قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في شعر عدنان الصائغ

مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) أنموذجا.. دلالات مكامن القصيدة ومؤطرات الذات الشعرية

توطئة: إن كل حالة مدلولية لا تعدو كونها منظورا من بنيات دوالية دينامية تؤشر لذاتها تقدما مرتكزا نحو هوية مضمونية قد تبدو تعددية حينا، وحينا أحادية في توحدها داخل عملية إنتاجية تخلق لذاتها موضعا تمر من خلاله مؤولات واقعة النص ــ تبادلا نصيا ــ يجسد لمحمول المعنى مكانة واقعية غاية في الإقبال المقروء والإنجاز في مؤسسة صيانة آليات النص ودلالاته في حسية شيفرات مركزية من معنى النص المتوغل في علاماته الكامنة في مكامن القصد الدوالي وخطوطه المفترضة في حدود متمايزة من مؤطرات الذات المدلولية.من هنا لعلنا نسعى إلى تقويم وتقديم نماذج من تجربة الشاعر العراقي الكبير (عدنان الصائغ) ضمن تجاربه التي وصلت إلينا في أوج نزعتها المدلولية المركزة، لذا فهي قصائد ذات طوابع مدلولية كونها تنتمي إلى مواضع حالات مشهرة في صراعها المضموني، لتصبح من خلالها المنظومة المدلولية كعلامة وهوية وحقيقة تماثل إمكانية (البنيات الكشفية؟) في خلاصاتها الأكيدة في الظاهرة الشعرية، أي إنها تطبيقات تداري عرضية اللغة بمتطلبات إمكانية في النوع والظرف والحال وصولا إلى مخصوصية البؤرة المدلولية تألقا يجعل من وظائفية الدوال بمثابة الأحياء في الربط والعلاقة المتتابعة دون كشفية ما من شأنها استدراك حالة الاستكمال في موصلات المعنى والواصلة الصورية المستحكمة في معاملات القصيدة.

ــ الفعالية الدلالية بين الفضاء المحذوف وبنية البياض:

ونحن نطالع نماذج من تجربة مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) واجهتنا جملة من الأحوال الشعرية ـــ تصنيفا وتوظيفا ـــ فهناك القصيدة المحاكمة للأشياء، وبالمقابل منها نجد القصيدة الصورة ذات الحضور المصافح في مستوى العملية الاستدلالية بين (الذات ـــ الحال) كذلك هناك نماذج موغلة في محمول بلاغتها التنافذية بتلاقح المقاصد والإيحاءات مع واصلة الاتصال بمحددات جدل التشكيل والحسية الإدراكية الفنية التي تتلاقى معها تلميحات وتضمينات المادة الشعرية كواصلة بحثية في التنوع وتحديث الأداة القصدية في الخطاب الدوالي.نقرأ ما جاءت به قصيدة (تشكيل) من اجتزاءات وفواصل ومحذوفات متنية، إذ لا تتوفر على ثمة علامة موصلة سوى بموجب المواضعة المدلولية من احياز النص وملاحقه.

صريررُرُرُ

باااابْ

ولا

من

جوابْ./ص14

إن غائية العلاقة بين دال وآخر، تحكمها الاصوات الحروفية إيقاعا (مكانيا ــ زمنيا) أو لربما لسان الحال الموضعي أضاف إلى (الإسناد المقيد) راهنا، وبلا تشكل أفعالي ما فلفظة (صرير) المتكررة بحرف الراء تصبغ الإيقاع النغمي لصرير الباب بدلالة من الإيحاء الظرفي (بااااب) كما أن ورود الجملة المقتطعة (ولا ــ من ــ جواب) تطيل من حركية الموحى في النص بأن حال الدلالة لا يوصل عتبة فعلية سوى بمواجهة ما تدل عليه الجمل اللاحقة (هكذا ما سوف يمضي الاغتراب) وبهذا الاعتبار الممكن يمنحنا الشاعر نتيجة قد لا تكون بالضرورة نواة اقتضائية للحال المخصوص، بقدر ما كانت علاقة إيحائية في حدود (المشابهة ـــ المشبه به) ولو تصورنا أن حالة فكرة التشكيل في قصيدة الشاعر، قد حلت في مجرى (الرؤية الإمكانية) لكان هناك ما هو أولى من تقطيع الحروف وتعدديتها في حيز النص، لأن رؤية التشكيل لا تعني الإيحاء بالأصوات بقدر ما تعنيه من رؤى خطوطية ذا وجهة نظر اعتى مما تعنيه تصديرات جمل القصيدة.ولكننا مع الصائغ من ناحية القيمة المدلولية عندما نراجع الجمل في النص: (صريررُرُرُ ـــ بااااب:ولا من جواب:هكذا ما سوف يمضي بنا الاغتراب) العلاقة الدلالية المرجحة هنا بواسطة جملة (يمضي بنا الاغتراب) إذا الهوية المدلولية هنا هي منقادة بفعل تأويل (الاغتراب) ، وليس إلى مجمل الحدوث الدوالي في سابق المتن النصي، كما الحال في هذه الأسطر المقطعية من ذات القصيدة:

الكتبُ التي في غُرْفَتي

بماذا

تتحاورُ

في غيابي./ ص15

الخطاب ها هنا كحال سابقة من الأسطر الأولى من النص، يمنحنا حالة استقصائية في تداولية الدال: (بماذا ـــ تتحاور) يمكننا ملاحظة المحايثة بين علاقة (الكتب) وصعيد مصداق دليلها في المكان (في غرفتي) يمكننا هنا القول أن العلاقة محصورة داخل أداة (استفهامية ـــ ضمنية) ولا يمكن بلوغ مرادها إلا بمعرفة حال لفظة (غيابي) وقد تتحدد علاقة الحال الغيابية في وضعيات جهاتية غير معلومة: (غيابي = لا كينونة / بماذا تتحاور = علاقة موضوعة = محايثة غير دالة) كما الحال يواجهنا في هذه الأسطر اللاحقة أيضا:

لستُ وحيداً

وحدتي

معي./ص15

إن الوحدات الشعرية هنا لا تكشف إلا عن إلزامات خاصة في مجال تكثيف الإيحاء بالذات أولا وأخيرا، وليس هناك علاقة استكمالية في خصوصية الموضوعة، لذا فإنها تبقى غاية في ذاتها لذاتها، دون المضي بها نحو حالة الارتكاز عبر وظيفة دلالية متطورة.

ـــ التفاصيل اختزالا استباقيا:

الحقيقة أن القارىء إلى قصيدة (عدنان الصائغ) يتنبه إلى مخيلة الشاعر تختزن أجمل الأعماق الأحوالية في شعرية الصورة، لذا غالبا ما تصادفنا قصيدة دون ضربة شعرية مكثفة ومزودة بمسافة مختزلة من السياق الاستباقي في النص:

نثيثُ الثلجِ

على نافذةِ منفاي،

رسائل متجمّدةٌ وصلتني من هناك

هكذا يُخيّلُ لي.

ص25 / قصيدة: رسائل

يسجل حجم هذه الأبنية الدوالية الواصفة، علاقة ما مخصوصة من وظيفة الأداة من وجهة نظر الفاعل المنفذ.يدرك الصائغ الملفوظ جيدا بإنه تداول بين ثنائية علاقة (وطن ــ منفاي : معيق فاصلي = نثيث الثلج : رسائل متجمدة وصلتني من هناك = الفعل التأويلي ـــ لفاعل استحالة : هكذا يخيل لي = مرحلة التجلي ــ ترغيبة في موضوعة المعيق) إن النسق الزمني في النص كما أسلفنا سابقا، حركة ملفوظية في حيز المكان، لذا فإن النص بأبعاده الفعلية تستشعر به وكأنه لم يكتمل ، أو لربما أن هناك نهاية غير كفيلة بإتمام دلالة النص بموجب وضعه الوصفي : (بينما ساعية البريد على دراجتها الهوائية، تشير أن لا رسائل لي اليوم) وبهذا الحد لا تنغلق القصيدة في مداها المدلولي، بل تبقى تشكل مع ذاتها كوقفة ظرفية، خاصة وأن للذات الأولية في سبق الاستجابة الاقتضائية بأن (رسائل متجمدة وصلتني من هناك) ويعتمد هذا التوالد الذاتي (هكذا يخيل لي) من جهة خاصة على نوعية الزمن بأبعاده الحسية بالمكان وتحول جهة الاتصال (على نافذة منفاي) لتكون الذات وحدها داخل النسق المكاني محاصرة بين (نثيث الثلج) والشعور باللاوجدى من مسار إعادة تشكيل حلم اليقظة بالتخييل (يخيل لي) .

ـــ الأنا والهو هو الأنا والهو:

تتكون مخصوصية الصورة الذاتية في عوالم شعر الصائغ، من خلال المجمل الإمكاني الذي يتشكل في ذاته وبذاته كالصورة الاستعارية، الصورة الكنائية، الصورة المجازية، فمن خلال هذه الاطوار البلاغية في المسوغ الوظائفي، تتخذ الذات لذاتها لعبة الصور المراوية، أوالمتخيل الآنوي عبر حوامله التكثيفية المقاربة لتجليات الصورة الحاصلة أو لا حصولية في ثنايا المتن التماثلي للأنا المعادلة:

رجلٌ سكّيرٌ

شبقٌ ...

يُخاصِرُكِ في الحانةِ

وأنا أرقبُهُ بغَيْرَةٍ

رغمَ أنَّهُ لمْ يكنْ أحدٌ سواي.

ص22 / قصيدة: مرآة5

يتبدى لنا من هذا السياق الشعري، ما تحتفظ به تقانة (شعرية المرآة) فالإنابة هنا تحدث وفق فعلية سكونية ــ مراوية، تؤشرها الذات المتحققة عبر ذاتها المحسوسة أو اللامحسوسة في مرحلية زمنية الرائي وحده ــ مجالا لإثراء خصوبة التخييل ــ أو لإنضاج مصدرية الصورة المراوية والمتمثلة في الخلفية من الذات الواصفة، لذا فإن الاشتغال عنا يعد اشتغالا في تباينات الملامح وليس بعلاقة الموجود بالمستشهد دالا، إذ لا عضوية نفسية بين (التوهم ـــ التمعن) إلا من حيث كون العلاقة مؤثرة في حالات معادلها النسبي، كما تصادفنا الحالة ذاتها في قصيدة (تأويل) إذ لا علاقة حقيقية للتأويل كدلالة بما جاءت به الأسطر الشعرية من أحوال موضوعية تختص بالتسمية:

يُملونني سطوراً

ويُبوّبونني فصولاً

ثم يُفهرسونني

ويطبعونني كاملاً

ويُوزّعونني على المكتباتِ

ويَشْتمُونني في الجرائِد

وأنا

لمْ

أفتحْ

غمي

بعد . /ص24

أنا شخصيا لا أعلم ما مدى علاقة مفهوم دال العنونة (تأويل) بكل ما جاءت به الدوال من إجراءات فعلية مفترضة، لعل الشاعر العزيز أساء تقويم مسمى التأويل إغفالاواضحا، فهنا الاستدلال لا يعكس دور الواقع التأويلي: فمن هو المؤول هنا؟ومن هو صاحب التأويل الذي لا يمت بصلة ما لأي جهة حتى وإن كانت إستيهامية مثالا؟القصيدة بحد ذاتها تتحدث عن عملية طبع كتاب وهو يمر عبر مراحله التكوينية وصولا إلى شتمه في الجرائد: (وأنا لم أفتح فمي بعد) هل الضمير هنا معودا إلى الكتاب ذاته وإن كان الأمر هكذا فعلا، فما علاقة جهة التأويل في تعالقات التشكل الدوالي إجمالا؟أعتقد إن الصائغ من جهتي لم يحسن معادلة وشائجه الدلالية في القصيدة لكونها محض كلمات دون علاقة جهاتية دالة، فهي مجرد فكرة لم تأخذ نصيبها في التركيز الصلاتي الدلالي تماما.

ــ مؤطرات الذات وتقانة الوسائط الآنوية:

إن التوغل في جغرافيا الذات حالة من أقصى محفزات الطاقة التخييلية، ولكنها من جهة ما قد تتخاذل أمام تفوق المظاهر التأويلية الكامنة في استجابات المقادير الموضوعية التي تحددها مهام الإيحاء والرموز والبلاغة الاستدلالية.فالشاعر الأستاذ عدنان الصائغ لديه في حياته الشعرية حساسية شديدة في لغة الذات، لدرجة وصول الأمر بالنتيجة، هو إن إحساسنا بأن القصيدة لا تمتلك سوى الأداة الذاتية ــ استقلالا وغاية ــ ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حجم جماليات العملية الشعرية لدى هذا الشاعر الأكثر سعة وجموحا في مخيلة الذات:

أَطْرُقُ باباً

أفتحهُ

لا أُبْصِرُ إلاّ نفسي باباً

أفتحُهُ

أدخُلُ

لا شيء سوى بابٍ آخر

يا ربِّي

كمْ باباٍ يَفْصِلُني عَنِّي.

ص25 / قصيدة: أبواب

إن ذات الشاعر تستكشف عمق الحجب عن ذاتها هي بذلك تواجه وجودها عبر الأنا من خلال قطيعة غير متناهية من (فضاءات الوائق؟) لذا فإن مواطن الذات لدى الشاعر ملتحمة بالحدود والحجب ..إنها تجربة الحد والعائق في محل إمكانية معايشة الأشياء الذاتية من وراء اللحظة الأكثر تقيدا وسلبا وتأكيدا بالنفي والتوحد خلف متاريس حجب الأنا:

لي بظِّل النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق

كيف الوصولُ إليها

وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ.

/ ص26 قصيدة: حنين

ـــ تعليق القراءة:

هكذا واجهتنا مؤثرات (مكامن القصيدة؟) وتضاريس (مؤطراتها الذاتية) كصورة جمالية زاهدة في تمائم لغة الذات التأملية ــ غوصا في أعماق الأشياء أو تحليقا في أجوائها ـــ إن طبيعة القصيدة الشعرية لدى عوالم العذب (عدنان الصائغ) هي امتلاك لناصية أحلام الأنا عبر جواهر عمليات حلمية ذات أصول مشبوبة بصياغات أرواح الأشياء ضمن خيالات متذوقة بالمادة الفنية، لإبراز الاحساس الابداعي إلى التلقي وكأنه المزاجية المتحكمة في حالات صنيع التعايش مع أجواء التجربة الشعورية كمالا وصعودا نحو مقروئية القدرة التذوقية لحالات الوجود أو اللاوجود التقابلية والاندماجية والترجيعية من تفاعلات أفعال الشعرية الممرحلة في فلك القصيدة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم