نصوص أدبية

الطيب النقر: ثالوث النسيان

خرج متثاقلاً من بيت الشراب بعد أن أنفق فيه كعادته كلما يملك، وسار بخطى متعثرة في تلك العشش المجدبة التي لا توجد بها بيوتاً قائمة، أو شوارع منظمة، نحو بيته المتداعي الخرب الذي يسكن فيه وحده، في أحد أحياء مدينة "الدمازين" البائسة، كان إدمان "محمد عبد الوهاب" الشهير "ببرينسة" على شرب "العرقي" آفة من ضمن الآفات الكثيرة التي تضطرب بها حياته، ولقد زادت هذه الآفات على مرّ الأيام بشاعة ونكرا، وأكبر الظن أن هذه الآفات قد سايرته في حياته منذ أن غاب عنها شبح تلك الجميلة، النحيفة، الضئيلة، التي رفض والدها أن يزوجه إياها، لقد عذبته هذه العاطفة عذاباً شديداً، وأصطلى بنارها المحرقة، وأضناه هذا الصد الذي انتهى به إلى طرق شائكة يحفها الشوك، لقد كان ينتظر من والدها الذي أمضى ربع عمره في الحبشة، شيئاً آخر غير هذا الصد، والشيء الذي نرجحه ونوشك أن نقطع به، أن "برينسة" لم يطوف في ذهنه أبداً أن يرفض "عصام سراج" والد" خدوج" زواجه منها، لأن "برينسة" تغاضى عن حقه في الميراث، فعمه "عصام" قد استأثر بكل نصيب والده، وبدده في نزواته التي لم يتطهر بعد من أوضارها وأدرانها، ولأن "برينسة" طيلة فترة غياب عمه في الحبشة، كان هو الذي ينفق على عائلته في سخاء واسراف، و"خدوج" الطفلة العذبة الجميلة التي كبرت أمام مقلتيه، والتي كانت تؤثره بحبها دون غيره من الناس، والتي كان يتضاءل قوامها السمهري ويتقاصر، أمام عنفوانه الجامح في خلواتهما، التي كانا ينفقان فيها بقية الليل كما أنفقا أوله في لثم، وعناق، وضم، هاهي "خدوج" ترفضه وتغالي في رفضه، وتقسو عليه، وتمعن في هذه القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، لتقسم جهد أيمانها أنها لن تتزوج غير بن خالتها الغني، الفرح، المرح، القادم من "الحجاز" خصيصاً ليكمل زواجه منها، ويمضي بها معه، و"محمد الشهير ببيجو" بن خالتها الذي لم يكن يعنيه أن يقبل" برينسة" هذه الزيجة أو يرفضها، أو يرضى عنه "برينسة "أو يسخط عليه، لم يطيل الوقوف، أو يطيل النظر، في هلع "خدوج" وجزعها من تهديد "برينسة" لهما، فقد أخبرهما في أصيل يوم شاحب، بحضور "عصام" عمه في ووضوح وجلاء، بأنه لم ينفق على ابنته، ويتسع في هذه النفقة، ليأتي "بيجو" بعد كل هذا البذل، والتعب والعناء، ليتزوجها ويمضي بها بعيداً، ويتركه لهذا الحزن اللاذع، والألم الممض، والأسى العريض، وأسمعهم أحاديث رعناء ملتوية، جعلت القلق والحيرة تعصفان بخدوج وأبويها، وقال لهما "برينسة" في بعض ما كان يقوله:" أنه ينتظر من عمه "عصام" أن يوافق على زواجه من بنته دون قيد أو شرط، وإن تمسك عمه "عصام" بالرفض، فإن خياله الضيق المحدود لن يسعفه بتصور الأحداث والخطوب التي سوف يجريها هو عليه، وما يستتبع هذه الخطوب من شدة وقهر، لقد أخبرهم "برينسة" في صوت هادئ عميق، أن رفض عمه سيتيح لهم أن يروا له وجهاً مغايراً لما ألفوه وعهدوه عنه، وأنه سيظهر لهم هذا الوجه بصورة واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، إذا لم يرضخوا لما اقترحه عليهم.

مضى برينسة لحال سبيله، ومضى بيجو السعيد النشوان يكمل ما بدأه من ترتيبات زواجه، وسار عصام سراج كعادته نحو بيت من البيوت التي تباع فيها الخمور البلدية في أقصى نواحي القرية، وجلست خديجة تحادث والدتها والخوف يدنو منها ويخلط نفسه بها، وربما كان من الحق علينا، أن نسجل هذه الحركات التي تدل على أن خدوج تهاب برينسة وتخشاه، وأن هذا الخوف قد تعدى اطار اليقظة ليطارد المسكينة في نومها، فما أن تأخذها سِنة من نوم، إلا عبثت بها خواطر خشيتها من برينسة، فتنتبه من نومها وهي مذعورة أشد الذعر، و لا تكاد تستطيع أن تسترد روحها النافرة الجزعة إلا في مشقة وجهد، وبرينسة في المنام غير برينسة الذي كان تألفه وتهرع إلي غرفته في دياجير الليالي، لتستقي من حبه وعنفوانه، فأحلامها تصور لها بن عمها بأنه صاحب نفس بشعة، وقلب قاسي، وسيرة منكرة، وأنه لا يريد شيئاً في هذه الدنيا غير تعاستها، إذن باتت شخصية برينسة البشعة في عالم أحلامها، هي التي تسيطر عليها وتتحكم فيها، وخدوج التي لا حظ لها من قوة، ولا قدرة لها على مقاومة هذا الخوف، أرسلت إلى بيجو أن يأتي إليها، وأن يأتي إليها في عجل، وتساءل بيجو ترى ما هي الحاجة الملحة المشتدة في الالحاح، التي تحتم عليه أن يترك سفره للعاصمة، ليستمع لهذه الفلسفة المسرفة في التشاؤم والاستسلام؟ ولما تدبر في عاقبه ذهابه، انتهى به الأمر إلى سأم كاد ينتهي به إلى أن يمضي في سفره، لولا أن تفاجأ بحضور خديجة إليه في منزله، وابتهج بيجو النشوان بمقدمها، وتهيأ لأن يستوفي حظه من لذة العبث والمجون بأكبر قسط مستطاع، إلا أن خدوج ردته في عنف، وبيجو الحريص على أن يلم بهذا الجمال، بات يرى أن فؤاد محبوبته من أفرغ الأفئدة، وعقلها من أسخف العقول، لأنها لا تطنب إلا في هذه الأحاديث الشوائل، طلب منها بيجو في كثير من الرفق واللين، أن تريح نفسها من هذا العناء المهلك، وأخبرها أن مثل هذه التهديدات شائعة مألوفة في دنيا الحب، وأن وعيد برينسة له، لم يزده إلا قوة، وقوة على اكمال هذا الأمر، ومضى بيجو مندفعاً في نحو هذا الكلام لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، حتى استمالت له خدوج، وتخلت عن بعض خشيتها، و أظهرت له هذه الحدة والحرارة، التي أسعدته بها في زيارتها السابقة، ولكنها عادت لما يتمثل فيها من عيوب وخلال، لتحتدم مع بيجو، طالبة منه أن يرتفع عن هذه اللذات الآثمة، وأن يفكر معها في كيفية التخلص من كوابيس برينسة، وخدوج التي كانت ترى أن عقل بيجو حافلاً بصغائر الأمور، مصروفاً عن عظائمها، لم تجد مشقة من أن تظفر بقدر ضيئل من المتعة تعيد إليها شيئا من توازنها النفسي، وتجعل بيجو الذي لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يهدأ إلا ليثور من جديد، يحس بشيء من خوفها وذهولها، ويشجعها على تجاوزه، أخذت خدوج تكفكف من عبراتها، وبيجو يأمنها تأمين الخائف، ويطمئنها تطمئنة المذعور، حتى ثاب إليها شيئاً من اتزانها، وتركها بيجو حيناً ليفرغ من حزم أمتعته، كانت خدوج جالسة على حافة السرير، وهي تعبث بجدائلها، وترقب بيجو الذي ما أمضاه معها في عبث يكفيه أن يقضي سائر يومه هادئاً راضياً، لقد أوشكت خدوج وهي في منزل بيجو، أن تستقبل أول النهار وهي فرحة، مرحة، لولا تناهى إلى سمعها صوت بكاء حار قادماً من تلك الناحية التي فيها دار عائلتها، ولم تلبث إلا قليلاً حتى أتاها الرسول الذي قطع عنها لحظات التوجس والخشية، ليصدمها برحيل والدها، لقد مات عصام سراج بعد أن استيأس من إدراك التوبة التي تطهره من دنس الذنوب، وفي الحق أن سراج لم يمعن يوماً في الضراعة، أو يلح في الدعاء، حتى تتجاوز هذه الابتهالات الصادقة حجب السماء، كلا، لم يحدث شيئاً من كل هذا، هي مجرد توبة تحدثت بها نفسه، ولكنها لم تنهض على ساق، وكان سراج يخفي من أمرها ما يستطيع، ويبالغ في هذا الاخفاء، فلم يتحدث بها لندمائه إلا لماما، لقد أهمل سراج سبل التوبة وكان من الحق أن يسلك دروبها، ولكنه اختار أن تمضي حياته بمعزل عنها، و أن يظل طرفه الوسنان لا يحدج إلا الصهباء التي لا يحول نظره عنها إلى يمين أو شمال، والخمر المدسوس إليها شيء غير قليل من السموم، هي التي أودت بنهايته على كل حال.

