قضايا

ك.م. سيثا: الان تورين رائد دراسة الحركات الاجتماعية (2-2)

كتب: ك.م. سيثا K.M. Seethi

ترجمة: علي حمدان

***

بناء على تجربته مع العديد من الحركات، تحدى تورين الفكرة التي تقول ان السلوك الجماعي يمكن تعريفه فقط استنادا الى الامتثال للقوانين والعادات والقيم السائدة. قام بمبادرات لدراسة السلوك الجمعي: أولا، من خلال الانغماس في مختلف الحركات الاجتماعية والسياسية مثل حركة الطلاب، وحركة مكافحة الطاقة النووية، والحركة القومية. والعمال النقابيين في قطاعات مختلفة، وحركة التضامن البولندية، ومناجم الفحم في تشيلي، وصناعة الصلب، وحركة زابانيستا في تشياباس في المكسيك. كان منهجه معارضا للدراسات الوظيفية التي تعتبر الفاعلين والأنظمة مترابطة. وجادل في ان منطق الأنظمة الاجتماعية والفاعلين الاجتماعين ، خاصة الذين يسعون للابتكار والتدخل النقدي، يتعارض بشكل أساسي. حيث تسعى  القوى الفاعلة الى قدر اكبر من الحرية والاستقلال والكرامة والمسؤولية.

في عام 1969، اعرب تورين عن انتقاده لمفهوم المجتمع ما بعد الصناعي، بشكل خاص كما صاغه دانيال بيل، الذي صوره على انه المجتمع المفرط في الصناعة. وعلى مدى الخمسة عشر عاما التالية، تضأل الحماس لفكرة الثورة ما بعد الصناعية، مع قلة من المراقبين وخاصة في دوائر الاعمال، على استعداد لتبنيها. عوضا عن ذلك، ظهر تعبير اكثر ملاءمة،  ثورة صناعية جديدة او تقدم كبير في الإنتاجية الصناعية. وجادل تورين بان تعريف مجتمع ما بعد الصناعي يجب ان يقارب الان بطريقة أشمل واكثر جذرية. يجب ان ينظر اليه على انه ثقافة جديدة تفرز نزاعات وحركات اجتماعية جديدة. ان التعريف المهني الواسع لمجتمع المعلومات هو تعريف مضلل ويفشل في تبرير فكرة ظهور مجتمع متميز. وبدلا من ذلك، ينبغي تعريف مجتمع ما بعد الصناعة بشكل اضيق من خلال الإنتاج التكنولوجي للسلع الرمزية التي تشكل او تحول فهمنا للطبيعة البشرية والعالم من حولنا.

بناء على ذلك، حدد تورين أربعة مكونات رئيسية للمجتمع ما بعد الصناعي: البحث والتطوير، ومعالجة المعلومات، والعلوم الطبية والتقنيات الحيوية، ووسائل الاعلام الجماهيرية. على النقيض من ذلك، كانت الأنشطة البيروقراطية وإنتاج المعدات الكهربائية والالكترونية تعتبر قطاعات ناشئة في مجتمع صناعي يتم تعريفة في المقام الأول من خلال انتاج السلع، بدلا من خلال قنوات الاتصال الجديدة وخلق اللغات الاصطناعية.

بحث تورين عن الحركات الاجتماعية كان مثيرا للأعجاب. وفقا له، كان مفهوم الحركة الاجتماعية يحمل أهمية حاسمة في علم الاجتماع المعاصر. تنبع هذه الأهمية ليس فقط من الحاجة الى التمييز بين علم الاجتماع وتعريفات قديمة كانت ترتكز على دراسة المجتمع ذاته، والتي يجب استبدالها بالاهتمام بالفعل الاجتماعي، ولكن أيضا من الحاجة الملحة الى بناء فهم جديد للحياة الاجتماعية. هذا البناء يتطلب ادراج مفهوم الحركة الاجتماعية كرابط حيوي بين رصد التكنولوجيا الجديدة وتصور اشكال جديدة من المشاركة السياسية. على عكس الفكر الاجتماعي السابق، فان مفهوم الحركة الاجتماعية الان يمكنه ان يحتل دورا مركزيا في التحليل الاجتماعي. ان لدية الإمكانيات ليصبح الأساس الذي يمكن من خلاله اجراء فحص شامل وفهم لديناميكيات المجتمع المعاصر. من خلال الاعتراف بالقوة التغيرية للحركات الاجتماعية وتفاعلها مع التكنولوجيات الناشئة. يمكن لعلم الاجتماع ان يتبنى نهجا اكثر شمولية وصلة في دراسة تعقيدات الحياة الاجتماعية في العصر الحاضر.

كتب تورين " الحركات الاجتماعية ليست عوامل ايجابية او سلبية في تاريخ الحداثة، او في تحرير الإنسانية. انها تعمل في نوع معين من الإنتاج والتنظيم الاجتماعي. ولهذا السبب نؤكد على اولوية الصراعات الاجتماعية والبنيوية على الحركات التاريخية". وقال ان" الحركات الاجتماعية الجديدة هي اقل اجتماعية سياسية (سوسيوـسياسي) واكثر اجتماعية ثقافية (سوسيوـثقافي). فالهوة بين المجتمع المدني والدولة تتزايد، بينما يتلاشى الفصل بين الحياة الخاصة والعامة. ان الاستمرارية من الحركة الاجتماعية الى الحزب السياسي اخذة في الاختفاء: والحياة السياسية تميل الى ان تكون منطقة مكتئبة بين دولة اقوى في بيئة دولية متغيرة، وعلى الناحية الاخرى، حركات اجتماعية ثقافية". وكتب أيضا" المخاطرة الرئيسية لم تعد هي رؤية الحركات الاجتماعية تمتصها الأحزاب السياسية كما كان الحال في الأنظمة الشيوعية، ولكن الانفصال الكامل بين الحركات الاجتماعية والدولة. في مثل هذه الحال، يمكن بسهولة للحركات الاجتماعية ان تصبح متجزئة، تتحول الى دفاع عن الأقليات او البحث عن الهوية، بينما تصبح الحياة العامة مهيمن عليها من قبل حركات مؤيدة او معارضة للدولة.

في عام 2014، كتب تورين " اليوم مهمتنا الرئيسية هي فهم الحالات الاجتماعية والجهات الفاعلة اجتماعيا التي تختلف تماما عن تلك التي كانت في المجتمعات الصناعية. من جهة نشهد صعود الانظمة الاستبدادية، ومن جهة أخرى، في الغرب؛ تم استبدال راس المال الصناعي أولا عام 1929 ثم مرة أخرى في عام 2007- 2008 براس المال المالي الذي لا يحمل وظيفة اقتصادية، ولكنه يهدف فقط لتحقيق الربح باي وسيلة ممكنة. يمكن للجهات الفاعلة ان تقاوم راس المال المضارب القوي الساعي نحو الربح الصرف من خلال الدفاع عن القيم الأخلاقية العالمية. بينما لم تستحوذ فكرة حقوق الانسان على الاهمية خلال الفترة الطويلة بعد الحرب. فأننا نرى الان ان حقوق الانسان والديمقراطية هما القيمتان الوحيدتان اللتان  يبدو انهما قادرتان على حشد ما يكفى من القوى الاجتماعية والسياسية لمعارضة الأنظمة الاستبدادية المناهضة للديمقراطية، ورأسمالية المضاربة".

قبل بضع سنوات، لاحظ الن: في القرن العشرين، روج المؤيدون من الدول الأكثر ثراء للاعتقاد بان النمو الاقتصادي والديمقراطية السياسية والسعادة الشخصية أمورا مترابطة. ومع ذلك، أشار الى ان الوقع القاسي للتاريخ قد دمر هذا الراي المتفائل الى حد كبير. وأضاف ان حقائق التاريخ القاسية حطمت هذه النظرة المفرطة في التفاؤل. وقال  الديمقراطية والتنمية لا تتقدمان دائما معا في الواقع، يمكنهم حتى التحرك في اتجاهات متعاكسة تماما. وان الديمقراطية لا تكون واقعية الا عندما يشكل سكان البلد كيانا سياسيا نشطا. تضعف او تختفي عندما تقود القرارات السياسية عوامل غير اجتماعية مثل الولاء والمشاعر القومية، والتكامل المجتمعي، وإرادة الحاكم، او حتى السعي الى التحديث نفسه.

تحول تورين الى ناقد للسياسات النيوليبرالية التي ازدادت أهميتها منذ التسعينات. خلال نهاية القرن العشرين، وضع بجرأة مسألة الذات والديمقراطية في مقدمة الخطاب الفكري من خلال اعماله المؤثرة، ولاسيما نقد الحداثة وما هي الديمقراطية. هذه النصوص الرائدة تحدت الفهم التقليدي للديمقراطية كمجرد مجموعة من الضمانات المؤسسية او ممارسة سلبية في الحرية. بدلا من ذلك ، قدم تورين تصور عميق للديمقراطية.

