قضايا

مراد غريبي: تجديد وعي الخطاب التاريخي وضرورات المصالحة الثقافية

""وفي هذا الواقع يُطلّ علينا التاريخ من نوافذ متعددة... ومادمنا نعود إليه مختارين أو غير مختارين واعين أو غير واعين، وما دمنا نستلهمه ونستوصيه، فمن الخير لنا أن تكون عودتنا أصيلة متبصرة"[1]

لماذا الوعي في الخطاب؟ لماذا الآن؟ في نظر المثقف المتأثر بالتاريخ أي تاريخ، هل هو المؤهل للتحدث للناس حول الحاجة لوعي في خطاب التاريخ، من يمكنه إقناع المجتمع القائمين على الثقافة أو كليات التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية؟ أصحاب المشاريع الأكاديمية ذات العلاقة بالتاريخ؟ لا: فأولئلك كلهم يأتون ويذهبون. المثقف أم المؤرخ؟ نعم، ولهما فقط. شرح سبب حاجتنا للوعي التاريخي لأنه ببساطة هو سبب وجود خطاب الوعي في حركة الثقافة الإجتماعية.

إن المؤرخ هو الذي يتخذ قرار إطلاق هذه المبادرة مفضلا على الآخرين، والأمر متروك له أيضا لجعل نفسه مبشرا بها مع أولئك المثقفين والأكاديميين الفاعلين الذين تأثروا بخطابات الوعي التاريخية. لماذا المؤرخ هو الناقل الرئيسي لرسالة " إننا بالحاجة إلى تغيير الخطاب من أجل الوعي بتاريخنا"، هذا هو جوهر خطاب الوعي، هناك عدة أسباب لهذا:

أولا: سبب عملي: كان على المؤرخ في عالمنا العربي الفعالية لإفساح المجال للمبادرة ومشروعها ضمن الحقل الثقافي الخاص. ومن الطبيعي أن نطلب منه أن يشرح قراره لمن يعنيه الأمر.

ثانيا: ثم هناك سبب تنظيمي: التسلسل الهرمي يدعو كل الفاعلين في مجال الثقافة التاريخية للعب الأدوار ابتداءا بالمؤرخ.

ومن أجل الالتزام بالجهد المطلوب، يحتاج الجميع إلى طرح سؤال مصيري قبل الانطلاق نحو فهم سبب تغيير شيء ما: ماهي مواصفات الشخص الشرعي"المؤرخ" القادر على تفكيك إشكاليات الحاجة إلى تغيير وتجديد الخطاب عن التاريخ من أجل بناء الوعي؟

وبالتالي، يكون هنا أساس مطلق المبادرة لتجديد الوعي التاريخي عبر تجديد الخطاب مهمة المثقف العارف بماهية التاريخ ومرتكزاته ومنعطفاته وآفاقه، أتوقع أن يأخذ المثقف- المؤرخ زمام المبادرة ويتحدث ويدافع عن المبادرة علنًا. شفهياً وكتابياً، بأي وسيلة متاحة له بلا تحيزات. ويمكن لنا الاستفادة من دراسات وأفكار بول ريكور في مجال السرديات التاريخية وأهمية الكتابة التاريخية ونظريته حول الخطاب التي جاءت لنقد الحداثة العلمية والتقنية التي صبغت الحياة الغربية بتصوراتها المتطرفة، ولعل عبارته المشهورة في كتابه (نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى) " فإنّ التخارُج القصدي المناسب لمختلف طبقات الفعل الكلامي هو الذي يجعل التسطير بالكتابة ممكنا [2]" ثم إن ما أثير في الندوة حول النفسية والإيديولوجية أمر واقعي ولكن ريكور يرى ضرورة إطلاق فاعلية البحث عن المعنى الممكن في النصوص التاريخية، فما يهم فعلا، هو الدلالة، والمعنى، والعالم الذي تقترحه وإمكانيات الوجود الجديدة التي تتضمنها. فلا يتعلق الأمر بالبحث عن نفسية ما، أوايديولوجيا في داخلها، بل الفهم الذي تقدمه لنا لكي نقيم فيها فإنّ " ما نفهمه في خطاب ما، ليس شيئا آخر بل تطلُّع ما [3]".3874 الوعي التاريخيكعادته في اقتناص الأفكار التجديدية، والعناية بالفكرة، والتلطف في العرض، والهدوء في الحوار، جاءت طلة المثقف المميز في تجربته الفكرية والفلسفية، الدكتور قادة جليد؛ فالفكرة ذاتها تقع ضمن النسق التاريخي الواقعي، إلا أنها كما هو متعارف عن صاحبها ليس توثيقاً للتاريخ بل توعية للمؤرخ والمثقف والأكاديمي وغيرهم، كون صورة واقعية للتاريخ، هي تجميع للعناصر الأنثروبولوجية في بناء الوعي الإنساني وشكل المكان في ذلك الزمن تطلعا بحسب نظرة ريكور لصياغة الفكرة الحضارية الراهنة، واستحضار المؤثرات غير المرئية في بلورة العامل الثقافي والاجتماعي لإنسان تلك الفترة الزمنية، ضمن الإطار السياسي الصاخب في كفاح الأجداد ضد الغزاة آنذاك.