لقد نهض برينسة بواجب العزاء، وتكلف بكل مصاريفه، وظل طيلة أيامه لا يستريح ولا يعرف الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الطمأنينة، ومضى يضطرب في الأرجاء، يستقبل الوفود، ويقف بنفسه على كل التفاصيل.

حتى إذا انقضت أيام العزاء، التفت إلى بنت عمه وقد بلغ الحزن منها ومنه أقصى مبلغ، وأخبرها في حنو وعطف أنه يعتذر عن رعونته السابقة، وأن وفاة عمه أجبرته أن ينكر هذه التصرفات السخيفة التي بدرت منه، واعترف لها بأنه ما زال يحبها، ولكن حب روافده هي الرحمة، والحنان، والمواساة، وليست العاطفة ولا الشعور، وقال لها أنت عندي مخطوبة وستتزوجي قريباً من رجل غني، وقد أدهش هذا التغير المفاجئ خدوج وأمها، وأدهش بيجو النشوان أيضا، ومضت الأيام رتيبة ثقيلة، حتى انقضت أول سنة على رحيل عصام سراج ولم يحدث طيلة هذه السنة ما يريب خدوج من بن عمها، فهو لم يلقي التحية عليها إلا وهو كاره، ولم يتحدث معها إلا وهو مضطر، وعاد بيجو النشوان من اغترابه ليستأنف حياته الغرامية، وليتزوج ممن نأى عنها بعد قرب، عاد بيجو ليظهر هيامه بخدوج ليثيرها من جهة، ويثير سخط بن عمها برينسة من جهة أخرى، كان بيجو مرتاباً في برينسة، شاك فيه أشد الشك، فكيف يضحي بخدوج الجميلة التي آمن بحبها، كيف يتنازل عنها بهذه البساطة، خاصة بعد أن آلت إليه الأمور بعد وفاة والدها سراج، كان بامكانه أن يتزوجها رغم رفضها وأعراف البلد، وعاداته وتقاليده تمكنه من اتخاذه هذه الخطوة.

