قراءات نقدية

عبد الجليل لعميري‎: سؤال التجنيس في كتاب (النادل والصحف) للأستاذ عبد الرحمان الفايز

* تأطير: هذه ورقة تعرف بمؤلف "النادل والصحف" للراحل الأستاذ عبد الرحمان الفايز، المربي والأستاذ المفتش قيد حياته، والذي أصدر كتابه سنة2019، وقد عرف الراحل بروح المرح والدعابة والطيبوبة الكبيرة والتطوع لخدمة الآخرين ومساعدتهم، وهي بعض الأصداء التي تعكسها فصول هذا الكتاب الغني بالمواقف والأحداث والمفارقات والطرائف . وهذه الورقة هي تقديم لعمل مفصل نستكمله قريبا إن شاء الله. فتحية إلى روح الراحل الأستاذ عبدالرحمان الفايز، وإليكم الورقة:

* سؤال التجنيس في "النادل والصحف":

أول ملاحظة تصادف القارئ لكتاب "النادل والصحف " هي غياب أية  إشارة لجنس هذا العمل سواء في الصفحة الأولى من الغلاف، أو في الصفحات الداخلية(1-2-3) الواردة قبل الإهداء (ص5). وهو غياب يجعل القارئ يتساءل عن هوية الكتاب الموجود بين يديه.

وليستطيع القارئ بناء افتراض معقول بهدف تصنيف الكتاب عليه أن يتوقف عند الصفحتين: 5 و7، إذ يرد في ملاحظة الكاتب بالصفحة الخامسة ما يلي:"تمت بداية تسجيل هذا العمل خلال سنة 2010، وما بعدها على وجه التقريب". هذه الملاحظة تقدم لنا معلومتين: اولاهما أن الكتاب في بدايته كان  تسجيلا والتسجيل هنا يحتمل: تسجيل شفهي بواسطة آلة تسجيل، ثم تأتي عملية تفريغ العمل كتابة. أو تسجيل كتابي بمعنى تدوين وكتابة وهو أمر آخر. فهل كان الكتاب شفهيا في البداية أم كتابة؟

ما الفرق بين الأمرين؟ لعل ذلك ينعكس على أسلوب الحكي، فالتلقائية والتداعي الحر يختلفان عن القصدية والانتقاء.

والمعلومة الثانية تحيل على زمن الكتابة/التسجيل(٢٠١٠ على وجه التقريب أي قبل ٩ سنوات من النشر).

و في نفس الصفحة يشير الكاتب إلى أن:" هذا العمل المتواضع". ولفظة التواضع سنحتاجها لاحقا لتساعدنا على تحديد هوية العمل.

أما في الصفحة السابعة فقد تم إثبات تقديم من ثلاثة أسطر وردت فيه المفاهيم التالية: عمل سردي/السيري والقصصي/ الواقع/ تخضيب الواقع بالخيال.

وبهذا يتضح أن الكاتب اختار هوية محددة لكتابته وأطرها في خانة السرد الحكائي.

وبالعودة إلى الهوية السردية للنص نستحضر التصنيفات النقدية المتداولة الآن فنقف عند الأنواع السردية المهمة الآتية:

السرد الروائي-القصصي، السرد السير/ذاتي (السيرة الذاتية)، والتخييل الذاتي. دون أن ننسى باقي الأنواع: السيرة الغيرية، الخاطرة،و الأشكال السردية التراثية....

ومع غياب أية إشارة إلى الهوية الروائية/القصصية لعمل "النادل والصحف"، وكذا غياب وسمه بالسيرة الذاتية الصريحة، يتبقى لنا افتراض قوي هو أن كتاب "النادل والصحف " عبارة عن تخييل ذاتي.

فما التخييل الذاتي؟

بالتوقف عند هذا المفهوم نعرف أن "سيرج دوبروفسكي"حدده من خلال أربع سمات:

سمة شكلية (مغامرة لغوية)، سمة أجناسية (الكاتب يصبح شخصية خيالية)، وسمة التخييل (الإهتمام بحياة الناس العاديين التي أشار إليها الكاتب بالتواضع)، وسمة الموضوعية (سرد الحياة الحقيقية مع انزياح عن المرجع/الواقع).

ورغم الانزياح عن الواقع فإن القصة تحرص على الإيهام بالواقع، مع توظيف أسماء مستعارة أو كنى وألقاب، ويسعى الكاتب إلى إضفاء التخييل على الذات ويبعدها عن الواقع/المرجع (كما يقول كولونا).

فهل يرقى هذا "التخييل الذاتي" إلى أن يكون جنسا أدبيا مستقلا أم هو مجرد سجل خطابي؟ أو وضعية خطابية تعتمد في الكتابة السردية؟ وهل هو جنس كامل؟ أم غير معروف؟ أم خفي؟

بالعودة إلى مقولة:" بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل "(سيلين ومالرو)، نستطيع القول مع محمد الداهي بأن نص "النادل والصحف" يندرج ضمن التخييل الذاتي، وذلك لأسباب نذكر منها:

- انه يحكي حياة البسطاء(متقاعدون، الجيران،التلاميذ، القرويون،...)،أو حياة بسيطة: حياة رجل تعليم متقاعد وتفاعلاته مع الحياة ورصده لظواهرها السلبية: سرقة جرائد المقهى، ظاهرة المشردين، العنف الرياضي، سوء الجوار،العلاقة مع السلطة، مشاكل التعليم...). وقد عبر الكاتب بلفظة "المتواضع" مبعدا نفسه عن حياة العظماء التي هي موضوع السيرة الذاتية الصريحة كما يرى دوبروفسكي.فالكتابة هنا سيرة ذاتية لعموم الناس (وليس للمهمين فقط).

- ان الكتاب يقدم لنا "حقائق مزيفة"، أي ينطلق من مرجعية واقعية (حياة المتقاعد وباقي الشخصيات التي يذكرها وهي حياة اجتماعية ونفسية) ويلونها بالخيال (تزييف فني)، أي اضفاء التخييلي على الواقعي.

- ان الكاتب يقدم نفسه بصيغة:"هذا أنا وليس أنا" حسب تعبير جيرار حنيت، أو كما قال داربوسك ماأقوله:" حقيقي يجب عدم تصديقه".

- ان العلاقة بين الكاتب والشخصية والسارد تكون مبنية على التطابق الجزئي(على عكس السيرة الذاتية الصريحة التي تقوم على التطابق التام). فالكاتب  في "النادل والصحف" لا يصرح باسمه الحقيقي،وإنما صادفنا ثلاثة أسماء في الكتاب: أحمد (ص10)، عبد الله (ص134) ومحمد(ص167). وقد ورد اسم كل من عبد الله ومحمد مقرونا بصيغة السارد الشخصية المستعمل لضمير المتكلم(يظهر هنا التطابق بين الشخصية والسارد مع الاختلاف مع الكاتب). وأما اسم محمد فقد ورد بصيغة الغائب (تمايز الكاتب عن الشخصية/ تمايز الشخصية عن السارد/تمايز الكاتب عن السارد).

وهنا يطرح اشكال وحدة الشخصية/ البطل. هل هو نفس الشخصية في جميع الفصول؟ أم هو أكثر من شخصية؟

يبدو أن الفصول الاثنى عشر تتحدث عن نفس الشخصية التي يختفي خلفها الكاتب، وهذه الشخصية هي الخيط الرابط والناظم بين جميع الفصول. أما اختلاف الأسماء فقد يعود إلى "مكر التخفي" الذي يمارسه الكاتب. فاختلاف اسم البطل عن اسم الكاتب في التخييل الذاتي يفسر ب"المكر"الفني عبر تحريف أسماء الشخصيات(يشار إليها من وراء حجاب!) لأن المهم ليس الإسم في حد ذاته وإنما الدور الذي تقوم به الشخصية.

وهكذا نستخلص فيما يخص الهوية الأجناسية لنص "النادل والصحف " الآتي:

التخييل كتابة حكائية تخترق الخصائص الفنية للكتابات السردية: القصصية والروائية والسيرية. وهي تقوم على:" إضفاء التخييل على التجربة الذاتية المعيشة"حسب فانسون كولونا. وعلى المستوى الشكلي يتخذ التخييل الذاتي شكل طبقة من النصوص المتواجدة في السرد (حكايات الفصول الاثنى عشر وقد ترد أكثر من حكاية داخل الفصل الواحد). ويتوفر على بعض شروط ومواصفات الجنس الأدبي(تقنيات السرد: الاحداث، الحبكة، الشخصيات والصراع واللغة كوصف أو سرد أو حوار، المكان والرؤية السردية والزمن).

هذا الشكل الحكائي لم يرق بعد إلى مستوى أن يكون جنسا أدبيا معترفا به مؤسساتيا، ويبقى عبارة عن: وضعية تلفظية تعبر عنها عبارة (لنتخيل بأنني) حسب كولونا.وربما بحسب البعض هو" جنس غير مكتمل" أو في طور التشكل والاكتمال (منذ 1977-الابن لدوبروفسكي)، وربما له علاقة بالخانة الفارغة التي تركها فيليب لجون وهو ينظر للجنس السير-ذاتي.

وهذا كله لا يقلل من القيمة الأدبية للتخييل الذاتي فقد انتسبت إليه نصوص رائعة ك: مثل صيف لن يتكرر ودليل العنفوان وغيرهما كثير وضمنه نص "النادل والصحف "للراحل الأستاذ عبد الرحمن الفايز رحمه الله.

***

عبد الجليل لعميري

 

في المثقف اليوم