لعلي ما استلهمته من مقالة أ,عيش حول الندوة ونظرة الدكتور قادة جليد، أننا ضمن أطروحة تجديد وعي الخطاب التاريخي في بناء النباهة السوسيوثقافية تواجهنا إشكالية ذات علاقة بالتاريخ ومطارحاته : هل يمكن الحديث عن التحولات القيمية في أي مجتمع دون العودة إلى السردية التاريخية الثقافية في هذا المجتمع؟

لا مناص أن الرؤية تحتاج إلى بيانات ومعطيات علمية تتناول الثابت والمتغير في القيم الاجتماعية والأخلاقية والفكرية عبر التاريخ بمراحله المتعددة، لكن هناك بعد منهجي يجب مراعاته، كون مجتمعنا ليس بنية متجانسة ومتشابهة، مما يعني أن التحولات القيمية ليس لها الإيقاع نفسه في جميع المجالات، عموما، شهد مجتمعنا تحولات على مستوى العمق السوسيوثقافي، كالزيادة الديموغرافية والأماكن الحضرية (المدن) وتراجع لنسبة الأمية، انحسار العائلة لصالح الأسرة النووية، وهذه التحولات كان لها وقع كبير في البنية الثقافية، على مستوى الذهنيات والأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم . ومن بين القيم:

- انفتاح الشباب على التواصل الافتراضي، وتخلي بعض الآباء والأمهات عن المسؤوليات التربوية

- تفشي قيم سلبية مثل الغش والخيانة وعدم الجدية في العمل والأمانات والبحث عن الربح الجاهز والسهل وبأية وسيلة على حساب على الغير والمجتمع والوطن ...

لعلي لا أبالغ إذا قلت أن أغلب المجتمعات التقليدية إن لم تكن كلها تنتج رموزها التاريخية وتنقلها إلى أجيالها المتلاحقة وتربّيهم عليها. فهناك إذن ثقافة تاريخية موروثة؛ فالشخص لا يختار ثقافته التاريخية بل يرثها كما يرث البيوت والأراضي والأنتيكات والآثار عن والديه وأجداده. بينما مجتمع حضري أفراده تماهوا في حراك ثقافي نشط ويومي، مما جعل الأشخاص يتيهون داخل سوق دولي كبير للرموز الثقافية التاريخية (الدينية غالبا)، فيختارون منها ما يشاءون ويعرضون عمّا لا يتناسب وتطلعاتهم. وعليه تشكلت توليفة (bouquet) للرموز التاريخية الخاصّة بالمجتمع، ويأخذ من تلك الرموز القليل الذي يحتاجه لبناء هويّته في مشروع معيّن. وبذلك يتم إختزال ثقافة التاريخ في سرديات رمزية محددة. كما هناك صورة أخرى أنّ الثقافة التاريخية أصبحت سؤال وجواب (على طريقة المسابقات)؛ فالمتفاعل التاريخي في مجتمعاتنا يذهب إلى الأنترنت ويأخذ منها ما يريد، وهو سلوك عام حتّى عند غير الناشئة المتمدرسة. والمسألة متعلّقة بالذاكرة والخطاب وتوسع دوائر النسيان؛ فالناس لا يحفظون القيمة الوجودية في سرديات التاريخ ولكن الأنترنت توفّر لهم المعلومات الشكلية المطلوبة.

و بالتالي نحن أمام صورة جديدة لمجتمع يلاحق الزمن المعاصر في تمثلاته وبالاعتماد على التعدد في مصادر المعرفة وتثبيط عامل الذاكرة ودورها، بمعنى أنّ هناك إنتقال أو تحول أنثروبولوجيّ يرتكز على معطيات ومتطلبات زمن الحداثة . وحتّى المؤرخ الذي نقول عنه إنّه مهتم بالذاكرة والخطاب والوعي التاريخية في مجتمعنا، يشتغل بنفس الميكانيزمات أو الآليّات التي يشتغل بها المؤرخ المعاصر نفسه في المجتمعات الأخرى لكنه لا يجد الأرضية البحثية الفعالة في تجميع المعلومات والتحقيق والمراجعة والتشذيب والتدقيق إلا بشق الأنفس .

