودية أو مسيحية، و كان أمرًا شائعًا و معهودا.

بدايات جمعية نادي الترقي في الجزائر

فور إنشائها و بدعم من شخصيات عديدة، نظمت جمعية " نادي الترقي" مؤتمرات متنوعة الموضوعات، حيث تم تناول، على سبيل المثال: "روح الإسلام"، " أهمية التعليم الثانوي للمسلمين الجزائريين"، "علم النفس التربوي (أو التعليمي) التطبيقي"، " داء الزهري آفة اجتماعية "، " عرض حول رابطة حقوق الإنسان أهدافها وفائدتها "، " داء السل وسيلة الوقاية منه "، " الزراعة "، " ممارسة الرياضة " "،.. إلخ

كانت العديد من الجمعيات تمارس أنشطتها جزئيًا أو كليًا داخل النادي ونذكر منها على وجه الخصوص جمعيات ذات النشاط الموسيقي المكثف بمقر النادي، مع الفرق الموسيقية الأندلسية التابعة لجمعية المطربية (لا ميلوديوز)، التي تم إنشاؤها حوالي عام 1911، والأندلسية (الأندلس)، المولودة في عام 1929، والتي كانت تقدم في عدة مناسبات حفلات موسيقية في القاعة الكبيرة . أما الجمعية الموسيقية الجزائرية التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1930، فمقرها الرئيسي كان بنادي الترقي ؛...

كما عقدت جمعية المدرسين من أصل جزائري "الأنديجان" (تسمية للاستعمار الفرنسي) مؤتمرها هناك يومي 3 و 4 أبريل 1928؛

كما استقرت الجمعية الرياضية " نادي مولودية الجزائر" أو مولودية الجزائر في نادي الترقي وبدأت نشاطها هناك سنة 1928، وكان سي محمود بن صيام رئيسا لها وسي الطاهر علي الشريف نائبا للرئيس. وردا على سؤال حول توافق ممارسة الرياضة مع الإسلام الذي كان يطرحه التقليديون، و غالبا ما كانت موضع استهجان من قبلهم في ذلك الوقت، حيث دعم الشيخ العقبي قادة مولودية الجزائر في نهجهم لتشجيع الأنشطة البدنية، وخاصة كرة القدم كرياضة جماهيرية، مقبولة بل متقبلة من قبل الجزائريين بل كانت من عناصر تأكيد الهوية[1].

وفي الوقت نفسه، كانت القاعة الكبيرة للنادي تُستخدم لتقديم العروض ومن الشخصيات الفنية التي قدمت عروضا هنالك، نذكر التينور محي الدين بشتارزي، ماري سوزان، ريجينا، بن شريف، رويمي، زميرو، فخارجي، رشيد قسنطيني، السلالي علي المعروف ب" علالو"، بوشارة، “الشيخ الموسيقار”، لي لي عباسي،... إلخ.

كان نادي الترقي مفتوحا أيضًا للعمل الاجتماعي كما يتضح من جمع التبرعات والاشتراكات الذي تم تنظيمه لصالح المتضررين من سوء الأحوال الجوية في الجزائر في نهاية عام 1927، وهو العام الذي تسبب فيه سوء الأحوال الجوية في أضرار جسيمة وحصد العديد من الضحايا وتشكلت بعد ذلك حملة تضامن وطنية انضم إليها النادي بحشد كل وسائله، حسبما أوردته صحيفة " ليكو دالجي " صدى الجزائر.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التنوع في الأنشطة، بدأ قادة نادي الترقي، وهم أشخاص أتقياء و متدينين يرغبون في تعميق تدخلهم، في البحث عن محاضر دائم يكون على دراية بالمسائل الدينية وهكذا تواصلوا مع الشيخ العقبي، بعد أن التقوا به في يناير 1930 في مدينة بوسعادة أثناء دفن الرسام و الفنان الذي اعتنق الإسلام، نصر الدين إتيان دينيه، حيث ألقى تأبينًا قويا ومثيرًا للإعجاب.

