نصوص أدبية

نضال البدري: العائد من كبد السماء

كانت ليلة دافئة واستقبال كبير بعد فراق طويل مع اهله، لفه الحب والشوق وشعور بالراحة والحب وسط قبلات جدته التي ضمته الى صدرها وراحت ترقيه بالآيات القرآنية، والادعية وسحب البخور التي طافت فوق رأسه وعفرت ثيابه الانيقة التي كان يرتديها والمؤطرة بإحدى الماركات العالمية، اما والدته فقد طوقته بذراعيها وامطرته بالقبلات الممزوجة بالدمع بالكاد أفلت يدها، وراح يقبلها وهو يقسم بشعرها الاشيب انه لن يتركها ابدا.

اختلف مظهره كثيرا عما كان عليه قبل ان يغادر بلده فقد أصبح ذا جسد ضخم وعضلات مفتولة تلفت نظر المارة، خصوصا الفتيات المراهقات من اقاربه اللواتي اقبلن بلهفة لرؤيته في منزله..

كان يشعر بشوق كبير لمدينته ورغبة للتجول بين شوارعها التي مازال يذكر كل تفاصيلها، وان يتفقد اصدقاء الطفولة وسياج مدرسته الذي ملء بصور الذكريات، الا ان أكثر ما كان يشده ويثير لهفته هو رؤيته للطائر الذي حدثه والده عنه. كان يود ان يرى ذلك العائد من كبد السماء والذي حط برحاله في المدينة قبل أن يصلها.

في اليوم التالي وبعد أن أخذ قسطا من الراحة من عناء السفر، قرر الخروج مع والده، حاملا كاميرته، قاصدا الاماكن التي شده لرؤيتها حديث والده. كانت الزحام يسود المكان الذي اكتظ بالمارة، واصوات الحمالين الفتية بمظهرهم وانحناءة ظهورهم المتعبة والمائلة الى الامام وهم يتقاطعون في سيرهم بخطوات متعرجة بين المارة والسيارات.

راح يتأمل الأبنية وهو يرى الصروح القديمة من بعيد. ثم صوب عدسة كاميرته حول المكان، الذي كان يحمل طابعا تراثيا جميلا. فكان أول ما وقعت عينه عليه، جامعا كبيرا زين سياجه بزخارف قديمة بالغة الروعة، ويعلو مأذنته هلال من النحاس قد اكتسب اللون الاخضر الفاتح، اما الجانب المقابل له فقد كانت هناك كنيسة قديمة كبيرة جدا، بنيت فوقها قبة نصف دائرية يعلوها صليب وبالقرب منه جرس كبير وضع داخل بناء مربع الشكل من الطابوق. اطال النظر ثم سأل والده والابتسامة تعلو وجهه: أليست هذه هي الكنيسة يا أبتي؟

- نعم هي بعينها.

- واين اللقلق؟ لم أره!!.

صمت الأب برهة.. ثم أجابه متلعثما: أنظر هناك، لذلك السوق الكبير الذي امامنا يسمى (سوق الغزل) لعلك تتذكره حينما كنت صغيرا اصطحبك معي. مازالت تعرض وتباع فيه كل انواع الطيور وحتى الجارحة منها والكلاب والغزلان والحيوانات الغريبة. بإمكانك أن تلتقط الصور التي تعجبك وتشتري لو أحببت الطائر الذي تريد.

صمت برهة ثم أعاد عليه السؤال.. أبي سألتك عن طائر القلق أين هو؟

أنا حتى لم أر عشا فوق الكنيسة كما حدثتني.

ظل الاب صامتا، مدهوشاً... لولا صوت رجل كبير كان ينصت لحديثهما، بدا وكأنه من قدامى سكنة هذه المناطق: اتسألان عن طائر اللقلق؟.

لقد طار بعيدا ولم يعد، بعد أن غادر القس الكنيسة التي كان يخدم بها الى خارج البلد ولم نعد نراه، ربما غير اتجاه هجرته أو استقر بمكان آخر، من يدري!!. الطيور عندنا تعيش وتتكاثر في اقفاص وليست حرة كما تظن. والنادرة منها والمهاجرة غالبا ما تحنط وتعرض هناك، بإمكانك ان تشتري واحدا من السوق الكبير الذي امامك فهو مخصص لبيع جميع انواع الطيور والحيوانات الأخرى، ثم نهض وسار مبتعدا بخطوات متثاقلة.

من يكثر من السؤال تتعمق هاويته. التفت الى ابيه، وخيم عليهما الصمت ثم غادرا المكان دون جدوى.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

 

في نصوص اليوم