هناك عدّة مستويات لهذا الموضوع تهمّ المؤرخ، مثلما تهمّ الهيئات والمؤسسات المهتمة بالتاريخ ومعطياته ؛ فلا بدّ في تقديري تحقيق مصالحة ثقافية، تُطرح في إطارها أسئلة تجديدية، وأن ينشأ منها تفكر تاريخي جديد، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بلحظة الإصلاح التاريخي الفلسفي والفكري الذي ستتفرّع عنه خطابات معاصرة وكتابات نقدية هادفة تعمل على تفسير التاريخ وعلى تبسيطه حتّى يلقى القبول من المجتمع.

ثمّ إنّ هذا الفكر بطبيعة الحال سيقدم لشواغله التاريخية الأجوبة الملائمة للتطلع الحضاري؛ حيث أن تتصالح مع تاريخك يعني أن تتصالح مع فكر الإنسانيّة المعاصرة. فأنا لا أعتقد أنّ ضعف الفكر التاريخي في مجتمع ما آت من الفكر التاريخي نفسه. فالضعف، ههنا، كامن في الثقافة السائدة في المجتمع أيضا.و هذا ما لمح إليه الدكتور قادة بإشارته لمشروع مالك بن نبي رحمه الله، فلكي ينهض الفكر يجب أن ينهض التعليم والاقتصاد وأن تطرح الأسئلة في مناخ من حرّيّة الرأي والتعبير. وهذا ما يقيم البرهان على وجود تكامل بين المعارف الإنسانيّة وبين مختلف قطاعات المجتمع؛ فالنهضة الفكريّة في التاريخ لا تنتج خطاب وعي إلاّ إذا قامت نهضة فكريّة في علوم الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتوفّرت الحرّية الفكرية والاحترام المتبادل بين الشركاء في الفعل الثقافي والاجتماعي.

واقعا إننا نصطدم بأسئلة محيّرة. وعصر ما بعد الحداثة يفرض علينا طرح هذه الأسئلة بجد والاجتهاد في الإجابة عنها، لأن الحداثة قامت تحت ضغط الآخر المنافس؛ فالفرنسي تحول إلى الحداثة عبر الإهتمام بإصلاح التعليم لأنّ أمته انهزمت في معركة سنة 1870[4] مع ألمانيا، وقارن الفرنسي الجامعات الفرنسيّة بالجامعات الألمانيّة وهذا ما نجده في كتابات بول ريكور الذي رفضت أفكاره بداية لأنه كان مشغوفا بالفلسفة الألمانية وكل ماهو ألماني. إنّ الحداثة في مجتمع معيّن تقوم على أساس وجود تحدّيات من مجتمع آخر. والتحدي هو المهمّة التاريخيّة للوعي.

نختم بالقول أن الوعي والخطاب التاريخيين بحاجة لدراسات بطريقة موضوعيّة حتى نتمكن من تفكيك وتجاوز تلك الصور النمطيّة المركبة في ذاكرتنا التاريخية. وعلم اجتماع التاريخ كتخصص يمكنه أن يساعد على دراسة هذه الصور ويعمل على تفسيرها. ولعل تركيز الدكتور قادة على جاك بيرك وهو السوسيولوجي الفرنسي المعروف يندرج ضمن هذا السياق،  وهنا علينا أن نستوعب الأدوات المعرفيّة التي يمتلكها الآخر وبذلك نستطيع أن نطلق خطاب تاريخي مفعم بالوعي ونشارك فعلا في إنتاج معرفة جديدة وحضارة إنسانية.

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث

......................

[1] قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، 1985م ص47.

[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى،المركز الثقافي العربي، 2003، صفحة69

[3] بول ريكور، من النص الى الفعل، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 2001، صفحة 146.

[4] سبب المعركة كان طموح بروسيا بتوحيد الأمصار الألمانية وخوف فرنسا من تغير موازين القوى الأوربية إذا نجحت بروسيا في مسعاها. وتم ذلك سنة 1871م بقيادة بسمارك.

..................

للاطلاع على وقائع الندوة ومحاضرة د. قادة جليد

https://almothaqaf.org/qadaya/975478

 

في المثقف اليوم