نصوص أدبية

بلقيس الملحم: حكاية من السودان

بماذا كانت تفكر قبل أن تكتب رسالتها الأخيرة؟

 يقال بأن العقل يعلمك بموتك قبل أن يتوقف عن العمل بعد توقف القلب بثوانٍ معدودة. ترى مكانك محلقًا كطائر سنونو مهاجر، تغادر بلا جمهور، وبلا وجوه تبكيك. لم يفكر أحد أن يضع على قبرك وردةً، فهم متعبون من أجل البحث عنك في هذا الفراغ السخيّ. تمر سنون حياتك سريعًا كضباب يخترق أشجار صنوبر باردة فلا تستطيع عين كاميرا من التقاط صورة ثابتة. تموت " سحر سيف الدين " ولكن قبل هذا لابد أنها قد شاهدت نهرًا جاريًا يمر من تحت أقدامها، فقد كانت تفكر في الماء طوال ثلاثة أيام مضت. روحها رفعت قبل أن تبلل عطشها برشفة فتلاشى السراب في لحظة. ترهّلت كل أفكارها وأصيبت باليأس فعلا، حي لا أحد يسمع أنينهم المبدد في الظلام. كل ما فيها إلى جانب عائلتها المكونة من سبعة أشخاص تبعثروا في عرض الصحراء بعدما تاهوا فيها وانقطعت بهم السبل. تاركين حياة أخرى تمرح في قمصان معلقة في الخزانات، ورائحة بهارات على رف المطبخ، وبعضًا من قوارير العطر أوشكت على الانتهاء، وزجاجات ماء ليس لها غطاء، تبخرت في ثلاجة بيتهم المستأجر في مدينة " الفاشر " أما دجاجاتهم العشر فأوصوا بها جارتهم الكفيفة وصبي لها ترعاه. يعرفون بأنه ربما يسرقها ومع هذا تركوها له، وراحوا بكل أشواقهم وقدرهم الغريب ليعانقوا أبيهم وأخيهم ناصر اللذين مضى على استقرارهم في ليبيا أكثر من أريع سنوات طرزت بالصور والرسائل لا غير. الجثث الثمانية تبعثرت حتى احترقت جلودهم السمراء. فلم تقو ضباع الصحراء على مضغها حتى. على مقربة من سحر سمعت عظام أخيها آدم وهي تتكسر. آدم الذي حفر بيديه قبره كان يعاني من هشاشة العظام وأمراض أخرى نمت معه منذ ولادته. هي من كانت تشعل له ضوء الأباجورة وتحكي له عن الجدة " ريحانة " عن قصصها الخرافية، وعن أصناف الطعام الليبي الذي وعودوا بتذوقه حال وصولهم إلى مدينة " الكفرة " التي يتوجهون لها في الغد. كم بدا بريئاً تحت نور الأبجورة الخافت، بملامحه الجذابة وابتسامة الرضا تعلو شفتيه الممتلئتين. نام غارقا في أحلامه بعدما طبعت على جبينه قبلة. القبلة التي وشمت بها جلده اليابس وهو يموت أمامها نطقت باسم يحب أن ينادى به " دودي " وكان له وقع غريب في نفسه، بالكاد تعرفت على صوتها وهي تناديه فقد جف الماء في فمها. بعد خمسة أشهر من العثور على جثث العائلة المفقودة في الصحراء والذين قضوا من الجوع والعطش. تبين أن الأم " عرفة " ماتت منذ اليوم الثاني. في سلام تام نامت ولم تستيقظ بعدما هبط لديها السكري فلم تتذوق حلاوة عناق زوجها أو ابنها صلاح ولا حتى من كان معها في الرحلة المشؤومة. تلاها آدم الذي نادت عليه أخته سحر " دودي .. دودي " مرات عدة، وفي المرة الأخيرة صحا فزعاً وهو يسأل: " ماذا هناك؟ أأنتم بخير؟ " لم تتمكن من السيطرة على نفسها هذه المرة، ضحكت بصوت عالٍ وهي تقلب الهاتف الذي في يدها، تفرك عينيها المسهدتين، وتتعثر في خطواتها. يغمرها خوف وحشي وهي تلقى نظرة خاطفة على جثث من حولها. على ملابسهم التي طويت بعناية، وحقائبهم اللامعة، وأحلامهم الشاردة، وجوازات سفرهم التي لم يسافروا بها من قبل. في حين وعدت أمها فور عودتهم من ليبيا أن تحج معها إلى بيت الله الحرام هذا العام. نظرت إلى هداياهم التي تخلوا عن مصروفهم من أجلها. إلى هاتفها الساكن حيث لا إشارة تنطلق منه، نظرت وبددت وعودها في صرخة كبيرة. سألت نفسها عن مزاجها الذي تعكر بسبب زوجها الكسول وهي تسترق الوقت من أجل أخذ حمام سريع فهي لا تحب السفر إلا بعدما تغتسل وتتطيب بالبخور السوداني المعتق. أكانت الصحراء تستحق كل ذلك؟ ماذا عنه وهو يحيط ابنها الأوسط " عثمان " بذراعيه خوفًا عليه من أن يسقط في حفرة آدم. لقد بدت الصحراء الشاسعة كسجن بلا قضبان. كتمت مرة أخرى صرختها أثناء ما حملتهم سيارات الإسعاف. فقد فات الأوان، وحان أوان كتابة رسالتها الأخيرة التي سيجدونها في حقيبتها المعلقة في رقبتها الهزيلة. قبل ذلك كان لابد من الالتفات إلى أختها الكبرى " سلوى " التي كانت تنازع، بالكاد كانت ترى ظلها بعدما غمرتها الرمال. بدت كشعاع خارج من بؤبؤ قط في ليلة شديدة الظلمة. سلوى التي كانت تحلم بخطيبها عبدالقادر وهي تزف إلى سرير الليبي الغريب، في غرفة فندق مزروع على أطراف قرية نائية في أرخبيل واحات بلدة الجوف، سمعته سحر يدندن داخل الحمام بلغة غريبة وهو يستحم استعدادً لاستقبال عروسه. فضحكت بحسرة. أحست بأن سلوى تحلم وكأنها في فيلم قديم، متخيلة بأن خطيبها الوسيم سيخرج فجأة من وراء أحد أعمدة المرمر، وبيده سيجارة، لتتبعه بثوبها السوداني الذي يصدر حفيفاً كلما مس الأرض. فجأة ضحكت وهي تشم رائحة فمها التي أزعجتها، مررت لسانها على أسنانها الأمامية فتوقف. لجأت إلى حبة حلوى احتفظت بها في حقيبتها، وبمجرد أن مدت يدها تذكرت آدم الذي كان يحب الحلوى. فرمتها في حفرته الصغيرة بعدما زحفت على بطنها إليه، وحين وجدته قد مات فعلا لم تبك. اكتفت بالصراخ، لقد أحست بأنه لا ماء في جسدها، لقد ذبل بشكل رهيب. في أنفاسها الأخيرة تذكرت آخر كتاب قرأت فيه عبارة " لا تنظر في عيني جريح " المقلتان المتحجرتان تلتقطان انعكاس الخوف الذي غشاها بعدما أيقنت أنها آخر من يموت من عائلتها. لن تحدق في عيني أمها ولا سلوى ولا مصطفى ولا أبنائه الثلاثة. فهي تخاف أن ترى فيها سرًا قديمًا، أو ندبة أخفوها بحذق. ربما تدفعها الشفقة على نفسها فتمص أصابعهم التي فقدت أناملها من كثر ما أكلوا أظافرهم. تقول في نفسها وهي تخرج القلم من حقيبة مصطفى الشاعر المغمور: نبدو كمن ابتلع لحظات الرعب كلها. ونحن نخفي هلعًا داخل ثيابنا. لقد شهدت واحدًا من أبناء مصطفى وهو يأكل جربوعًا ميتًا، ما دعا والده إلى الإنزواء عند عجلة السيارة المقلوبة ويبكي طويلاً جراء فعلته. هو يعلم أن الخوف سيتسرب من سرَّته، ويهوي عليه بقبضته المؤجلة كلما غادر مقعده الدافئ، مخلّفًا وراءه بقع دم يابسة وثلاث غزالات لم يُغمض أحد أعينهم. ثمة رسالة كتبتها سحر، غمستهم في حوض ماء شربوا منه واغتسلوا وضحكوا كثيرًا بعدما أخرجتهم من حفرة واسعة في صحراء لا تلمع فيها إلا بضعة نجوم..

نص الرسالة

" إلى من يجد هذي الورقة.. هذا رقم أخي محمد سيف الدين.. استودعكم الله وسامحوني أنني لم أوصل أمي إليكم.. بابا وناصر بحبكم. ادعوا لينا بالرحمة وأهدونا قرآن واعملوا لينا سبيل مويه هنا "

***

بلقيس الملحم - شاعرة وقاصة من السعودية

...............................

* القصة مستوحاة من قصة مأساوية.. تم العثور على 8 جثث لأفراد عائلة سودانية في الصحراء الليبية قضوا نحبهم في عرض الصحراء عطشاً وجوعاً مع وصية مؤثرة من إحدى الضحايا بتاريخ 15 فبراير 2021

 

في نصوص اليوم