أراد بيجو الفرح النشوان الذي لم تبقي له أقداح الراح شيئاً من رشد أو صواب، أن يمضي في عبثه، ويندفع في دعابته، مع خلانه الذي أتوا معه في نفس الباخرة، ولكنه آثر أن ينال قسطاً من الراحة، يكفل له تحمل عناء السفر إلى قريته الواقعة على مشارف الخرطوم، قاد بيجو سيارته التي انتهى من تخليص أوراقها اليوم، ومضى بها مسرعاً في طريقه إلى الفندق الفخم الذي يستأجر غرفة فينانة فيه، ونسيم الثغر الحبيب ينشر على نفسه وعلى الأشياء من حوله باقة مزدانة من التفاؤل، والبهجة، والسرور، وبيجو الذي كان يحتاج فعلاً أن ينظم أفكاره وآرائه حيال موقف برينسة من زواجه، لم تبلغ رحلته إلى غايتها، فبيجو النشوان لم يصل قط إلى غرفته، ولن يصل قطعاً إلى خدوج محبوبته الجميلة التي طال شوقه إليها وشوقها إليه، فثمة شيئاً غريباً قد حدث،لقد كان بيجو يحدث نفسه الشاردة تارة، وتارة أخرى يغني بصوته الأجش المبحوح، وفجأة أبصر أمامه شاحنة ضخمة ثقيلة الوزن، بطيئة الحركة، فضغط على كوابح سيارته حتى يتفادى الاصطدام بتلك الشاحنة، ولكن تلك الكوابح ليس لعملها من سبيل، فقد عبثت بها أيادي محترفة من أجل أن تقصي قائد هذه المركبة عن الوجود، وقد نالت هذه الأيادي نظير هذا الصنيع أكثر ما نالته بائعة الخمر التي دست السم لعصام سراج، لقد أخذ برينسة نفسه بضروب النشاط العقلي حتى وصل لهذا التدبير، إذن برينسة الذي دُفِع إلى هوى خدوج دفعاً، وهام بها هياما، لم ينسى لذته ومتاعه معها، وعجز أن ينسى نشاطها وكسلها، وتهدج صوتها وحركاتها، ولم يبرء من سهام لحظها، لأجل كل هذا أفسد برينسة ما بين الناس من صلات، وأهدر حياة كان أصحابها بيتغون أن تأخذ بحظها من العيش ولا تكون ضحية لعدوانه، لم تشيع في جنبات روحه الرحمة لهؤلاء المساكين، بعد أن تحققت صلاته مع البغضاء، واستوثقت علاقاته مع السخائم والأحقاد، وذهب بحريته إلى غير مدى، وبرينسة الذي لم يؤخذ بظن، أو تلحقه ريبة من خدوج وأهلها مضى مشيعاً جنازة بيجو، ويظهر الحزن، ويتكلف اللوعة على موته، وبعد أن عاد إلى مقر العزاء تحلى بصمت كاذب حاد بينه وبين الحركة والنشاط، ولكن كارثة حدثت أخرجته عن الصمت إلى الأنين والبكاء، ثم إلى العويل والصراخ، لقد انتحرت خدوج، لم تقوى على العيش والحياة بعد أن مات من كانت تركن إليه، وتلوذ به، لقد كانت حياتها غنية بالحب، وبالحبيب الذي وعدها وألح في وعده بأنه سيعود إليها، وأنه سيرعاها ويحتفي بها، ويطوف بها أصقاع الكون، لقد أيقنت خدوج أنها لن تستطيع أن تصمد أمام هذه الخطوب المتصلة، وأن ترضخ لهذه الحياة الخاملة التي لا يوجد فيها شيء غير الفجيعة والوجوم، لقد ذهب عنها الحب، وغادرها الحبيب إلى غير رجعة، إذن لابد من الانتحار، وخدوج انتحرت في سرعة وعجل، لم تنتظر طيف انتحارها ليداعبها وتداعبه، ويغاضبها وتغاضبه، ثم يراضيها وتراضيه كما يقول الأديب الأعمى، بل ألحت عليه، وأمعنت في الالحاح حتى رضخ لها، لقد قطعت خدوج شرايينها بعد أن أوصدت بابها، وأحكمت اغلاقه، ثم أغلقت عيناها في هدوء، وبرينسة الذي لم يرفق بهذه الفتاة أو يرحمها، كان ينتظر أن ينتصر وأن يسود، وأن يعيش مع خدوج عيشة هادئة بعد أن تشفى من حزنها على فراق حبيبها بيجو، كان برينسة يهيئ نفسه لمواساتها وعونها حتى يندمل جرحها، هو الآن أجدر بهذا العون، وقمين بهذه المواساة، أمسى برينسة ينفق يومه في الحسرة، والندم، والأحلام المروعة، وقرر أن يترك قريته ويمضي للحبشة، حتى ينقضي عمره فيها، ولكن الحرب التي كانت مشتعلة بين الجيش وقوات التمرد في الكرمك الحدودية، هي التي أجبرته أن يبقى في الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق، وفي الدمازين احترف برينسة بيع التبغ، وما زال برينسة يبحث عن خليل يذود عنه الحزن، أو مومس ترد عنه البؤس، أو كأس ينسيه مرارة الذكرى.

***

د. الطيب النقر

 

في نصوص اليوم