نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: بسمها تموت...

كانها كانت له في انتظار، ما ان دق الجرس حتى فتحت الباب وما ان دلف الى الداخل حتى وجدها أحضانا مفتوحة لهفة لعناق، وعيونا ضاحكة كزهرات الربيع،كل نظرة اليها تزيده تعلقا بها ورغبة شوق وحنين الى يوم يضمها بيته..

تعلق بسعيد من تعلق أم نظيرة بأختها التوأم والتي كان لها سعيد فلتة حظ مما أصاب الناس من مرض داهم اتى على الصغار قبل الكبار.

حرارة قبلاتها على خده كانت غير ما فاجأه من عينيها و فيهما قد انفجرت صرة غيم.. دمعة تدحرجت من خدها ألهبت عنقه:

ـ ما بك نظيرة؟ ما يبكيك؟

ـ لا شيء اجلس أولا واسترح..

ـ لا ليس قبل ان أعرف ما بك وعليك اطمئن..

وكأنه قد انتبه الى الصمت الذي يرين في البيت فأراد أن يسلي نظيرة عما أحسه يجثم على صدرها من أسى فقال ضاحكا:

ـ "العافية مطفية والقطة مجلية".. أين اهل الدار؟

تجاهد أن تكبت أحزانها ببسمة بين دموعها،تغمض عينيها وعليه تشير بالجلوس أولا..

اللهفة تطويه:"لماذا تبكي نظيرة؟.. وأين غاب أصحاب الدار؟..

ربما قد استثقلت وجودها هنا استثقال الزمن الذي يسير بها كسلحفاة قبل أن تصل مرحلة تتحرر فيها من تضايق الغير بها، فهو من اتفق مع صديقه إبراهيم صاحب البيت لاستضافتها بعد موت أبيها ريثما تصل سن الرشد القانوني والذي ما عاد يبتعد عنها بأكثر من سنة..

رضع إبراهيم في ثدي أم نظيرة قبل أن تزداد ، وكانت نظيرة مع أخته الصغرى اشبه بتوأم يتناوبان على ثدي أمه..

كان المشكل في زوجة إبراهيم،وسواس خناس لشك قاتل،غيرة تفوق الحد وكراهية الى درجة المقت..

كان سعيد يتيما احتفظ بالسكن في بيت والديه، لا يستطيع أن يبقي نظيرة معه ولا ان ينتقل للإقامة معها في بيتها الرحب الفسيح، فما اكثر ما يتقول الناس ويتهمون بلا دليل،وهي رهافة حس ورقة شعور،كان الحل لديه ان يستضيفها قريبهما إبراهيم ريثما تبلغ سن الرشد، فهو اقرب اليها منه رغم الثقة الكبيرة التي القاها أبو نظيرة  على كاهل سعيد فجعله وصيا عليها مبعدا أخاها الشقيق السكير العربيد الذي لا يثاق،وقد سبق ان قضى فترة سجنية نتيجة السكر العلني والضرب المفضي الى عاهة ؛ حرمه ابوه من الميراث الا من نزر قليل وكتب للبنت جل ما يملك خوفا من ان يسطو عليها أخوها اويؤذيها كما آذى أمه الى ان ودعت الى دار البقاء بعاهة في يدها وهي عنه غاضبة "..

كانت نظيرة لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، قمحية اللون بقد متناسق ورثت عن أبيها طوله وعن أمها جمال المحيا، أنف صغير جميل وعيون بنية بلمعات فاتنة، غمازة على الخد الأيمن تزيدها جمالا كلما تبسمت، تركت الدراسة مرغمة وهي في سن الثالثة عشرة بعد موت أمها وكان الاب عليلا ضاعف موت شريكة عمره من أسقامه ووهنه ففضلت ان تخصه برعايتها.خصوصا وهو حريص في أكله يرفض ان يأكل من يد اية خادمة بعد أن كاد ابنه أن يسممه فيطرده من البيت نهائيا.

كانت نظيرة تميل كثيرا الى سعيد فهو ابن خالتها، واع بضمير حي ومتيقظ، ينال ثقة جميع الأهل لأمانته وصدقه، من صباها وهي ترى فيه قدوتها وحلمها رغم مسافة الزمن بينهما وفيها يرى أمله المرجى في غد..

تتنهد نظيرة، تضع يديها بين يدي سعيد كما تعودت أن تفعل وكما يحب كلما ارادت أن تبلغه أمرا يهمها أو يهم والدها قبل موته:

ـ انفرط العقد وتشتت الملعب وكنت أنا السبب، من الأيام الأولى ادركت ان زوجة إبراهيم لن تحتملني وان الغيرة تقتلها والشك يفنيها بسوء ظن، هي لا تؤمن برضاعة ولا بأخوة، فايمانها بما يغلي في دواخلها من فقر عاطفي ولهفة على ما في يد غيرها وما ينفثه شيطانها بين تلافيف عقلها واضلاع صدرها من شك وسوء الظن بالناس والذين تقيسهم بيحموم نفسها..

رحم الله أبي رآها مرة تركب سيارة أجرة مع أخي فصار يكره أن تدخل بيتنا وكما كان يردد:

ـ هي نحس ولن تقوم لابراهيم قائمة الا بفراقها، افعى، لا تثاق ولن تموت الا بسمها..

حوقل سعيد وقد شد اليه نظيرة يهدئ مما تتوهم نفسها سببا فيه:

ـ هل تلفظ إبراهيم بالطلاق أم هي لحظة غضب أدت لفراق ؟..

ـ أخي إبراهيم كان في زيارة لماما ، وجد خاله عندها فاصرت أمه أن يظل مع خاله للعشاء، ثلاث مرات وإبراهيم يحاول ان يتصل بفطومة ليخبرها بتأخره، كنت اسمع هاتفها يرن وهي تتعمد ألا ترد ،لا ادري لماذا؟.. لكن حين عاد كان الشيطان قد اوقد ناره في صدرها وأول مابادرته به:

ـ هل كنت تحدد مع أمك تاريخ حفل عقدك على حبيبة عمرك نظيرة؟..

حقد بلا سبب،ومحاولة لاثارتي.. لأول مرة يغلي الدم في رأسي فأحس بالدونية أمام جاهلة لا تقر بمعروف أو تراعي أحاسيس غيرها.. فأتى ردي عليها قاسيا:

ـ اهتمي بعللك النفسية، وازيحي نظيرة  من حساباتك،فليس في عائلة نظيرة من ينكرأو يخالف شرائع ربه..

هنا ثارت ثائرتها حاولت أن تتهجم علي فواجهتها بيدٍ مرفوعة الى وجهها فتحولت الى أخي إبراهيم تمسكه من طوقه حتى خلت أنها ستقتله،قالت:

الآن يمين الطلاق او تخرج نظيرة من بيتي حالا !!..

هي طريقتها حين تريد أن تهيمن عليه بهجومية يكرهها فيتلعثم وينشل عقله عن كل تفكير سليم فيبادر الى تلبية رغباتها بما يحقق ما تريد..

وجاء رد أخي صارما فاجأني دون ان يتردد او يفقد هدوءه:

أنت من سيخرج حالا وانت طالق..

انبهتت والجمت العبارة لسانها، سارعت الى غرفة نومها وأخذت ما استطاعت ثم انصرفت وهي تردد:

ـ حكمت على نفسك وعليها فانتظر !!..

حدثٌ كان منتظرا قبل أن تدخل نظيرة بيت إبراهيم فزوجته امرأة مستبدة بطبعها، غياب النضج، جهل وقلة وعي،تريد أن يسير حكمها على الكل، ورايها تفرضه بلا اعتبار لآراء غيرها، تقتلها الغيرة بشك وهمي يوسوس لها بما هو بعيد عن عقول الناس ، تتمادى في استبدادها كلما كانت في مواجهة خجول حيي كإبراهيم.. ما تأخر طلاقها الا اعترافا بفضل أبو نظيرة الذي قدم لزوجها شقة بثمن للكراء رمزي بعد أن ايقن بتعلق إبراهيم بها وعودتها اليه بعد خصام اثر ادعاء كاذب بحملها..

ـ " ليس طبيعيا أن ينساق رجل بثقافة ووعي كابراهيم الى امرأة جاهلة لاحظ لها من علم الا ما تؤمن به من شعوذة ودجل بهذا الشكل الذي جعل الرجل مسلوبا يجبن أمام صيحاتها وأوامرها !!..

كان سعيد يعرف جيدا عناد زوجة إبراهيم وحقدها على نظيرة وماهي قادرة على بلوغه لا لشيء الا ان الثروة التي ورثتها نظيرة عن أبيها قد تجعل إبراهيم يتعلق بها ويطمع فيها كأنثى غنية،  جميلة قريبة منه، لهذا لن تنفلت نظيرة من حقد زوجة إبراهيم وانها حتما ستفكرانتقاما في اذايتها فان يأتي الطلاق من أجل نظيرة فهذا اعلان باندحارها وهي من لا تتنازل او تستسلم الا اذا كانت يدها هي العليا وامرها مطاع وما خططت له قد تحقق..

ضم سعيد نظيرة الى صدره ضمة خائف على عمره، متهيب من كل قادم قد يعاكس ما يحسه نحوها وما ائتمن عليه:

ـ نظيرة حبيبتي !!.اجمعي كل ما تحتاجينه من لباس وتعالي معي..

تنزعج نظيرة فتسأل:

لماذا؟ والى أين؟ أليس هذا بيت كان في ملكية أبي و ما تركه ابي فهو لي؟ لننتظر عودة إبراهيم قبل تنفيذ أي قرار وأنا معك..

ـ صحيح، لا احد يجادل في ذلك، لكني اخشى عليك من مكر زوجة إبراهيم.امرأة جاهلة لاتؤمن الا بما وقر في صدرها من ضغائن وحقد ومكر..

كانت نظيرة تظن أن يأخذها سعيد الى بيته، أو يعيد فتح بيت أبيها لكنه عرج بها الى بيت عمته..

لايريد ان تفاجئه شكاية كيدية وهي معه أو باطل بشهود الزور أو يلحقها مكر من أحد وما بقي غير شهرين لتتحرر نظيرة من صرامة قانون سن الرشد..

غاب إبراهيم وهاتفه ظل خارج التغطية، بحث عنه سعيد في كل مكان يمكن أن يلجأ اليه،لا اثر..

شاب تربى يتيما التحق بالتعليم بعد الشهادة الثانوية، تصيدته فطومة التي كانت ترافق أمها منظفة في أحد الفرعيات المدرسية، واستطاعت أن تغريه بتحريض من أمها الى أن تزوجها.. استطاعت من خلال علاقة مشبوهة بينها وبين أحد موظفي التعليم أن تضمن لزوجها انتقالا الى أحدى مدارس المدينة لم يقض بها إبراهيم غير سنة واستطاع النجاح في احدى المباريات التي فرضت عليه أن يغادر المدينة الى العاصمة للدراسة، وأمام ما كان يصله من مشاكل تلف زوجته التي لم يصحبها اضطر الى أن يلحقها به..

قبل زفاف سعيد ونظيرة بيومين تناقلت الصحف خبرا مفاده أن قنينة غاز قد انفجرت في أحد البيوت الشعبية،أتت النارعلى صاحبته وقد وجد رجال الإطفاء في إحدى الغرف رجلا مقيدا تحت الأنقاض كان حبيسا لديها اشبه بانسان الكهوف..

في أحد المستشفيات وأمام رجال الشرطة يحكي إبراهيم ماعاناه من تعذيب وتنكيل وهو مقيد بحبال لدى طليقته..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم