تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

نور الدين حنيف: كتابة الهمس

حدد الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) ماهية الصراخ أو الصخب في غياب اللغة، وما هذا الغياب إلّا اختفاء للمعنى، لأن الصوت عندما يمتد في صائت طويل يستدعي توقّف انسياب الجملة وتوقّف موسيقاها في آن واحد، لأن الصوت الصاخب يعطّل الكلام ويلغيه مؤقّتا حتى يتوقف الصراخ.

نحتاج في هذا السياق إلى الصراخ لأنه يعبّر عن بعض المعنى أكثر من تعبير اللغة. ولكننا لا نتصوّر متناً مصُوغاً بالصراخ أو بالصخب وحده، إذ لابد للغة أن تتجلّى، وفي تجلّيها قد تكون صاخبة وقد تكون هامسة.

نكاد نُجمعُ على أن الصخب حدد كثيراً من مقولاتنا ومن سلوكاتنا، وحتى كتاباتنا التي ينطوي بعضها على نزوع غير مفهوم لممارسة الصخب.

لقد وُلدنا في الصخب، وكان أول تحاور لنا مع الوجود صوتا صارِخا، واحتُفِل بعقيقتنا في الصّخب، وكان ختاننا بالصخب، وتمّ تزويجُنا في الصخب، وفي موتنا يكون الصخب سيد الموقف... بل كل طقوسنا الاحتفالية صاخبة.

فكيف لا تتأسى كتاباتنا بهذا الصخب، سواء في ظاهرها أو في باطنها؟ وكيف لا تستبطنه، وعياً وفي لا وعيٍ منها؟ وكيف لا يخالط شغاف قلبها فيحتل منها السويداء وأكثر؟ وكيف لها ولو حاولت أن تعيَ ذاتها خارج شرطه أن تتخلّص منه الخلاص المبين؟ وهل هو النسغُ يجري في عروقها أم هو القدر الغابر في تكوينها ؟...

أسئلة شتّى، تطرح ذاتها بإلحاح شديد، ولا تهمنا الإجابات مادامت متعددة ومختلفة من منظورات أكثر تعددا وأشد اختلافا، وهي القمينة بتقديم الإجابات الشافية الكافية مادامت تصدر من تجارب جواينة لا من اطّلاعات قشورية وبرّانية.

والمهم في هذا هو السؤال عن بديل الصخب، وهو بديل الهمس، الذي ينقص كتاباتنا بشكل ملفت. ويغيب عنها وهو القمين بتحويل مجرى ماء الكتابة تحويلات جذرية نافعة واعدة بالريّ والسقيا الحسنة.

 قريباً من  اجتهادات الناقد محمد مندور حول نظرية الهمس في الأدب، والتي تقوم على التعبير الصادق عن دواخل النفس البشرية عبر آليات  الطبيعة والأساطير وأحداث التاريخ... نقول إن كتابة الهمس – من منظورنا المتواضع – هي الكتابة التي تسعى باستمرار إلى التوغل في وجدان الآخر دون ضجيج:

- عنف التفوق: كتابة الهمس تلغي من اعتبارها الآخر كمنافس ينبغي التفوق عليه، إذ لا توجد في الإبداع كتابةٌ أولمبية تروم اعتلاء قمم المنصات، ومن ثمّة فكتابة التفوق هي كتابة مشروطة، وكل كتابة مشروطة يكون رصيدها من الحرية ناقصا، والحرية هي شرط الهمس كما هي شرط الصخب. إن اقوى منافس يمكن أن اتفوق عليه في الكتابة هو ذاتي نفسها، فالعدّاء الذي يريد تحطيم الرقم القياسي الموضوعي لا يريد في الحقيقة إلا تحطيم قياس قوّته ذاتها في ذاته  هو.. فينا  دائما شخص يركض أمامنا حتى ولو كنّا مصنّفين في العدو في الرتبات الأولى. أما أن أقيس كتاباتي بتفوّق غيري وأضعه نصب عينيّ معيارا للإبداع، فهذا ما اسميه عنف التفوّق الذي قد يؤدي بالكتابة إلى مزالق أخرى لا ترتبط بالإبداع البتّة.

الهمس هو أن أكتب خارج أي شرط من شروط العنف كيفما كان هذا العنف. وقد يقول قائل إن شرط الصراع مسألة إيجابية، أقول نعم، لكنّها نسبية. وهي لا تُفهم في سياق الصخب، فقد يكون هذا الصراع كامنا وهادئا وهامسا وناعما أيضا. وقد يكون مع الغير وقد يكون مع الآخر، وفي كلٍّ، هو صراع يقوم على الجدل الباني لفعل الكتابة لا المثبّط لانطلاقاتها الهامسة.

- حتمية الإقلاع:  كتابة الهمس هي إقلاعٌ بمفهومين، الأول ديني يفيد الإقلاع عن عاداتٍ تشدّ الكتابة إلى الأرض والحضيض والتكرار والشبه. وهذا لعمري ينتشر في أوساطنا المثقفة التي تحب أن تكرر ذواتٍ أخرى غير ذواتها الأصيلة، وأدلّ نموذج على هذا النوع هو الكتابات السارقةُ لا الكتابات المتناصّة... من هنا يفيدنا الهمس توبةً نصوحا من هذا المألوف الذي ليس لنا. والثاني إقلاع بمعنى الانطلاق والارتفاع معاً، في اتجاه سماوات الإدهاش. فكل كتابة ٍ هامسة هي ارتقاء بالمفردة وبالتركيب وبالمعنى وبالدلالة  وبالبعد وبالرمز وغير ذلك من مكونات الإبداع، إلى الأجود والأحسن والأدهش. القارئ اليوم مزورٌّ كثيرا عن قراءة المتشابه والمتكرر، لأنه يريد من المبدع أن يهمس في أذنه شيئا جديداً قادرا على زوبعة كيانه المريض بالفراغ والخواء وقادرا على أن يحدث بهمسه فيه تلك الرجّات المرجوّة والتي تعيد في المرء سؤال المساءلة وتعيد فيه رفض الماء الراكد. الهمسُ هو ذلك الحجر الصغير الذي تلقيه على صفحة النهر الراكدة فتحدث فيه دوائر صغرى تكبر وتكبر حتى نهاية مديات النهر. الكتابات الهامسة هي تلكم الحجرات الصغيرة التي في أيدينا والتي لا نعرف كيف نرمي بها، وأين نرمي بها، مع العلم أنها على ضآلة حجمها قادرة على تغيير وجه النهر.

- حتمية التغيير: من هنا تكون الكتابة الهامسة مشروع تغيير كبير، تستبطن قدرة على التأثير، وهنا أستحضر مثلا شعبيا مغربياً يقول (دُوز على الواد الهرهوري لا ادّوز على الواد السكّوتي) ومعناه (مُرَّ بالوادي الصاخب ولا تمُرَّ بالوادي الهادئ) وهو مثل يفيد قوة الصمت وقوة الهمس المبطنة بالمغامرة واختزان الخطورة. لم تكن كتابة الهمس في منظورنا بتاتا تفيد ضعفا أو تسليما أو خضوعا، إنها عكس ذلك تماما. ومادام عالم الكتابة يشبه ذلك السلم العالي والطويل فإن الركض فيه لبلوغ الأعالي وقمم الدرجات يكون فعلاً متهوّراً لا فعلاً سالكا، لكن التريت عبر الخطو الذكي والهامس يكون حريا بتقليب المدارج تبعا لإرادة الذات ورغبتها في الوصول. إن عمليات التغيير في مدارج السالكين في مجال الكتابة يبدأ من اعتبار المدرج الأول على بساطته وتفاهته، لأنه يعلمنا أن البدايات دروس قيّمة، وكل من يحرق البدايات بغية الوصول السريع يكون تغييره في حساسيات وجوده تغييرا مشوبا بالخطل والعطب في منهج التدرج.

و مادام هذا الماحول متناقضا ومفارقا وصادما وشرسا في الآن نفسه، فإن الكتابة الصاخبة لا تفيد في مقاومته، أو في تغييره، لأننا جربناها عبر أجيال وأجيال، وسواء تعلّق الأمر بالهمس في الكتابات الحالمة أو الهاربة أو المنزوية أو الرافضة أو المتمرّدة أو أي نوع آخر، ينبغي أن يكون رصيد الهمس فيها حاضرا لأنه أكثر تجذرا في نسغ الموضوع  وأكثر تأثيرا فيه وأكثر إحراجا له.

الكتابة الهامسة ليست هي الضوء الذي نراه، إنه نتيجة لها فقط، الكتابة الهامسة هي تلكم الأسلاك الكهربائية الخفية التي لا نراها ولكن نرى أثرها. من هنا أقول لك يا صديقي الكاتب، ويا صديقتي الكاتبة: اهمس في أذني ولا تصرخ ، فلن أسمع صخبك وسأكون سامعا شديدا لهمسك.

***

نور الدين حنيف أبوشامة \ المغرب

في المثقف اليوم