نصوص أدبية

بلقيس الملحم: في الشام كانت لنا أيام

لقد راودتني فكرة السفر معك منذ سنوات عديدة، تقاطعت فيها حيواتنا الصغيرة بكل تفاصيلها. تمتزج فيها الكلمات والوصف والأغاني فتتشكل ثورة من الذكريات والصور وأصوات محفوظة وملامح حقيقية نعبر من خلالها الأزقة التي مشينا فيها دون أن ندرك بأن خطواتنا البعيدة كانت تفترق لتجمعنا. مثل رائحة الياسمين التي لا تتغير شممت عطرك خلف أذنك فعلقت في ياقتي. منذ تلك اللحظة وأنا تراودني تلك الفكرة، فأنا أعشق كل ما هو قديمٌ، وأصيل، وثابت. أأومن بأنني سأعيش معك هذه اللحظات، سنكررها كل صباح نقضيه في دمشق. نخرج إلى الشرفة الواسعة مع نشرة الأخبار ونترك صوت المذيع الأجشّ وحيداً وأنت تتفقَّد حبة الخال الجديدة أسفل ذقني. تقبلها فتشعرني بخضرتي الدائمة في روحك. فعلى مدار الفصول والأعوام كنت بالنسبة لي مصدر أمل وحيرة ولجوء ونهاية سعيدة.

أسافر معك إلى كل ماضٍ وحنين، فأنا أحن إلى الأزقة الرطبة وصوتِ الأبوابِ العتيقة ورائحةِ من ذهبوا وتركوا بعدهم طاولة خشبية في زاوية مطعم دمشقي عريق، ارتشفوا فناجين القهوة ودخنوا بشراهة أصابع نحيلة، ثم راحوا وسط غمامة الدخان يناقشون قصيدة الماغوط الأخيرة. هم أنفسهم من نسي صنبور الماء متدفقًا في نافورة بيت مهجور، فراحت تتناغم معه أوتار عازف غريب يطل من شرفة قريبة، يشرب فيها الشاي، يدخن غليونه، يغني، ويرمي ببذور البطيخ.. هذه أنا، أكتب الشعر منذ عشرين عامًا ولا تتجلى حروفي إلا حين أحلم بك. أحبك منذ آلاف الأعوام من حيث لا أدري، قبل أن يخلق الله الطير ويرُف، والزهر والورد والندى، قبل أن يجف هذا العالم أو يتجمد. أحبك وأنتظر بأن أتأبط ذراعك ونحن نقطع المسافات ونفترش حافة قصية في جبل قاسيون. تقرأ لي قصيدة تحفظُها عن نزار قباني وكل ما عليَّ فعله هو أن أستسلم لقُبَلك المباغتة. لا أترقب نهاية الطريق فكل نهاية هي بدايةٌ معك. وكلُ بداية هي إشراقةٌ للنفس وكتاب حب مقدس. نحصد فيها فكرة الزمن والذاكرة والأيام المشهودة وأنت تمارس عليَّ بمتعة لعبة إغماض العينين ونحن نمشي في الرواق الذي يوصل إلى غرفة النوم أو المطبخ. تحذرني من الاصطدام بحافة الجدار، وبخطى متباطئة أفتح عيني باحثة عن ضوء في عتمة أغرقت فيها كل شيء. لن أطلب النجدة وقتها فأنا أحب السفر معك إلى هذه المناطق المجنونة التي لا أريد أن أنجو منها، بل أن أصحبك معها مدى الدهر. أتسلل إلى دقائق دمك وخلايا عقلك السابح في قدود حلبية تردد مواويلها. كأنني بي منهمكة ٌبإرضاع طفلتك، وأنت تتفقد جسدي المتعب من المشي في سوق الحمدية. كلانا نعشق السفر بهذه الطريقة وتلك السجية. يدللنا شيء من الفتوة وفوران العاطفة وهدوء الطباع وسكينة الكلام. أسافر معك حاملة كل معجزات العالم، فأنت المطلوب والمساعد، وعن طيب خاطر أفنى بك وأكرر قطع تذكرتين إلى دمشق أو ربما بغداد أو بيروت.

***

بلقيس الملحم – أديبة سعودية

في نصوص اليوم