قضايا

مراد غريبي: خيار التعارف كبديل ثالث (4): في البدء كان الحوار

من الأسئلة الأساسية التي تواجهنا كمجتمعات عربية، تحتضن في نسيجها الاجتماعي عدة عناوين تعددية وتنوعات في مجالات الفكر والدين والإجتماع وما هنالك من عناصر تتداخل وتشترك في تكويناتها التاريخية الإنسانية والثقافية والحضارية، سؤال التعارف الذي يفرز محددات ومنطلقات وآفاق، تتطلب المعرفة ثم التصور والتخطيط والتسيير والتوظيف العملي في واقع مجتمعاتنا العربية المعاصرة ...

يبدو للوهلة الأولى أن التعارف في أساسه البسيط ما هو إلا تبادل معرفي متوالد بين طرفين، لكنه يبقى مفتوحا على أبعاد متعددة، لأنه كمعطى حضاري وأساس في بناء الأمن الثقافي للأمم وإستقراراها السياسي والإجتماعي، كونه منتج حركة وظائفية واسعة لقيم مدنية اجتماعية، ومن القيم المدخلية في مشروع التعارف، الحوار العلمي والانفتاح الثقافي... حيث لا يمكن الحديث عن التعارف أو التطلع إليه في جوهر المجتمعات العربية كأساس للتنمية الإجتماعية التي تعتبر أس التنمية المستدامة في أدبيات التفكير الحضاري الاستراتيجي المعاصر، دون إدراك أول لمسة في رسمه على لوحة مجتمعاتنا: قيمة الحوار العلمي والإنفتاح الثقافي بين مكونات التنوع والتعدديات، حيث ربطنا بين الحوار والانفتاح هو من قبيل التقريب لحقيقة تتمثل في كون لا حوار بلا انفتاح، لأن التاريخ الإنساني ككل أثبت الانتكاسات التي عرفتها مشروعات الحوار التي انطلقت من عقليات منغلقة ومسدودة الأفق، وعلى هذا الأساس يكون الحوار العقلاني –العلمي- وفق قاعدة الانفتاح الثقافي بين الذات والآخر الجنب، حتى يصبح إنتاجيا للتمدن وتنمويا على المدى المتوسط والبعيد، لا بيزنطيا تسلطيا أو حوارا بجوهر تسجيل النقاط على بعض، مما ينسف تطلع التعارف من الشعور قبل الواقع ...

لا مناص أن هناك حلقة مفقودة في واقعنا العربي، إبتداءا من النواة الأولى في المجتمع ألا وهي الأسرة إلى أكبر دوائر تفاعل إجتماعي، تتمثل في ثقافة الحوار العلمي والانفتاح الثقافي على بعض عبر تداول الرأي والرأي الآخر بين الوالدين وبين الآباء والأبناء، مما جعل مجتمعاتنا مهددة عمقا بظواهر اجتماعية خطيرة جدا، تتعلق بالتربية وإخفاق العلاقات الزوجية والجيرة والتوافق الأسري والترشيد المؤسساتي وما هنالك، يكفينا الاطلاع على احصائيات النزاعات في المحاكم على طول طنجة - مسقط، وكل هذه تعتبر معوقات قوية واستدمارية ناتجة إما عن تقاليد بالية أو طبائع فئوية لا تؤمن بالحقيقة العلمية أو المناط العقلاني...

إن واقعنا يعاني من محنة ضمور الحوار العلمي والجاد، ولعل جذر المشكلة هو تربوي من جهة وثقافي اجتماعي من جهة أخرى، مما شوه قيمة الحوار وشكك في مطلب الإنفتاح، في تفاصيل معاملات إنساننا وسلوكياته ومواقفه اليومية، هذا الواقع يمثل مطب كارثي أمام تطلع التعارف بين مكونات المجتمع، فوعي ماهية الحوار وأهميته تتمثل في حضور الشخص المنفتح الباحث عن المشترك الوطني الجامع وليس المستغرق في الذات والجهة والمصلحة والطائفة والفكرة والرأي دون الالتفات إلى المسؤولية الاجتماعية والوطنية الواسعة التي ترتفع بمنظور الولاء الوطني الحميمي نحو استدراك الواقع الإجتماعي الواقف على شفا جرف هار بالعصبيات والانغلاق والهمجية اللغوية والتصور السلبي الاستباقي المتبادل ...