قدوم الشيخ الطيب العقبي الى نادي الترقي

ولد الطيب العقبي (1889-1960) في بلدة سيدي عقبة (بسكرة)، وهاجر وهو في الخامسة من عمره مع عائلته إلى الحجاز حيث، بعد تكوين متين في العلوم الإسلامية و اللغة كعالم، أصبح مستشارًا للشريف حسين الذي عهد إليه بشؤون تحرير(إدارة) الجريدة الإصلاحية الموسوم" القبلة" ؛ كما وضع تحت الإقامة الجبرية من قبل السلطات العثمانية خلال الحرب الكبرى، ثم عاد إلى الجزائر في عام 1920، وأنشأ صحيفة في عام 1927 بعنوان " الإصلاح" تميز و عرف بموهبته الخطابية وكفاحه ضد المرابطية والطرقية المنحرفة.

وبناء على اقتراح سي محمود بن صيام وسي محمد بن مرابط، تمت دعوته من قبل مجلس إدارة النادي  الذي كان يتولى رئاسته في ذلك الوقت سي المنصالي حاج "ماماد" و أظن يعنون به محمد وفور وصوله تمكن من اختطاف انظار وعقول و وجدان الجماهير.

ثم انتشرت الأفكار الجديدة للنهضة والإصلاح بقوة في العاصمة الجزائرية، مما مهد الطريق لإنشاء جمعية العلماء في مايو 1931، والتي أصبح مقرها هي أيضًا في نادي الترقي .

أصبح هذا الجمهور أكثر عددًا وأكثر تنوعًا، وسرعان ما تمتلئ القاعة الرئيسية للنادي، حيث تحضر جميع الطبقات الاجتماعية، من بسطاء الناس،و منهم لا على سبيل الحصر عمال الرصيف في الميناء، وعلى رأسهم مسؤولهم النقابي حاج نافع إلى الطبقات المتوسطة و الميسورة ماديا التي كانت في الأصل وراء تأسيس النادي بدعمها المادي و مبادرة بعض الأثرياء.

وتفيد الشهادات المختلفة إلى أن الشيخ العقبي كان يتنقل في حي القصبة ومحيطها لتشجيع الناس على عدم اليأس من الحياة؛ حيث في الواقع، كانت حالة معظم الجزائريين صعبة للغاية: الازدواج الضريبي الذي تواصل إلى غاية الحرب العالمية الأولى، والرواتب المتدنية والضعيفة دون رواتب الأوروبيين، مع حرمانهم من ممارسة بعض المهن والأعمال مما يساهم في إفقارهم أكثر.

أثار تأثير الطيب العقبي على الجماهير قلق السلطة الاستعمارية بدرجة كافية إلى أنه في فبراير 1933، تم منعه من الخطابة في المساجد بموجب ما يسمى بـ "تعليمة ميشيل". وعلى الرغم من هذه العقبة، فإن نادي الترقي كبر وذاع صيته و أشع و انتشر الوعي منه بعد فضل الله بفضل نشاط الطيب العقبي به ودعونا نذكر أن ذلك تم أيضا بفضل المؤسسين و المشاركين في تأسيسه.

تجدر الإشارة إلى ضرورة ذكر بعض الجمعيات التي تطور وأشع نشاطها مباشرة بعد تأسيسها و تنصيبها، وبعضها وجد العون والمساعدة من جهة نادي الترقي الذي اصبح مقرا رئيسيا لها أو مؤقتا نذكر من بينها جمعية الطلاب المسلمين في شمال إفريقيا، وجمعية وكلاء القضاء، والرابطة الإسلامية لمكافحة الكحول التي نشطها كل من الشيخ الطيب العقبي وعبد الرحمن جيلالي، وشركة الزكاة (التطهير) التي تم إنشاؤها في مايو 1931، والتي تهدف إلى تعزيز التعليم والتربية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين الجزائريين، والتي أنشأها بعض أعضاء النادي، وبالطبع نذكر أيضا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإصلاحية التي عقدت جمعيتها التأسيسية هناك في 5 مايو 1931 وكان الشيخ العقبي أحد أعضائها المؤسسين ثم إستقال منها عام 1938.

كما تم إيلاء أهمية خاصة لتنمية الشبيبة (الشباب)، وهي جمعية تأسست على مبدأ التربية الفكرية للشباب المسلمين دون تمييز طبقي، والتي كانت ملحقة ومرتبطة بنادي الترقي وكانت مدرسة مختلطة حيث أصر الشيخ الطيب العقبي على إدخال تعلم اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية. ومن تلاميذها نجد بوراس محمد الذي كان يحضر دروسا مسائية، علي فضي، الفنان حطاب محمد المعروف بالحبيب رضا، سيد علي عبد الحميد، المطرب عبابسة عبد الحميد، الفنان عبد الرحمن عزيز، الإمام قادة بن يوسف، عضو مؤسس مع سعد الله. بوعلام وعمر لاغا من جمعية "الكشافة الإسلامية الجزائرية" القطب (النجم القطبي)، الممثل سيساني، السيدة بوفجي شامة، معلمة ومديرة مدرسة حرة، السيدة بوزكري عزة أرملة عبان رمضان ثم زوجة سليمان. دهيليز، الخ.

أما جمعية مساعدة المحتاجين "الخيرية" التي أنشأها أعضاء نادي الترقي سنة 1933، فهي تقوم بأنشطة متعددة، مثل توزيع الوجبات على المحتاجين (التي بلغت، في فترة معينة، إلى 1200 وجبة يوميا)، مساعدات غذائية للعائلات، وصنع ملابس للكشافة المسلمة في ورش الخياطة للفتيات الصغيرات، وإنشاء ملجأ ليلي للمحتاجين في القصبة، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية .

كما أن الشيخ الطيب العقبي هو في الأساس من كان وراء إنشاء “اتحاد المؤمنين الموحدين”[2]، المؤلف من المسلمين والمسيحيين واليهود، أي كل أهل الكتاب، بدعم من الأمين العمودي، رئيس تحرير صحيفة " لا ديفانس"  المقربة من العلماء، والصحفي هنري بيرنييه، إيلي غوزلان للجاليات اليهودية، والأب مونشانين والزوجين اللذين قام بتكوينهما كل من المهندس جان سيليس والمعمارية جين سيليس-ميلي للكاثوليك حيث تنظم الجمعية مؤتمرات ومناقشات في النادي حول مواضيع ذات اهتمام مشترك للديانات الثلاث أو ذات أهمية اجتماعية، على سبيل المثال، مؤتمر عقد عام 1939 حول خطورة استخدام "المساحيق البيضاء" والهيروين والكوكايين..

بعد الحرب، كان البروفيسور أندريه ماندوز والنقابي المسيحي ألكسندر شوليه من بين “أهل الكتاب” الذين زاروه.

وفي مقابلة أجراها يوجين مانوني مع صحيفة لوموند في يناير 1957، أكد الطيب العقبي مصرحا ما يلي: “ أود أن أشيد بالمبادرة و العمل الإنساني والأخوي البارز الذي قام به هنا [في الجزائر] ممثلو الديانات الثلاث ومنظمات المجتمع المدني”. ولا سيما  المونسنيور دوفال، الذي وصلت كلمته في الخطبة التي أعقبت أحداث 29 ديسمبر مباشرة إلى قلوب المسلمين ” [3].

وفي مقر النادي بساحة الحكومة أيضا تأسس "مؤتمر المسلمين الجزائريين" في يونيو 1936، والذي جمع كل التيارات السياسية، باستثناء نجم شمال أفريقيا مصالي الحاج، و حضره كل من العلماء ومنهم  الشيخ عبد الحميد بن باديس والحزب الشيوعي الجزائري مرورا بالدكتور محمد صلاح بن جلول الذي كان أول رئيس له، ولمين لعمودي، وعبد الرحمان بوكردنة، وفرتشوخ عمارة، وفرحات عباس، والدكتور شريف سعدان، ...إلخ.

ذهب وفد إلى باريس في يوليو 1936 لتسليم أرضية المطالب الى حكومة الجبهة الشعبية.

خلال اجتماع جديد للمؤتمر سنة 1937، برز الشيخ العقبي بهذا الإعلان: “ ضد هؤلاء المستغلين، لا يطالب الجزائريون المسلمون بمصادرة الملكية. إنهم يطلبون منهم فقط أن يعاملوا مثل الرجال. شئنا أم أبينا، هناك جزائر جديدة: إن الشباب الجزائري مصمم على الحصول على حقوقه ورضاه المشروع بكل الوسائل القانونية. و إذا استطاع المستوطنون الكبار أن يفهموا الشباب، فسنكون أصدقاء لهم. وفي كل الأحوال، فإن الإبقاء على الوضع الحالي أمر لا يطاق. فالموت بدل هذه الحياة الحزينة! »[4].

وخلال استقباله للوفد البرلماني بقيادة النائب الاشتراكي المارتينيكي، جوزيف لاغرو سيليير، شارك و أبلغ عن التطور الذي شهده الشعب الجزائري تحت تأثير العلماء ودافع عن هذه الإصلاحات التي يتعين تنفيذها في أسرع وقت ممكن: إلغاء قانون السكان الأصليين مع صيانة الأحوال الشخصية للمسلمين، حرية ممارسة العبادات الإسلامية، حرية تدريس اللغة العربية، احترام الحق في فتح المدارس المجانية.

كما عقد شباب المؤتمر الإسلامي الجزائري بقيادة لمين العمودي وحمودة أحمد وعمر عيشون أنشطته في نادي الترقي .

وقد دخل المؤتمر الإسلامي في حالة من السكون تدريجيًا بعد التخلي في نهاية عام 1937 عما يسمى بمشروع الإصلاح "بلوم-فيوليت" الذي كان يدعمه.

إن إنشاء القسم الكشفي للجزائر الفلاح (الخلاص) عام 1935 بمساعدة مشتركة من كل من الشيخ الطيب العقبي ومحمود بن صيام، قد شكل النواة والأساس لاتحاد أو فدرالية الكشافة الإسلامية الجزائرية.

كما انعقد المؤتمر و تم ذلك بالحراش أين حضر الشيخ العقبي مع صديقه التاجر سي عباس التركي، واختتم المؤتمر الأول في نادي الترقي الذي كان رئيسه في ذلك الوقت سي محمد بن مرابط[5].

عقدت الحركة معظم جمعياتها العامة هناك منذ عام 1936 حتى وفاة مؤسسها سي محمد بوراس عام 1941، وهو أيضًا عضو في مولودية الجزائر، والذي حضر مؤتمرات الشيخ العقبي ورافقه في رحلاته.

علماً أن غالبية الكشافة المنتمين إلى جماعة الفلاح جاءوا من مدرسة الشبيبة، وكانوا كثيراً ما يتواجدون في المناسبات التي يحضرها الشيخ العقبي مثل احتفالات المدرسة.

إن العديد من الأعضاء المؤسسين للفدرالية كانوا من المرتادين والمنتظمين في نادي الترقي، مثل عمر لاغا، الذي كان مشاركا مواضبا في مؤتمراتها، وأحمد مزغانة ومختار بوعزيز، مديري الجمعيات التي يرأسها الشيخ العقبي، أو أحمد حمودة وساتور حميدة، و هم غالباً المتحدثون و المتدخلون و المحاضرون في نادي الترقي ولنذكر أيضًا عمل شركة الكوكب للتمثيل المسرحي الجزائري، وهي جمعية لترقية المسرح الجزائري برعاية و تزكية و تشجيع كل من الشاعر المناضل مفدي زكريا و الشيخ الطيب العقبي و التي اتخذت من نادي الترقي مقرا لها.

وأخيراً تشكلت “لجنة الدفاع عن فلسطين” سنة 1949 برئاسة الشيخ العقبي، ومشاركة العمودي والمفتيان الشيخ بابا عامر والشيخ عاصمي محمد وسي محمود بن صيام والمندوب بشير بن يدجرة عضو اتحاد البيان الجزائري. (UDMA) للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

وتم إرسال برقية إلى روبرت شومان، وزير الخارجية وصاحب مبادرة بناء الاتحاد الأوروبي، لاطلاعه على عمل اللجنة.

كما حضرت اللجنة و أعدت للمهمة التي قادها الشيخ العقبي عام 1950 إلى القدس مع الصحفي محمد بن حورة، وولي الفنان و الرسام " بايا"، وعالم الإسلاميات لويس ماسينيون، بهدف الحصول على الحقوق المعترف بها على الحبوس الجزائري ل" سيدي بومدين " والتعبير عن تضامن الشعب الجزائري ودعمه للقضية الفلسطينية. وبمناسبة هذه الرحلة، ألقى الشيخ الطيب العقبي خطبة في مسجد عمر، في الخليل وعمان.

بعض مواقف الشيخ الطيب العقبي

وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق في نهاية الثلاثينيات، لم يكن بوسع الشيخ العقبي، رجل الدين، إلا أن يشجع الجهود من أجل الوئام والسلام؛ كما سيُظهر علنًا دعمه لجهود السلام التي كانت فرنسا تنشرها آنذاك بالنسبة لهذه القضية، وذلك بإرسال برقية موجهة إلى الشعب الفرنسي باسم " نادي الترقي "، وهي مبادرة ستؤدي إلى النأي بنفسها عن العلماء الذين يعتقدون أن الحرب لا تعني الجزائريين. وقد استلهم هذا الموقف من ذكرى الحرب الكبرى التي شهدت، في 11 نوفمبر 1918، تواجد 260 ألف جندي مسلم "تحت الأعلام"، ومقتل 35900 رجل هناك[6]. وإذا كان الشيخ الطيب العقبي قد شارك السراب و الأوهام التي وضعتها اتفاقيات ميونيخ، فإنه لم يبد قط أدنى تساهل او تعاطف تجاه النازية والفاشية، وهي مذاهب تتعارض في نظره مع قيم الإنسان، وهي مصدر صراع كلف حوالي 60 مليون من الموتى، مع كون السكان غير الأوروبيين في غير منأى.

بمجرد بدء الأعمال العدائية، أثناء محاولته الحفاظ على مصالح الجزائريين، رفض الشيخ الطيب العقبي بوضوح دعم تشريع فيشي المناهض لليهود على الرغم من طلب الحكومة العامة في هذا الإتجاه بل على العكس من ذلك، فهو يرغب في التوقيع على إدانة قوية معارضة للغاية كتبها المحامي أحمد بومنجل الذي دافع في ذلك الوقت عن نشطاء حزب الشعب الجزائري .

ويؤكد هنري أليغ أن الشيخ الطيب العقبي، إيمانًا منه بمفهومه للتضامن بين أهل الكتاب، عارض محاولة إدارة فيشي الاستعمارية تحريض المسلمين على القيام بأعمال ضد اليهود، وأمرهم على العكس بعدم المشاركة في الأعمال العدائية. التي أدانها الدين.

وقد كان هذا الموقف الأخلاقي متسقاً ومتوافقا مسبقاً مع المتطلبات التي كرّسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد عام 1948، حيث نص على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه" (المادة 1). 3)، وأنه " لا يجوز حرمان أحد من ملكه تعسفاً " (المادة 17).).

من نهاية عام 1943، شكلت و تكونت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني و في الجزائر بالعاصمة وفي يونيو/حزيران الماضي، تحت سلطة الجنرال جورج كاترو، لجنة للإصلاحات الإسلامية تُدعى إليها جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب الشعب الجزائري والذي أصبح في عام 1946حركة انتصار الحريات الديمقراطية مع مصالي الحاج، و اتحاد مع فرحات عباس والعلماء وشخصيات من المجتمع المدني. و كان عضو هذه اللجنة الشيخ الطيب العقبي و هو الوحيد الذي اقترح على السلطات إطلاق سراح مصالي الحاج " الذي يمثل حزبه أغلبية الشعب الجزائري" ويقدر أن غيابه سيكون ثغرة كبيرة في عمل اللجنة (و هو الذي استمعت اليه اللجنة في النهاية خلال دورتها و جلساتها التاسعة).

و لقد أيد الشيخ الطيب العقبي بدوره مقترحات فرحات عباس وهيئة العلماء والشيخ بيوض.

وفي جلسة الاستماع الى الطيب العقبي، دافع عن إلغاء القوانين الاستثنائية والوضع الأصلي" الانديجينا "، والفصل بين الدين والدولة (حيث ظلت العبادة الإسلامية تدار من قبل الإدارة، على عكس اليهودية والمسيحية التي استفادت من نظام قانون عام 1905)، والمساواة في الحقوق لجميع الجزائريين، والحقوق السياسية دون استثناء مع الحفاظ على الأحوال الشخصية للمسلمين، والوصول إلى جميع مناصب السلطة، والمساواة في عدد المندوبين مع الأوروبيين في المجالس الجزائرية، وحق المواطنين المتجنسين في العودة إلى الأحوال الشخصية الاصلية " مسلم"...

كما استلهم التقرير النهائي نهجاً مماثلاً، واستحضر أيضاً التفاوت غير المبرر في الرواتب أو الأجور العسكرية بين الأوروبيين والمسلمين المنخرطين في نفس الحرب.

إذا جاءت متأخرة خطوات التقدم المدني بالنسبة لأمرية 7 مارس 1944 "المتعلقة بوضع المسلمين الفرنسيين في الجزائر" و التي أبطلتها بسرعة (مجازر قسنطينة) في مايو ويونيو 1945، ثم بسبب التزوير الانتخابي الذي نظمته الإدارة الاستعمارية، فإن لجنة إصلاحات 1944، كما هو الحال مع المؤتمر الإسلامي لسنتي 1936-1937، كان لها على الأقل ميزة إظهار قدرة الشخصيات الجزائرية على تأكيد آرائها وتقديم مطالبها إلى السلطات من أجل النهوض بحقوق الإنسان بطريقة سلمية ومنظمة.

في عام 1947، كان للشيخ الطيب العقبي، في جريدته الإصلاح، السبق في مواصلة النضال من اجل حق تقرير المصير : “لا وصاية، ولا محمية، ولا استعمار، ولا حيازة، لبلد أو أمة دون رضاها […]، بل حرية”. اختيار المصير لجميع الشعوب، كما أن استقلال أي أمة، مبدأ ثابت في عالم اليوم، وهو حق مقدس في نظر أي أمة[7]. » .

لم يتم الاستماع إلى الفاعلين السياسيين في ذلك الوقت، وجاء جيل آخر وجعل صوته مسموعًا بطريقة أخرى في الأول من نوفمبر عام 1954.

من نداء الهدنة المدنية إلى الجزائر جزائرية

قبل يومين من مؤتمر 22 يناير 1956، وفي مواجهة التهديد المعلن بتدخل عدائي من قبل الألتراس، كان على اللجنة التي كانت أصل الدعوة إلى هدنة مدنية أن تلاحظ أن جميع القاعات الأوروبية كانت مغلقة أمامها. وكان المكان الوحيد الذي يمكن أن يلبي المتطلبات الأمنية ويتوافق مع روح هذا الاجتماع هو قاعة " نادي الترقي" التي اقترحها أعضاؤها من أصل مسلم على اللجنة.

ومما لا شك فيه أن الرمزية الفرنسية الجزائرية لهذا اللقاء تعززت بشكل كبير من خلال هذا الاحتجاز على حافة القصبة ومن خلال ذكرى المظاهرات المتعددة سواء للتأكيد على الهوية الجزائرية أو للحوار بين المجتمعات التي رحب بها النادي. كان عمر عيشون، عضو " نادي الترقي " وجبهة التحرير الوطني، مسؤولا عن الأمن في مكان انعقاد المؤتمر، يساعده في الخارج نشطاء جبهة التحرير الوطني. وعلى الجانب الجزائري، كل شيء جرى بهدوء، دون أي تجاوزات. وهكذا تمكنت خدمة الشرطة التي حشدتها الإدارة من احتواء المتظاهرين المناهضين للاجتماع هذا " الألتراس" .

ومن خلال الضغط الذي مارسوه على السلطات على أعلى مستوى خلال السادس من فبراير/شباط تباعا، فإنهم بلا شك قد نجحوا في حجر نداء للهدنة لم تبدي حكومة "موليه" أدنى متابعة له أو رد عليه. ومع ذلك، يبقى الفضل لأولئك الذين سمحوا على الأقل بإطلاق هذا النداء في 22 يناير 1956 والذين من بينهم الشيخ الطيب العقبي، الذي كان هذا آخر ظهور علني له.

وفي وقت مبكر من عام 1955، ومع عدم وجود و لو وهم و سراب لمنفذ و مخرج سلمي وحول احتمالات التوصل إلى نتيجة سلمية، أعلن الشيخ الطيب العقبي ل"روبرت بارات" قائلا: " إن وجود غاندي مستحيل في الجزائر... ولو وجد لقتلوه"

وفي بداية عام 1956، إنضم معظم أتباع الطيب العقبي و نادي الترقي إلى جبهة التحرير الوطني وبعد بضعة أشهر، في 14 و15 سبتمبر، انعقد بمقر نادي الترقي (وتحت مسؤولية هذه المرة سي محمود بن صيام) المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للتجار الجزائريين، وهو منظمة تابعة لجبهة التحرير الوطني يرأسها المقربون من الشيخ الطيب العقبي ومنهم سي عمر عيشون رئيسا وسي عباس تركي نائبا للرئيس.

من خلال التسخير و الاستيلاء على مقر" نادي الترقي" في 1 يونيو 1958، لم يستطع الجنرال ماسو أن يتجاهل بأنه كان يحرم الجزائريين مما كان منتداهم المدني والثقافي الرئيسي لمدة ثلاثين عامًا.

أما البقية فهي متوقعة وكانت منتظرة ومعلومة و هي: علي بومنجل، هذا المدافع عن القانون مثل شقيقه أحمد بومنجل، الذي تم طرده من النافذة من قبل الجنرال أوساريس الذي كان النائب المباشر للجنرال ماسو .

كان الجنرال راؤول سالان زعيم المنظمة العسكرية السرية سيئة السمعة ومن خلال سياسة الأرض المحروقة "، يريد خلق واقع مأسوي لا يمكن علاجه وتدمير كل العلاقات الطبيعية والإنسانية التي تربط ما بين المجتمعات، الأمر الذي دفع الأوروبيين في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد خيار آخر غير "الحقيبة أو التابوت".

كان رينيه سينتيس، أصغر أعضاء لجنة الهدنة المدنية، من بين ضحايا هذا المشروع الإجرامي الذي استطاع الأب سكوتو أن يقول عنه: " حتى أنفاسي الأخيرة، سأحقد و أكره المنظمة العسكرية السرية باعتبارها منظمة إجرامية. ليس فقط لأنها قتلت قلب الشعب الذي أنتمي إليه، بل قتلت قلب شعبي المكون من الأقدام السوداء.

بل لقد اغتصبتهم " المنظمة المسلحة السرية " هذا الشعب يستحق أفضل مما تعرض إليه" [8].

في 12 أغسطس 1962، أعاد نادي الترقي تثبيت مقره الذي أعيد إليه رسميا بالعنوان 9 ساحة الحكومة القديمة .

معرض سرد تاريخ هذا المكان، لن يفوّت عمر عيشون، الذي أصبح رئيسا له، أن يذكر، باسم الجزائر الجديدة، المؤتمر الأخير في الجزائر العاصمة، في عام 1956، لمواطننا الراحل ألبير كامو[9].

***

.....................

الهوامش

[1] انظر رابح سعد الله وجمال بن فارس، روعة المولودية 1921-1956، طبعة العثمانية، الجزائر، 2009؛ اسم النادي بالطبع يشير إلى مولود، يوم ميلاد النبي.

[2] إذا كانت الجمعية قد أنشئت عام 1935، فقد انعقدت مؤتمرات حول التوحيد، أي الإسلام والمسيحية واليهودية، في عام 1933، خاصة مع هنري بيرنييه.

[3] تأتي هذه الخطبة بعد أعمال انتقامية خلفت مئات القتلى من المسلمين. المواقف المتكررة للمونسنيور ليون إتيان دوفال، رئيس أساقفة الجزائر العاصمة، ضد العنف والدفاع عن حقوق المسلمين، أدت إلى زيادة الإهانات والتهديدات من قبل الألتراس الذين أطلقوا عليه لقب "محمد دوفال"."

[4] ومما يزيد من شجاعة هذه الكلمات أن العقبي كان آنذاك تحت المراقبة القضائية بتهمة التحريض على قتل المفتي الكبير بندلي عمر، الذي قُتل في 2 أغسطس 1936، وهي قضية لم تتم تبرئته فيها. من قبل المحكمة الجنائية بالجزائر العاصمة فقط في يونيو 1939.

[5] انظر محمد درويش، في المدرسة الكشفية الوطنية، جامعة فلسطين، الجزائر، 2010.

[6] بناء على تقرير مجلس الاتحاد الفرنسي رقم 131 لسنة 1952.

[7] نقلا عن أحمد مريوش، الشيخ الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية الجزائرية، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، 1993.

[8] أندريه ماندوز، نقلا عن عيسى قادري في" المدرسون والمعلمون في الجزائر 1945-1948: التاريخ والذاكرة "، باريس، طبعات كارتالا، 2014.

[9] الإرسالية الجزائرية (لاديبيش دالجيري).

في المثقف اليوم