قضايا

محمود محمد علي: متي يكون الفيلسوف مؤدلجا؟

الفيلسوف كما اعتقد هو العقل الذي ينتج الأفكار والمفاهيم ويطرح الأسئلة الكلية الوجودية للوصول إلى ماهية الأشياء، والفيلسوف يسأل: ما الخير؟، ما الشر؟، ما المصلحة؟، أي يبد أ دائما سؤاله بما .. لماذا يبدأ الفيلسوف سؤاله بما؟ .. لأن السؤال بما هو سؤال عن الماهية؟.

أما المفكر، فقد يستعير مفاهيم الفيلسوف، ولكنه يفكر في جملة من القضايا أبعد من الفيلسوف، وبالتالي هو ينتج أجوبة عن مشكلات عامة وخاصة، فمثلا الذي يعرض لنا كتب التراث ويقرأها، فهذا يعد مفكر وليس فيلسوف، والذي يتحدث عن العادات والتقاليد في بلد من البلدان وفي علم من العلوم، فهذا نقول عنه مفكر وليس الفيلسوف، وكما قيل كل فيلسوف مفكر، وليس كل مفكر فيلسوف .

بيد أن الناس لا يميزون بين الفيلسوف والمفكر، وعندما سئل "مارتن هيدجر" قبل أن يموت: هل تجد مستقبلا للفلسفة للفيلسوف؟ .. قال لا، ولكن المستقبل للمفكر؟.. وعندما انتقد أحد الفلاسفة " لينين" .. قال عنه بأنه مفكر وليس فيلسوفا، بينما الفيلسوف لا حدود لفضائه، والفيلسوف جناح مفتوح يجتاح أقصى الحصون، وأكثرها انسدادا، ولهذا فالفيلسوف لا يجامل، وإذا رأيت فيلسوفا يجامل بحيث يكون من جهة يتحدث في اللاهوت ومن جهة يتحدث بالفلسفة، فهو واحد من أثنين: إما أنه ليس فيلسوفا، وإما أنه يكذب . فالفيلسوف لا يداهن مهما كان، وإذا ما حاول أن يداهن فربما يكون هناك نوع من الخوف، وهو ربما لا يريد أن يعرض نفسه للخطر فيستخدم التورية والرمزية وما شابه ذلك .

مثال ذلك ابن رشد حيث نجده في كتابه " تهافت الفلاسفة"  يختلف عن ابن رشد في فصل المقال فيما بين الحكمة من الشريعة والحكمة من الاتصال، فعندما تقرأ الكتابان لابن رشد تجد هناك فرق بين رشد هنا وابن رشد هناك، فابن رشد في فصل المقال يريد ألا يزعج الفقيه فقال:" لما كانت المعرفة بالمصنوعات كانت المعرفة بالصانع أتم "، وهنا استخدم ابن رشد كلمة الصانع ولم يستخدم كلمة الله، وفي نص آخر من ذات الكتاب قال ابن رشد " إن الحق لا يضاد الحق لما كان الشرع بمقصوده معرفة الصانع، ولما كانت الفلسفة أيضا معرفة الصانع، فالحق لا يضاد الحق" . وهنا نجد أن ابن رشد على الحقيقة لم بكن صادقا إذا كان مقصود الشرع معرفة الصانع، وكذلك الفلسفة نفس المقصد .

وهنا ابن رشد لم يكن صادقا، ولو كان صادقا لماذا لم يكتف هو بالشرع فقط بدلا من الفلسفة! . وهنا ابن رشد كان يخاف اللاهوتيين لأنهم فقهاء السلطان، وللأسف هم الذين طردوه من قصر السلطان .

ولهذا من النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، وما أكثر النصوص التي يجهد القارئ للوصول إلى معناها، ويصل. لأن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص.

لكن الفيلسوف ليس هو اللاهوتي  ولا يقترب منه إطلاقا، بل متحرر من الأجوبة اللاهوتية في سؤاله الفلسفي، والسبب في ذلك هو أن الفيلسوف ذو عقل برهاني، بينما اللاهوتي ذو عقل إيماني، وذلك دائما ما أقول عن القديس توما الأكويني بأنه لاهوتي وليس فيلسوف، وأقصد باللاهوتي هنا هو نفس ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد برقاوي ذلك المؤمن بدين من الأديان ولكنه يسعى لتقديم خطاب تأويلي – عقلي للترسيمات الدينية المألوفة، والتي غالبا ما تكون أكثر قوة وتأثيرا من الترسيمات في حالها الأصلي، ولكنه، أي اللاهوتي يظل مشدودا إلى الكتاب المقدس أسماء النظر إليه أساسا لتفكيره.

والسؤال الآن: متي يتحول الفيلسوف إلى الأيديولوجيا، بحيث عنه بأنه فيلسوفا أيديولوجيا؟

اعتقد يكون الفيلسوف أيديولوجيا عندما تتحول بنية أفكاره التنظيرية إلى قبس من  الأفكار المعبرة عن غايات عملية، حيث يعتقد الفيلسوف عندئذ بأنها تعكس أهداف أمته أو طبقته أو فئته، في مرحلة تاريخية محددة، وتنطوي – هذه البنية –  كما يذكر أستاذنا البرقاوي على الوسائل الضرورية للنشاط العملي؛ من أجل تحقيق الأهداف التي تطرحها من خلال القدرة على الاقناع والإيمان بحقيقة أفكارها وإيمان -كهذا- هو الذي يحفّز الفاعلية النشطة للفلاسفة، ويوجد لديهم عصبية وحماسة شديدتين إن قوة الجانب الإيماني في الأيديولوجيا لا يكترث للجانب المعرفي، على الرغم من أنها تصاغ صوغًا نظريًا مفهوميًا في خطاب متماسك.

إذن الغاية من الخطاب الأيديولوجي غاية عملية كما قال البرقاوي، وليست علمية أو معرفية، لكن الأيديولوجي يسعى دائمًا لإظهار “علموية” خطاب غاياته، وفي كل الأحوال، إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقية لذاتها، ومحكومة بطريقة إنتاجها والتحقق منها، وذات نتائج عملية غير مباشرة، فإن المعرفة الأيديولوجية ذات ارتباط لا تنفصم عراه بالوظيفة العملية التي تنشدها الأيديولوجيا.

ولقد شهدت السنوات الأخيرة مناقشات في الفكر الاجتماعي حول مسألة مهمة كما قال البرقاوي،، ألا وهي: هل يشهد عصرنا الراهن نهاية الأيديولوجيا؟ للإجابة عن هذه المسألة، يجب أن يميز بين مصير أيديولوجيا محددة، ومصير الأيديولوجيا بعامة.

إن لكل أيديولوجيا محددة عمرًا معينًا، والمقصود بعمر الأيديولوجيا المحددة ذلك الزمن الذي باستطاعة هذه الأيديولوجيا، أو تلك، أن تمارس في أثنائه تأثيرها في البشر، وتستمر في مد معتنقيها بطاقة روحية، تدفعهم إلى فاعلية نشطة، وتقيم في ما بينهم عصبية مشتركة.

إن أيديولوجيا ما تموت وتنتهي من أداء وظيفتها في حالين كما قال الدكتور برقاوي: في حال انتصار حاملها الاجتماعي، وبروز التناقض بين الأيديولوجيا، والممارسة العملية على نحو صارخ، فما إن يبرز تناقض كهذا، حتى تكف هذه الأيديولوجيا عن إنجاب القناعة بمنظومتها الفكرية، وبأهدافها العامة.

ألم تنظر الفلسفة وبخاصة الفلسفة الوجودية السارترية كما قال الدكتور برقاوي بأن الشخص مشروع، ولأن الشخص مشروع فإنه يغذ السير في الحياة من أجل تحقيق ذاته – المشروع . والمشروع هو ما لم يتحقق بعد، بهذا المعنى وبهذا المعنى فقط، فالمشروع هو الحلم. وكلامي ينصب على المشروع – الحلم بوصفه تصور الجماعات لعالم أرقى، مشروع الإنسان الذي يحلم بغدٍ أفضل، عن الجماعات التي تحلم بعالم سعيد، والمبدعون والمفكرون والفلاسفة والعلماء جميعهم يكتبون أحلامهم الكلية بوصفها أحلام الجميع. هذه الأحلام التي تتمنى عالماً أرقى هي أحلام يقظة، وكل أحلام يقظة هي في النهاية شكل من التفكير حتى لو كان بعضها غير واقعي.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.............................

المرجع:

1- د. أحمد برقاوي: الأيديولوجيا وأصفادها، الأحد 2022/05/01

2- د. أحمد برقاوي: الأحلام والأيديولوجيات والأشرار، الجمعة 2022/07/01

3- أنظر حوار بدر العبري  مع د. أحمد برقاوي بعنوان العرب وعودة الفلسفة في الواقع المعاصر، يوتيوب..

في المثقف اليوم