آراء

فرات المحسن: هل التدمير الذاتي المهمة الأنسب لشعوب الشرق؟

في حديث لجوزيب بوريل الممثل السامي للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوربي يذكر "إن أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال، لذا فمن الضرورة أن يقوم أصحاب الحديقة بحمايتها من زحف الأدغال".

رغم التجاذبات والخلافات التي حدثت داخل أوساط القادة السياسيين في الولايات المتحدة حول طبيعة الثورة الإيرانية وما رافقتها من أحداث قبل وبعد وقوعها، وعن الكيفيات الموجبة للتعامل معها كمنجز أربك بوصلة الكثير من قواعد العمل والتراكيب السياسية والاقتصادية، ليس فقط على مستوى بلد مهم ومحوري مثل إيران، وإنما في عموم الشرق، إن لم يكن العالم.

تلك الثورة ببرنامجها المذهبي ومعاييرها الدينية، قدمت صورة كانت تناسب مزاج ورغبات بعض الساسة الأمريكان، حيث اعتبرت في أيامها الأولى، جزءاً مهما يتواءم ونظرية القوس أو الحزام الإسلامي الذي يجب أن يُفعل ليحيط الاتحاد السوفيتي من الجنوب، وعندها يصبح عاملا رئيسيا في تسريع تفكك أو سقوط الاتحاد السوفيتي. تلك الرؤية أو النظرية السياسية كان قد وضع رؤاها البروفيسور زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي على عهد الرئيس جيمي كارتر.وقد بنى رؤيته هذه على قاعدة وجود الاختلافات الثقافية والعرقية، ولكن الأهم ويتقدم كل ذلك استخدام الدين كمحرض في مواجهة الشيوعية وسلطة السوفياتات. فهناك وحسب المعلومات الاستخباراتية، توجد أرضية مناسبة للتحريض الديني بين أوساط شعوب الحزام الإسلامي الممتد جنوبي الاتحاد السوفيتي والمتكون من الجمهوريات الآسيوية ذات الغالبية الإسلامية وهي أذربيجان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان وقيرغيزستان. وهذا العامل التحريضي كان مقدرا له في حينه، أن يلعب الدور الأكثر إيلاما لسلطة الاتحاد السوفيتي.

ما حدث في إيران بعد سيطرة الأمام الخميني على مقاليد السلطة غير من طبيعة التخندقات وضرب عمق الرؤية الأمريكية للأحداث. فتغيرات دراماتيكية حدثت مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وتصاعدت معها نبرة الخطاب الديني المتشدد عند رجال الثورة، وظهرت فكرة جادة تدعو لتصديرها بمفاهيمها المذهبية إلى باقي شعوب المنطقة، ورافق كل ذلك ارتفاع وتيرة التحريض ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين. وبات معه رجال الدين في إيران يشكلون خطرا حقيقيا على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط والخليج منه، لذا دفعت تلك البلدان حليفها صدام حسين ليقوم بهجومه العسكري انتقاما من موقف إيران العدائي للغرب وسياساتها العدوانية ضد إسرائيل، وسميت تلك الحرب المجنونة التي دامت أكثر من ثماني سنوات بحرب الخليج الأولى، خسر فيها الجانبان ما يقارب المليونين من البشر بين قتيل وجريح ومعوق ومفقود.

وقائع حرب الخليج الأولى بمجمل تداعياتها، أثارت مواقف ملتبسة وخلقت نعرات وتخندقات خطيرة في المنطقة، تصاعدت معها حدة الخلافات المذهبية وظهرت بمواجهة التطرف الإيراني ومحاولات تصدير مفاهيم الثورة وأفكار الأمام الخميني، ما يقابلها من ردود فعل موازية ومقابلة لها، تمثلت بتصاعد نبرة التيارات السلفية وتنامي مظاهر التدين السني، وارتفاع أنجم الأخوان المسلمين وأتباع المذهب الوهابي، ورافق ردة الفعل هذه رفع شعار الإسلام هو الحل، أي الرجوع إلى فطرة الدين وسيرة السلف الأول من الخلفاء الراشدين والصحابة، والسير وفق تعاليم الفقهاء من مثل ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب وحسن البنا وغيرهم.

دائما ما شكل الصراع المذهبي أحد أكثر العوامل تعقيدا ولبساً في الشرق الأوسط، ولا ينحصر هذا الصراع بين أوساط المذاهب والملل الإسلامية، بل يمتد ليشمل باقي الديانات الأخرى، ونجد هذا الخلاف والخصومة والطعون وحتى قتل الآخر المخالف للعقيدة، موجود أيضا بين أوساط الطائفة الواحدة.

ففي المجتمعات الشرقية يقحم الدين في كل شيء ومن أجل أي شيء. فالدين يمثل العامل الحاسم في الكثير من الحراك المجتمعي. وبقدر ما يحمل من تناقضات ويخضع للتأويل والاجتهاد، نجده يدخل بضراوة في باب القدرة على شحن الخصومات وتغذية الفرقة والاختلاف، بما تفرضه طبيعة التزمت والتخندق والمغالاة، الذي تولده رؤية الطائفة لمذهبها، كحقيقة وحيدة مسلم بها وغير قابلة للنقاش، وان ما حولها من مذاهب وفرق، يشكلون بالأساس مجاميع مختلقة ومختلفة، تعمل بالضد منها، وتسعى لتدميرها ومعتقدها. وتشارك في تلك الجهود لتصعيد الشحن الطائفي، وسائل إعلام ومؤسسات سلطوية وسياسية ودينية، عبر التحريض والحض على مواجهة وتخوين الفكر الآخر، والدفع بكراهيته وتسفيه مفاهيمه ورؤاه مهما كانت طبيعتها.

وسائل تخوين الآخر واستعداء الطوائف على بعضها والدعوة للكراهية وقتل أو عزل مخالفي الرأي، تمتد جذورها عميقا في تأريخ المنطقة، وتستقر في وعي الكثير من الجماعات، وتكون عند بعض المجاميع من المتطرفين، بديهيات ومسلمات لا مبرر في الغالب لمناقشتها أو التمويه عليها أو الخجل منها، ومن الصعوبة بمكان أن تخرج هذه الجماعات عن هذه القوالب والقواعد والأعراف. فالعديد من ثقافة الإفتاء والاجتهاد تقدم وبشكل ناجز ما تحتاج له تلك المجتمعات من ذرائع لرفع حدة الحقد المذهبي والخصومة مع الآخرين من غير أبناء الملة، والجميع يتخندقون بطائفتهم وعائدية مقولة الفرقة الناجية الوحيدة، والباقون ذاهبون إلى جهنم، ليصبح الخطاب الطائفي خطابا شعبويا تعبويا يتغلغل في روح ووجدان الكثير من بؤساء الطوائف المتناحرة.

تلك الحقائق على الأرض لم تكن لتغيب عن بال العاملين في حقول الدراسات الستراتيجية لبعض الأقطاب من الرأسماليين والصهيونية العالمية، ودائما ما كانت محورا لبحوث مطولة، وخلال فترات زمنية مختلفة، وظهرت للعلن الكثير من تلك الرؤى والبحوث، وبالذات فيما يخص طبيعة الصراع المذهبي في عموم الشرق، والكيفيات التي تدير المؤسسات الدينية صراعاتها بالضد من خصومها المفترضين. كذلك اجتهدت تلك الدراسات في البحث عن سير الشخصيات التي تستطيع لعب الأدوار الحاسمة في رفع حدة الصراع وتغذيته، أو العكس، كبحه ووأده، ووضعت في هذا المجال دراسات كثيرة، حول حراك المجتمعات بهيكليتها وتخندقاتها المذهبية وردود فعلها تجاه مجاوريها، خصوما كانوا أو مناصرين، هذه الدراسات قدمت خدمة كبيرة للسياسيين والعسكريين في المعسكر الرأسمالي ساعدتهم على وضع قواعد عمل محددة، تستطيع التأثير وبقوة في مفاصل الحراك المجتمعي، وتلعب وبشكل ناجز أدوار حاسمة لحرف الصراع نحو مواقع مختارة تصب في النهاية لصالح الأهداف العليا ومطامع الدول الرأسمالية والصهيونية.

فالصراع المذهبي دائما ما كان مقدمة مهمة وعاملا حاسما في مشروع تفكيك المنطقة وإعادة تركيب هياكلها السياسية وحتى الجغرافية. ولأهمية وطبيعة المشروع الستراتيجية، كان من الموجب لمعاهد الدراسات الغربية التعمق في تحليل العوامل التي تتحكم بحركة الطوائف والملل، والعمل على استغلال الفطرة الدينية والصراع المذهبي لبناء خططها، اعتمادا على مقولة الاستشراق الغربية، أن شعوبا تمارس العزل الذاتي وتدور دون فكاك في فلك الخصومات المذهبية، وثقافتها تستمد شرعيتها من مقولات رجال الدين، وتعشق التعلق بالماضي والتعكز على ما فعله السلف، وتستطيب لغة التقية والتملق وقلب الحقائق دون تفاعل مع المستقبل، فهي وفي كل الأحوال غير مؤهلة تربويا وفكريا لتكون مجتمعات متحضرة أو حتى تسعى للتحضر، ومأزقها الثقافي والحضاري يجعلها غير قادرة على التكييف مع مستحقات العصر وثقافة التسامح والديمقراطية والحريات المدنية، لذا فمن المناسب أن تخضع لنمط من الإجراءات التي تفسح المجال للرأسمال العالمي لاستغلال وتسخير موارد بلدانها الطبيعية، وقبل هذا فرض نظم وهياكل سياسية تستند في إدارة دولها على تغليب خطاب ديني يحفز ويصعد الصراعات المذهبية داخليا وخارجيا.

ومن هذا وعلى وفق رؤية فاحصة للوقائع على الأرض، عملت الدوائر المخابراتية والعسكرية الغربية على تقديم يد العون والمساعدة في إبعاد الموديل القديم الذي مثلته الدكتاتوريات لإحلال بديل آخر يعتمد تغذية صراعات مجتمعية وخصومات مذهبية وقومية بين مكونات الشعب الواحد أو بين دول الإقليم. وهذا ما أفرزته مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي، حين قلبت الطاولة على صناع الانتفاضة الحقيقيين ووضعت لتلك البلدان والمنطقة خارطة طريق أعدت لبناء شرق أوسط جديد، يكون المشهد فيه صعود قوى جل ثقافتها تتمثل في تذكية الصراع المذهبي مع الآخرين.عندها يكون الصراع الديني والمذهبي العامل المناسب والقوة الأساسية لتدمير شعوب المنطقة لنفسها بنفسها ووضعها في دوامة لا تستطيع الانعتاق منها، وفي الأخير تنحدر نحو التفتت والتشظي إلى كانتونات يمكن إخضاعها والسيطرة عليها كليا.

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم