قضايا

التوسير والعبث بالماركسية

ali mohamadalyousifتمهيد: بعد تفكك الاتحاد السوفيتي القديم، وانهيار الشيوعية في دوله كافة بفعل عوامل ذاتية تخص التجربة الاشتراكية الروسية، وعموم البلدان التي كانت تسير تحت ظل ايديولوجيتها الماركسية وبفعل عوامل موضوعية وخارجية عديدة منوعة. كان بعض هذه العوامل التي تم تأشيرها من قبل سياسيين وباحثين واختصاصيين، بعد الانهيار، صائبا دقيقا نزيهاً للباحث المحايد، وكان بعضها الآخر مبالغا فيه، بعيدا عن حقائق الامور ومجرياتها وما حصل بالضبط،، لغايات متباينة، واهداف مختلفة، جاءت باشكال من الدراسات والبحوث والتحليلات والكتب جميعها اجتهدت في تقصي اسباب ونتائج انهيار النظام الشيوعي السوفيتي عام (1991) من القرن العشرين. اذ لا يوجد قراءة بريئة حسب تعبير التوسير.

ان نقد النظرية الماركسية والمنهج الايديولوجي الشيوعي وبناء التجربة الاشتراكية على امتداد منطقة جغرافية واسعة كانت تشمل اكثر من نصف مساحة العالم المأهول تقريبا، وعمر زمني يقرب من قرن والتصدي للمفاهيم السياسية والفلسفية للماركسية عموما، كمنهج وفلسفة، نظرية وتطبيق، اخذت حيزاً واسعا من الدراسة والتحليل، قبل واثناء وبعد نجاح الثورة البلشفية الروسية عام (1917) وحسم الاختلافات والانشقاقات والتمردات التي رافقتها لصالح حزب لينين (البلاشفة) وما يهمنا في هذا التقديم اعطاء جردة سريعة لبعض من الانشقاقات والتمردات التي رافقت الثورة الروسية، وقد نغفل الكثير المهم الجاد، وعذرنا اننا نمهد لمناقشة موضوع للفيلسوف الفرنسي (التوسير) الذي يراه البعض بعيداً عن مشابهات له مع من سبقوه.

ولو عدنا للوراء قليلا بعد عام (1917) لوجدنا الثائرة المتمردة المنظرة (روزا لوكسمبورغ) انشقت عن الحزب الشيوعي الروسي بقيادة لينين وشنت هجوما تنظيريا أيديولوجيا ضد مسيرة التجربة الاشتراكية في روسيا، ولها اسهامات تنظيرية فلسفية جادة وردود لينين عليها في ادبيات ونشريات الاحزاب الشيوعية عالمياً بما يحفظه لها التاريخ، ولم تكتف روزا لوكسمبورغ بالتمرد الايديولوجي على الحزب الشيوعي في موسكو بل عمدت لتشكيل حزب منشق مع انصارها اطلقت عليه حزب (سبارتكوس) اعتزازاً واعجابا ثوريا، بكفاح العبد الروماني سبارتكوس الذي تمكن من الهرب من سجن العبيد المصارعين في روما مع بعض من انصاره واستطاع ان يقود تمردا كبيرا ارعب قيصر والامبراطورية الرومانية، وتمكن بجيش من العبيد والفقراء والصعاليك ان يفرض سيطرته التامة على مناطق جنوب ايطاليا والحق هزائم بجيوش روما التي صممت على القضاء عليه عام 72 ق.م بمحاصرته على سواحل البحر وتمكنوا من القبض على ابرز قادته واعدامهم جميعا بعد اعدامه او انتحاره، بالقاء نفسه في فوهة بركان هامد حسب احدى الروايات.

روزا لوكسمبورغ بولندية المولد، المانية الوطن والعيش الدائم، رفعت عبارتها الشهيرة التي ذهبت مثلا: (اشتراكية ام بربرية!؟) بوجه لينين، فتمكن لينين منها وقتلت عام (1919) وانتهى حزبها الاسبارتكوسي وتشتت انصارها من حولها، ولاقت نفس مصير العبد الروماني (سبارتكوس).

كما قاد "تروتسكي" انشقاقا ايديولوجيا شيوعيا اكثر اتساعا وصل اوج ذروته ابان حكم ستالين الذي لاحقه بضراوة وشراسة اجهزته القمعية وتمكن من تصفيته بوحشية شنيعة في البرازيل، بعد نجاته من المحاولة الاولى لتصفيته في تركيا، التي غادرها هارباً. وفي العام 1956 قاد زعماء الحزب الشيوعي المجري انشقاقا وتمردا ضد تسلط الروس وهمينتهم على شعوب وامم الاتحاد السوفيتي، انتهى العصيان مع دخول الجيش السوفيتي بجنوده واسلحته الثقيلة من دبابات وطائرات حتى تم القضاء النهائي على الثوار المتمردين في العاصمة بودابست وبقية المدن الاخرى. وتكررت الثورة والتمرد في جيكوسلوفاكيا 1968 بقيادة "دوبتشيك" بما سمي ثورة الطلبة، وتمكن السوفييت مرة اخرى من تدمير التمرد وتصفية المشاركين به. كما توالت الانشقاقات والثورات المتمردة على قيادة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي من قادة دول واحزاب ومنظمات وفلاسفة وادباء وفنانين في دول اوربية وغير اوربية لعل ابرزهم ممن تحضرنا اسماؤهم ماوسي تونك قائد الثورة الصينية، وتيتو باني الشيوعية في يوغسلافيا القديمة، هوشي منه قائد ثورة فيتنام، سارتر، وروجيه غارودي في فرنسا، الفنان التشكيلي بيكاسو، المنشق الروسي سولجنستين، واسماء عديدة لاتحصى ربما لايقلون اهمية وتأثيرا عمن ذكروا، تناولوا بالنقد وباساليب مختلفة التجربة الشيوعية الروسية تنظيرات ايديولوجية سياسية، افكار فلسفية تاريخية، مواقف خلافية مناوئه وصلت حدود التضحية بالدماء والارواح، أو الانشقاق الايديولوجي السياسي في الاستقلال التام عن منظومة الاتحاد السوفيتي القديم في تجارب الصين وفيتنام ويوغسلافيا.

ختام هذا التمهيد لابد من تأكيد:

1- ان الفيلسوف المنظر التوسير تناول بالنقد الفلسفي الميراث الهيجلي والماركسي في تسليطه النقد اللاذع على المادية التاريخية، وكتاب راس المال، ولم نجد في افكاره في هذا الفصل من كتاب المؤلف محمد علي كبسي/ قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر، أي نقد تقويمي للتجربة الاشتراكية السوفيتية ولا في تقصي اسباب انهيارها، كما لم يعط حلولا مقبولة لمفاهيم هاجمها بضراوة وصادرها.

2- ان ميراث الماركسية الفلسفي والفكري، الايديولوجي والتاريخي خصب وغني واسع ومتشعب، يتقبل تعدد القراءات، ويستوعب النقد المنصف والتجريح غير المبرر، ومن هذا الباب والمنطلق كانت مساهمة التوسير النقدية، والتي أعلن منذ الآن انها لم تكن مرضية ولا مقنعة، ليس لانها تعاملت فلسفيا بمنهج وأسلوب معقد تهويمي اغلب الاحيان، بل لأن الكثير والعديد من المفكرين الغربيين يكونون في منطلقاتهم التنظيرية بعيدين جدا عن واقع حال اكثر من نصف دول العالم التي تعاني الحروب، والنزف، والجوع، والتخلف، والمرض... لذا اجد افكار التوسير (غريبة) بالنسبة لغير النخبة الفلسفية تحديدا فالغالبية المثقفة تجدها هراءاً فلسفيا عقيما.

3- ذكر المؤلف وليس التوسير عبارة لايرضاها أي مثقف منصف للتجربة الاشتراكية الشيوعية في الصين، وما قطعته من شأو متقدم، يحظى بالاعجاب والاجلال حتى من لدن خصومها الألداء، فلا معنى ولاطعم لعبارة المؤلف: (ان هذا الموقف العلمي لالتوسير عبارة عن قفاز ادانة يرميه في وجه القراءات الاقتصادية والقراءات الايديولجية الماوية). ص24 من الكتاب.لا نعرف ان كان يقصد المؤلف حقبة ماوتسي تونغ  ام التعميم على التجربة الشيوعية الصينية العملاقة .

4- قبل عرضنا محاولة المفكر الفرنسي (التوسير) في اعتماده منهجا فلسفيا مثاليا تلفيقيا غير موفق في محاولته الاجهاز على ما تبقى من الارث الماركسي (كتاب راس المال) وعلى المادية التاريخية لدى (هيجل) نعيد للذهن ان كتاب راس المال عدة اجزاء مجلدات قام بكتابته وتأليفه كارل ماركس بجهد موسوعي مضن، وبمساعدة سخية من رفيقه انجلز، ماديا وفكريا, استغرق تأليفه سنوات عدة في حي سوهو وسط لندن، ترجم راس المال إلى العربية تراجم عدة منها ترجمة المفكر اللبناني محمد عتياني عام 1982 تعتبر الافضل.

(التوسير ... ورأس المال)

بعدما جعلت الماركسية من الميراث المادي الهيجلي، فلسفة مثالية ابتذالية في تفسير المادة والتاريخ، وبعد ان اعتمدها ماركس بمنهج مادي جدلي مغاير محسن، اطلق مقولته الشهيرة بانه – ماركس – اوقف التفسير المثالي الهيجلي للتاريخ على قدميه بعد ان كان اوقفه (هيجل) مقلوبا على راسه. مختتما ماركس وصف (هيجل) بعبارة لاذعة، اوردها المفكر المجري جورج لوكاتش في فصل الكتاب الذي نعرض فيه الافكار: (ان تنبيه ماركس كي لانعتبر (هيجل) كلبا فاطسا، ظل حرفا ميتا للكثير من الماركسيين المخلصين)(1)، بهذه العبارة القاسية نعت ماركس الفيلسوف الذي انار له الطريق لاول مرة في التاريخ الفلسفي في تفسيره المادة والتاريخ ماديا جدليا، وساعد هيجل بمهمته الفلسفية الرائدة الخصبة ما اطلق على تسميتهم الشبان الالمان الهيجليين من ابرزهم فويرباخ، الذي لم يخلص هو الاخر من شتائم ماركس.

يمكننا ان نقرر منذ الان وهو ما سيتوضح معنا لاحقا بأن التوسير وما صدر عنه من افكار فلسفية واراء، اعتمدناها من كتاب محمد علي الكبسي/ قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر/ الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف. متعكزاً مسندا ظهره في الهجوم على مثالية (هيجل) المدانة مع فيلسوفها منذ قرنين تقريبا، مقدما قدما، مرجعا اخرى في الوثوب على كتاب راس المال الذي وصفه (ان راس المال لم يعد شيئا منتجا، بل حاملا لمفعولات العلاقات باعتباره بنية، فهو ابعد من ان يشير إلى الواقع لانه منتج للواقع من خلال قوانينه)(2).

لابد من التنبيه بان مصطلح (بنية) لدى التوسير يعني حامل العلاقات المنفرزة عن واقع معين، أو فاعلية معينة، وليست (البنية) كما نتداولها في ادبيات ثقافاتنا انها تموضع اجتماعي في الواقع، فمرة (البنية) عنده تمثل علاقات الانتاج وفي ثانية كما مر بنا هي مرادف (كتاب راس المال)، وهكذا....

التوسير ليس الوحيد الذي يعتبر فلسفة (هيجل) ابتذالية، وانه كلب ميت، وفخ يتوجب مجاوزته كما ورد في الكتاب على لسانه ص24، في هجومه الاستهدافي اللاذع على فلسفتي هيجل وماركس، والتشنيع بهما، كانت تلك اداته التي اعتمدها في محاولته كسر العمود الفقري للفلسفة الماركسية في ارثها المتبقي كتاب راس المال، والمادية التاريخية. وفي مسعاه هذا اراد ان يبني التوسير لنفسه فلسفة نظرية تعتمد اللحظة العلمية فوقع في مطب الابتذالية هو الاخر، فهو اراد اقامتها على تصفية جدل (هيجل) ومصادرة ارثه الثقافي في التفسير المادي للتاريخ، طالما سبق وان اعطى ماركس الضوء الاخضر لمن يأتي بعده، وينعت هيجل بالكلب الميت، كما فعل هو من قبل، وحرف ساقط لدى الماركسيين المخلصين!!.

التوسير كما يذهب المفكر محمد عابد الجابري اعتمد تطبيق (البنيوية) والاستعانة بعلم اللسانيات المعاصر ,والانتروبولوجيا البنيوية في كتابيه (مفهوم القراءة ) , و(القراءة الجديدة) في دراسة الارث الماركسي الفلسفي والايدولوجي , وهي دعوات – حسب الجابري – لايمكن ان تؤدي الا الى طرق مسدودة , الا الى تكريس الانحطاط والجمود بدعوى اخضاع المتغيرات الى الثوابت التي تحكمها, وذلك لان البنيوية باهتمامها بالكل اكثر من الاجزاء , وبنظرتها الى الاجزاء في اطار الكل الذي تنتمي اليه ضرورية لاكتساب رؤيا اشمل واعمق, لا تكفي وحدها, ويؤكد الجابري انه لا بد من المزاوجة بين البنيوية وبين النظرة التاريخية التي تتبع الصيرورة وتعمل جاهدة على ربطها بالواقع لاكتشاف العوامل الفاعلة فيها الموجهة لها .(3)

اعتبر التوسير: (هيجل حّول المادية التاريخة إلى نظرية لا انسانوية ولا تاريخانية)(4) معتمدا تعبيرا غير موفق ولا متطابق مع سياق تفكيره لماركس قال فيه: (الغاية النهائية لكتابي هذا رأس المال، انما هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع) (5) وفعلا هذا ماحققه ماركس، فما علاقة (هيجل) بذلك!؟ والمادية التاريخية!؟.التي نزع عنها التوسير تاريخيتها وانسانيتها .

السؤال الذي يفرض نفسه، هل بامكان ماركس الاتيان بقانون اقتصادي يكشف به حركة المجتمع، يأتي به من فراغ انساني/ تاريخي، كما يرغب مقاس التوسير وذوقه!! فالتوسير لايعترف بواقع عيني بدليل قوله: (اذا كانت البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج، واذا كانت لاتتكون الا خارج كل صلة مباشرة مع العيني، فهي اذن ليست ترجمانا للواقع بل انتاجا يتحدد فقط من خلال التصورات والمناهج) (6) ويقول ايضا: (فالواقع ليس موجودا بل يتحول إلى موجود، والعملية الحقيقية، تتمثل في الممارسة النظرية، وهذا يعني ان هذه الاخيرة تعني تطورا لمجمل تاريخ المعارف، هذا التطور لا نبلغه الا بالابتعاد عن الزوج (راس المال/ تناقض) لان التناقض يجب فهمه نظريا على انه فعالية واسلوب تتمظهر فيه البنية ومن هنا جاءت ضرورة مصادرة الارث الهيجلي)(7). ايهما اكثر مثالية ابتذالية التوسير صاحب العبارات الجوفاء المار ذكرها بين قوسين، ام مثالية هيجل في التفسير المادي للتاريخ!!؟ من المعلوم لابسط مثقف ان القوانين الاقتصادية في راس المال الذي ينكره التوسير مزاوجاً معه بالرفض ديالكتيك هيجل، ان ماركس توصلها من خلال ابحاثه الفلسفية ووقوفه سنين طويلة على دراسات معمقة موسوعية في الانثروبولوجيا، الاقتصاد، الاجتماع، الفلسفة، الادب، وكان نتيجتها ان بسطت امامه التطور الديالكتيكي البشري منذ العصور الحجرية وصولا إلى العصور الرأسمالية والامبريالية. واذا كان ماركس راى في المادية التاريخية لهيجل لا انسانيتها ولا تاريخيتها، فلماذا اعتمدها ماركس في منهجه المادي واوقفها على قدميها بدلا من راسها!؟ وافاد منها كثيراً... ام ترى ان التوسير اكتشف ان ماركس في كتابه راس المال كان يدرس تطور التاريخ البدائي للحيوان مستفيدا من نظرية النشوء والارتقاء لداروين، بدءا من العصور الحجرية وانتهاءا باقفاص حدائق الحيوان في المدن !؟ كي يستنبط قانونا اقتصاديا للبشر وليس للحيوان!؟. محاولة التوسير بناء مثالية فلسفية هشة، مستفيدا من الهراء الفلسفي الغربي يلصقه بالماركسية على اعتبار انها عاشت قرونا عديدة في وهم الايدولوجيا، والتقسيم الطبقي المتناقض للمجتمع. كل الدلائل الواقعية التي تعيشها شعوب الارض اليوم تشير الى حقيقة التقسيم الطبقي المتناقض بين الاغنياء والفقراء في المجتمعات عالميا .

ينسب د. محمد علي الكبسي معد فصل التوسير ومنطق الاختلاف عبارات الاطراء التي تقول: (رأى التوسير في كتاب راس المال مالم يره غيره – هكذا – وهو انه ليس افراداً متعينين، بل علاقات انتاج تتمظهر في شكل بنية وهذه الاخيرة هي الفعلة الحقيقيون في التحولات الاجتماعية)(8).

الملاحظ الغريب ان يصطدم القارئ مباشرة بتساؤل مشروع، هو كيف يتسنى امكانية فصل علاقات الانتاج (كحامل) متمظهر لبنية طبقية مفروزة عن المجتمع، اشرنا سابقا بان مفهوم البنية الاجتماعية أو الطبقية لدى التوسير لاوجود حقيقي لها، فجميع هذه المفاهيم دلالاتها لدى التوسير (محمولات) نظرية لا اكثر يمكن ان نجدها في علوم المعرفة الحديثة. كما ان التوسير يتجنب بشدة ربط أي (بنية) التي هي مجرد (علاقات فقط في فلسفته) بالواقع وعلاقتها بشبكة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، السائدة في مجتمع ما. فهو يعتبر البنية لاي مدلول واقعي، يتحول إلى علاقات نظرية، وهي الحقائق والمحمولات التي يجب دراستها بمنظومة مفهومية. بتأكيده على (اللحظة العلمية)... كيف يتحقق ذلك، هناك في فلسفة التوسير الجواب!!؟.

كيف يمكننا السير مع نظرية التوسير بوجوب اعتبار (البنية) التي هي في تصديه لكتاب رأس المال، والمادية التاريخية، هي علاقات الانتاج فقط!! وهي وحدها تقوم بخلق راس المال، متجنبا الاشارة لقوى الانتاج وملكية وسائل الانتاج، وسخريته من التناقض في الطبقة والمادة، وينكر أي وحدة ترابط للبنية مع الواقع العيني للمجتمع. كما اشرنا سابقا، التوسير يتعامل مع (البنية) كحامل علاقات يعاملها نظريا ومفهوميا، بضوء معطيات تطور علوم المعرفة، لذا فهو يسخر من التحليل المادي الجدلي. معتبرا اياه من مخلفات الوهم الايديولوجي ولايمكننا ان نجني جديدا من فلسفة التطور الابتذالي الهيجلي والماركسي، مثل قانون نفي النفي، وحدة وتناقض الاضداد في خلق الظاهرة المستحدثة... طبيعي القول التوسير من خلال ارائه الفلسفية لايتطرق للتقسيم الطبقي المادي للمجتمع ويتحاشاه بلغة فلسفية مثالية صرف. كما يتحاشى جدل العلاقة بين البنية التحتانية – بحسب المفهوم المادي الجدلي – للمجتمع مع البنية الفوقانية المفروزة عنها المتواشجة معها ودلالاتها مثل الوعي الفكري، الدين، الايديولوجيا، الثقافة، الادب، الفنون، فمثل هذا التصنيف الميكانيكي اصبح ارثا قديما، الغى الخصوبة التي تحتويها الفلسفة الماركسية على حد زعمه, وهذا التقسيم، غير حقيقي ولا وجود (عيني) له، ولا معنى له بوجود (بنية) التوسرية، هي حوامل نظرية تعوض عن كل ذلك. يؤكد التوسير على لسان المؤلف: (ان هدفه – التوسير – تخريج الانتاج النظري في جعل المادية التاريخية، ممارسة نظرية – هكذا – في تاريخ انتاج الممارسات النظرية، وذلك عن طريق تحويل مواضيع المادية التاريخية وفصلها عن جدل الواقع العياني، وتحويلها من مجرد مواضيع عاكسة للواقع إلى تصورات تنفصل عن الواقع لانها تحولت إلى منظومة مفهومية)(9).

واضح اكثر من السابق منهجية التوسير الفلسفية المثالية، في تأكيدها التعامل المعرفي النظري، واسقاط علوم المعرفة الحديثة على موضوعات المادية التاريخية، وفصلها عن جدل الواقع والتاريخ، فقد اصبحت من وجهة نظره الفلسفية مفهومات كلاسيكية مبتذلة، تمثل فقط مجموعة من المعارف القاموسية، لانها جميعها من امراض اوهام اخطاء الايدلوجيا كما اسلفنا ,واتحفنا به .

يؤكد التوسير ايضا: (اما الافراد والبشر الواقعيون وكل فعالياتهم، ليسوا سوى مشكلة زائفة تسربت من الارث الهيجلي، وهكذا يتأكد ان (البنية) وحدها تتمكن من العودة إلى (الكلية) بصيغة علمية) (10). فقط البنية التي هي عند التوسير، كما اشرنا سابقا هي علاقات الانتاج، وهي حامل فعالية مستقلة في منهجه وهي كما قال وذكرناه البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج. ويجهر المؤلف اكثر بهذه الطروحات حين يؤكد: (ان الشكل الأول لفعالية التوسير يتجسد في كونه يريد رفع محتوى الصراع الطبقي إلى المستوى النظري، فالمقصود لديه يتمثل في قطع كل تعامل مألوف وحسي مع نصوص ماركس من خلال انتظام عملي، يدحض اكبر قدر ممكن من المادية التاريخية، سلسلة المفاهيم الهيجلية، لا لكونها لاتكفي، بل لكونها توقعنا في الخطأ)(11).

التوسير في مواربة بائنة يريد استبدال رفع محتوى الصراع الطبقي من الواقع الاجتماعي إلى مستوى الفلسفة النظرية، المعرفية التجريدية، المعزولة عن المتعارف والسائد والمألوف، وطبيعي هذه الرغبة لا تتاح لألتوسير ولا تتحقق من غير الاجهاز على سلسلة المفاهيم الهيجلية، في الحركة، والجدل، والتناقض، وحدة الاضداد وتطورها. يريد التوسير جعل كل هذه السلسلة وغيرها افكارا معرفية نظرية مجردة غير تطبيقية. لو جاز لنا التعبير عن المفاهيم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها على وفق منطوق رياضي تجريدي، فهذا ايضا موصول بالواقع غير مقطوع ومنفصل عنه، ولاثبات صحة اية معادلة في مجال علوم الطبيعة في الفيزياء أو الكيمياء مثلا، يلزمنا العودة إلى مختبر التجريب العلمي. فكيف الحال ونحن نتعامل مع افكار ومفاهيم وقوانين ومعطيات ونظريات  كلها تدخل في الحقل الانساني للمجتمع في مجمل مناحي حياته. بشر تسودهم علاقات وضوابط اجتماعية وسلوكية وقوانين تنظيم الحياة، كلها مجتمعة مع غيرها مسرحها الواقع الميداني الحقيقي لوجود الناس .

يبني التوسير على ما مر ذكره، تجريديته الفلسفية المثالية في ما نصه على الصفحة نفسها المذكور في الاقتباس السابق بين قوسين منها قائلا: (الاهمية هي ان تصبح حقيقة اسبقية العلاقة على الكينونة، هذه الاسبقية كان قررها ماركس في اطروحته السادسة حول (فويرباخ) حيث كان قد قال ماركس: (ان الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية ... من هنا يكون واضحا القول ان الطريقة الجديدة لقراءة راس المال تكمن في تسطير الحد الفاصل بغية استبدال موضوعات نظرية المعرفة المتعلقة بالبشر، بموضوعات تهتم بالعلاقات التي يظهرون عليها لان الفاعل الرئيسي والوحيد ليس سوى علاقات الانتاج فهي المولدة لرأس المال وليس التناقض أو تطور التناقض))(12) من هذه العبارات المارة الذكر نود تثبيت:

• الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية، بضمنها بالتأكيد العلاقات الاقتصادية والثقافية وغيرها، وهي عبارة صحيحة سليمة لماركس، اراد التوسير توظيفها في صالح افكاره فأخطأ الاختيار. ماركس لم يقل العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة او الوجود.

• لا وجود لعلاقات اجتماعية بدون مجتمع بشري، ولا يمكن الفصل بينهما ولا احلال احدهما محل الاخرى،او عوضا عن الاخرى في تناوب وظيفة استبدالية نظريا.

• يفهم التوسير ان علاقات الانتاج وحدها فقط هي المولدة لراس المال، وليس التناقض الطبقي، أو تطور هذا التناقض على حد ماورد في عبارته، وفي هذا يرغب التوسير الغاء جدل وحدة الشغيلة الاجتماعية مع علاقات الانتاج وملكية وسائل الانتاج وناتج راس المال، وفي هذا التجزيء الالغائي تنتفي الطموحات الاقتصادية الطبقية المشروعة لأمم وشعوب تكافح من اجل حياة افضل.

• يلغي التوسير ابجدية الجدل الديالكتيكي الهيجلي، وما بني عليه ماركسيا معتبر ان ما بني على خطا، هو الاخر خطأ ايضا. والعكس المثبوت تاريخيا فلسفيا، هو العكس الصحيح فأن ما انجزه ماركس في فلسفته ماديا، لم يكن ليرى النور لولا اسهامات (هيجل) المثالية، التي اعتمدها ماركس بمنهج مادي محسن.

• معلوم لأي من قرأ شيئا بسيطا عن الفلسفة الماركسية، انه وجد فيها وفي ادبياتها المنوعة الكثيرة مسلمات قوانين طبيعية علمية، فهي تعمل في جدل علاقة الانسان والطبيعة باستقلالية عن ارادة الانسان، ويجد الانسان بعد اكتشافها وتسخيرها لصالحه انه من الصعوبة بمكان فرض دحضها والغائها والعبث بمعطياتها الانسانية التقدمية في مجرد افكار فلسفية صرف لاتعطي بديلا تطبيقياً مقبولا عنها.

• التوسير يريد بكل بساطة الغاء الصراع الطبقي من المجتمعات في العالم فهو لا يقرها، ويعتبر ان علاقات الانتاج، كمحمول نظري هي مولدة رأس المال وهو (بنية) تعويضية لكل مفردات المادية التاريخية يتوجب الاهتمام بها وحدها فقط، بضوء تطورات علم المعرفة.

• واذا نحن جارينا التوسير في تخريجاته المستمرة احداها قوله: علاقات الانتاج تسبق الكينونة. هل يصبح من الممكن الغاء حقيقة ان علاقات الانتاج هي جزء من وجود بشري فاعل سابق عليها، مفروزة عنه، متأثرة ومؤثرة فيه، ببساطة هي كينونة مجتمع انساني طبقي. العلاقات الانتاجية جزء عضوي منه، وتكون وحدة عضوية مع ملكية وسائل الانتاج ومن الرأس المال وبدون هذا التكوين العضوي فلا يوجد علاقات انتاج (بنية).

• من حق التوسير الاجتهاد لبناء فلسفي مثالي ابتذالي، لاينقص ولا يضيف للهيجلية ولا للماركسية اللتين يدينهما، ولم يسعفه تفكيره التوسل السليم بمقولة ماركس الفرد هو مجمل علاقاته الاجتماعية، ليس معقولا ان التوسير لم يلحظ ان ماركس لم يخلط مثله بين علاقات الانتاج التي هي كل شيء عند التوسير وبين العلاقات الاجتماعية التي قصدها ماركس، اذ تدخل علاقات الانتاج جزء عضوي من العلاقات الاجتماعية التي هي حصيلة وضع الفرد اقتصاديا، ثقافيا، سلوكيا، علميا....الخ، كذلك من غير المرجح ان ماركس في مقولته تلك واستعملها التوسير عكازا بيده، ان تصلح استشهادا في سياق حديث التوسير بان العلاقات الانتاجية تسبق الكينونة، وكأنما اراد ان يقول بان ماركس اعتبر العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة فلماذا لاتكون علاقات الانتاج الجزء منها تسبق الكينونة؟ وهو مالم يحصل، ولم يقله ماركس.

وان استشهاد التوسير بعبارة ماركس في تخطئته لفويرباخ زلة فكر فلسفية لاتدين فويرباخ بل التوسير ومن قبله ماركس الذي ربما ناقض نفسه بابجدية مادية. وكلمات التوسير في ابطاله قانون جدل الاشياء والمفاهيم والعلاقات، وتطور التناقض، مختزلا كل تلك الفلسفة، بان علاقات الانتاج هي مولدة راس المال!! محاولة غير سليمة لنسق جدلية التطور المادي التاريخي، وهي قوانين اثبت تاريخ البشرية التطوري الطويل انها لا تسلم نفسها بسهولة، بعد اكتشافها وتفعيلها، في صالح مسيرة التقدم للانسان، ان يعبث بها الانسان بارادته ورغباته، كما لاتستطيع ارادات البشر بسهولة النجاح في مجاوزتها والغائها دونما دفع ثمن فادح وخسارة تصيب امما وشعوبا تشق طريقها نحو بناء مستقبل افضل تسوده الحرية والمساواة وتقليص فجوات التفاوت في مستوى المعيشة بين دول الشمال ودول الجنوب. القوانين التطورية التي يحاول التوسير الغائها من قاموس تاريخ البشرية، لها الباع الاطول والقدرة الاكبر على الاستمرار والبقاء كقوانين ضرورية لتلبية طموحات امم وشعوب ليست مثل فرنسا والولايات المتحدة ودول اوربا اليوم. فارادة الانسان المقهور البائس الفقير حلم عبر قرون طويلة وحلم اليوم وسيبقى يركض وراء حلمه المتحقق منه والذي لم يتحقق.

كما يرى معد فصل التوسير محمد علي الكبسي الذي كان سروره بلا حدود في تسويق افكار التوسير على صفحات كتابه فهو ينقل عبارات المفكر قوله: (ان المساهمة الالتوسرية لانقاذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة، والبعدية، عن التسطيح والكليانية هو في ابراز الخطوط الخفية التي تحرك الصراع على المستوى (النظري) التي تمثل استنطاقا لمشروع ماركس الذي لم ينهه، في انشاء ماوراء الخطاب حيث يتحول الصمت إلى كلام أو بالاحرى يصبح صمتا متكلماً)(13).

اذن اصبح الصراع الطبقي الذي لايقربه التوسير، اسبقيته واهميته (نظريا)، فقط مقتلعا من ارضية الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي، وكي ينقذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة نستعين بلغة الصمت المتكلم من خلف الكواليس النظرية، ليتحقق ابتذال مفهوم التناقض على الورق وسطور الفلسفة والنظريات التي تنطلق من ابراج عاجية تحرث في بحار بعيدة جداً عن احلام المسحوقين وبؤساء الارض، وغياب الارادات الانسانية الفاعلة الناشدة للتغيير في غد افضل لم يعد بعد اليوم حسب فلسفة التوسير صراع واضح أو خفي بين من يملكون كل شيء ومن لايملكون شيئاً. لذا فان مشروع ماركس لم ينته ولم يكتمل أو يتجدد الا بعد ان نقلب الصمت ونجعله متكلما، وبعد ان نمسك بالخيوط الخفية للتناقض مع الاعتزاز بمقولة عالم اللغات (فنغشتاين) "ما لايمكن توصيله باللغة يمكن توصيله بالصمت".

كلما تقعرت لغة الفلسفة خارج حدود العقلاني المدرك، وساحت تهويماتها في متاهات البحث عن ملاذها الاخير، لاتجدها الا لغة معلقة بين الارض والسماء، وحيثما اصبحت طلاسمها النظرية العصية على التلقي والتوظيف قطع خشب انقاذ يتعلق بها الفيلسوف الغارق وسط امواج الهراء الفلسفي المتلاطمة، الذي لايقدم ولا يؤخر ولا دور حقيقي جاد له في معالجة معضلات العصر بوسائل علمية وحلول حيوية انسانية تعايش هموم العالم بمسؤولية وامانة، يبقى حاضر

في مقابلة مع التوسير اجرتها معه(فيرناندا نافارو) مكسيكية استاذة فلسفة,سالته عن اسباب هجومه الكاسح والفوضوي على الارث الماركس والمادية الجدلية, وهل لا يزال حقا يعتبر وصف

رايموند اردن له بان ما جاء به في جميع مؤلفاته عن الماركسية، انه سعى لانشاء (ماركسية خيالية!!) اجاب التوسير ان رايموند لم يكن مخطئا بذلك التوصيف .

 

علي محمد اليوسف/الموصل

.............................

المصادر و الهوامش:

1- محمد علي الكبسي، كتاب قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر، دار الفرقد، سوريا، الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف، ص20، نقلا عن التوسير .

L. Althusser: Ibid Tom lp, 12.13.21.22.

2- نقلا عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير

L. Althusser: Ibid Tom lp, 170.

3- نقلا عن د. محمد الشيخ/ محمد عابد الجابري /مسارات مفكر عربي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ 2011 ص 18 .

4- عن المصدر السابق، عن كتاب راس المال، مج1، ترجمة محمد عتياني، بيروت، 1982، ص7.

5-عن المصدر السابق، عن كتاب انجلز وفوير باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، دار التقدم، تونس، ترجمة محمد العربي، ص104.

6- نقلا عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp, 236

7- نقلا عن الكبسي، مصدر سابق، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp, 12.13.21.22.

8- عن كتاب الكبسي، عن كتاب انجلز وفويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، مصدر سابق، ذات الصفحة.

9- عن كتاب الكبسي، عن نفس المصدر السابق، ذات الصفحة.

10- عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp,209.

11- عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: lvid p10.12.

12- نفس المصدر السابق، الصفحات ذاتها.

13- عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Lire le Capital Tom, p75.

 

في المثقف اليوم