قضايا

رشيد الخيّون: التقدم ونقيضه التأخر.. بين زمانين

طُرحت موضوعة التَّقدم في المؤتمر الدوليّ الثاني للفلسفة، الذي عُقد بعنوان «الفلسفة ورهان التقدم النّظريّ والاجتماعيّ»- جامعة محمَّد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة، خلال يومي 6 و7 فبراير 2024، أشار أحد المتحدثين إلى عدم وجود مصطلح «التّقدم» في التّراث، ووجدتُها بداهة كبداهة عدم وجود اسم التلفزيون أو الإنترنيت مثلاً قبل القرن العشرين، وهذا شامل لكلّ الأمم والثقافات، لم تكن هنالك انقلابات حادة، كالثورة الصناعية مثلاً، كي تأخذ مفردة التّقدم معناها المتعارف عليه اليوم، ويعني الازدهار والرقي، قياساً بالماضي، والكلام ليس لي. أجده لأديب لُبنانيّ، وربّما كان الأقدم: «مِن الثّابت أنّ الانقلابات السّريعة، التي نشأت على أثر الحركات الصّناعيّة والاقتصادية، وما تبعها مِن عقائد سياسيّة واجتماعيّة، قد فتحت أبواباً كانت مقفلة مِن قبل، ووضعت على بساط البحث، تحت أنظار رجال الحكم والفِكر» (نسيم يزبك، التّقدم والثّقافة، مجلة الأديب 1/10/1943).

كان صوت الماضي صاخباً، وكأنه هو «التّقدم»، لكثرة الانكسارات، والقول يروى ليونس بن مسيرة الزَّاهد(ت: 132هجرية) «ما لنا لا يأتي علينا زمانٌ إلا بكينا منه، ولا ولَّى زمانٌ إلا بكينا عليه» (الزَّمخشري، ربيع الأبرار).

هذا، وفي عصرنا يأتي مَن يؤيد الزّاهد: «وقائلةٍ أما لك مِن جديدٍ/ أقول لها القديمُ هو الجديدُ» (الجواهري، قصيدة «أفتيان الخليج» 1979). مع أنّ التطلع إلى الأمام، في الشّأن الثّقافيّ، وما يُعرف بالحداثة، كان موجوداً، دون الإشارة إليه بالتّقدم، فما طلبه، على سبيل المثال، أبو نواس (ت: 195هجرية)، كان تقدماً، عندما انتقد الانكسار أمام الماضي: «قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَسْ»، فهذا تقدم غير مسبوق، وعندما يكتشف إخوان الصّفا (القرن الرَّابع الهجريّ)، الدَّورة الدَّموية الصُّغرى، فهذا تقدم.

سمى إخوان الصَّفا الرّئة «بيت الرّيح»، وقالوا عن مرور الدّم عبرها: «ويصل إلى الرّئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب، ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ من القلب إلى العروق الضّوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذّي يسمى النّبض، ويخرج من القلب إلى الرّئة الهواء المحترق» (الرِّسالة الثامنة من الجسميات). ثم جاء بعدهم بثلاثمئة عام الطّبيب ابن النّفيس عليّ بن المحرم (ت: 687هجرية)، وشاعت له، بينما في التّراث الإسلاميّ لإخوان الصّفا، ومن مادة الرّسالة نفهم أنَّ كاتبها كان طبيباً.

طرح الأولون مصطلح التّقدم، لكنهم أشاروا إليه بالزّمن، فقال أبو القاسم الزَّجاجيّ (ت: 377ه) معرفاً التّقدم: «اعلم أنَّ أسبق الأفعال في التقدم للفعل المستقبل، لأنَّ الشَّيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق للوجود، فهو في التقدم منتظر، ثم يصير في الحال ثم ماضياً، فيخبر عنه بالمضي، فأسبق الأفعال في المرتبة المستقبل، ثم فعل الحال، ثم الماضي» (الإيضاح في عِلم النَّحو). فاللفظ موجود «التّقدم»، ويعطي المعنى المراد نفسه، لكنّه لا يُعبر عن معنى التّطور، وإن كان اللفظ الأخير نفسه، يستخدم للأحسن والأسوأ، عندما يُقال تطورت الحرب، أو المرض، ويشار إلى ذلك أيضاً بالتّقدم.

صحيح، أنّ الثورة الصّناعية سرعت بالتّقدم، حتى صار يحدث يوميّاً، لكن ليس معنى هذا أنّ الماضي، قبلها، كان ساكناً لا حراك فيه، إذا كان ذلك كذلك لظلت الكتابة على الجلود حتى آتت الثورة الصّناعية ثمارها، وكأنَّ الورق لم يُخترع مِن قَبل، ولا ندري بماذا نفسر ظهور الشِّراع، وما لعبه مِن دور في التّجارة، والعجلة ودورها في النّقل، عند العراقيين القدماء، هل هي غير موجودة لأنهم لم يعرفوا لفظ «تقدم» بمعناه «الازدهار والرُّقي» في لغتهم؟! فصاحبنا، الذي نفى وجود التَّقدم، كأنه أنكرها لفظاً ومعنىً، مع أنَّ الاثنين موجودان في التّراث الإسلاميّ، مِن تعبير لفظ «التّقدم»، وكذلك الحال بالنسبة لنقيضه «التَّأخر»، مع اختلاف دلالتهما بين زمانين.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم