قراءة في كتاب

نبيل الربيعي: محمد السعدي وأرشيف حكاياته النضالية (1-2)

تتسلسل الأحداث التي يوثقها محمد السعدي ضمن الحدث الذي وقع، ولكن عندما تتابع مذكراته تصيبك الرهبة للمواقف التي مرَّ بها، والعناصر المندسة التي ساهمت بتغييب الكثير من الرفاق ممن نزل للعمل التنظيمي داخل الوطن؛ أمثال (فالح حسن "أبو بهاء"، وعدنان الطالقاني "أبو هيمن"، وشهاب العميل المزدوج)، ثم ينقلك إلى عمله بعد انفراط عقد الجبهة في منظمة (الصدى)، وأن كان كل توقعي أن هناك منظمة في الفرات الأوسط الوحيد التي استمرت حتى عام 1994م هي (منظمة الحقيقة)، إلا أن منظمة (الصدى) كما سلط الضوء عليها في مذكراته كانت تعمل وفق منهجية و(اشراف آشتي شيخ عطا ابن مدير بلدية كفري وابن أخ مكرم الطالباني، الوزير الشيوعي في فترة الجبهة مع البعثيين ووسيط المفاوضات) ص50، الصدى التي أسست عام 1978-1979 في بغداد، في الأوساط الطلابية في جامعات (المستنصرية وبغداد والتكنولوجية)، وكان عنصر الاتصال مام صالح، وكانت تستنسخ يدوياً بيانات الحزب وتوزع على محافظات العراق وفق منهجية (60 نسخة في كركوك، و250 نسخة في البصرة، و50 نسخة في الحلة) ص87، وكان هذا أول نشاط للمنظمة في شباط 1979م، ونشاط اعضائها بالتحرك باتجاه الشيوعيين المقطوعين الصلة بالتنظيم.

ثم ينقلنا السعدي عبر سياحته في الذكريات ودراسته الجامعية وعلاقاته الرفاقية، ونشره الفكر الشيوعي في الوسط الطلابي، أبان الحرب العراقية الإيرانية، ثم يلقي نظرة على الواقع المعيشي للفرد العراقي وفق عمليات التهجير القسري لما يسمى (بالتبعية الإيرانية) في صفحات مذكراته ص63-74.

في مذكرات السعدي زخم من الأحداث حقبة ثمانيات القرن الماضي، وقد سلط الضوء على عمله الأنصاري مع رفاقه في أكثر من مكان. والمذكرات تتضمن أكثر من (60) محطة، ينقلك من عالم إلى عالم، من عالم قرية الهويدير إلى عالم العاصمة بغداد والحياة الجامعية والبيوت السرية للعمل الحزبي، ثم الانتقال إلى الجبل في السليمانية ورحلة النضال، ومعارك الحركة الأنصارية في قرداغ ودربندخان، ورحلة العذاب في الشعبة الخامسة في بغداد، ثم العودة إلى الجبل، والهجرة إلى إيران ومن ثم التوجه إلى دمشق والاستقرار في مملكة السويد.

أجد محمد السعدي في مذكراته شجاعاً وجريئاً في طرح الآراء والأفكار، وتسليط الضوء على اخطاءه أبان الحركة الأنصارية وندمه كما ذكر ذلك في ص188 قائلاً: (وهنا اسجل نقداً ذاتياً وندماً شخصياً لمشاركتي في استخدام القوة عندما كان أبو زكي (حميد بخش) يحقق مع (أبو بهاء) في وادي (كلي زيوه)، وأنا المكلف بالحماية أثناء جلسات التحقيق اليومية).

فكانت مذكرات الأخ أبو بيدر محطات مهمة في سرد التفاصيل، ولفتات ذكية ومواقف في النقد والنقد الذاتي لأخطاء القيادة، وقد تناول المؤتمر الرابع 1985م بكل تعقيداته وملابساته وانقسامات اعضاء اللجنة المركزية حينما قال السكرتير (اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر). وقد شخص السعدي من خلال مسيرته النضالية العيوب والثغرات الأمنية التي عانى منها؛ لكنها فتحت أمامه آفاقاً جديدة.

من خلال هذه القراءة البسيطة لمذكرات السعدي أجده استدرج إلى مملكته حروف ابجديته الماركسية من خلال الصبر والتحدي والمطاولة. ومن خلال اطلاعي على ثلاث كتب قدمها للقارئ هي (1-سجين الشعبة الخامسة، 2-أوراق صفراء من الصندوق الأسود، 3-بيني وبين نفسي)، أجد نفسي يخيل لي أني أسمع صوته الخفي المرموز من وراء الصوت الظاهري، وصيحة الحبور في مواقف تصدى لها في سجن الشعبة الخامسة وعلى جبال كردستان، وهو الذي يجبرنا على الاطلاع على تجربته النضالية قائلاً (هاكم اقرأوا تجربتي)، أنه صوته الذي يبادلك الحبور من خلال انجاز تجربته مع الثوار وفي الداخل وفي الاغتراب السويدي، لا لحاجة سوى لنقل تجربته.

أجد نفسي أشعر بالأسى لأني لم اتعرف عليه شخصياً قبل اطلاعي على تجربته النضالية، ومن خلال حروف كلماته تعيد بيَّ ذاكرتي إلى الوراء كوني عايشت حقبة الجبهة وانفراط عقدها عام 1978م، ثم الاعتقال في دائرة أمن بلدة الديوانية، والمراقبة اليومية حتى انتقالي للسكن في مدينة الحلة والهجرة إلى الدنمارك.

شهادة للتاريخ وجدت السعدي من خلال مذكراته ناقداً لكثير من الظواهر والتحالفات التي شهدها الحزب الشيوعي العراقي (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، جود، جوقد)، لكنه لا يفصل عن ما جرى منذ انعقاد عقد الجبهة وحتى انتقاله للمنفى عن السياق التاريخي، والظروف التي أحاطت به، ليس تسويغاً لها وإنما لشرح أولياتها وإيضاح أسبابها حرصاً على حزبه وتاريخه، فهو من النوع الذي لا يجامل في الصح والخطأ، ولديه الشجاعة في قول ما يراه صائباً وفعله، حتى لو خالف اعرافاً كانت سائدة في المسيرة النضالية وربما حاكمة.

لذلك أجد أن الكتابة في قراءة المذكرات الخاصة بالسعدي تحتاج إلى تركيز كبير ودقة، وبخاصة أولئك الذين مروا بمراحل نضالية مختلفة، لذلك اقول أني احترم هذا الرجل حقاً لتاريخه ونبل أخلاقه وعلو مكانته.

أما ملاحظاتي حوله المذكرات، اسجلها بنقاط في حالة الرغبة في طباعتها مرة أخرى:

أولاً: ادراج تأريخ قرية الهويدر.

ثانياً: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقرية.

ثالثاً: العائلة والنشأة والولادة.

رابعاً: التأكد من صحة بعض المعلومات البسيطة في بعض الصفحات وتلافي الأخطاء الطباعية.

خامساً: الابتعاد عن تكرار الأحداث.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في المثقف اليوم