وفقا لتورين، تستلزم الديمقراطية كفاحا مستمرا يقوم به افراد متجذرين في ثقافاتهم الفريدة وتطلعاتهم الى الحرية، ضد المنطق السائد المفروض من قبل الأنظمة القائمة، وفي هذا الاطار، طرح تورين عن رؤية للديمقراطية تتجاوز الحدود التقليدية وتحتضن الوكالة الفعالة للأفراد في تشكيل مصائرهم الخاصة. قدمت أفكاره وجهة نظرة جديدة حول الديمقراطية. مؤكدة القوة التغيرية للأفراد المشاركين في السعي وراء الحرية في سياقاتهم الثقافية الخاصة.

اثار منهج تورين انتقادات من بعض الزوايا. في كتاباته المبكرة رأى ان منهجه "الفعلي " هو نتيجة طبيعية للنظريات البنيوية والوظيفية. معترفا بمساهماتهما في الفهم الاجتماعي. ومع ذلك مع تقدم عمله، نأي بنفسه تدريجيا عن هذه المفاهيم المنافسة دون الانخراط في مناقشات او مناظرات تفصيلية. مع تصرفات مثيرة للجدل الى حد ما، رفض تورين بشكل جدلي ليس فقط مفاهيم البنيوية والوظيفية ولكن أيضا التفاعلية الرمزية والتجريبية والنظريات التطورية للمجتمع والفلسفة الاجتماعية ايضا.

وفقا لديتر روشت، يشير المبدأ النظري المركزي لتورين الا ان المجتمع المعاصر ليس مجرد نظام لإعادة الإنتاج، بل هو  كيان ديناميكي يعيد خلق نفسه باستمرار من خلال الصراع. فهو يرى المجتمع كمجموعة هرمية من أنظمة العمل، حيث يشارك الفاعلون ذو المصالح المتضاربة والتوجهات الثقافية المشتركة ضمن نفس النطاق الاجتماعي. يعارض تورين الفكرة بان المجتمع مبني فقط على الاقتصاد او الأفكار او انه يتألف من أنظمة فرعية او مستويات هرمية. بدلا من ذلك، فهو يحدد التاريخ والعلاقات الطبقية كمكونات أساسية للمجتمع، مؤكدا على توليد النماذج وتحويل التوجهات الى ممارسات اجتماعية في سياق الهيمنة الاجتماعية.

منظور تورين قد تحدى فكرة المجتمع كمنظمة ميكانيكية او جامدة، عوضا عن ذلك اكد على العمل والعلاقات الاجتماعية. تتعارض هذه الرؤية مع الوظيفية والبنيوية، حيث تسلط الضوء على الطابع الديناميكي للتفاعلات الاجتماعية بفاعلية الافراد في سياق اجتماعي معطى. في السبعينات، قام تورين بتوسيع أفكاره وطور أسلوبا يسمى "التدخل الاجتماعي" لتحليل الحركات الاجتماعية. هذا الاسلوب، جنبا الى جنب مع نهجه "العملي"، يهدف الى تحديد وفهم ظهور حركات اجتماعية هامة تلعب دورا مركزيا في مجتمع مبرمج. في الماضي، كانت حركة العمال تحتل هذا الموقف المركزي في المجتمع الصناعي، بينما احتلت حركات الحريات المدنية هذا الموقف في مجتمع السوق. سعى تورين لكشف وفهم الحركة الاجتماعية التي ستتولى دورا مؤثرا مماثلا في ديناميكيات تطور المجتمع المبرمج.

كما اشار روتشت، الى ان الآراء قد تختلف بشان مكانة تورين كشخصية بارزة في علم الاجتماع المعاصر، الا ان اسهاماته في دراسة الحركات الاجتماعية لا يمكن انكارها. تتميز اعماله الواسعة بنهج طموح ولكنه مثير للجدل، رسخت مكانته كواحد من ابرز العلماء في هذا المجال. وعلى النقيض من العديد من اقرانه، سعى تورين لتقريب الفجوة بين الأطر النظرية الكبرى والتحليل التجريبي التفصيلي على المستوى الاجتماعي الجزئي. قناعته الفكرية الثابتة وموقفه الواضح ميزته عن غيره، حيث تحدى بشجاعة النهج البديل دون قلق ظاهر من الانتقادات او رد الفعل العنيف.

 

في المثقف اليوم