ترجمات أدبية

كينغزلي إميس: همنغواي في الفضاء

بقلم: كينغزلي إميس

 ترجمة: صالح الرزوق

***

راقبته المرأة وهو يفتش مرة أخرى. لم يكن هناك شيء جديد ولكنه كان يدرك بوجود شخص في الجوار. في تلك الحالات تشعر به دائما. بعد عشرين عاما تشعر به إذا كان بالجوار.

"أي شي؟".

"ليس حتى الآن".

قالت:" توقعت أنه بمقدورك أن تخبرنا أين نجده. ونحن اخترناك لأنه بإمكانك أن تقودنا مباشرة إلى أحدهم. نحن وظفناك لهذا السبب".

قال الشاب: "على مهلك يا مارثا. لا أحد يعثر على مكان الإكسيب xeeb إذا لم يكن الإكسيب موجودا. ولا حتى السيد هاردكير. ولكن سوف نمر بأحدهم في أية لحظة". 

ابتعدت عن ثلاثتهم. وكانوا عند منصة الأدوات. لفتت النظر بفخذيها تحت الجينز الضيق. قال فيليب هاردكير لنفسه يا لك من عاهرة. عاهرة ملعونة ومضجرة ويغلبها الضجر ودون إحساس. شعر بالأسف للشاب. كان شابا رائعا وجميلا، ولكنه متزوج من هذه العاهرة اللعينة المحرومة من المشاعر، وكان يظهر كأنه خائف جدا منها، ولا يمكنه أن يطلب منها أن تنصرف وتغرب عنه، ولكن أنت تعلم أنه يتمنى ذلك.

قال المريخي العجوز:"أشعر أنه قريب". ثم التفت بواحد من رأسيه الاثنين. وبالتحديد الرأس الأضخم والأغزر بالشعر. ونظر إلى فيليب هاردكير وقال:" عما قريب سيكون تحت أنظارنا".

اتكأت المرأة على جدار السفينة ونظرت من الرصيف. "لا أستطيع أن أفهم لماذا تريد أن تذهب لصيد هذه الوحوش. مر علينا يومان بعد المغادرة، ويمكننا أن نبلغ مرفأ الزهرة في هذه الفترة عوضا عن أن نحبس أنفسنا في هذه المركبة jalopya الفولاذية سنتين ضوئيتين ونخسرهما من عمر الحضارة. ما الهدف من الحصول على إكسيب حتى لو بمقدورك أن تحصل على واحد منهم؟ ماذا يعني، أن يكون لديك إكسيب". 

كان الشاب أستاذا أو شيئا من هذا القبيل، ويمكن أن تؤكد ذلك من بلاغته بالكلام، فقد قال:"الإكسيب هو أكبر شكل حي في هذا الجزء من المجرة.  وعلاوة على ذلك هو المخلوق الوحيد الحساس هنا في الفضاء المفتوح. وهو شرس. ومن المعروف أنه يهاجم سفن الاستطلاع. وهو أقسى الموجودات هنا. هذا هو الموضوع. هل هذا صحيح؟".

قال فيليب هاردكير:" جزئيا".  بجانب ذلك هناك المزيد. الحرية المتاحة هناك والنجوم أمام الخلفية السوداء، والرجال الصغار ببذاتهم والخوافون وغير الخوافين وحتى الإكسيب صغير الحجم في تلك المساحة اللامحدودة والمتعة المثلجة للصدر إذا كان الإكسيب قويا.

قال رجل المريخ العجوز بصوته الهامس:" لقد جاء. انظري يا سيدة". وانحنى رأسه الأصغر نحو الشاشة. 

قالت وهي تدير ظهرها:" لا أود أن أرى". كانت إهانة قاتلة حسب قانون الشرف المريخي العريق، وهي تعلم ذلك، وفيليب هاردكير يعلم أنها تعلم. وصل الكره إلى حلقه، غير أنه لم يكن هناك مجال للمقت الآن. نهض من المنصة. لم يتبق شك. أي شخص من الهواة يمكنه أن يتعرف من النبضة على أسترويد أو سفينة مماثلة. فبعد عشرين عاما يجب أن تعرفها فورا. قال:"جهز نفسك. زي الفضاء بغضون ثلاث دقائق".

ساعد الشاب في ارتداء الخوذة وما كان يخشاه قد حصل، أخرج المريخي بذته الشخصية ودس بسرعة ساقيه الخلفيتين فيها.  زحف نحوه ووضع يده بين الرقبتين بحركة توسل تقليدية. وقال بلسان أهل المريخ الأصلي النظامي:"ليس هذا صيدك يا غلمو".

"لا زلت قويا وهو كبير وجاء مسرعا".

"أعلم. ولكنه ليس صيدك. الكبار طرائد وليسوا صيادين".