لذا التعارف كبديل ثالث، ينطلق من فكرة الإيمان بأنه في بدء الحقيقة الوجودية كان الحوار عبر الإنفتاح الإنساني الثقافي الخلاق، وبمراجعة سريعة إلى تاريخنا الثقافي العربي نلحظ كيف أن الحوار بين أصحاب الفكر الإسلامي وبين الفكر القومي ظلً غائباً لعقود طويلة، وأدُّى في الماضي إلى صدامات عنيفة أضرًت بالجميع، ليكتشف الجميع في الآونة الأخيرة بوجود مساحة كبيرة مشتركة في ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة . وينطبق الأمر نفسه بين حراس المدارس الفقهية ورواد الفكر التجديدي، بين الآراء المختلفة في المذهب الفقهي الواحد، وبين الإيديولوجيات في الدولة الواحدة، والتيارات الفكرية في المجتمع الواحد، بين مكونات المجتمع المدني العاملة في نفس الحقل، بين الشركات الاقتصادية العربية في المجال الواحد، بين الدول العربية أو الدول الإسلامية . إن كل هذا يعني أن هناك حاجة مصيرية لإستراتيجية حوارية مبنية على أسس فكرية وقيمية لتفعيل حوارات صحية وتنموية بين ملايين الأطراف المتصارعة في مجتمعاتنا.

وهنا ننوه أن الاتجاه والهرولة للحوار مع الآخر الخارجي البعيد هو خطأ استراتيجي، بل الأولوية لترسيخ لغة وثقافة الحوار العلمي البناء والإنفتاح الثقافي السليم فيما بين عناصر الداخل العربي والإسلامي المتصارع على أوهام وأهواء. ولعل خير مثال ودليل على ذلك، هو الاخفاق الذريع في الهرولة نحو الحوارات الميتة والقاتلة مع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والمتآمر على افشال كل مشروع نهضوي في الأمة العربية والإسلامية، وما أنتجته هذه الحوارات والمفاوضات البائسة من سلام مزعوم هو في الحقيقة خنوع وتبعية جديدة للمحتل والمجرم، هذه النتائج جاءت من أمة منقسمة ومجتمعاتها لا تجيد ثقافة الحوار والانفتاح، والتي يجب أن تكون الإطار الذي تدور في داخله كل أنشطة وقضايا المجتمعات في الأمة، فالحوار الداخلي والإنفتاح الثقافي والتسامح واللقاء وابداع التعاون الإجتماعي تورثنا أسس فكرية وفلسفية ومواقف صلبة في ممارستنا للحوار مع الآخرين بنديًة فكرية واستقلالية ذاتية عن أي مؤثر أو ضغط استدماري امبريالي. والحوار الداخلي يمثٍّل أولوية قصوى في حياة العرب والمسلمين الراهنة، وعليه تعارف العربي على العربي والمسلم على المسلم يجب أن يعطى الأولوية القصوى عبر إرساء مقتضيات الحوار العلمي والانفتاح الثقافي فكرا وممارسة وعبر وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي كالمنصات الاعلامية الثقافية الهادفة للنهوض بالوعي الحضاري الانساني في عمق الثقافة العربية والاسلامية اليومية. فبدل الهرولة نحو عواصم الغرب والشرق للحوار مع أصحاب الديانات والثقافات الأخرى يجب أن يكون التركيز على نشر خطاب الحوار والانفتاح بين العرب والمسلمين أنفسهم.

الحوار العلمي الحقيقي هو أن نواصل الانفتاح على بعضنا البعض واللحاق بعبقات التعارف لنبدع في لمساتنا الإنسانية الحضارية الراقية على لوحة المجتمع والوطن على طول تفاصيل الزمن القادم...

***

أ. غريبي مراد

في المثقف اليوم