تجديد وتنوير

صنــاعة العبيـــد

tarik alrobaieالمنبر الحسيني ومنذ تأسيسه أخذ على عاتقه توعية المجتمع بأمور دينه ودنياه وحثه على رفض الظلم والاستبداد بكافة أشكاله، وهذه هي وظيفتــه .. واليوم ومع كثرة الفضائيات والإذاعات ومع ذلك العدد الكبير من الخطباء يجب التأكيد على قيم الحق والمبادئ الإنسانية التي نادى وضحى لأجلها الحسين (ع) . أسوق مقدمتي البسيطة هذه بعدما شاهدت ومن على أحدى الفضائيات أحد الخطباء، وهو يلقي محاضرته الدينية أمام حشد كبير من الناس بمختلف الأعمار، فاستوقفتني هذه القصة التي رواها الخطيب في معرض كلامه عن سيرة الإمام الحسين ومكانته.

وملخص قصته التاريخية تقول إن المتوكل العباسي أمر بمنع زيارة قبر الإمام الحسين (ع)، ومن أبى ذلك فعليه أن يدفع مبلغا كبيرا من المال أو الذهب حتى يسمح له بزيارة القبر . فامتثل الناس لهذا الأمر دون أن يصدر منهم أي اعتراض !! . ودفعوا لجلاوزة السلطة ما يريدون !، فما كان من المتوكل إلا أن يتمادى في ظلمه، ويصدر أمرا آخر مفاده أن من يريد زيارة القبر الشريف يجب إن تقطع يده اليمنى !، وكم كانت دهشة المتوكل عظيمة وهو يرى توافد محبي الإمام ليقدموا أيديهم غير مبالين ولا متأسفين على أيمانهم التي ستقطع . وحدث أثناء عملية قطع الأيدي هذه إن تقدم أحد الزائرين إلى السياف مادا له يده اليسرى إلا أن السياف رفض وطالبه بيده اليمنى !. عند ذلك رفع الرجل عباءته فإذا بيده اليمنى مقطوعة وقال: لقد قطعتم يميني في السنة الماضية ! . وعندما وصل الخطيب إلى هذا الجزء من الرواية هتف الحاضرون بأعلى أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد .

وبدوري الآن أطرح عدة أسئلة عن المغزى المراد والمستفاد من هذه الرواية؟. أليس الطاعة العمياء والخنوع الواضح للسلطة الجائرة هو السمة الغالبة فيها؟ ثم أما كان الأجدر بهؤلاء الذين اصطفوا في طوابير طويلة لتقطع أيديهم وهي مصدر رزقهم الوحيد أن يحملوا سيوفهم ويحرروا قبر الحسين من تلك الطغمة الفاسدة التي حالت دون زيارتهم له؟ . بل أين تلاشت قيم البطولة والشهادة ومبادىء الحسين العليا عند هؤلاء وهم خانعون في طوابير الذل ليس لهم سوى الامتثال لأوامر الطغاة ؟ . وهل أستشهد الحسين لأجل أن يكون أتباعه وشيعته على تلك الصورة المذلة؟ !. أراد الطاغية يزيد من الحسين كلمة واحدة وحشد لأجل ذلك الآلاف المؤلفة من العتاة وشذاذ الأحزاب، لكن أبا الأحرار أبى أن يعطيها ويكون تابعا ذليلا لسلطة جائرة منحرفة، فقاتل مع كوكبة من أصحابه وآل بيته الأطهار حتى نالوا الشهادة، وكان استشهادهم نصرا كبيرا .

ذلك الحسين الذي قال (لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) كيف يمكن لمن أتبعه وسار على نهجه أن يكون بتلك الصورة التي رسمها لنا الخطيب في روايته ؟!. نعم أن المتوكل العباسي منع زيارة القبر الشريف وأجرى عليه الماء ليخفي آثاره، ولكن أن يقف الناس بهذه الصورة البائسة التي وردت في الرواية وهم يقدمون أيديهم للسياف فهذا مما لا يستسيغه عقل ولا منطق، لاسيما وان هؤلاء من المفترض هم شيعة الحسين والسائرين على نهجه الرافض للذل والعبودية . وأنهم لن يقبلوا بالعودة الى بيوتهم وايديهم مقطوعة ثم يتقبلون الصدقات من هذا وذاك لعجزهم عن العمل . وما أظن هذه التفاصيل إلا من مخلفات ودسائس وعاض السلاطين أرادوا من خلالها تدجين الشعوب وتعليمها كيفية الرضوخ للظلم والطغيان وعدم سعيها لأحداث التغير في واقعها المتردي .

أن هذه الرواية وأمثالها وبما تتظمنه من قيم ومفاهيم استسلامية واضحة جديرة بأن تخمد النزعة التحررية عند الناس وتقتل فيهم روح التمرد، وتجعل منهم مجرد قطعان بشرية راضية خانعة للسلطة الجائرة تفعل بهم ما تشاء دون أن يحركوا ساكنا لمقاومتها والتمرد على قوانينها المستبدة .. إن القيم ستجد طريقها ميسورا كي تترسخ في أذهان العامة وهم مستغرقون في الإنصات للخطيب، ومن ثم تتحول إلى سلوكيات لا يرون فيها أي ضرر على دينهم ودنياهم ! . فعلى كل من يهمه الأمر الالتفات إلى هذه الناحية الخطيرة جدا، والعمل على اختيار خطباء على مستوى عال من الإدراك بأهمية المنابر الدينية وتأثيرها على المتلقيــن، وان يعوا دورهم الكبير في بناء المجتمع البناء الصحيح وان يغرسوا فيه تلك القيم والمبادئ السامية الحقيقية التي نادى بها أبا الأحرار الإمام الحسين (ع) . لعل ذلك سيكون سببا في توعية الأمة وإيقاظها من سباتها لكي تلتفت إلى واقع حياتها وتسعى جاهدة إلى تغيره بكل ما لديها من وسائل وإمكانيات .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم