نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: أم القطط...

تظل جوالة في الحي من مطلع الفجرالى غروب الشمس،عنها لا يغيب مار عن نظر، حافية بلا نعل يستر لها قدما أو يقيها صلابة الأرض في قيظ او وحولها في شتاء، ساقان قصيران كقصبتي المكانس غطاهما الوسخ و الوحل وقد تشقق على القدمين كمعدن غاسول الشعر في سطوح النساء الفاسيات حين يجف من ماء. كل ظفر في قدمها كمخلاب نسر، ويل لمن حاول ان يتقرب منها بسوء او من قططها الثلاث بشر ما تحتضن وما يقتعد كتفيها فمخالب اليدين سلاحها قد تأتي على خد أو وجه بكامله..

تعرف الرائح والجاي، ساكن الحي القديم والوافد الجديد،تقرأ الوجوه بدءا من العينين بفراسة تدقق في شكل الوجه وكأنها تستبطنه، تذكر أسماء الجميع بالاسم واللقب والكنية بل منهم من تحتفظ له بسجل عن ماضيه..

لا يستطيع أي طفل ان يشاكسها بشر اومنها يتقرب بسوء، وصية من والديه، فالولية أم القطط كما يطلق عليها الصغار والكبار ربما جنية تتسيف في صورة آدمية..كم من طفل حاول مس احدى قططها بعنف فانصرع اواصابته حمى، ومنهم من غاب بلا اثر.. لكن بعض الأطفال كانت تعاملهم بغمزة من عينيها او بسمة تفتح لها فمها فتظهر لها بقايا أسنان نتوءات سوداء بعد ان تتدلى شفتها السفلى وكانها تنفك من حصار عن العليا..

اذا انزوت لاكل او راحة في أحد الأزقة أو الدروب لا يهمها ان ينكشف جسدها كلا اوبعضا، أن تواري سوءة أو تتركها بلا ستر فهذا ممالا يدخل في قيمها ولا اهتمامها؛ فلا احد قد يقترب من جنية وسخة نتنة تحرسها قطط ثلاث، روائح لا توقر انفا، وقربتان متدليتان من صدرها كبالونات هواء قد انسحب منهما

 ريح، اما الفخدان فهما امتداد لقصبتي الساقين لا اثر فيهما لعضلة أولحم، مجرد أخاديد قد غطاها التراب بعضها فوق بعض، عظمان كساهما جلد بني وسخ موحل..

لا تمد يدا بسؤال لاي عابر لكن قد تقف بباب دكان فتُقضى لها حاجة بغير سؤال ولا تأخد الا ماكانت في حاجة اليه..

حين ضاع احد أبناء الحي وطال غيابه قام الحي عن بكرة أبيه يبحث عن ابنه الضائع، طفل حسن الجسم سنيع، أبيض، رقيق اللون في عينيه حور..

قالوا خطفه "الطلْبَة" من يتنقلون بين الاحياء بحثا عن الكنوز، كما اتهموا المرأة أم القطط جوابة الحي بمسخه، وقالوا بقي في الكتاب مع الفقيه ولم يظهر له اثر.. حتى السلطة وبعد بحث دقيق حارت في كيفية غياب الطفل الوديع والذي ما ثبت ان اساء لأحد أو اقترف سوءا في غيره..

كادت أم الطفل أن تفقد عقلها،فهو وحيدها، وهو ما اسعدها به حظ بعد ان عنست ولم يكن من نصيبها غير عسكري فرنسي تزوجها بعد أن اشتغلت لديه خادمة وحملت بعد علاجات مكثفة من أطباء في مستشفيات مشهورة ونساء لهن تجربة في مجال الحمل والولادة بالعلاجات الشعبية.. فقد الطفل اباه قبل أن يرى النور في عملية فدائية وكان نصيبَ أمه بعد وضعها، البيتُ الذي تسكنه وذهبٌ منهوب كانت عينها عليه في صندوقة حديدية قد شق لها زوجها مكانا في صالون البيت قبل ان يغطيه بزليج بلدي في توهيم دقيق..

يئست المرأة من العثور على وحيدها فما تركت شرطة ولا دركا ولا عيونا من عيون السلطة الا توسلتها وأغدقت عليها مما خلفه زوجها لكن بلا نتيجة فالطفل قد تبخر، تبدد وله ضاع أثر..

طرقات خفيفات على الباب ذات ليلة خبا صحوها، تفتح الأم الباب واللهفة تطويها لتجد نفسها وجها لوجه امام أم القطط والتي لم يسبق لها أن طرقت باب أي بيت، ارتعبت المرأة خوفا لكن أم القطط دعَّتها جانبا ودخلت طالبة منها سد الباب خلفهما ؛ لم تنتظرأم القطط اذنا بل تقدمت وقد أمسكت يدها بذراع صاحبة البيت الى أن وصلتا البهو، جلست أم القطط وضغطت على يد المرأة لتجلس بجانبها:

ـ مالك مرعوبة؟.. لست شيطانا ولاغولا، أنا امرأة مثلك لكن لكل منا في الحياة فلسفة، وجهة ونظر.. ما وقع لك قد فرك صدري، خلفك وخلف من أوهموك بمساعدة كنت أتسقط أخبار ابنك..هو موجود حي يرزق لكن عجلي قبل ان يقع له ما حدث لغيره..

شهقت الام شهقة كادت تفقد معها روحها، فوضعت أم القطط كفها على فم الام وشرعت تقرأ بصوت أجش هو لصوت الذكورة أقرب

ومعايشهم وعواقبهم ليست في المشي على عوج

لتكن من السباق اذا ماجئت الى تلك الفرج

 تبادرين الآن الى كهف النسور،وسأكون خلفك لكن بعيدة عنك، قريبا من احدى المقابر ستجدين حفرة اشبه بكِناس الظبي تقتحمين الحفرة،لا تخافي فصاحبها غادر للبحث عن صيد جديد قبل ان يتخلص من طفلك، فكي الرباط عن ابنك وعودي من حيث أتيت،و أنا من سيقوم بالباقي..

ضجتان في يوم واحد قريبتان في الزمان بعيدتان في المكان:

حامل تضع مولودها ليلا لتفتقده صباحا..

 هو أول وضع لها، بفضله بعد أبيه قد عانقت الحياة وخرجت لتتنفس الدنيا بعد حياة بؤس وشقاء في حي هامشي، دخلت خادمة في بيت رجل أربعيني سافرت زوجته لزيارة طبيب نصحها به أخوها المقيم في بلاد المهجر لاجراء عملية جراحية حول انسداد في عنق رحمها بعد سنوات من العقم والخوف من الطلاق..

تعلق الزوج بالخادمة لجمالها فطلبها وبادر بالعقد عليها..

عادت الزوجة لتجد نفسها امام اختيارين : الطلاق او القبول بضرة، وأمام واقع الامر اشترطت السكن لوحدها وبعيدا عن سكنى ضرتها فلبى لها الزوج ما ارادت..

صدفة نسبية جعلت الزوجتان تحملان في نفس الشهر بل ويكون الوضع في نفس الأسبوع..

ظلت الزوجة الأولى بعد أن وضعت بنتا تتسقط أخبار ضرتها وقد استشاطت غضبا ونفثت الغيرة والحسد اثرها حين علمت ان مولود ضرتها الخادمة المعدمة ذكر قد يجعلها لدى الزوج أوْلى، وعنده حظية..

اغرت إحدى قريباتها برشوة معتبرة بالتسلل الى مستشفى الولادة وبدل ان تغير القريبة مولودا بآخر أخذت الذكر وسلمته للزوجة الأولى ومن هذه أخذت مولودتها ووضعتها في صندوقة قمامة بعيدا عن البيت..

احترقت أم الطفل حين افاقت لتجد سرير ابنها فارغا، سألت وأعادت السؤال فلا احد يشفي صدرها برد..

الحديث الذي كان يدور بين الممرضات ان المولود المفقود كان ذكرا وكانت له وحمة تميزه في فخده الأيمن..

قطط ثلاث تجوب المستشفى لم يسبق لأحد أن رأى مثلها، تموء بحدة وكانها تحس توترا غير مفهوم، ثم لا تلبث أن تغادر المستشفى لتحاصر إحداها سارقة المولود و عنها تأبى ان تبتعد رغم الركلات التي كانت تكيلها السارقة للقطة في حين أن قطة ثانية ظلت تلازم الوليد تلعق رأسه وبه تتمسح مثيرة قلق زوجة الأب التي احتارت في وجود قطتين في بيتها لاتعلم من أين تسللتا..

ـ "فأل سيء أن تتسلل هذه القطط الى بيتي وتلازم راس هذا الوليد"

تقبل أم القطط، ترافقها القطة الثالثة وقد اقتعدت على الكتف الأيمن لأمها وكأنها تراقب الاحداث من برج عال..

لم تحتج الشرطة وقتا طويلا لمعرفة الحقيقة بعد ان أخرجت أم القطط طفلة القمامة من تحت ردائها تضعها في سرير الوليد الذكر ثم تحمل المولود ذا الوحمة في فخده الأيمن، ولا تلبث أن تنسحب بوداع ونظرة حادة لسارقة الطفل وقد اضافت أم القطط بين أحضانها حملا غير قططها، مولودا ذكر أمه لهفة انتظار..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم