قضايا

عدي حسن مزعل: عولمة الشذوذ

ربما لا يخطر على ذهن أعتى مفكري أوروبا، من الذين يستشرفون المستقبل، أن الثورة  الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789، وما حملته من شعارات الحرية والمساواة والإخاء وحقوق الإنسان، التي انتظمت فيما بعد تحت مسمى (الحداثة) أو (العلمانية)، وألقت بظلالها على كل أوروبا وأمريكا ومن ثم باقي العالم، ستشهد من التحولات ما يصدم الأسلاف والمؤسسون من آباء الحداثة والتنوير حد الذهول.

لقد ظهرت الحداثة بوصفها رد فعل على لاهوت العصور الوسطى، واستطاعت تحرير الفرد من ظلامية وقيود تلك الحقبة، وأعلنت عن تقديس الإنسان، والعقل، والحرية، والمساواة، لكن تحولاتها الدائمة، وطغيان مبدأ المنفعة، وتفشي الإلحاد الذي أدى إلى عزل المجتمع عن القيم الدينية والأخلاقية، وهيمنة الأيديولوجيا الرأسمالية التي تقدس الربح وزيادة الاستهلاك، والتوسع في مفهوم الحرية لدرجة هدم الثوابت... جميع هذه المظاهر آلت إلى أشكال خطيرة من القيم، تهدد الجنس البشري وتعلن الحرب على الفطرة الإنسانية، وهو ما يتعارض مع جوهر فكرة الحرية وحقوق الإنسان. وما إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بأن: (أمريكا أمة المثليين) سوى امتداد لهذه التحولات التي تطيح بالثوابت، بل وتحاربها لمصلحة الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة.

وأخطر ما في تصريح الرئيس الأمريكي هو تبني إدارته العلني لظاهرة الشذوذ ودعمها. ذلك أن هذا الدعم والترويج سيلقي بظلاله على باقي دول العالم. ويكمن جوهر الخطر، في أن تبني أمريكا لقيم ونماذج ما، فإنها لا تكتفي بإبقائها داخل حدودها، وإنما تعمل على تصديرها للآخرين كما تصدر سلعها ومنتجاتها. وتلك هي العولمة التي تعني تعميم الشيء وجعله عالمي التداول والانتشار، أي تحويل الظواهر والنماذج من نطاقها المحلي إلى مستوى العالمي والكوني واسع الانتشار. وظاهرة الشذوذ موضوع وثيق الصلة بما يعرف بــــ (العولمة الثقافية). وهو مصطلح يقصد به نقل قيم وعادات شعب ما إلى شعوب أخرى. والمصطلح يشير أيضاً إلى هيمنة الثقافة الأمريكية وسيطرتها، وذلك نتيجة قدرتها على التأثير في ثقافات المجتمعات الأخرى ونقل قيمها وأفكارها. 

إن صعود هذه الظاهرة وتداولها على نطاق واسع، أعلام ترفع، مهرجانات تقام، رؤساء يصرحون علناً بتأييدهم للشذوذ، مؤسسات دينية لها منزلة وأتباع (الفاتيكان وموقف البابا الأخير المؤيد صراحة للمثلية)، وكالات تجارية عالمية وأندية رياضية شهيرة (مثل نادي برشلونة)، وسائل إعلام (صحافة، تلفاز، سينما)..... أقول إن هذا الصعود جزء من سياسة تعميم الشذوذ والتحول الجنسي على أوسع نطاق ممكن، الأمر الذي يجعل مما هو محرم ومنبوذ مقبول ومتداول. وإذا كان بدايات هذه الظاهرة يصدم حد الذهول، ولا سيما في المجتمعات التي نطلق عليها تقليدية ومحافظة، فإن الحديث عنها وتداولها على نطاق واسع، كما يجري منذ مدة، سيجعل منها أمراً طبيعياً ولا إشكال فيه في المستقبل.

ولعل المشاهد البصير لم تغب عنه سياسات هوليود الأخيرة وشبكات التلفاز والإنتاج السينمائي، مثل(Netflix، HBO، Cinemax،APPLE TV + )، وخاصة Netflix، إذ يندر وجود عمل من أعمالها (فلم، مسلسل)، لا نجد فيه مشاهد تروج للشذوذ وتسوقه للمتلقي في إطار درامي لا يخلو من المكر والدهاء. يتجلى ذلك في طريقة بناء شخصية البطل أحياناً، محور العمل ونقطة جذب المتلقي. طبعاً، البطل هنا، كما في كل الأعمال، يقدم بوصفه مثالاً للخير والوفاء، أو للشجاعة ورفض الظلم، أو للحب والتضحية، ما يجعل من المتلقي يتفاعل معه، يتأثر به، يعجب بشخصيته، وربما يعمل على تقليدها.

ولكن هذا البطل، وبعد تحقيق تأثيره في المتلقي، يرفع الستار عن ميوله، عما كان يخفيه صانع العمل بمكر ودهاء، فإذا هو شاذ أو من مؤيدي الشذوذ والمتسامحين معه !!! والمهم أن ثمرة هذا الأسلوب، جعل شذوذ البطل آخر ما نفكر فيه ونستهجنه أو ندينه، لأن تعاطفنا معه والتأثر به، هو من سيتكفل محو ما يبدو أنه مخالف لقيمنا وسلوكنا، فيغدو انحرافه في النهاية شيئاً طبيعياً لا مشكلة فيه، ما دمنا نرى فيه نموذجا للإنسانية في محاربة الشر، أو عمل الخير، أو التضحية والوفاء.

على هذا النحو تمرر هذه القنوات أجندتها. فهي (ولا مبالغة في ذلك) أكثر الأدوات خطورة وتأثيراً على قيم المجتمع وتقاليده، شأنها في ذلك شأن مناهج التربية والتعليم والقوانين، إن لم تكن أكثر. وما يبدو صادماً وغير مقبول، مع مرور الوقت سيجعل الأعلام والسينما والتلفاز منه طبيعياً ومتداولاً، بل ويعمل على دمجه في حياتنا، جاعلاً منه جزء من قيمنا وسلوكنا.

وهذا ما حصل في الغرب. فهذا الأخير مثله مثل باقي الأمم والشعوب فيما مضى، كان يفرض أِشد العقوبات على ظاهرة الشذوذ، بما فيها القتل والحرق، ومن ثم انتقل إلى عقوبة السجن والغرامة، وبعدها أكتفى بالغرامة فقط، إلى أن خلص، في أحدث تحولاته، إلى تشريع القوانين التي تحمي الشذوذ. لكنه لم يكتف بذلك، فذهب نحو مرحلة أشد خطورة، وهي الترويج للشذوذ والدفاع عنه، في سلوك يبدو أن مريديه والمدافعين عنه قد أعلنوا الحرب على الفطرة البشرية، وعلى كل الديانات والأعراف والتقاليد التي عرفها الإنسان واتفق عليها الحكماء والعقلاء. 

***

د. عدي حسن مزعل

في المثقف اليوم