آراء

كاظم المقدادي: مشروع الطاقة النووية للأغراض السلمية في العراق (2)

في اَذار الماضي زار العراق المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA) رافائيل غروسي، وإلتقى برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،وكان من بين برنامجه: تفقد موقع التويثة الملوث بالإشعاع، وزيارة مستشفى متخصص بأمراض السرطان، والوقوف على إحتياجاته ذات العلاقة بالوكالة الدولية. وهي زيارة تفقدية عادية. وقد غطى الزيارة وما دار أثناءها المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء.

أبرز ما نشر عنها ان الحكومة العراقية تسعى للحصول على موافقة الوكالة الدولية بالسماح لها بإنشاء مفاعل نووي للطاقة السلمية. وان رئيس مجلس الوزراء قد أعلن خلال استقباله للسيد غروسي: "عزم العراق على مزاولة نشاطه النووي للأغراض السلمية". ولهذا الغرض " أودع في نهاية العام الماضي لدى الوكالة الدولية متطلبات انضمامه إلى اتفاقيات الأمان النووي. وهو يتطلع للدخول مجدداً في مضمار التطبيقات السلمية للطاقة النووية ". وعبّر السوداني عن رغبة العراق أن يزاول نشاطه السلمي في مجال الطاقة الذرية. وهو يتطلع لمساعدة الوكالة الدولية في وضع البرامج والمشاريع ذات العلاقة بالتطوير في مجال التطبيقات النووية للأغراض السلمية ".

من جهته، أكد السيد غروسي اًنه " سيتم طي صفحة الماضي بشأن رغبة العراق بالاتجاه نحو الطاقة النووية السلمية، وان هذا من أولويات العمل مع العراق، والبدء بوضع خطة لتطبيق الاستخدام السلمي للطاقة في مجال الصحة المستدامة والأورام والطاقة النظيفة في العراق.."

الى هنا والحديث الرسمي العراقي دار حول رغبة العراق وتطلعه بشأن الطاقة النووية السلمية. بيد ان الغريب ان يبالغ مسؤولون عراقيون ويختلقوا أموراً لم تحصل لحد الآن.وتحدثوا وكأن المشروع قريب الإنجاز، ناسين أو متناسين المتطلبات والضمانات الأساسية التي تطلبها الوكالة الدولية لإنشاء مفاعل للطاقة النووية السلمية، والتي لن تمنح رخصة الإنشاء والتشغيل، قبل التأكد من تنفيذها.

والوكالة الدولية تؤكد ان إنشاء المفاعل وحده يستلزم 10 أعوام على الأقل.وتنبه الى إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة، ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية،الخ، تتطلب أموالآ طائلة لابد من أخذها بالحسبان..

في هذا الشأن نسأل: من أين ستؤمن الحكومة العراقية المبالغ المطلوبة وقد نهبت الطغمة الحاكمة ومافياتها أموال الدولة حتى وصل الحال بمؤسسات رسمية،كوزارة البيئة، إستجداء مبالغ تافهة - مليونين و 4 ملايين دولار لتمشية أعمالها  من حكومات ومؤسسات أوربية..

خلال مؤتمر صحفي مع السيد غروسي في بغداد أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية نعيم العبودي، أن العراق لا يريد الطاقة النووية لأغراض الحرب والسلاح، وإنما للقضايا السلمية فقط،وهذا من حقه. وذلكم يعتبر ان العراق يلتزم ببنود الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية ،كأحد متطلبت المشروع.

وقبل هذا، تم في 22/11/2023 إنضمام العراق لـ " إتفاقية الأمان النووي"، و" الاتفاقية المشتركة بشأن أمان التصرف في الوقود المستهلك، وأمان التصرف في النفايات المشعة "، استجابة لأحد شروط موافقة الوكالة الدولية على المشروع المطروح.

المفارقة، أنه قبل إنجاز هذه الخطوة الإلزامية (إيداع صك الأنضمام) بـ 6 أسابيع، أعلن السيد العبودي: "إستحصال الموافقة الأصولية على إنشاء مفاعل نووي صفري"، ولم يوضح متى إستُحصِلت هذه الموافقة، التي لم يأت على ذكرها - حسب متابعتنا- أحد غيره ، لا قبل زيارة مدير عام الوكالة الدولية لبغداد، ولا أثناءها، ولا بعدها..

وكذا بالنسبة لتصريحه بـ " البدء بإنشاء " مفاعل ومحطات نووية صغيرة للأغراض السلمية . فهذا الكلام ليس صحيحاً، لأنه لم يبدء في العراق بعد إنشاء ما ذكره. وكلامه هذا يتعارض كلياً مع تقديم العراق للوكالة الدولية للطاقة الذرية خطته للفترة من 2023 إلى 2030، والتي تضمنت نيته إنشاء مفاعلات نووية، ومنظومات تحت الحرجة، ومحطات كهرونووية، تسمى دورة الوقود النووي.

وعدا هذا، للعبودي تصريح خطير يقر فيه بأن موقع المفاعل المرتقب ملوث بالاشعاع، وسيتم تنظيفه..سنتناوله لاحقاً..

كما ولا يستند لواقع ما ذكره بشأن المفاعل النووي الصفري أو الصغير، الذي " سيوفر مساحة علمية للتدريب وإنجاز الأبحاث التعليمية التخصصية في الجامعات العراقية، مما يسهم في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد"..