"كل عيوني قوية وكل قبضاتي ثابتة".

"ولكنها بطيئة ويلزم أن تكون سريعة. كانت سريعة والآن هي بطيئة".

"يا هار داشا. رفيقك من طلب هذا مني".

"دمي لك كما هو الحال كل الوقت. وربما تفكيري يبدو فظا أيها الكهل. سأرافقك في الصيد".

قال المخلوق العجوز مستعملا لغة شراكة طقوسية: "صيدا موفقا يا هار داشا. أنا بانتظارك دائما".

قالت المرأة بصوت ثاقب:" هل سنطلق على هذا الحوت اللعين أم لا؟. أم أنك ستواصل التهامس مع ذلك الشيء طيلة الليل".

التفت إليها بتكبر وقال:"أنت خارج الموضوع. عليك الانتظار هنا. فهو مكانك. أعيدي ذلك السلاح إلى الرف وتخلي عن بذة الفضاء وأعدي لنا الطعام. سنعود خلال نصف ساعة".

"لا تلق علي الأوامر أيها البدين. يمكنني أن أطلق النار مثل أي رجل ولن تمنعني".

"هنا أنا من يقرر، وعلى الآخرين التنفيذ".

استطاع أن يلاحظ من فوق كتفها رجل المريخ يعلق بذته. تابع بحلق جاف:"إذا كنت تريدين الدخول في قفل الهواء ذاك معنا سنعود إلى الزهرة".

قال الشاب: "آسف يا مارثا. عليك أن تنفذي أوامره".

جرى تلقيم بندقيتين من طراز ويندهام - كلارك، وشحنهما بأقصى طاقة. وانتظرا في قفل الهواء ريثما ينفد الهواء. ثم انزلق الباب الخارجي على الحائط وأصبحا في الخارج حيث الحرية واللانهاية والخوف الذي لا يشبه الذعر الحقيقي.  كانت النجوم بالغة البرودة، وبينها مساحة سوداء. أما عدد النجوم فقد كان قليلا. أما السواد بينها فقد كان فضفاضا. وما يعطيك الشعور بالحرية هو تجاور النجوم مع البحر الأسود. دون أي منهما لن تنعم بحريتك، وسيتبقى المدى اللانهائي، لكن بوجود النجوم والسواد ستنعم بالحرية مع الشعور بالاتساع. وكان عدد النجوم قليلا ونورها صغيرا وباردا، وحولها اللون الأسود.

قال للشاب بواسطة راديو البذة:"هل تراه؟باتجاه النجمة الضخمة مع رفيقتها الصغيرة".

"أين؟".

"انظر إلى اتجاه إشارتي. لم يكتشفنا بعد".

"وكيف يكتشفنا؟".

"لا بأس. الآن اسمعني. أطلق عليه مرة بعد كل دورة يقوم بها. طلقة فقط.  ثم تقدم بنفاثة البذة بأسرع ما يمكن. هذا يربكه أكثر من الحركات الثانوية".

"سبق وأن أخبرتني".

"وها أنا أكرر. طلقة واحدة. ستجذبه طلقتك. جهز نفسك. فقد شاهدنا. وها هو يستدير".

ضاقت الكتلة الكبيرة المشعة والجميلة مع اقترابها منهم، ثم بدا أنها تنتفخ. وكان اقتراب الإكسيب متعجلا، أسرع من أي مخلوق عرفته. كان الإكسيب ضخما وسريعا، وعلى الأرجح من النوع المعافى. أمكنه أن يقرر ذلك بعد أول غطسة. وأراد من النسل أن يكون صحيحا ومعافى كرمى للشاب. فقد رغب للشاب صيدا موفقا وإكسيبا جيدا وكبيرا وسريعا.

قال فيليب هاردكير:"أطلق خلال خمس عشرة ثانية. ثم انطلق بالنفاث. لن يكون أمامك فرصة طويلة ليغطس مجددا. لذلك استعد".

اقترب الإكسيب، أطلق الشاب قوسا من الطاقة. لكنه تسرع وبصعوبة أصاب نهاية الذيل. انتظر فيليب هاردكير وأطلق على الكومة حيث الأعصاب الأساسية ولم ينتظر ليشاهد أين أصابه وأسرع بالنفاثة.

كان إكسيبا جيدا. ويمكن أن تقرر أنه أصيب في جهازه العصبي، أو ما يعادل ذلك، من طريقة ومضاته المشعة. ثم بعد ثوان استدار وبدأ بغطسة مهيبة ورائعة باتجاه الرجلين. في هذه المرة امتنع الشاب عن إطلاق النار لفترة أطول ثم أصابته بطلقة مباشرة قرابة بروزه وطار نحوه حسب التعليمات. ولكن النسل سقط بطريقة لا تتكرر إلا مرة من أصل مائة مرة، وأصبح هو والرجل على استقامة واحدة تقريبا. ولم يكن أمام فيليب هاردكير ما يفعله سوى تفريغ بندقيته الويندهام - كلارك مقتنعا أن هدر الكثير من الطاقة قد يدعو الإكسيب لتبديل رأيه ومهاجمته. طار إلى الأمام بأقصى سرعة ونادى براديو البذة للتوجه إلى السفينة حالا.

رد صوت الشاب:"ولكن هاجمني شيء ما وفقدت سلاحي".

"إلى السفينة مباشرة".

"لن نذهب إلى هناك أليس كذلك؟".

قال فيليب هاردكير: "سنحاول. ربما ألحقت به الضرر بعد آخر طلقة وسيتباطأ أو سيفقد إحساسه بالاتجاهات".

هو يعلم أن الموضوع انتهى. كان الإكسيب على بعد عدة أميال فوقهما وبدأ بغطسة جديدة، لكنه تحرك ببطء إنما ليس ببطء شديد. وكانت السفينة بالأعلى أيضا باتجاه مغاير. وهذه هي المشكلة  كلما قمت باصطياد إكسيب، وحينما حصل ذلك في المرة السابقة كانت رحلة الصيد والحرية والاتساع في نهايتها، وكان عليهما التوقف في لحظة من اللحظات.  شاهدا قوس إضاءة طويل يأتي من السفينة وسطع الإكسيب فجأة أكثر من السابق لدقيقة فقط، ثم مات السطوع، ولم يعد هناك شيء. أخذ رجل المريخ وضعية الرابض في قفل الهواء، وكانت ويندهام كلارك في مخالبه. انتظر الرجلان إغلاق الباب الخارجي وتدفق الهواء.

قال الشاب:"لماذا لا يرتدي بذته؟".

"لا يوجد وقت.  توفرت له دقيقة لإنقاذنا. بذة المريخ تحتاج لوقت أطول كي ترتديها".

"ماذا أصابه أولا، البرد؟".

"نفاد الهواء. فهم يتنفسون بسرعة. خمس ثوان على الأكثر. ما يكفي للتسديد والإطلاق". وتبادر لذهن فيليب هاردكير أنه كان سريعا.

في الداخل كانت المرأة تنتظرهما. سألت: "ماذا حصل؟".

"طبعا مات. فاز بالإكسيب".

"هل عليه أن يقتل نفسه ليتم الأمر؟".

قال فيليب هاردكير: "هناك على متن المركبة سلاح واحد ومكان واحد لاستعماله". ثم خفت صوته. وأضاف:" لماذا ترتدين بذة الفضاء حتى الآن؟".

"لأستمتع بإحساسي بها. وأنت طلبت أن أخلعها".

"لماذا لم تضعي البارودة في المكان المفرغ من الهواء؟".

خمدت عيناها. وقالت: "لا أعرف كيف يعمل القفل".

"لكن غلمو يعرف. ويمكنه التحكم به من هنا. وبمقدورك إطلاق النار. أنت قلت ذلك".

"آسفة".

قال الشاب:"آسف أنا أيضا". لم يكن صوته يشبه كلام أستاذ الآن. ولا يدل على خوفه منها.

تابع:"الأسف يعيد ذلك الرجل العجوز إلى الحياة كما كان، أليس كذلك؟. الأسف هو أفضل ما سمعته  والأسف شيء آخر أيضا. والأسف هو حقيقة مشاعري بعد أن أتركك في ميناء الزهرة وأستقل المكوك إلى الأرض وحدي. أنت تحبين ميناء الزهرة. أليس كذلك؟. حسنا. هذه فرصتك لتختفي فيه".

انتهى فيليب هاردكير من تركيب أطراف ومفاصل رجل المريخ الكهل ودمدم ما يعرف من تعاويذ موصى بها. وقال:"اغفر لي".

ثم قال الشاب للمرأة:" تناولي عشاءك الآن". 

وقال فيليب هاردكير لجثمان صديقه:"كانت هذه رحلة صيدك".

***

.........................

* كينغزلي إميس Kingsley Amis

(1922-1995) شاعر وروائي بريطاني. مشهور بروايته (جيم المحظوظ) 1954. كان أحد أهم جماعة الجيل المتمرد في أوروبا. وهو والد الروائي التجريبي مارتن إميس. كان مدمنا على الكحول وأثر ذلك في اختيار موضوعات كتبه. حاز عام 1984 على البوكر عن روايته (كهول مشاغبون). من أعماله الهامة: رجل إنكليزي بدين 1963. الرجل الأخضر 1969. النهاية 1974. الفتاة الروسية 1992…

في نصوص اليوم