نصوص أدبية

عقيل العبود: العودة

القسم (3) من: الخط المحروق

لم يبق من اليوم الأخير على وجودهم في مطار (س) إلا ساعات قلائل، تهيأ الجميع للتسفير بمشاعر ينتابها الخوف، والخيبة، والخذلان، أصبح صاحب المعطف أكثر قلقا من ذي قبل.

تعالت لغة الاستنكار عند نقطة ما، لتختلط مع تناقضات عالم يسوده الضجيج، تساقطت عند نقطة بعيدة من المشهد بعض سيقان شجرة ميتة، راح يقلب في عقله ما توحي به هذه الفكرة، تواصل مع نفسه مرددا : هكذا هي حقيقة الإنسان، فهو سرعان ما يجف عوده، وينكسر بسبب ما يتعرض له من ويلات.

توقف عند تواريخ بعض الأصدقاء، راح يستعرض أقدارهم- شخصيات مات البعض منها، وسافر البعض، وسجن الآخر، بينما بقي من تبقى بعيدا، لينجو بنفسه ولو بعد حين.

راح يردد أصداء أغنية سمعها من قبل، لتبقى دموعها حبيسة في مشاعره، تسارعت ضربات قلبه مع ذكريات مدينته الجنوبية، انبسطت أمام بصيرته صورة أمه التي كانت تودعه عند الباب إبان الحرب مع إيران، وهي تقذف إناء الماء خلفه مرددة (يمة مودع بالله، وبمحمد، وعلي)،اخذه الحنين إلى البيوت الطينية الكائنة خلف محطات القطار، حين كان يستمتع بصوت دويه الممتزج مع الصفير.

استبد به النفور، غدا يحدو به صوب بقعة من السماء تساقطت نجوم ليلها عند منعطف يكاد أن يدنو من دَهاليزِ عالم مظلم، أذعن لما يجول بخاطره، صار يقول جازما: العودة إلى (ق) تعني أنه سيموت سجينا، أو سيتم تسفيره إلى بلده، وسيتعرض هو وعائلته إلى تحقيقات الاجهزة الامنية، فهو وزوجته التي تركت وظيفتها بسببه أصبحا ضمن قائمة المطلوبين منذ زمن سنوات، أي قبل عودة العلاقات الدبلوماسية مع البلد (ق).

لم يكن يشغله من الأمر ما سيحل به، كل ما يهمه أنه صار أكثر خشية على مصير زوجته، وأولاده الصغار الذين ربما يودعون السجن، وينتهي مستقبلهم بالضياع،

أمسى يراجع أحواله في وطنه الذي على أرضه، وبه تسلب كرامة الانسان، وعلى تربته تسود لغة الطغاة، وفيه تسقط حقوق المواطنة، ارتسمت الصور مثل شريط سينمائي توالت السيناريوهات؛ تذكر صور الجيش عندما استولى على المدن الجنوبية إبان ما أطلقوا عليه بالغوغاء، حيث انتشار ألوية الحرس الجمهوري وصور المقابر الجماعية،

أخذت الأفكار تنهش كل كيانه، تنخر ما تبقى به من طاقة، تمنى لو يموت، وينتهي به الأمر، اشتد به النعاس، والجوع، والفزع، لم يعد يثير اهتمامه من رحلة الطيران إلا أمنية بائسة كتمها في أعماقه، عسى أن يتحرر من تابوت الهم الذي استحوذ على كل كيانه، نظر بحذر إلى الرجل الذي حقق معهم، والذي كان مرافقا لهم طوال الرحلة، ليعود بهم مكبلين بقبضة قيود العودة.

لم تكن تلك القيود على نمط الكلبشات التي يستخدمها رجل البوليس لتقييد اليدين، إنما هي قيود سلب الروح وتخويفها، لتُشعِرَ هذا الكائن بالذنب، وليبقى هكذا- مُستَفَزا، وملاحقا بفتح الحاء، ونادما، وضعيفا لا حول ولا قوة له إلا السبيل إلى إرادة متزعزعة، وكيان خائر- هنا عندما يسلب الكبرياء، وتجلد إنسانية الإنسان، يصبح الموت وسيلة للنجاة، ومفردة من مفردات الأمل، أما الألم فيتلاشى تماما، يضمحل مع خفقان آخر نبض من أوردة هذا الكيان الذي كان ممتلئا بالحياة،

لم يبق للوصول إلى (ق) إلا ساعتين، لولا تحقق ما كان يتمناه صاحب المعطف الازرق، وجماعته خاصة السيدة التي كانت معهم، حيث أعلن طاقم الطائرة عن وجود إعصار تسبب في فقدان السيطرة عند ضواحي جزيرة قريبة إلى (ق)، وبسبب هذه الأمر الطارئ هبطت الطائرة اضطراريا.

كان الأصدقاء  يتمنون لو تسمح تلك الفرصة لهم للإفلات، ولكن الأمر لم يكن سهلا، لذلك أذعنوا لمصيرهم البائس، حتى إقلاع الطائرة، لتهبط بعد شوط قصير عند أول نقطة للانطلاق.

اتصل رجل المخابرات الذي جاء مع المجموعة بصفة مأمور، بقسم الهجرة، والتسفيرات الخاصة بمطار (ق)، وهنالك في صبيحة ذلك اليوم، أحست المجموعة أنها أضحت مثل دمى بشرية لا طاقة لها للحركة، استقبلهم أحد رجال التسفيرات وهو من قسم الشرطة، وبطريقة ماكرة أخذ يبتزهم طمعا بالمزيد من المال، بحجة مساعدتهم، لكن الأمر ليس كذلك، حيث اتضح أن هذا الذي ابتزهم كان قاسيا، ومخادعا وهو نفسه الذي وضع الكلبشات في أيديهم في الغرفة التي تم إيداعهم بها في قسم الهجرة عند استقبالهم قائلا لهم: (ما وراكم إلا وجع الراس). حيث أوقفهم، وأولهم صاحب المعطف الأزرق، وساقهم بعدها، وأمام مرأى المراجعين الذين كانوا ينتظرون تكملة معاملات سفرهم في الدائرة الضيقة الموحشة التي يطلق عليها دائرة الهجرة، والتسفيرات إلى السجن وهو عبارة عن قبو لا تدخله الشمس إلا من مربع يطل على مساحة بعيدة من المدخل، أما النساء فقد تم عزلهن في المطار، على أمل الإفراج عنهن، بواسطة زوج السيدة التي سافرت بعهدة صاحب المعطف الأزرق، وهو صاحب مكانة ونفوذ في دولة (ق).

***

عقيل العبود

..................

* ماذا حدث في السجن، وبعد السجن؟ هذا ما سيأتي في الحلقة الرابعة.

في نصوص اليوم