ويبدو ان وزير التعليم العالي والبحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا،ورئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية، الذي هو مهنياً لا علاقة له بعلوم الطاقة والفيزياء النووية والبحث العلمي، وان السياسة، وليست الكفاءة العلمية، جعلته يتبوء كل هذه المهمات (وهذه مفارقة أخرى)، أراد ان يوحي بان المنظومة السلطوية لطبقته السياسية المهيمنة على مقدرات العراق "مهتمة" بالتعليم والبحث العلمي والباحثين، وان عراق اليوم تحت إدارتها "مواكب" لمثل هذه التوجهات، معتقداً بأن مثل هذا الادعاء  ينطلي على المتلقين الواعين، ساعياً للتغطية على الواقع التعليمي الكارثي، وما أحدثته منظومته السياسية الفاشلة، المهيمنة على الجامعات وكلياتها، من تدمير ممنهج للتعليم ،حتى أوصلته للحضيض، ومن مسخ للعلوم والمعرفة العلمية والبحث العلمي، ومن تشويه للوسط الأكاديمي الوطني الحريص، من خلال إغراقه بـ " المجاهدين" من تجار الدين والفاسدين والفاشلين والجهلة والمتخلفين والظلاميين، وشرعنة شهاداتهم "الأكاديمية" المزورة، والمشتراة من سوق مريدي، ومن الحوزات في إيران ولبنان، وإحلال أصحابها من المحسوبين والمنسوبين محل العمداء والأساتذة والخبراء في الجامعات والكليات من ذوي الكفاءات والمعرفة والخبرة الطويلة.

هذا الواقع المخجل لن يستطيع أحد إخفاءه. مثلما لن يستطيع التغطية على غياب مناهج العراق التعليمية الحالية،على مستوى التعليم العالي والبحث العلمي، لمواكبة التوجهات الحقيقية، العلمية والتكنولوجية، المخصصة للبحوث العلمية والتعليم لصالح الطلبة والباحثين في الجامعات. وقد قضت الإدارة المتسلطة منذ عقدين على الأمكانات الفعلية التي أسهمت في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد.

علماً بان هذه المسألة الخطيرة ستؤثر على المشروع العراقي المطروح، إذ ان أحد المتطلبات الأساسية لمنحه الموافقة هو توفيره للقوى البشرية المالكة للإمكانات المطلوبة، مثل أن تكون مدربة جيدا ومؤهلة علمياً وتكنولوجياً وفنياً، لعمليات إنشاء وتشغيل المفاعل النووي، ولتطبيق معايير الأمان النووي، والسلامة الإشعاعية، وفق إشتراطات الوكالة الدولية. ويشمل ذلك التأهب والإستعداد للطوارئ، وإجادة الممارسة العملية للإجراءت والمعالجات الفورية المطلوبة .

وإرتباطاً بذلك، ولضمان تحقيقة، يفترض وجود جهة وطنية معتمدة، تأخذ على عاتقها مسؤولية إدارة المشروع، والسعي توفير متطلباته، ومنها القوى البشرية المطلوبة، وضمانات الأمان النووي والسلامة الإشعاعية والإستعداد للطوارئ..

في هذا الشأن، توجد في  كل بلدان العالم التي تمتلك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبضمنها مصر والسعودية والأردن والأمارات، وغيرها، هيئة وطنية واحدة، معتمدة رسمياً، وهي متخصصة مهنياً، وكفوءة لمسؤولية إدارة المشروع، والنهوض بمهماته المرسومة.وتكون كمؤسسة حكومية تابعة لمجلس الوزراء، أو للبرلمان. ولعل الأهم هو إلتزام الدولة وسلطاتها بتوفير كافة المستلزمات المطلوبة لنجاح الهيئة، من تشريع قانوني خاص بها، ونظام داخلي لعملها، وادارة مهنية كفوءة علمياً وإدارياً، ومديريات متخصصة تابعة لأنشطتها، وكوادر وكفاءات علمية وفنية، ومعدات وتكنولوجيا حديثة، الى جانب الميزانية المطلوبة. وهي كمؤسسة وطنية مهمة لها دورها الكبير في المجتمع، وتحضى بإحترامه، وتتمتع بالدعم والإسناد الحكومي والشعبي ..على ان كل هذا لا يمنع من خضوع هذه الهيئة ، كأي مؤسسة أو جهة أخرى، للمراقبة، والمتابعة، والتقييم، والمحاسبة...

فهل ستتأسس للمشروع العراقي المطروح هيئة وطنية معتمدة واحدة، كفوءة ومؤهلة وحريصة، وتكون بعيدة عن هيمنة الأحزاب المتنفذة، وعن المحسوبية والمنسوبية؟

نطرح هذه التساؤلات المشروعة، وفي العراق حالياً توجد العديد من الهيئات الرسمية ذات العلاقة، كهيئة الوقاية من الاشعاع ، ومركز الوقاية من الاشعاع ، والهيئة الوطنية للسيطرة على المصادر المشعة، ومديرية السلامة الاشعاعية والنووية، وهيئة الطاقة الذرية العراقية، والهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية والبايولوجية، ودائرة الإتلاف والمعالجة، ومديرية التطبيقات النوويـــة، ومديرية النفايات المشعة.، ومركز تصفية المنشات والمواقع النووية، ومديرية السلامة الإشعاعية والنووية، الخ. ولكل واحدة منها العديد من المديريات والأقسام، ولديها مئات الموظفين، وتكلف الدولة أموال طائلة..

بالمناسبة، أغلب هذه الهيئات تعمل منذ سنوات، وليس واضحاً ما الذي جناه العراق من وجودها ومن تعددها وكثرتها.

***

د. كاظم المقدادي

في المثقف اليوم