قراءة في كتاب

رمضان بن رمضان: حفريات في مفهوم الجبر ما بين المعنى المتداول والمعنى المسكوت عنه

احتضن المجمع التونسي للعلوم والاداب والفنون ـ بيت الحكمة يوم الثلاثاء 3 افريل 2018ـ لقاءا حول كتاب مفهوم الجبر بين الديني والسياسي في الصراع الأموي الجهمي للباحثة الشابة نسرين بوزازي. صدر الكتاب خلال شهر مارس الماضي عن دار الجنوب للنشر ضمن سلسلة معالم الحداثة التي يشرف عليها الأستاذ عبد المجيد الشرفي، قدّمت للكتاب الأستاذة ناجية الوريمي. الكتاب من الحجم المتوسط ويقع في 244 صفحة. الكتاب في الأصل رسالة ماجستير أعدّتها الباحثة ضمن اختصاص حضارة عربية إسلامية قديمة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس تحت إشراف الأستاذة ناجية الوريمي.

1ـ المنهج المتبع في مقاربة مسألة الجبر:

تشير الباحثة الى أن موضوع الجبر قد صنفت فيه العديد من الكتب والمصنفات وهو مفهوم قد احتكرته الثقافة العالمة المرتبطة بالسلط السياسية لذلك ظلّ مفهوما قابلا للتوظيف السياسي رغم أن المفهوم في أصله تيولوجي فأضحى بفعل الإستثمار السياسي مفهوما تيولوجيا ـ سياسيا.. فزخمه العقائدي والذي يعني نسبة أفعال العبد إلى الله سبحانه وتعالى جعل منه الدعامة الأساسية لبني أمية يؤسسون عليها مشروعية حكمهم القائم على الاستبداد المطلق مستعينين في ذلك بطائفة من المحدثين وفروا لهم جملة من الأحاديث النبويّة تؤصّل لمفهوم الجبر. إن جوهر الدواعي لإعادة النظر في مسألة الجبر يعود أساسا إلى شخصية الجهم بن صفوان ( ت 128 هـ). هذه الشخصية بحكم ما لعبته من أدوار في حياتها وما عُرفت به من أقكار ستكون القادح للتفكير من جديد في المسألة كما سيكون لها الأثر البالغ في ضبط المنهج المتبع لمقاربة المسألة

تثير شخصية الجهم قلقا معرفيا كُنت قد تعرضت له أثناء بحثي في مسألة خلق القرآن فالرجل يتبنى مقولة الجبر وفي الآن نفسه يقول بخلق القرآن وهما أمران متضادان لأن نظرية خلق القرآن في أبعادها الدلالية تحرير للإرادة الإنسانية وجاعلة من الإنسان المسؤول عن أفعاله فكيف يكون القائل بهذا جبريا. لقد عُرف الجهم بمعارضته للحكم الأموي وهو ما يطرح تساؤلا مشروعا: هل يُعقل أن يتبنى الرجل مقولة الجبر التي هي إيديولوجية الحُكم الأموي ثمّ يشارك في أكبر ثورة تعرضت لها الدولة الأموية وربما كانت احدى الأسباب التي أنهت الحكم الأموي.

لم يكن من السهل على الباحثة أن تتقصى مفهوم الجبر عند الجهم فالرجل لم يترك آثارات تعبر عن آرائه وأفكاره رغم أنّ ابن النديم في كتابه الفهرست قد ذكر له عددا من المصنّفات لم تصلنا وذلك بسبب أن آثار المعارضين كانت تحرق وتُتلف ويتمّ التخلّص منها لأنها تكرّس المختلف لما تمتّله من تهديد للنُظم القائمة لذلك عمدت نسرين إلى البحث عن آراء الجهم في مسألة الجبر عند خصومه الذين أوردوا البعض منها للردّ عليها وربما لتشويهها. لقد اعتمدت الباحثة في ذلك منهجا يقوم على قراءة النصوص في سياقها التاريخي وآعتبرت أنّ السياق يلعب دورا في تحديد المعنى ثمّ اتخذت من منهج تحليل الخطاب آلية لتفكيك نصوص صاغها أعداء الجهم وذلك للكشف عن نظرية غُيّبت لأسباب سياسية. إن الإستئناس بمكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة كان الهدف منه تخليص التراث من الأدلجة والأسطرة لأنّ ما وصلنا لم يُكتب ببراءة كما نتصور فتاريخنا مليء بالمقموع والمطموس والمسكوت عنه ولعلّ منهج ميشال فوكو مهم في هذا المجال فهو الذي أكد على أهمية البحث عن الحقيقة خارج المدوّنة، أي خارج الخطاب الرسمي للإديولوجيات بمختلف أصنافها. صحيح أنّ فوكو جعل من الوثيقة نصبا لا لأنه يريدها أن تصمت عن كلّ كلام بل تصمت فحسب عن ذاك الكلام الذي يريد صاحب الوثيقة أن يُنطقها به. إن إسكات الوثيقة عن كلامها المعهود يفتح الطريق أمام تفجير كلّ ما صُمت عنه هذا الكلام، كلّ الهامشي والمنحرف والمهمل والمُبعد والمبتعد عن خطاب النصّ(مطاع صفدي ‹خطاب التناهي› مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 60ـ61، ص7). فنحن إزاء منهج نصّي يُرفد بالسياقات التاريخية والفكرية والسّياسية أي بكلّ ما هو خارج النصّ. لقد رجعت الباحثة في ذلك إلى كتب الملل والنحل وإلى كتب أصول الدين وكتب الطبقات كما استعانت باختصاصات أخرى كالفلسفة الإغريقية القديمة والتي تؤكّد أنها قد تسرّبت إلى الثقافة العربية الإسلاميّة منذ العهد الأموي وليس في العهد العباسي مثلما هو متعارف عليه ويعود الفضل في ذلك إلى الأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام وحملوا معهم رواسب فلسفية وأفكار خاصة بهم وبثقافتهم

2ـ في النتائج المُستخلصة:

تعتبر الباحثة أن لمفهوم الجبر ثلاثة مستويات، دلالية وتاريخية ونظريّة. فالدلالية تعني أن الإنسان مجبر في كلّ ما يعتريه من أفعال في حياته وأمّا التاريخية فيُعد العصر الأموي ولاسيما معاوية ابن أبي سفيان (ت سنة 60 للهجرة) هو أول من صاغ هذا المفهوم وضبط دلالته وأمّا النظرية فهي الانتقال بالمفهوم من معناه التيولوجي إلى معناه السياسي وأثر ذلك في الواقع. أمّا الجهم بن صفوان (ت 128 للهجرة) فهو عالم كلام، معارض للدولة الأموية وقد جمع بين القول بالجبر والقول بخلق القرآن وقد أشرنا إلى ما في هذا الجمع من تضارب. لقد أفضت عملية الحفر في مصطلح الجبر التي قامت بها الباحثة إلى أنّ المصطلح في دلالته المُشار إليها أعلاه قد ظهرت في القرن الأول للهجرة وأن الأمويين ربطوا تلك الدلالة بصفة الجبّار الواردة في القرآن الكريم ضمن تصور يرى كلام الله قديما لا ينفصل عن ذاته سبحانه وتعالى، في حين أن الأمر مختلف عند الجهم اختلافا كبيرا بل فيه شيء من المعقولية فالجبر عنده جبر طبيعي أو هو حتمية طبيعية وهو معنى تمّ تغييبه. إنّ الجبر عند الجهم مفرغ من كلّ معنى تيولوجي فهو خضوع الإنسان لنواميس الطبيعة وقوانينها لا غير. إن الإشكال الظاهر يتمثّل في اشتراك كل من الأمويين والجهم في الدّال واختلافهم في المدلول فهذه النتيجة المُتَوَصَّل إليها قد بدّدت حيرة معرفيّة لعدد من الباحثين. و أضحى هناك تناسقا بين القول بالجبر الطبيعي والقول بخلق القرآن الذي يرى في النصّ القرآني مكرّسا لحريّة الإرادة الإنسانية في اختيار أفعالها بعيدا عن كلّ وصاية. فلا غرابة حينئذ أن يكون الجهم منظّرا لثورة الحارث بن سُريج وأن يكون كاتبه ووزيره وأن يدفع حياته ثمنا لمبادئه التي تقوم على رفض الظلم ونشر العدل والعمل بأحكام الكتاب والسُنّة وجعل الأمر شورى بين المسلمين

تعتبر الباحثة أن الجبر اللاهوتي قد استشرى في العقلية الإسلامية وأصبح عائقا أمام التطور ومقولة ‹ليس في الإمكان أحسن مما كان› هي احدى تجلياتها. لقد استثمرت السلط السياسية المتعاقبة بشكل أو بآخر الجبر اللاهوتي في ممارستها للحكم فقد كان يوفّر لها استقرارا سياسيا وتماسكا اجتماعيّا هي في أشد الحاجة إليهما. أمّا فيما يخص علاقة الجهميّة ببقية الفرق الإسلامية تذكر كتب التاريخ أن واصل بن عطاء (ت 131 للهجرة) اتصل بالجهم بن صفوان ليقنعه بضرورة تغيير نظرته للإيمان، فقد كان المعتزلة يرون الإيمان قولا وعملا في كان الجهم يرى الإيمان معرفة. كما أن الأشعري (ت 324 للهجرة) انتقد الجهم في مسألة الإيمان وفي مسألة حرية الإنسان في أفعاله وردّ على ذلك بنظرية الكسب. بالنسبة للحنابلة فقد توجه نقدهم للجهمية في ما يتصل بنظرية خلق القرآن. بالنسبة إلى بقية المذاهب يبدو أن أفكار الجهم كان لها امتداد عند كل من الخوارج والمعتزلة والشّيعة ولاسيما القول بخلق القرآن. يبدو أن أفكار الجهم مثلما كانت عرضة للتشويه من قبل السلطة السياسية كانت أيضا ضحية الصراع المذهبي. لقد كان مفهوم الجبر بمدلوليه المختلفين عرضة للتوظيف السياسي من هذا الطرف أو ذاك فقد استعمله الأمويون لإضفاء مشروعية على حكمهم وتبكيت خصومهم واستعمله من كانوا مع الجهم للتحريض على السلطة القائمة وللطعن في مشروعيتها.

إن العودة إلى مفهوم قديم كالجبر للنبش فيه بآليات جديدة وضمن تصور حداثي من شأنه أن يستعيد ما يسمييه محمد أركون بالتراث الكُلّي. عسانا نُلملم شتات وعينا بما حدث حتى تتضح الرؤية لقد حفل تراثنا منذ بداية تشكّله بنواتات لتصورات ورؤى فيها الكثير من المعقولية القابلة للتطوير إلا أنّها أُجهضت بفعل عوامل عديدة قد أتت الباحثة على البعض منها.

***

رمضان بن رمضان

...............................

* تقديم كتاب "مفهوم الجبر بين الديني والسياسي في الصراع الأموي الجهمي" لنسرين بوزازي

في المثقف اليوم