قراءات نقدية

مريم لطفي: الشعر المسرحي.. كلكامش في دار المسنين للشاعر الكبير د. ريكان ابراهيم إنموذجا

يعرف الشعر المسرحي بأنه كتابة نص مسرحي وفقا لمواصفات ومقاييس الكتابة الشعرية التي تعتمد على القصيدة المقفاة أو غير المقفاة أساسا لبناء النص المسرحي بمفهومه التقليدي، وللشعر المسرحي عدة مسميات منها الدراما الشعرية أو المسرحية الشعرية، أو الشعر الدرامي.

والشعر المسرحي فن من الفنون الادبية التي ظهرت في أوربا، فقد ظهر الشعر المسرحي والتمثيلي في إنجلترا أوائل القرن السادس عشر وفي أوج إزدهاره في فرنسا في القرن السابع عشر حيث كان المسرح يكتب شعرا مقفى ومرسلا في إنجلتر او يعتبر جون ليلي وروبرت جرين وجون بيل الرواد الحقيقين في مجال الكوميديا الرومانسية ذلك الشكل الفني الذي تفردت به الدراما الانجليزية عن غيرها والذي طوره ووصل به مرحلة الاكتمال الكاتب الكبير وليم شكسبير، وامتزج العرض المسرحي بالشارع وبدأت عناصر جديدة تزحف اليه مثل استخدام اللغة المحلية ودخول بعض الشخصيات الواقعية وقد تعامل المسرح الانجليزي مع التاريخ القومي المكتوب ونجح في ترجمة أحداث التاريخ الى صراعات وشخصيات واحداث درامية لخلق عالما مسرحيا كامنا يموج بالدفء والحياة فالى جانب المسرحيات التي استوحى فيها التاريخ الروماني مثل يوليوس قيصر وانطونيو وكليوباترا، وكريولانوس، وترويلاس وكريسدا، نجده يتناول في سلسلة متعاقبة من المسرحيات تاريخ انكلترا وقد كان المؤلف يستخدم اللغة في الاشارة الى الزمان والمكان ويخلق الاحساس به من خلال الوصف الايحائي وكان المتفرج يمتلك نظرة ثاقبة وخيالا واسعا يقظا يشارك مشاركة فاعلة في اكمال عناصر الدراما والمنظر المسرحي.

أما الشعر المسرحي في الادب العربي فهو اضافة جديدة حيث اتجهت اليه الاضواء في العصر الحديث لاشعاره الموسيقية وعاطفته العميقة وكانت المحاولة الاولى على يد خليل اليازجي مسرحية (المرؤة والوفاء) عام1876 ، واشهر من قام في هذا المجال احمد شوقي حيث سعى سعيا بالغا لتنمية هذا الفن الرائع حيث اشتهر بمسرحياته الشعرية فيقال له ابو الشعر المسرحي في الادب العربي ، ثم جاء بعده عزيز أباظة وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وحمد علي الخفاجي.

واذا أردنا أن نعرف الفرق بين الشعر المسرحي والمسرح الشعري، فنقول: إن الاول يهتم باللغة الشعرية ويهيمن عليه الطابع الغنائي والحوار والحبكة والصراع الدرامي، بينما المسرح الشعري يكون فيه الشعر وسيلة للتعبير عما يجول في خلجات الشخصيات وليس هدفا او غاية.

ويتصف الشعر المسرحي بعدد من الخصائص أهمها:

-  إنها لغة إيقاعية.

-  تتسم المشاعر في المسرحية الشعرية بالقوة والكثافة.

-  يعتمد الشعر المسرحي بشكل مباشر على الغموض فإنه يعزز سيطرة الايحاء على المسرحية.

-  يعتمد الشعر المسرحي على التصوير غير المحسوس وغير المرئي ، بمعنى إنه يترك الباب مفتوحا للتخيل والاستنتاج.

ومن أبرز شعراء الشعر المسرحي:

أحمد شوقي ومسرحياته: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، ومسرحية عنترة.

- مارون النقّاش وأشهر مسرحياته: البخيل، ابو الحسن المغفل، السليطي الحسود.

- اليازجي ومن اشهر مسرحياته المروءة والوفاء.

- محمود عباس ومن اشهر مسرحياته قمبيز في الميزان.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن الشعر المسرحي نستأذن بالدخول الى دار المسنين لنحاور كلكامش على لسان الشاعر الكبير د.ريكان إبراهيم وقصيدته كلكامش في دار المسنين..

يبدأ الشاعر الطبيب قصيدته بالدخول الى دار المسنين وقد وصفها بوصفٍ مؤسف يدل على إفول الحياة واحتضارها في فصل خامس لامكان له ولازمان فيقول:

ماذا تسمي البيت حين يكون مقبرة

وفيها أهلها يتحركون

ماذا تسمي الميتين بدون موت

والناطقين بدون صوت؟

ماذا تسمي القبر حين يصير قبل الموت بيت

هذا هو الانسان يبدأُ بالولادةْ

متوهمًا إن الحياةَ هي الطريق الى السعادةْ

كي ينتهي إمّا إلى قبرٍ وإمّا أن يُؤجِّل موتَهُ

قبل الرحيل

ليعيشَ في دارٍ يرى عنها الفناء أحبّ من عيش ذليل

بدأ الحوار بين الطبيب الذي بدأ بالتعريف عن نفسه، وقد أوغل بالافصاح عن خلجاته التي باتت حملا ثقيلا أرهق كاهله لما يرى ويسمع ويعيش كل حالة تصادفه للعلاج، فهو الذي نذر نفسه ليحل مشاكل الناس النفسية التي أرّقته وباتت جزءا منه ، ذلك الجزء الذي بدأ يتنمر عليه ويحتل عالمه وبلا رحمة وهو يحاول الهرب منه إلى أي مكان حتى وإن دخل آلة الزمن ليجمد جزءا من يومهِ الذي أصبح أقسى عليه من الموت نفسه!

قد قال لي: من أنتَ؟ من في الباب؟

قلتُ: أنا الطبيب

أنا عالم النفس المليئة بالخراب وبالنحيب

أنا من نذرتُ بقيتي لعلاج من عاشوا

وهم موتى، فبعض حياتنا موتٌ، وبعض

الموت أهون من ترقبَّه الرقيب

أنا جئتُ أفحص ميتين بلا رقيب

فأنا صديق الاشقياء فأنت من ؟

هذا الحوار الذي دار رحاه في دار المسنين بين الطبيب النفسي الذي آلمه حال الحياة التي تحتضر بين يديه متمثلة بمأساة كل مريض نفسي يعاني ويطلب العون للخلاص، تلك المآسي التي بدأ ثقلها واضحا على نفسية الطبيب التي تصدعت أركانها وجعًا وطريقًا ينشد الخلاص، ووسط كل الافكار المتشعبة والقلق الذي ينتاب الطبيب فقد بادر بسؤال من بادره بالسؤال ليتعرف عليه فأجاب:

أنا حارسٌ في باب دار مسنين بآلة الزمن العصيب

- حسنًا وممن أنت تحرسهم؟ يقولُ: من الهرب

- ياصاحبي، أرأيت في دنياكَ

موتى يهربون؟

أقعى على حقويهِ ثانيةً وقال:

إدخل لتعرف ماهناك ومنْ هناك

دار المسنين الذين تزورهم ياسيدي

هي آخر الوقفات في دربِ الذهاب الى الهلاك

إن الرمزية في هذه القصيدة التي فيها من الثيمات ما يحرث في عالم الباراسيكولوجي الكثير مما يترك الباب مفتوحا لكمٍ هائل من التأويلات التي عمد الشاعر على إبقاءها مسرحا خياليا يلقي الضوء على مسرح الحياة بازمان مختلفة وأماكن متبادلة وأحداث متفاوتة القصد والموضوع وهذا النوع من القصائد لا يخوض غماره إلا شاعرا متمكنا من أدواته يستنبط النتائج قبل الاسباب لوضع خطة عمله الذي يأخذ اتجاهات تصب في خدمة أهداف القصيدة، فهل تغلب الذاتية أم الموضوعية على هذه القصيدة؟

في الحقيقة إن تداخل الذاتية بالموضوع العام للقصيدة أخذ أبعادا أخرى لذات الشخصية التي تقلدها الطبيب تارة والشاعر أخرى ومن زاوية أخرى فقد أخذ الشاعر على عاتقه مهمة المؤرخ مقابل رقابة الرقيب وهو يتجول في دار المسنين التي جعل منها مقبرة لاحياء يرتدون الاكفان وهم بكامل استسلامهم للفناء، ففطرة الانسان تدّعه دعّا للصراع من أجل البقاء أما في هذه الدار فالكل يرفع راياته البيضاء بلا منازع

رأيتُ أسرة موتٍ.. وقمصان نومٍ

وأكفان موتى

بدار المسنين لا قيمة للزمن

وخير الذي قد تراه الاخاء، فلا من خصام ولا من صراع

لان الجميع بقايا حياة

وحب الحياة أنانية ربما تستحق النزاع

إن اختيار كلكامش ليكون عنوانا لقصيدة بهذا الحجم فيها من التأويل والتاريخ مايكون شاهدا على ناظمها ودليلا على جودة العمل الذي أرشف الاحداث في مسرح تراجيدي الحدث وهو (موت الاحياء)، ففي الدار الكثير من القصص وهناك راو وشاهد ، فلما اختار الشاعر كلكامش ليضعه في دار المسنين؟

إن استعارة الشاعر لاسم كلكامش بملحمته التي تضم اساطيرا وفي الاسطورة يندرج الكثير تحت بند الخرافة باشارة منه الى ان الذي يحدث في هذه الايام العصيبة التي يمر بها المجتمع من شيخوخة فكرية وثقافية بل واخلاقية وانسانية تدق ناقوس الخطر على موت المجتمعات وهي حيّة!

أخي من أنت؟ أسأله فينظرني بنصف العين

ثم يقول كلكامش

- أعد ماقلت!من تعني؟

- أأنت صديق أنكيدو؟

أأنت الفارس المسؤول عن طوفان وادينا

بمعنى موت المشاعر والمبادئ والقيم العليا على مذابح الأنا النرجسيّة!

إن الابحار ثم الغوص في عالم النفس يحتم على المبحر أن يكون ملما ومتقد الذكاء ومتأهبا ومتوقعا لكل المخاطر التي تصادفه ، فهذه المغامرة ليست مزحة أبدا بل هي مواجهة حقيقية للدخول الى نفس أخرى بكل شجاعة وتحدٍ!

إن تجوّل الطبيب الشاعر في هذه الدار ومحاكاة كل تفصيلة فيها والسعي الى معرفة كل مايدور من أحداث كورتها العصور لتستحضر ماغاب عنها وشذ أو تشرذم تحت أي بند أو عنوان، فحواره مع كلكامش يختصر كل أوجه الحضارة وإن ركز الشاعر فيها على الوجه الاصفر وهو الاحتضار والموت، لكنه ترك للقارئ وجها آخرا وهو الخلود وقد ذكره لفظا و حسّا وشاهدا فبمجرد إنه لفظ وكتب وحاور كلكامش فإنه قد استحضر فينيق الحضارة كشاهد على ايقونة الخلود

فإنّي هاهنا أحيا خالداً أبدا

فنحن اثنان لن نفنى

أنا وصديقتي الافعى

وقد ذكر الافعى كناية عن الخلود، كيف لا وهي التي اكلت العشبة رافعة صولجانها من عهد آدم وهي استعارة رائعة كناية عن الشيطان!

وكلكامش الرقيب يمثل القدر أو إن صح التعبير يمثل ملك الموت الذي يقعى على حقويه مترصدا فلا أحد يستطيع الهرب منه!

فدار المسنين تمثل الحياة بكل حذافيرها فهي تمثل الفناء والخلود، الحياة والموت، الظلمات والنور وبرأيه فالحياة هي الجريمة والعقاب هو الموت ويبقى كلكامش الساحر البابلي اسيرا لاسمه ينتظر القطار الاخير!!

وكانوا يسمونني الساحر البابلي

أنا الآن أؤمن أني منحت الخلود

المحدد قسرا غلى أن يجئ لأجلي

القطار الاخير.

لقد ذكر الشاعر كلمة الاخرى ولم يقل الثانية دلالة على الحياة الاخرة وهي ثيمة رائعة دسّها الشاعر دسّا ليلقي الضوء على براعته اللغويّة بتطويع المفردات:

هنا ابتسما

وقال: المرة الاخرى ستلقاني.. أنا وحدي..

لاذكر كل ماعندي

لقد تكلم كلكامش- القدر-  عن نزلاء الدار والامهم وقصصهم الحزينة التي ابتدأت مع اصفرار أول الاوراق ملوّحة بالأفول، فالكل هنا سواسية كما في المقبرة لافرق بين غني وفقير ، عالم وجاهل، حكيم وساذج ، الكل هنا ينتظر أفول آخر الاوراق ليحلّق بورقتة الاخيرة الى الدار الاخرة

دار المسنين ياكلكامش ازدحمت

بالطاعنين ومن في وعيهم خرفوا

ضاقت بمن ضيعوا عمرا وضيعهم

نسيان من خلفوا أفضال من سلفوا

دار المسنين تعني أن من عقروا

لصالح ناقة جيل به صلفُ

جيل من الناكرين الفضل، غير اللؤم ما عرفوا

والشاعر هنا يتكلم عن جحود الاجيال ونكرانهم للجميل وهي سمة العصر! والحقيقة إن الشاعر هو من يدير الحوار ويوزع الادوار ويتكلم بلسان كل الشخصيات، فإذن هذه خلجات الشاعر التي اعتمرت بدوامة تفكيره تجاه أمر حدث أمامه وأخذ منه مأخذه فولدت القصيدة وهي تكابد جذوة الاحداث متوهجة بأحاسيس تبدو مضطربة تارة ومتضادة أخرى، فالدار تمثل ثيمة رائعة وهي احتضار القيم وموتها قبل موت الانسان والاستسلام للقدر مهما كان لملاقاة المصير المحتوم!

يا عاشق الخلد، يا كلكامش

انتحرت

قصيدتي وهوى من نخلها السعف

ابكى عيوني مصير الساكنين هنا

ويسقط الناس إن يسقط لهم شرف

والحقيقة إن كل ما يقال عن هذه القصيدة يبقى ضئيلا أمام هذا الابداع الشعري والثقافة الثرة والقدرة الموسوعية على استلهام الاحداث وتطويعها كبحر تتماوج عنده العصور هادئة تارة وثائرة أخرى، فيالهذا الوهج الشعري الفذ والمقدرة المتفردة على كتابة التاريخ بمسرح الحياة مأساة تتلهى بالفناء!!

بورك هذا الحرف الذي حفظ الوصية كوثيقة ملحمية تتدارى خلفها العصور..

طوبى لنا هذا العقل النيّر والحرف المنير وطوبى للعراق بنجومٍ أشرقت في فضاءات الشعر إشراقة حضارة..

تحايا مباركة لجناب الشاعر الكبير والاب القدير د. ريكان ابراهيم ونتمنى أن يكون بألف خير وعافية ودعائي لجنابه الكريم بموفور الصحة والعافية.

***

مريم لطفي الالوسي

في المثقف اليوم